74

وأوشكت هذه المكيدة أن تتم على النحو الذي دبره هرمز لولا أنه أخطأ الحساب في اغتراره بقوته وجهله بصولة خالد في مبارزته، فظن أن الجولة بينهما تطول قبل أن يخرج فرسانه للغدر بخالد، ولكنه صرع في جولة واحدة وفوجئ أصحابه بهذه السرعة، فاقتربوا من خالد على عجل وهو مشغول بالإجهاز على قائدهم، وإذا بالقعقاع أسرع إليهم من لمح البصر ومن ورائه جيش المسلمين بجملته يضرب في قطيع مذعور مأخوذ بالمفاجأة ومهابة هذه الصولة العاجلة، فكانت وقعة اليوم وقعة رجلين في جولة واحدة، تلتها الجولات اللاحقات التي ترسمت خطاها وسارت على هداها.

سار خالد إلى العراق في أوائل السنة الثانية عشرة للهجرة النبوية، وأتم في سنة واحدة مما أعيى الرومان أن يتموه في أجيال.

وقد تكتب في شرح وقعاته بالعراق مجلدات طوال يستغرق بحثها ومعارضة رواياتها مئات الصفحات، ولكننا لا نتوسع في ذلك الشرح هنا؛ لأن أعمال خالد تعنينا في هذا الكتاب لمقصد واحد، وهو الرجوع بها إلى مصدرها من نفسه وعقله ومقومات شخصه.

وفي هذا حسبنا أن نقول على الإجمال قبل الإشارة إلى وقعاته إنه لقي الفرس وأولياءهم في خمسة عشرة وقعة لم يهزم ولم يخطئ ولم يخفق في واحدة منها، وأن قوادا من المسلمين أخطأوا في حروب الردة وحروب الفرس والروم كما حدث من عكرمة وشرحبيل وأبي عبيد وخالد بن سعيد، ولكن خالدا لم يخطئ قط عن خدعة أو عجلة أو قلة أهبة، وكان يسير بجيشه أبدا على تعبئة كاملة؛ ليقاتل عدوه حيث لقيه مفاجئا أو غير مفاجئ، وكان أبدا كما وصفه عمر بن العاص: «في أناة القطاة ووثبة الأسد» فلا يهمل الحيطة ولا يجعل التعويل كله على الشجاعة دون الحزم والحيلة، ولا يعز عليه أن يتحامى لقاء عدوه في بعض الساحات لينتقل به إلى المكان الذي هو أصلح لحركاته وأعون له عليه، ومن علمه فنون القتال أنه كان يحارب بثمانية عشر ألفا وكأنه كان يحارب بخمسة أضعاف هؤلاء. فإذا أرسل أربعة آلاف أو ثلاثة آلاف إلى مكان يغنون فيه، فذاك أجدى من تسيير الجيش كله أو تسيير عدد منه يربو على الحاجة الضرورية ... فإن طرأ في خلال مسيره ما ليس في الحسبان، فمعوله في هذه الحالة على سرعة خاطفة كسرعة الباشق وهو ينقض على فريسته، فلا تشعر الفرقة التي أشخصها إلى مكانها بالحاجة إليه حتى يكون معها كأنها لم تفارقه ولم يفارقها.

فهي شجاعة ويقظة وخبرة وسرعة ومعرفة بما هو لازم في وقت لزومه، ولم تخذله خصلة من هذه الخصال قط في ساحات فارس ولا في ساحات الشام مع اختلاف الميادين واختلاف الأحوال واختلاف الأعداء.

وقد كانت تعبئة خالد في المسير تشبه التعبئة التي جرى عليها العرف في أيامه، وهي قسمة الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب وطليعة تسبقه وردء يلحق به؛ ليحمي ظهره أو يلبث في موضع من المواضع كمينا ينزل إلى الساحة على غير انتظار؛ لتقوى به سواعد أصحابه وتنخذل به عزائم أعدائه ... ولكنه كان عند القتال يفتن باتخاذ طريقة الهجوم أو الدفاع كما توحي بها ضرورة الساعة، فيقاتل بالصفوف كما يقاتل بالكراديس، ويواجه خصمه أو يدور عليه، ويتراجع أمامه أو يمعن في الهجوم على كبة جمعه، ويحصره أو يخلي له سبيل الهرب، حسبما تدور به المعركة في أثنائها أو توحي به طوالعها قبل ابتدائها.

فلما عقدت له القيادة على البعثة الفارسية أرسل جيشه على فرق ثلاث من طرائق مختلفة، فقدم المثنى على رأس فرقة، ثم ألحق به عدي بن حاتم صاحبه في حرب بني أسد، ثم لحق بهم على رأس جيشه وواعدهم موضعا إلى الجنوب الغربي من البصرة الآن، ولعله توخى تسهيل السقي والمرعى بهذا التقسيم، ثم اختبار الطريق بقيادة الرجل الذي كانت له سابقة الدراية بهذه الدروب.

وكتب إلى هرمز قائد الفرس يخيره بين الإسلام والجزية أو الحرب ويقول له في ختام كتابه الوجيز: «جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» ثم عدل إلى كاظمة بعد أن كان موعده الأول «الحفير»؛ لأنها كانت على ما يظهر أوفق لتعبئة جيشه.

وهناك التقى بجيوش الفرس - وعلى رأسهم هرمز - فوقعت بينهم الوقعة التي سبقت الإشارة إليها وتعرف باسم ذات السلاسل؛ لأن الفرس كانوا يوثقون أنفسهم فيها بالسلاسل جماعات جماعات ليثبتوا في القتال ولا يتأتى لهم الفرار إن أرادوه ولئن صح هذا لقد كانت مخاوف الشك فيه أظهر من صدق العزيمة والطمأنينة إلى النية القوية.

ولما تبدد جيش هرمز تعقبه المثنى بن حارثة وعبر الفرات؛ ليأخذه متفرقا قبل أن تتجمع فلوله حيث تأمن احتثاث الملاحقة وراءها، ولكن الفرس علموا بعد مقتل هرمز وتفرق جيشه أنهم مهددون في «المدائن» عاصمة ملكهم فحشدوا لملاقاة المسلمين جيشا عظيما بقيادة قارن بن قريانس يعاونه أميران من بيت أردشير. فأدرك فلول هرمز في «المذار» وضمهم إليه، وكان المثنى قد علم بخروج هذا الجيش العظيم واجتماع الفلول المتفرقة إليه فكتب إلى خالد يستأمره ويستمده، فكان خالد هو الجواب ...

ناپیژندل شوی مخ