مضى جولدن أبعد من ذلك؛ ففي منتصف عام 1992، وافق على خطة من شأنها تقليل تكلفة البرنامج أكثر من ذلك، وصولا إلى 8 مليارات دولار أمريكي، بالتركيز على مركبات فضائية أصغر تركز بمعدل أكبر على موضوعات علمية محددة. صرح لمجلة «إيروسبيس أمريكا» قائلا: «ثمة ميل دوما إلى الحصول على 100 في المائة من النتائج المرغوبة، والفرق بين الحصول على 85 في المائة و100 في المائة يمكن أن يعني فرقا كبيرا للغاية في التكاليف. سألني أحدهم، هل ستسعون إلى الحصول على نسبة 2 في المائة المتبقية من البيانات من بعثة «ماجلان»؟ كانت إجابتي لا، حيث إن نسبة 2 في المائة المتبقية تكلف كثيرا من الأموال.»
2
أراد جولدن أن يعود إلى ستينيات القرن العشرين، بإحياء عصر عمليات الإطلاق المتكررة والتكاليف البسيطة؛ أسلوب كهذا كان من شأنه أن يعرض ناسا لبعثات فاشلة، وأن يساعدها في التعامل مع حالات الفشل هذه بنجاح. كانت لديه ذكريات عزيزة لبرنامج «سرفيور»، الذي كان قد أجرى عمليات إنزال آلية على القمر استعدادا لأبولو. «مررنا بمحاولتين فاشلتين من بين سبع محاولات إطلاق. كان برنامجا ناجحا على نحو رائع.»
كان جولدن قد جاء إلى مكتب الوكالة كأحد المعينين من قبل الرئيس بوش، لكنه لم يتأثر بالتغيير الذي حدث في الإدارات، وظل محتفظا بمنصبه بعد أن تقلد الرئيس كلينتون مهام منصبه الرئاسي في البيت الأبيض. بعدها بعام، أثبت برنامج لوزارة الدفاع باسم «كليمنتاين» أن التطورات في المعدات كانت تعني أن البعثات غير المأهولة ربما تصبح صغيرة، وغير مكلفة، ومثمرة للغاية. مثل ابنة عامل المنجم تلك، فحصت «كليمنتاين» أنواعا مختلفة من الصخور على القمر، ثم مضت قدما لفحص كويكب حتى «فقد أثرها واختفت إلى الأبد» في الفضاء السحيق.
انبثق برنامج «كليمنتاين» عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي. في مختبر لورانس ليفرمور الوطني قرب سان فرانسيسكو، كان عالم الفيزياء لوويل وود قد قدم نموذجا باسم «بريليانت ببلز»، وفيه تدور مركبات فضائية صغيرة - لكنها عالية القدرة - في مدارات فضائية بأعداد كبيرة لتدمير صواريخ العدو عن طريق الاصطدام بها أثناء الطيران. خفض هذا النموذج وزن الكاميرا المحمولة في الفضاء من خمسين رطلا إلى رطلين أو أقل. كانت المركبة «كليمنتاين» التي انبثقت عن هذا النموذج تزن أقل من ألف رطل، وكان قرابة نصف هذا الوزن عبارة عن الوقود الدفعي على متن المركبة، وكانت تحمل ست كاميرات تستطيع التقاط صور عند أطوال موجية للأشعة فوق البنفسجية والأشعة المرئية والأشعة تحت الحمراء القصيرة والطويلة. كانت هذه الكاميرات تحتوي أيضا على جهاز مسح بالليزر. ربما كانت تهدف سابقا إلى تحديد المسافة إلى رءوس حربية صاروخية، بيد أنها الآن تجري قياسات دقيقة لارتفاع الجبال على سطح القمر وعمق الوديان والفوهات البركانية، مكملة بذلك الصور الملتقطة في دراسات طبوغرافية.
شملت بعثات التصوير الفوتوغرافي السابقة المركبات المدارية القمرية الخمس من عام 1966 إلى عام 1967، فضلا عن مركبتين مداريتين سوفييتيتين في عامي 1971 و1974. جمعت بعثات «أطلس» صورا رائعة للقمر، إلا أنها كان ينقصها خاصية تعدد الأطياف التي اتضحت فيما بعد قيمتها العظيمة في عمليات رصد الأرض. نقلت «كليمنتاين» هذه الخاصية إلى القمر، حيث دارت حوله لمدة شهرين وأرسلت نحو مليون صورة تقريبا، كما رسمت مجددا خريطة للقمر، لا من خلال صور الأبيض والأسود العادية، وإنما من خلال أحد عشر لونا مرئيا ومندرجا ضمن الأشعة تحت الحمراء القصيرة، مع وضع خرائط طوبوغرافيته كذلك. أثارت النتائج اهتماما بالغا بين الجيوفيزيائيين؛ حيث إنها ألقت الضوء على مراحل التطور الأولى للقمر. سمحت هذه الصور أيضا بإعداد خرائط جيولوجية عن طريق عرض أنواع الصخور المختلفة على سطح القمر. أشارت البيانات الأخرى إلى وجود ثلج قرب القطب الجنوبي للقمر، وهو ما قد يكون مصدرا لتوفير الماء ووقود الصواريخ لقاعدة مأهولة في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، تبلغ تكلفة المركبة الفضائية 55 مليون دولار أمريكي فقط.
