عبقري اصلاح او تعلیم: امام محمد عبده
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
ژانرونه
إنه آمن بأن عمل السنين في السياسة والاعتماد على الساسة قد يضيع ولا يبقى من أثره ما ينفع، بل قد يبقى من أثره ما يضر ولا تمحو ضيره الأيام والسنون، ولكن عمل السنين في تربية الأمة وتعليمها لن يضيع ولن يذهب سدى، ولن يندم عليه العامل ولا الأمة التي يعمل لها، قصرت بها الطريق أو طالت إلى غايتها من التقدم والحرية.
إنه ابتلي من السياسة والساسة بتلك الخيبة التي بغضتها إليه وأورثته تلك المرارة «النفسية»، التي جعلت كل عمل فيها غصة لا تطاق وأذى لا يحتمل، ونفرته منها ذلك النفور الذي يصد العزيمة عنها ويدحض الرجاء فيها، وليس من طبيعة الغيرة الصادقة أن تمضي إلى وجهة تصد عنها أو تخدع النفس من السعي الذي لا رجاء فيه، فليس له ولا لأحد أن يصرفه عن العمل الذي يرجو جدواه، ليكرهه على العمل الذي لا يجدي عنده، وإن أجدى كثيرا أو قليلا عند غيره.
وأيا كان رأي التاريخ في جدوى الخطتين على قضية مصر، فلا خلاف في رجحان كفته على كفة خصومه بميزان الصدق والإخلاص والمروءة الجديرة بأمثاله من دعاة الإصلاح؛ لأنه آمن بخطته ولم يعطل على أحد خطة يؤثرها ويطمئن إلى عقباها، ولكن خصومه قد سوغوا أسوأ ظنونه في السياسة يوم صدوه عن طريقه ونصروا عليه أعداءه وأعداء رسالته الباقية، وكان أسوأ ما صنعوه أن يحسبوا عليه حماية القانون لمنصبه إخلالا بالوطنية، وهم يحمدون لولي الأمر أن يطأطئ رأسه لراية الاحتلال كي يغنم من المحتلين إغضاءهم عن عبثه بوظائف الحكومة، وهو لا يرمي بذلك العبث إلى شيء غير محاربة العلم واتهام الدين بما هو بريء منه؛ إذ يجعله حائلا بين المسلم وبين علوم الحضارة في القرن العشرين.
الفصل العاشر
في الأزهر
وقفنا بتاريخ الأزهر الحديث عند أوائل النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وهو يومئذ حومة صراع خفي بين طلاب الإصلاح المجددين وبين شيعة الجمود والتقليد من المحافظين على القديم؛ إذا تولاه شيخ عصري، أو شيخ فتى بالقياس إلى شيوخه المعمرين، سعى سعيه البطيء إلى تنظيم الإدارة وترتيب أوقات العمل ومواعيد الامتحانات وشروطها دون مساس بجوهر التعليم من موضوعات الدروس وكتب التدريس وأشخاص المدرسين، وإذا أحس ولاة الأمر بادرة السخط على هذا النصيب المقتصد من الإصلاح البطيء، أعادوا إليه شيخا من المشهورين بالتعصب للقديم، وأعادوا الأزهر في الحقيقة إلى ذلك الشيخ ليتولى عنهم ستر نياتهم نحو الإصلاح، ويدفع عنهم بجموده وتقليده شبهات العدوان على حرمات هذا المعهد العتيق، بل شبهات العدوان على حرمات الدين؛ إذ كان كل تغيير في المألوف بينهم لا يقل عن سبة الخروج من الدين.
وكانت الحكومة - كما تقدم - تخشى أن تتعرض لهذه الشبهات في زمن تكاثرت فيه الشبهات عليها من سياستها الأجنبية، وأوشكت هذه السياسة أن تجعلها رهينة بالسلطان الأجنبي في أمور القضاء والتشريع، وفي أمور «الامتيازات الأجنبية» على التعميم، فلم تكن لها بقية من السمعة الحسنة في هذا الباب تجازف بتعريضها للثورة عليها من رجال الدين، في أكبر معاهد الإسلام، فاتبعت مع الأزهر خطة الانتظار، وآثرت أن تتلقى طلب الإصلاح من أهله فتلبيه، وظلت على هذه الخطة لا تجرؤ على تبديلها إلى ما بعد الاحتلال البريطاني واستيلاء المحتلين علانية على دواوين الحكم بدعوى الإصلاح والتنظيم.
