لتفصيل الكلام في حروب الردة مكان غير هذا المكان ...
لأننا نتناول منها في هذا الكتاب ما يتصل بأعمال خالد وتقديم خصائصه ومزاياه، وندع ما عدا ذلك لمكانه من الشروح والمطولات.
وقد رجعت الردة - كجميع الثورات والأحداث الاجتماعية - إلى أسباب مختلفة، ولم تنحصر في سبب واحد، وربما كان من أسبابها ما خفي على المؤرخين ولا يزال خافيا علينا حتى الآن، ولكننا نعتقد أن الأسباب الآتية كافية لتفسيرها وتفسير نصيب خالد منها، على القدر اللازم لفهمها وتصحيح دلالتها.
فمن أسباب حروب الردة تمرد القبائل القوية على قريش ، وأقواها القبائل التي تنتمي إلى ربيعة دون مضر؛ فإنها كانت تتعصب لنسبها وتأنف أن تعلوها قريش بفضل النبوة والرئاسة، وصرح بذلك طليحة النمري حين لقي مسيلمة زعيم بني حنيفة ومدعي النبوة في اليمامة، فقال: «أشهد أنك كذاب، لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من كذاب مضر.»
وكان مسيلمة هذا يقول: إنه أراد أن يأخذ نصف الأرض ويترك نصفها لقريش «ولكن قريشا قوم لا يعدلون.»
ولم تكن المنافسة بين قبائل مضر أخف ولا أضعف من المنافسة بين مضر وربيعة، فإن المنافسة في الأقربين أشد وأيقظ من المنافسة بين الأبعدين كما هو المعهود في كل قبيل؛ فكانت ذبيان وعبس وبنو أسد تكره من سيادة القرشيين ما تكرهه القبائل البعيدة، وروي عن عيينة بن حصن مثلما روي عن طليحة النمري إذ قال يؤيد المتنبئ طليحة بن خويلد: «نبي من الحليفين أحب إلينا من نبي من قريش»، ويعني بالحليفين بني أسد وبني غطفان.
وكانت قريش تقابل مثل هذه النفرة بمثلها في أيام خصومتها للنبي وثورتها عليه. فكان صفوان بن أمية مشركا في وقعة حنين، ولكنه أنكر من أخيه أن يفرح بنصر هوازن وحلفائها، وصاح به وذهزيمة المسلمين على أشدها: «اسكت فض الله فاك. أتبشرني بظهور الأعراب ... والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.»
ومن أسباب الردة، ثورة البادية على الحاضرة ... فما زال من دأب البادية في كل زمان أن تنقم على الحاضرة سلطانها ونعمتها، ولم يشذ عن هذه السنة إلا بضع قبائل فيما بين مكة والمدينة كانت تخشى من سطوة القبائل الكبرى ما ليست تخشاه من سطوة المدينتين، وكانت تحتكم في خصوماتها إلى وساطة أهل مكة تارة وأهل المدينة تارة أخرى، فتؤثر مودة الجوار بعد طول الخبرة وطول العشرة على بلاء الفتنة فيما بينها إذا زال سلطان مكة والمدينة، ولزم بعض هذه القبائل الحيدة يترقب ما يكون، وأسرع بعضها إلى تلبية الدعوة، فحارب في صفوف المسلمين.
ومن أسباب الردة، نجاح الدعوة المحمدية بعد فتح مكة ... فإن هذا النجاح أطمع بعض القادة من رؤساء العشائر في بلوغ مثل هذا المطلب الجليل ...
فما هو إلا أن استقر الأمر لمحمد في الحجاز وما حوله حتى اشرأبت الأعناق للاقتداء به، وظن من ظن أنهم قادرون على ما قدر عليه وأن المسألة كلها مسألة كهانة وأسجاع وقيادة وأتباع، وقصرت عقولهم عن إدراك سر القوة الأصلية التي هيأت لمحمد كل ذلك التوفيق العظيم، وهي أن دعوته مطلوبة لإصلاح الأخلاق والمعاملات ونظم الحكم والمعيشة في العالم كله وليست مجرد نهزة تنتهز لظهور رئيس مطاع وتحقيق مجد مرموق ... فنجم الدعاة في حياة النبي باليمن، ونجد، والبحرين، لمجاراة الدعوة بالحجاز، وجاءت وفاته عليه السلام إثر ذلك فجرأتهم على المجاهرة بالعصيان.
ناپیژندل شوی مخ