ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شيء تطلق
فرحمه أبوه وأمره بمراجعتها، فراجعها. فكان أبو بكر في هذا نموذجا مقابلا لنموذج عمر في هذه الناحية من الخلائق والوشائج القلبية، كما كان نموذجا مقابلا له في خلائل شتى ووشائج أخرى؛ إذ كان عمر ينعي على ولده أنه عجز عن طلاق امرأته، وعد ذلك من مآخذه حين رشحه بعضهم للخلافة بعده.
ولم يكن لزوجات أبي بكر ما يشتكينه منه غير الإقلال من النفقة والقصد في المعيشة، ففي اليوم الذي اجتمعت فيه نساء النبي عليه السلام يطالبنه بالمزيد من النفقة كانت بنت خارجة زوجة أبي بكر تطالبه هذه المطالبة، فيغضب منها، ويلوي عنقها، ويذهب إلى النبي فيحدثه بحديثها ليسري عنه وقد رآه بين أمهات المسلمين على مثل تلك الحالة؛ فكأنما كن جميعا على ميعاد.
ولم يكن أبو بكر مقلا من المال، ولا عاجزا عن كسبه قبل الخلافة ولا بعدها، فقد أنفق في سبيل الإسلام أربعين ألف درهم، وما زال ينفق من ماله في شراء الأكسية والأطعمة وتوزيعها على الفقراء ولا سيما في الشتاء، ولكنه آثر متاع روحه على متاع جسده وكره أن يعيش في بيته خيرا من معيشة نبيه وصفيه، وكان يبغض السرف فيقول: «إني لأبغض أهل البيت ينفقون رزق الأيام في يوم ...»
فلو بقى له من المال ما يجاوز به حظه من النفقة لما جاوزه وهو يرى أمامه مثل النبي، ويجب أن يكون مثلا لمن معه، ومن بعده من خلفاء الإسلام، وعامة أتباعه.
وقد تعددت الروايات عما قسم له من الرزق بعد الخلافة وكيف قسم بمشورة من حضر من جلة الصحابة، ومنهم عمر وعثمان وعلي وأبو عبيدة. ولكن الروايات متفقة على قصده في بيته واجتنابه للسرف في معيشته، وأنه كما قال: «لم يعد سد الجوعة ووري العورة وقواتة القوام.»
ومات وليس عنده مدخر يذكر، فقال عمر: «رحمه الله. لقد أتعب من بعده.» يريد أنه ألزمهم قدوة تتعب ولا تريح. •••
ونحسب أن النشأة في حياة أبي بكر البيتية لا تتمثل في شيء كما تتمثل في نشأة بنتيه عائشة وأسماء رضي الله عنهما. فأما عائشة فقد فارقت بيت أبيها وهي في نحو العاشرة أو أكبر من ذلك بقليل كما استخلص بعض المؤرخين من مراجعة التواريخ الكثيرة، فإذا هي في تلك السن قد وعت ما وعته من الشعر البليغ والأمثال السائرة والأخبار النادرة، وقد نضجت لمصاحبة النبي والوعي عنه والدراية بالمأثور من كلامه، وكانت بعد ذلك مرجعا من مراجع الفقه والسنة خليقا باعتماد الثقات الأجلاء.
ومن الناس من تعود أن يتخيل عائشة رضي الله عنها جارية صغيرة حظيت عند زوجها عليه السلام لجمالها وصغرها وصداقة أبيها، ولكنها - ولا ريب - لم تبلغ هذه الحظوة عنده صلوات الله عليه إلا أنها الزوجة الكفء لبلوغها والمحافظة عليها، وكانت تعرف من أدب الزواج ما يجمل بمكانها، وتعرف من ملاطفة الزوج مداخل قلبه ومواطن رضاه، وربما دللت زوجها ولم تترك له وحده مسرة تدليلها. فمن ذلك في روايات تختلف في النقل، وتتفق في هذا المعنى أنه كان عليه السلام يصلح نعله في يوم قائظ فتندى جبينه، وتحدر العرق على خده، وهي تلحظه من قريب وكأن بها وجدا عليه. فسألها: ما لك بهت؟
ناپیژندل شوی مخ