عندئذ تحول الموقف كله من جانب السلطة الشرعية أو سلطة الخديو بمعزل عن وزرائه وموظفيه، فإن استئثار المحتلين بدعوى الإصلاح والتنظيم في دواوين الحكومة جميعا لم يدع له مكانا يعمل فيه منطلق اليدين غير الجامع الأزهر وديوان الأوقاف والمحاكم الشرعية، وهي الجهات الدينية التي أمسك المحتلون عن التعرض لها، إلا فيما يتعلق منها بميزانية الدولة كوظائف القضاة الشرعيين وموظفي المحاكم الشرعية، فأصبح من هم الخديو أن يدفع عنه تهمة العجز عن الإصلاح والتنظيم فيما بين يديه من الدواوين والمعاهد، فإن هذا العجز حجة عليه وعلى الحكم الوطني برمته في أيدي السلطة الأجنبية، وبرهان محسوس يرتكن إليه المحتلون - أمام العالم - كلما التمسوا ذلك البرهان المحسوس للحجر عليه وعلى أداة الحكم التي ترتبط بها «المصالح الأجنبية» ودعوى الامتيازات.
ومع هذه الضرورة الملحة على ولي الأمر لم يجرؤ على «اقتحام العقبة» بغير تمهيد يعفيه من تهمة التهجم على حرمة المسجد وتقاليد الدين، فدبر مع المخلصين من طلاب الإصلاح «حيلة شرعية» للبدء بالإصلاح المطلوب، واتفقوا على استفتاء شيخ الجامع الزهر ومفتي الديار المصرية في مسألة العلوم التي يجوز تدريسها بالجامع، ولا تعتبر العناية بها في أماكن العبادة مخالفة للتقاليد الإسلامية، وكلفوا عالما تونسيا فاضلا - هو الأستاذ محمد بيرم أشهر علماء جامع الزيتونة في عصره - أن يتوجه بهذا الاستفتاء إلى الشيخ محمد الإنباني شيخ الجامع يومذاك (1305ه/1887م)، فكتب إليه بعد تمهيد وجيز: ... ما قولكم رضي الله عنكم، هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء وغيرها من سائر المعارف، لا سيما ما ينبغي عليه منها من زيادة القوة في الأمة بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد؟ بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة، بمعنى أن يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الإسلام الغزالي في إحياء العلوم ، ونقله علماء الحنفية أيضا وأقروه، وإذا كان الحكم فيها كذلك، فهل تجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية - من نحو وغيره - الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين ... أفيدوا الجواب لا زلتم مقصدا لأولي الألباب.
وقد كان الأستاذ الإنباني يعلم مصدر الاستفتاء، فلم يهمله كما أشار عليه بعض أعوانه، وكتب في جوابه ما يلي: ... يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافية؛ لأنه لا تعرض فيها لشيء من الأمور الدينية، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا، كما يجب علم الطب لذلك - كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء - وأن ما زاد عن الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة في القدر الواجب فتعلمه فضيلة، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وسيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم، وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكيلات الفلكية على الحوادث السفلية، فإنه حرام كما قال الغزالي وعلل ذلك بما محصله أنه يخشى من ممارسته نسبة التأثير للكواكب والتعرض للإخبار بالمغيبات، مع كون الناظر قد يخطئ لخفاء بعض الشروط. وأما الطبيعيات، وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها كما في الإحياء في الباب الثاني من كتاب العلم، فإن كان ذلك البحث عن طريق أهل الشرع، فلا منع منها كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي في جزء الفتاوى الجامع للمسائل المنتثرة، بل لها حينئذ أهمية بحسب أهمية ثمرتها، كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة عمل الآلات النافعة في مصلحة العباد، وإن كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام؛ لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع كما أفاده العلامة المذكور. نعم، يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة، للأمن عليه مما ذكرنا قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة ثانيها الجواز مطلقا، ونسبه الملوي في شرح السلم للجمهور، وثالثها المنع مطلقا ونسبه صاحب السلم لابن الصلاح والنووي. قال الملوي: ووافقهما على ذلك كثير من العلماء، ولما كان الإمام النووي ممن يقول في المنطق بالمنع مطلقا مشى على نظير ذلك في الطبيعة، فعد في كتاب السير من الروضة من العلوم المحرمة علوم الطبيعيات بدون أن يفصل، لكن حيث يعتمد التفصيل هناك فلنعتمده هنا؛ إذ لا فرق في ذلك، فإن مظنة الضرر والنفع موجودة في كل منهما ...
ناپیژندل شوی مخ