والرضا، أو الإرضاء، مستحيل حين يكون الطلب من هذا القبيل. •••
أما الذين لاموه لقبوله التحكيم، فيخيل إلينا من عجلتهم إلى اللوم أنهم كانوا أول من يلومه، ويفرط في لومه لو أنه رفض التحكيم وأصر على رفضه؛ لأنه لم يقبل التحكيم وله مندوحة عنه ...
ولكنه قبله بعد إحجام جنوده عن الحرب، ووشك القتال في عسكرهم خلافا بين من يقبلونه ويرتضونه.
وقبله بعد أن حجز الحفاظ والقراء نيفا وثمانين فزعة للقتال لشكهم في وجوبه، وذهاب بعضهم إلى تحريمه.
وبعد أن توعدوه بقتلة كقتلة عثمان، وأحاطوا به يلحون عليه في استدعاء الأشتر النخعي، الذي كان يلاحق أعداءه مستحصدا في ساحة الحرب على أمل في النصر القريب ...
والمؤرخون الذين صوبوا رأيه في التحكيم وخطئوه في قبول أبي موسى الأشعري، على علمه بضعفه وتردده، ينسون أن أبا موسى كان مفروضا عليه، كما فرض عليه التحكيم في لحظة واحدة ... وينسون ما هو أهم من ذلك، وهو أن العاقبة متشابهة سواء ناب عنه أبو موسى الأشعري، أو ناب عنه الأشتر أو عبد الله بن عباس ... فإن عمرو بن العاص لم يكن ليخلع معاوية ويقر عليا في الخلافة، وقصارى ما هنالك أن الحكمين سيفترقان على تأييد كل منهما لصاحبه ورجعة الأمور إلى مثل ما رجعت إليه، وإن توهم بعضهم أن الأشتر أو ابن عباس كان قديرا على تحويل ابن العاص عن رأيه، والجنوح به إلى حزب الإمام، بعد مساومته التي ساومها في حزب معاوية ... فليس ذلك على التحقيق بمقنع معاوية أن يستكين ويستسلم، وحوله المؤيدون والمترقبون للمطامع واللبانات يعز عليهم إخفاقهم كما يعز عليه إخفاقه. •••
وما أسهل المخرج الشرعي الذي يلوذ به معاوية، فيقبله منه أصحابه ويتابعونه على نقض حكم الحكمين المتفقين! ... لقد كان النبي - عليه السلام - يقول عن عمار بن ياسر: أنه «تقتله الفئة الباغية» فلما قتله جند معاوية، وخيفت الفتنة بينهم أن تلزمهم سبة البغي بشهادة الحديث الشريف - قال قائل منهم: إنما قتله من جاء به إلى الحرب ... فشاع بينهم هذا التفسير العجيب، وقبلوه جميعا غير مستثنى منهم رجل واحد ... أفلا يقبلون تفسيرا مثله إذا تحول ابن العاص، وأفتى الحكمان بخلع معاوية ومبايعة الإمام؟
فليس في أيدي المؤرخين الناقدين إذن حل أصوب من الحل الذي أذعن له الإمام على كره منه، سواء أذعن له وهو عالم بخطئه أو أذعن له وهو يسوي بينه وبين غيره في عقباه.
ويبقى اعتزال الخلافة من البداية، وهو خطة ترد على الخاطر حيال هذه المعضلات التي واجهها الإمام، ولم يكن عسيرا عليه أن يتوقعها بعد مقتل عثمان، وشيوع الفتنة والشقاق بين الأمصار كلها ... وشيوعهما قبل ذلك بين جنده الذي يعول عليه.
ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل ... وكل ما هنالك من أسباب ترجيحها أنها أسلم للإمام وآمن لسربه وأهدأ لباله، وهو أمر مشكوك فيه ... على ما في طلب السلامة بين هذه الزعازع من أثرة، قلما يرتضيها الشجاع الباسل أو الحكيم العامل ...
ناپیژندل شوی مخ