لكن مع دوران «لونا 3» حول القمر، كانت الولايات المتحدة تتخذ خطوات قوية للتصدي لاحتكار السوفييت للصواريخ الكبيرة. ترجع أولى هذه الخطوات إلى عام 1955، عندما طلبت القوات الجوية من شركة «روكيت داين» إجراء دراسة جدوى حول محرك جديد، «إي-1»، كانت قوة دفعه تتراوح بين 300 ألف رطل و400 ألف رطل. تقدمت «روكيت داين»، التي سرعان ما أعلنت عن قدرتها على إنتاج محرك أفضل كثيرا، بمقترح إنتاج محرك تبلغ قوة دفعه مليون رطل كاملة. وفرت لها القوات الجوية مصادر التمويل الإضافية، وبحلول عام 1957 كانت شركة «روكيت داين» قد قدمت تحليلا كاملا ومفصلا حول هذا المحرك الأكبر حجما، وبدأت في صناعة المكونات الرئيسية. تلقت جهود إنتاج المحرك دعما إضافيا في يونيو 1958، عندما أرست قاعدة رايت-باترسون التابعة للقوات الجوية على الشركة عقد إنتاج محرك. زود هذا المحرك - الذي أطلق عليه اسم «إف-1» - بقوة دفع أكبر؛ مما سمح باستخدامه في إطلاق صاروخ يحمل رواد فضاء إلى القمر.
كان فيرنر فون براون يباشر جهوده بنشاط أيضا. أصدر وزير الدفاع ويلسون قرارا في نوفمبر 1956 استبعد فيه الجيش من مهمة نشر صواريخ بعيدة المدى، لكنه كان قرارا ينطوي على ثغرة. لم يذكر القرار شيئا فيما يتعلق بالفضاء، ولم يذكر شيئا عن تنفيذ بعثات مأهولة طويلة المدى، وهي ما كان فون براون يأمل في تنفيذه. قبل ثلاثين عاما، كان كارل بيكر الألماني قد استغل ثغرة مشابهة في معاهدة فرساي، التي كانت قد منعت ألمانيا من امتلاك الدبابات والمدفعية الثقيلة، لكنها لم تذكر شيئا عن الصواريخ، وكان فون براون تلميذ بيكر النجيب. في أبريل 1957، أجرى فون براون عدة دراسات حول تصميم صواريخ تعزيز عنقودية تستخدم أربعة محركات طراز «إي-1» لتحقيق قوة دفع 1,5 مليون رطل؛ أطلق على الصاروخ اسم صاروخ «جوبيتر» الفائق، ثم أعاد تسميته ب «ساتورن»، الكوكب التالي لكوكب جوبيتر.
تسارعت وتيرة تنفيذ المشروع خلال عام 1958، عندما رأت هيئة المشروعات البحثية المتطورة أن «ساتورن» يجب أن يعتمد على المحركات الموجودة بالفعل، بدلا من انتظار نتائج تطوير محرك «إي-1» الذي لم تثبت كفاءته بعد. استجاب فون براون إلى هذا التوجيه بوضع تصميم جديد كان يعد بقوة دفع 1,5 مليون رطل عن طريق استخدام ثمانية محركات طراز «جوبيتر»، وهو تصميم يساهم في خفض التكاليف مع تسريع إيقاع العمل في المشروع. في منتصف شهر أغسطس، أرست هيئة المشروعات البحثية المتطورة عقدا لتنفيذ عملية تطوير الصاروخ هذه؛ وبعدها بشهر، أرسى الجنرال مداريس عقدا منفصلا على شركة «روكيت داين» لتطوير محركات تزيد قوة الدفع من 150 ألف رطل إلى 165 ألف رطل أولا، ثم إلى 188 ألف رطل. أصدر الجنرال مداريس أوامر بتعديل منصة الاختبار بما يمكنها من حمل صاروخ «ساتورن » كامل.
كانت السرعة مطلبا جوهريا، ولم يكن من السهل تصنيع خزانات صاروخ التعزيز الضخمة، إلا أن الصاروخ «ساتورن» استخدم مجموعة من المحركات الصغيرة، بدلا من الخزانات؛ وذلك لأن خزانات الوقود الدفعي بصواريخ «ردستون» و «جوبيتر» كانت متوافرة. وبالفعل وضع المصممون ثمانية خزانات من الصاروخ «ردستون» حول أحد صواريخ تعزيز «جوبيتر»، وهو ما صار يعرف مجددا بالصاروخ «جوبيتر-سي»، لكن بحجم أكبر كثيرا، ومزود بخزانات وقود ومحركات متصلة معا بنفس الطريقة تقريبا التي كان فون براون قد وضع بها مجموعة من صواريخ الوقود الصلب الصغيرة المتوافرة أعلى نموذج الصاروخ «ردستون» التقليدي، لإطلاق أول أقماره الصناعية.
