وجاء البشير بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتا يشبه صوت عمر، يقول: يا سارية بن حصن، الجبل! الجبل! فعدلنا إليه، ففتح الله علينا.
ولا داعي للجزم بنفي هذه القصة استنادا إلى العقل أو إلى العلم أو إلى التجربة الشائعة، فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها، ونفي أمثالها، بل منهم من مارسوا «التلباثي» وسجلوا مشاهداته، وهم ملحدون لا يؤمنون بدين، إلا أن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد، أن عمر كان مشهورا بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية، إما بالفراسة، أو الظن الصادق، أو الرؤية، أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة، وراقبوها، وأكثروا من المقارنات فيها، والتعقيبات عليها.
فهو رجل نادر بما تراه منه العين، نادر بما تشهد به الأعمال والأخلاق، نادر في مقاييس الأقدمين ومقاييس المحدثين.
أو هو رجل ممتاز، وعبقري موهوب في جميع الآراء.
الفصل الثالث
صفاته
نحن على هذا أمام رجل لا كالرجال، رجل عبقري، أو رجل ممتاز من خاصة الخليقة الذين لا يعدون في الزمن الواحد بأكثر من الآحاد.
أنقول: رجل قوي؟! نعم، هو رجل قوي لا مراء، وكل عظيم فهو قوي بمعنى من معاني القوة. نعلم هذا، فنعلم الشيء المهم عنه، ولكننا بعد هذا لا نعلم شيئا مهما عن صفاته وأخلاقه؛ لأن الناس من حيث القوة أقوياء وضعفاء، أو متوسطون ومنحرفون، إلى هنا تارة، وإلى هناك تارة أخرى. أما من حيث الصفات والأخلاق، فهم ألوف وألوف، وهم في قوتهم أو ضعفهم أنماط لا تحصى من المناقب والعيوب، وأحرى بنا أن نقول: إن القوة صفة تستفاد من جملة مناقب الإنسان وعيوبه، فهي حالة تدل عليها المناقب والعيوب، أو تدل عليها الصفات والأخلاق، وليست هي بالحالة التي تدلنا على مناقب الإنسان وعيوبه، وتهدينا بغير هاد إلى صفاته وأخلاقه.
فإذا قلت: إن عمر بن الخطاب رجل قوي، فما زدت على أن تقول: إنه رجل عبقري، أو إنه رجل عظيم.
وكل رجل من هذا القبيل، فمعرفته ليست بالأمر اليسير؛ لأنه نمط لا يتكرر، فيسهل فهمه بالقياس إلى أمثاله الكثيرين. وقد يكون الرجل العظيم نمطا وحيدا في التاريخ كله، لا نظير له في تفصيل أخلاقه وصفاته، وإن ساواه في القدر أنداد وقرناء.
ناپیژندل شوی مخ