على الرغم من أن «كليمنتاين» كانت أحد مشروعات البنتاجون، فقد احتضن جولدن المشروع ورحب به. في أبريل 1994، تحدث جولدن في مؤتمر صحفي حول بعثات استكشاف الكواكب المنخفضة التكلفة، معلنا أنه في السنوات السابقة «صرنا جميعا معتادين على طريقة مباشرة الأعمال التي لا يتعين علينا فيها أن نلقي بالا إلى التكلفة. كان تنفيذ البعثة أكثر أهمية من التكلفة. مضى ذلك ونسي، وانتهى.» بدلا من ذلك، صدق على برنامج باسم «ديسكفري»، يتضمن مشروعات بتكلفة 150 مليون دولار أمريكي بحد أقصى. لم تكن هذه المشروعات تستعين بموارد مختبر الدفع النفاث، بل جاءت نتيجة مقترحات أعدها علماء أفراد غير تابعين لهيئات بعينها، معروفين باسم الباحثين الرئيسيين. صرح أحد المديرين المشاركين بوكالة ناسا في المؤتمر قائلا: «نريد من الباحثين الرئيسيين اقتراح بعثة كاملة، وإذا أعجبنا العرض - إذا أعجبنا الاقتراح، إذا أعجبتنا طريقة إدارتكم له، إذا راقت لنا التكلفة - فسنشتري التصميم، وندفع مقابله لكم، ثم تنفذونه.»
3
بينما كان جولدن يقلل من تكلفة نظام رصد الأرض ويعيد إحياء برنامج استكشاف الكواكب، كانت القوات الجوية توسع نطاق جهودها في مجال مركبات الفضاء غير المأهولة للبلاد، من خلال تقديم خدمات جديدة كبرى في مجالي الملاحة والتحكم في مراقبة حركة الطيران. انبثقت هذه الجهود من مشروع عسكري، هو نظام تحديد المواقع العالمي، الذي كان قد تأتى كنظام ملاحة من شأنه تحسين أقمار «ترانزيت» الصناعية التابعة للقوات البحرية. تطلبت «ترانزيت» أجهزة مكلفة تختص بمعالجة الإشارات، وعادة ما كانت تحتاج إلى عمليتي مرور منفصلتين لأحد الأقمار الصناعية، تفصلهما ساعة ونصف ساعة. أفلح هذا الأمر مع غواصات «بولاريس» التي كان قادتها ينتظرون طوال اليوم للحصول على موقع ملاحي سليم، بيد أن القوات الجوية كانت تريد تحديدا آنيا للموقع لتمكين الطائرات من إلقاء قنابل بدقة أكبر. وكان النظام الذي نشأ عن ذلك هو نظام تحديد المواقع العالمي المعروف اختصارا بنظام «جي بي إس».
النظام عبارة عن مجموعة من أربعة وعشرين قمرا صناعيا، في مدارات مدتها اثنتا عشرة ساعة على ارتفاع 12543 ميلا. يحمل كل منها ساعة ذرية لتحديد الوقت بدقة، بينما يسمح التتبع الأرضي لكل قمر صناعي بتحديد موضعه بنفس مستوى الدقة؛ عندئذ، يتلقى جهاز استقبال أرضي الإشارات من المركبات الفضائية في مجال الرؤية، محددا مواقعها فضلا عن الأوقات الفعلية لنقل الإشارات. يتضمن جهاز الاستقبال ساعته الداخلية، التي ليست دقيقة تماما، بينما تسمح البيانات الواردة من الفضاء بمزامنة هذه الساعة مع ساعات الأقمار الصناعية. يحسب جهاز الاستقبال عندئذ المدة الزمنية التي استغرقتها كل إشارة أثناء الانتقال، منتقلة بسرعة الضوء، ويترجم هذا إلى تحديد دقيق للمسافة التي يبعدها كل قمر صناعي؛ ومن خلال طريقة التثليث، يحدد جهاز الاستقبال موقعه.
ناپیژندل شوی مخ