اعتمد مسار ثالث في إنتاج صواريخ متطورة على استخدام الهيدروجين كوقود عالي الأداء في المراحل العليا. لم يكن الهيدروجين سهلا في تسييله؛ لأنه أكثر برودة من الأكسجين السائل، ويتبخر على نحو أسرع كثيرا. لكن، من نواح مهمة أخرى، كان الهيدروجين أكثر أمانا من الجازولين؛ لأنه يميل إلى الارتفاع في الهواء عند إطلاقه، بدلا من تكوين خليط قابل للانفجار يمكث قريبا من سطح الأرض. كما أن الهيدروجين مادة مبردة رائعة أيضا. في مختبر لويس للدفع التابع للجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، كان جون سلوب بصدد تطوير محرك ذي نظام تبريد متجدد، تبلغ قوة دفعه 20 ألف رطل، واستطاع سلوب تشغيل هذا المحرك بنجاح على منصة اختبار.
كان من بين مراكز الاهتمام الأخرى بمحركات الهيدروجين شركة «برات آند وتني» العاملة في مجال بناء المحركات. كانت محركات الطائرات النفاثة هي منتج الشركة الأساسي، وكانت الشركة تجرب استخدام الهيدروجين من خلال بناء محرك نفاث توربيني يمكن استخدام هذا الوقود فيه، لتسيير طائرة تجسس مقترحة تحل محل القمر «يو-2». في عام 1956، قرر كبير مهندسي الشركة، بيري برات، محاولة الظفر بعقود جديدة في مجال الصواريخ الآخذ في الازدهار. كان يعلم أن شركته انضمت إلى هذا المجال متأخرا، وكان عليها أن تواجه شركات منافسة راسخة ومعروفة مثل «روكيت داين» و«إيروجت» و«ريأكشن موتورز»، لكنه كان يرى أن شركة «برات آند وتني» تستطيع تحقيق السبق على الآخرين من خلال ابتكار أنواع جديدة من الوقود الدفعي. استعان برات باختصاصي في مجال الصواريخ، يدعى برانسون سميث، سرعان ما وضع الهيدروجين على رأس قائمة موضوعاته البحثية.
لأكثر من عام، حاول سميث وبرات أن يظفرا باهتمام القوات الجوية، لكنهما لم يفلحا كثيرا في ذلك. ثم جاء القمر «سبوتنيك»، ولاح في الأفق أمل جديد. في شركة «كونفير»، انتهز زميل قديم لفون براون، يدعى كرافت إيريكه، الفرصة بعرض تصميم خاص بصاروخ مرحلة عليا يعمل باستخدام وقود الهيدروجين يمكن وضعه على الصاروخ «أطلس» الذي تنتجه شركته، ويحمل حمولات ثقيلة في مدار فضائي. سرعان ما برزت هذه المرحلة، المعروفة باسم «سينتاور»، باعتبارها محور ارتكاز لآمال سميث في استخدام الهيدروجين كوقود. ساندت هيئة المشروعات البحثية المتطورة المشروع، وكذلك فعلت القوات الجوية؛ وفي شهر أغسطس من عام 1958، أصدرت الهيئة توجيهاتها لتطوير الصاروخ «سينتاور»، باستخدام محرك يعمل بوقود الهيدروجين من إنتاج شركة «برات آند وتني».
بناء على ذلك، خلال صيف عام 1958، كان الجيش والقوات الجوية يتابعان العمل في مشروعي «ساتورن» و«سينتاور»، بينما كانت شركة «روكيت داين» تطور محرك «إف-1» ليكون باكورة مشروعاتها لإنتاج جيل جديد من محركات الصواريخ. في 29 يوليو، وقع آيزنهاور قانون إنشاء ناسا. كان مدير اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، هيو درايدن، منخرطا حتى أذنيه في عملية التخطيط التي كانت ستحول اهتمام اللجنة من فن الملاحة الجوية وعلم الطيران إلى رحلات الفضاء. لتولي مهام عملية التخطيط هذه، استحضر درايدن إلى واشنطن آيب سيلفرستين، المدير المشارك لمركز لويس للدفع، وانطلاقا من خلفيته في مجال المحركات المبتكرة، شرع سيلفرستين في تولي مشروعات جديدة، وفي اجتذاب فريق عمل فون براون للعمل تحت مظلة ناسا، وقيادة هذه الوكالة نحو عصر جديد من الصواريخ الضخمة والرؤى الطموحة.
يصف سلوب - الذي كان قد عمل عن كثب مع سيلفرستين - سيلفرستين بأنه «حاد الذكاء، واسع الخيال، ومغامر، وحازم. كان مفاوضا صعب المراس على مائدة التفاوض لكنه كان يتسم بالدفء والإيثار الشديد في العلاقات الشخصية. كان يستطيع أن ينحي العمل جانبا كما لو كان عباءة يخلعها عنه، ويشع دفئا وتعاطفا تجاه الآخرين، حتى إن أولئك الذين سبق لهم أن شعروا بسياط نقده أثناء إحدى المناقشات الفنية ينسون أسفهم ويتجاوبون معه بدفء مماثل. استنكر كثيرون أسلوبه لكنهم كانوا يحبون شخصه. في بعض الأحيان، كانت تعتريه رغبة عارمة في إثبات حجته وإقناع الآخرين بها على نحو يقارب الهوس، لا سيما في المناسبات النادرة التي كان يبدو من الواضح فيها أنه مخطئ». لكنه، مع ذلك «كان يتمتع بحدس فني مدهش حيال النهج السليم الواجب اتباعه، ولم يحدث قط أن اتخذ قرارا سيئا على إثر حجة واهية».
3
ناپیژندل شوی مخ