فلم يزل يغنيه إلى نصف الليل، فقالت له زوجته: قد انتصف الليل وما أفطرنا. قال لها: أنت طالق إن كان فطورنا غيره. فلم يزل يغنيه إلى السحر. فلما كان السحر قالت زوجته: هذا السحر وما أفطرنا، فقال: أنت طالق إن كان سحورنا غيره، فلما أصبح قال لابنه: خذ جبتي هذه وأعطني خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما. فقال له: يا أبت أنت شيخ وأنا شاب. وأنا قوي على البرد منك. قال: يا بني ... ما ترك صوتك هذا للبرد علي سبيلا ما حييت.»
واطرح كل ما في هذه القصة من المبالغة والإغراق تبق منها بقية كافية لبيان مكان الغزل من نساك بني مخزوم، فضلا عن الشعراء والظرفاء.
وندع القبيلة إلى الأسرة فيتراءى لنا في النظرة الأولى ذلك الاختلاف الذي لا بد منه بين معيشة الخطاب ومعيشة الوليد، أو بين معيشة الرجل الكادح لنفسه الخشن في ملمسه، وبين معيشة الرجل المترف الفخور بالمال والبنين والجاه المكين.
لكنه مع هذا فرق في المعيشة لا يتغلغل إلى بواطن الطباع، إنما الفرق المتغلغل إلى بواطن الطباع، بل إلى أعمق أعماقها، وهو فرق البنية العصبية بين أبناء الخطاب وأبناء الوليد.
فمن أوصاف أبناء الوليد عامة ينكشف لنا «قلق عصبي» في هذه الأسرة قد تطرف جد التطرف في أفراد منها، واعتدل بعض الاعتدال في آخرين ...
فعمارة بن الوليد هو الذي بلغ منه الاضطراب أن يراود امرأة في محضر زوجها، وأن يجترئ على حرم النجاشي بالمغازلة، ثم يجترئ بالتحدث عن هذه المغازلة حديث الفخر والمباهاة، ثم ينطلق مع الأوابد في الآجام بفعل السواحر كما قيل، وهو قول لا يخفى مدلوله في لغة العصر الحديث ...
وذكر عن خالد كما ذكر عن أخيه الوليد أنه كان يتفزغ في نومه. فذاك أثر من آثار «أعصاب الأسرة» كلها على ما هو واضح من جملة المشاهدات في أبنائها، وإن كان يجمح بهم في حين ويكبح في حين ...
وقد كان خالد يغضب فينقع لونه كما جاء في كتب الفتوح من حديث المغاضبة بينه وبين أبي عبيدة بعد تسليم دمشق ومصالحة أهلها، وقد كانت علة المغاضبة أن أبا عبيدة يحسب التسليم صلحا، وخالدا يحسبه غلبا يحق فيه على المغلوب جزاء السبي والاغتنام والقصاص ...
وكانت في خالد حدة يملكها أو تملكه آونة بعد آونة، وفي القليل الذي بلغنا إشارة إلى الكثير الذي لم يبلغنا. فقد غاضب أبا عبيدة وغاضب عبد الرحمن بن عوف وغاضب عمار بن ياسر. وقال له عمار وقد سمع منه ما ساءه: «لقد هممت ألا أكلمك أبدا» فأصلح بينهما النبي - عليه السلام - وهو يقول لخالد: «يا خالد ... مالك ولعمار ... رجل من أهل الجنة قد شهد بدرا.» ثم يقول لعمار: «إن خالدا يا عمار سيف من سيوف الله على الكفار.»
فهذا الفارق بين الأسرتين، وذلك الفارق بين القبيلتين، مفسران صالحان لاختلاف لوني «الجندية» في شخصية الرجلين العظيمين. عمر إلى الجندية الموزوعة وخالد إلى الجندية المدفوعة، وعمر إلى الشظف المختار وخالد إلى المتاع المباح.
ناپیژندل شوی مخ