ففي عهد الحديبية تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه، وفي الاعتماد على السلم والعهد حيث يحسنان ويصلحان، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود.
بدأ بالدعوة إلى الحج، فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته ... بل شمل به كل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي إليه، فجعل له وللعرب أجمعين قضية واحدة في وجه قريش، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتها، وفصل بذلك بين دعواها ودعوى القبائل الأخرى، ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيهها إلى مناوأة محمد والرسالة الإسلامية. فليس محمد وأصحابه أناسا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها، ولكنهم إذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم، أو يقطعون ما بينهم وبين آبائهم وأجدادهم. فإذا خالفوا قريشا في شيء فذلك شأن قريش وحدهم أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة، وليس هو بشأن القبائل أجمعين.
ثم أفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من إغضاب العرب على الإسلام، بما ادعوا من قطعه للأرزاق وتهديده للأسواق التي يعمرها الحاج ويستفيد منها الغادون إلى مكة والرائحون منها، فها هو ذا محمد نفسه يأخذ معه المسلمين إلى مكة كما يأخذ معه من شاء مصاحبته من غير المسلمين قصاد البيت الحرام. فإذا حال بينهم حائل وبين ما يقصدون إليه، فتلك جنايته وذلك وزره على نفسه وعلى قومه ، ولا وزر فيما أصاب الأرزاق أو أصاب الأسواق على المسلمين ...
وقد سمعنا كثيرا في العصور الحديثة عن المقاومة السلبية أو المقاومة التي تجتنب العنف ولا تعتمد على غير وجه الحق والحجة.
سمعنا بها في الحركة الهندية التي قام على رأسها غاندي وتابعه فيها بعض مريديه، حتى كان لها من الأثر في إزعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية.
وقيل يومئذ إن غاندي قد تتلمذ في هذه الحركة على المصلح الروسي الكبير ليو تولستوي، وقيل بل هو أحرى أن يعرفها من آداب البرهميين والبوذيين التي تحرم إيذاء الحيوان فضلا عن الإنسان، قبل أن يشرع ليو تولستوي مذهبه الجديد.
والذين قالوا بهذا الرأي الأخير استبعدوا أن يتفق المسلمون والبرهميون والبوذيون على حركة غاندي وتبشيره بتلك المقاومة السلبية لاعتقادهم أن الإسلام قد شرع القتال فلا يوائم المسلمين ما يوائم البوذيين والبرهميين، من اجتناب القوة والتزام السلم وترك المقاومة.
لكن المثل الذي قدمه النبي صلوات الله عليه في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه، ويبين لهم أن الإسلام قد أخذ من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة بنصيب يجري في حينه مع مناسباته وأسبابه ... فلا هو يركن إلى السيف وحده ولا إلى السلم وحده، بل يضع كليهما حيث يوضع، ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع، وهو الحكم المتصرف حيث يختار ما يختار، وليس الآلة التي يسوقها السلم أو الحرب مساق الاضطرار.
وقد خرج النبي إلى مكة في رحلة الحديبية حاجا لا غازيا ... يقول ذلك ويكرره ويقيم الشواهد عليه لمن سأله، ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح، إلا ما يؤذن به لغير المقاتلين.
فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب وقريش وحسب، بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك في دفعه أو قبوله أو مهادنته، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعا للاتفاق بين خصومه على قرار واحد، وقل من أتباعه من أدرك قصده ومرماه حتى الصفوة المختارين.
ناپیژندل شوی مخ