وإلى هذه القربى من الإيمان بالغيب كان لطيف الحس خاشع النفس عظيم الرفق والمودة، لا ترين على قلبه تلك الغلظة التي تغلق أبواب القلوب وإن تفتحت الأذهان، فكان خشوعه يبكيه وفرحه يبكيه، وسليقته الدينية كاملة لا يعوزها إلا القبس الذي يلمسها، فتضيء ثم لا ينطفئ لها ضياء.
وكان مع الصدق وحماسة العقيدة ومقاربة الغيب وموحياته ونجاواه بليغا متذوقا للبلاغة، كثير الرواية للشعر والاسترواح للكلام الحسن الفصيح، فكان في ازدرائه لكلام المتنبئين غضب تلمح فيه عيفان الذوق البليغ كما تلمح فيه عيفان المؤمن الناقم على الضلال، سمع فقرات من قرآن مسيلمة الكذاب فما عتم أن ابتدر قارئيه مشمئزا من سخفه وإسفافه: «ويحكم، إن هذا لم يخرج من إل ولا بر!»
ولا جرم يكون هذا الذوق المستقيم سببا قريبا بين صاحبه وبلاغة القرآن وبلاغة النبي عليه السلام.
إلا أن سبب الأسباب جميعا في التقريب بين الصديق وبين الدعوة المحمدية هو ذلك السبب الغالب على كل ما ذكرناه؛ لأنه يمتزج بأطواء نفسه ويصبغها بصبغته وينحو بها أبدا في منحاه، ونعني به الإعجاب بالبطولة، ذلك الإعجاب الذي نحسبه ملاكا لأخلاقه ومفتاحا لشخصيته كما فصلناه في غير هذا الباب.
فالرجل المعجب بالبطولة يعرف بطله، ثم يثق به، ثم يرتقي بالثقة إلى ما فوقها وما هو أمكن منها؛ لأن الثقة استناد إلى وثيقة تدعو إليها على حسب ما فيها من بيناتها وبراهينها، أما الإعجاب فهو الرغبة في الثقة وكراهة التحول عنها، هو البحث عن الثقة والتذاذها إذا وقف الواثقون عند الانتظار أو مجرد التأمين والموافقة بعد الانتظار.
وقد تواترت أنباء مختلفة بصداقة أبي بكر للنبي عليه السلام قبل الدعوة المحمدية بسنين، وذكر المؤرخون الثقات أنه كان معه عليه السلام حين ذهب في صحبة عمه إلى الشام واجتمع بالراهب بحيرا وسمع منه ما سمع عن الدين والبشارة بالنبوة. وقد شك بعض المؤرخين من الأوروبيين في اتصال المودة بين الصفيين قبل الدعوة المحمدية بزمن طويل، إلا أن الدليل الذي يغني عن وثائق التاريخ أن أبا بكر كان باتفاق الأقوال أول المستجيبين لدعوة محمد من غير أهله، ولن يكون ذلك بغير معرفة سابقة بين الرجلين حببت إلى النبي عليه السلام أن يبدأ به ويترقب منه الإصغاء إليه، وأيسر ما يستلزمه ذلك السبق إلى الإسلام أن يكون أبو بكر معروفا بصفاته لمحمد وأن يكون محمد معروفا بصفاته لأبي بكر. فلما سمع دعوته سارع إلى تصديقه وهو معجب به وباستقامة طبعه ونقاء سيرته وبلاغة حديثه، وأعانه على التفرقة بينه وبين خصومه، والتمييز بينه وبين منكريه أنه كان نسابة قريش لا يفوته مغمز من مغامزهم قديمها وحديثها في الأنساب والأخلاق، ومحمد عنده مطهر من كل ذلك براء. •••
من جملة ما تقدم تتبين لنا سهولة اتجاه الصديق إلى الدعوة المحمدية، سواء من ضعف العقبات في طريقه أو من قوة الدواعي التي تجذبه إليه، فقد اجتمعت هذه وتلك على تفسير تلك الأعجوبة النادرة في تاريخ الدعوات الجديدة: أعجوبة رجل في سمت الرجولة يقال له: تعال إلى دين جديد غير دين آبائك وأجدادك، فلا يتوانى ولا يتردد في إجابة الدعوة، وما هو إلا أن يسمعها حتى يلبيها وينقطع لها، ويصبح من أقوى دعاتها بعد صاحبها.
ومن تمام الجلاء في تفسير تلك الأعجوبة أن نفهمها على حقيقتها في جميع أحوالها وملابساتها، وأن نفهم الفارق بينها وبين نظائرها لو جرت في عصرنا الحاضر، أو بيئة أخرى غير البيئة التي جرت فيها ...
فنحن نسمع بقصة أبي بكر وتصديقه السريع للدعوة المحمدية فنحضر في أخلادنا رجلا من المسلمين أو المسيحيين أو الإسرائيليين في عصرنا الحاضر يقال له: تعال إلى دين غير دينك ودين آبائك وأجدادك، فيجيب الداعي لتوه وساعته كأنها تحية وجوابها.
وهي أعجوبة عندنا يوشك أن يأباها العقل وأن تمتنع على التصديق.
ناپیژندل شوی مخ