وكان عمر نموذج القوة في الرجل الجسيم.
ومن عجيب المصادفات أن هذا كان غزير الشعر بين الغزارة فيه، وهذا كان أصلع، بين النزارة فيه، ليتم بينهما التقابل حتى في الصفة التي لا يقتضيها اختلاف البنية بين الرجل الدقيق والرجل الجسيم.
قلنا في كتابنا «عبقرية عمر»:
إن العالم الإيطالي لومبروزو ومدرسته التي تأتم برأيه يقررون بعد تكرار التجربة والمقارنة أن للعبقرية علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها. وهي علامات تتفق وتتناقض ولكنها في جميع حالاتها وصورها نمط من اختلاف التركيب ومباينته للوتيرة العامة بين أصحاب التشابه والمساواة. فيكون العبقري طويلا بائن الطول، أو قصيرا بين القصر، ويعمل بيده اليسرى أو يعمل بكلتا اليدين، ويلفت النظر بغزارة شعره أو بنزارة الشعر على غير المعهود في سائر الناس، ويكثر بين العبقريين من كل طراز جيشان الشعور وفرط الحس، وغرابة الاستجابة للطوارئ فيكون فيهم من تفرط سورته كما يكون فيهم من يفرط هدوءه، ولهم على الجملة ولع بعالم الغيب وخفايا الأسرار على نحو يلحظ تارة، في الزكانة والفراسة، وتارة في النظر على البعد أو الشعور على البعد، وتارة في الحماسة الدينية أو في الخشوع لله.
تلك جملة الخصائص العبقرية التي أجملناها من كلام لومبروزو وأشياعه، فكأنما شاء القدر أن يتفق الصاحبان في جوهر العبقرية ويختلفا في أعراضها اختلاف المقابلة ، حتى في غزارة الشعر ونزارته على غير ما يقتضيه هذا الاختلاف.
والمقابلة بين الصديق والفاروق في تكوين البنية وتركيب المزاج كان لها أثر كبير في المقابلة بين الرجلين العظيمين في الخلائق والجهود، فعمر، بما نشأ عليه من الجسامة والهيبة، لم ينشأ وله منبه من البنية ينبهه أبدا إلى وجوب التهدئة والترويض، فمضى بتلك البنية كما يمضي راكب الفرس الجموح غير متوجس من جماحه؛ لأنه مطمئن آخر الأمر إلى العنان.
وأبو بكر، بما نشأ عليه من الدقة والنحول، قد نشأ وله منبه إلى غوائل الحدة التي تعهد من أصحاب هذا التركيب ولا تؤمن غوائلها عليهم، فراض نفسه على التهدئة والترويض، ومضى بتلك البنية كما يمضي راكب الفرس الجموح عودها قبل الدخول في المضمار أن تدع الجماح، وأن تشعر بالعنان القابض عليها في كل حين.
وهنا لا تكون التفرقة أيضا من قبيل التفرقة بين القوة والضعف، وبين القدرة والعجز عنها، ولكنها على ما قدمنا تفرقة بين قوة وقوة تكافئها، أو بين طرازين من القدرة يتقابلان.
فلو كان أبو بكر ضعيفا قليلا لجمحت به الحدة، ولم يعتصم من عزمه إلى كابح قدير على الكبح، فتحطم كما يتحطم الضعفاء.
ولو كان شعوره بنفسه شعور ضعف وقلة لاستقر على هذا الشعور واستكان إليه، ولم يأخذ نفسه بالسمت والوقار، ولا بمناقب السيادة والمروءة، ورضي له ولذويه بما يرضى به الضعفاء.
ناپیژندل شوی مخ