عبقري اصلاح او تعلیم: امام محمد عبده
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
ژانرونه
وتأبى ملكة التعليم إذا تمكنت من صاحبها أن تتوارى، ولها مندوحة للبروز في حركة من حركات ذهنه أو شواغل حياته؛ فقد كان القاضي التلميذ يتلقى دروسه الأولى في اللغة الفرنسية وكأنه يعلم أستاذه كيف يعلمه تلك الدروس، وكيف يختار له أوجزها وأنفعها لمثله، وهداه إلهام البديهة إلى منهج في تعليم اللغات للكبار على الخصوص لم يكن معلوما في ذلك الحين، ولم ينتشر قط في البلاد الغربية أو الشرقية قبل وفاته، ونعني به منهج التعليم الذي أطلقوا عليه بعد ذلك اسم المنهج الكلي، أو منهج الابتداء بالكلام المجمل والانتهاء إلى التفاصيل المتفرعة عليه، ويؤثر المعلمون على هذا المنهج أن يبدأ قارئ اللغة بقراءة الجملة، ثم يتعلم تفسيرها بفهم مفرداتها على حدة، ثم يلم بقواعدها الضرورية، أو بآجروميتها ونحوها وصرفها وبلاغتها، من توضيح موقع الكلمة بالنسبة إلى الكلمات الأخرى وإلى التراكيب التي تحتويها.
جاءه المعلم وفي يده كتاب من كتب الآجرومية الأولية، فقال للمعلم: لا وقت عندي للابتداء من البداية، فلنبدأ من حيث ننتهي، وتناول قصة من قصص إسكندر دوماس ليقرأ عبارتها ويستمع تصحيح المعلم لنطقه وتفسيره لمعانيها ... قال: أما ما عدا ذلك فهو عملي، والنحو يأتي في أثناء العمل، وعلى هذا المنهج أتم الكتاب وأتبعه بكتابين آخرين، وتعود بعد الدرس أن يطالع ما قرأه على المعلم منفردا بصوت مرتفع، ليسمع نطقه ويتذكر مواضع خطئه وتصحيح معلمه، واختبر في نفسه نجاح هذا المنهج، فأوصى به من كان يعرفهم من طلاب اللغة الفرنسية، ومنه استفاد الشاعر حافظ إبراهيم فوائد حسنة في هذا الباب، كما سمعت منه وهو يحدثنا عن محاولته الاولى لترجمة كتاب «البؤساء». •••
ومثل هذا التمكن في ملكة التعليم خليق أن يزيدنا بصرا بطبيعة هذه الملكة، حيثما برزت لنا في أعمال ذوي الاستعداد الفطري لتعليم الناس أفرادا كانوا أو جماعات، فضلا عن نفعها لنا في التبصير بترجمة الأستاذ الإمام، أو بما سميناه محور حياته وأردنا به ذلك المرجع النفساني الذي نرجع إليه لنهتدي به إلى بواعث نفسه ومقاصد سعيه واجتهاده، ويبدو من بروز هذه الملكة وإلحاحها على خواطر المستعدين لها وبوادر نفوسهم وأذهانهم أنها عبقرية خاصة من تلك العبقريات الروحية، التي تخلق في الإنسان ومعها حافز لا يستريح من حوافز الغيرة على إنجاز عملها والحماسة لتحقيق مقاصدها، وشأنها في ذلك شأن كل عبقرية موهوبة تطبع على أداء رسالتها في عالم العقيدة والإيمان، أو في عالم الفن والجمال، فلا يهدأ صاحب هذه العبقرية أو يبلغ رسالته، ولو صدت الأسماع عنه أو حالت الحوائل القاسرة بينه وبين من يستمع إليه، ومن كان مطبوعا على عبقرية التعليم فليس قصاراه من الإفضاء بعلمه أن ينقل طائفة من المعلومات المحفوظة من رأسه إلى رءوس غيره؛ تلك رسالة لا نفخة فيها من الروح، ولا مدد لها من السليقة، وهي أشبه بنقل الصفحات من نسخة إلى نسخة تمر بالسمع أو تمر بالفكر على الأكثر، ولا تسري منه إلى سرائر النفس ولا تتخطاه إلى بواعث الحياة، وهو عمل كعمل المأجور المسخر لإرادة غيره، ولا إرادة له ولا غيرة عنده ولا إخلاص في تفهيم ما يلقيه في آذان مستمعيه، وسواء عنده عملوا بما يعلمون، أو لم يكن لهم عمل قط بعد فراغه من إلقاء تلك المعلومات وتقاضيه الأجر الذي سخروه له، كأنه مجبر عليه.
وعلى غير هذا من النقيض إلى النقيض يعمل صاحب العبقرية المطبوعة على التعليم، فإنه يعلم ليدفع المتعلمين إلى عمل ويستنيرهم إلى غاية، ويبث في نفوسهم من الحماسة مثل ما انطوى عليه في أعماق ضميره من الحماسة لعمله وغايته، ولا مطمع له في أجر يناله منهم أو من سواهم، بل هو يعطي الأجر ويجزله لو استطاع، وليس بالسائغ في طبعه أن يتحمل العلل لإعفاء نفسه من عناء عمله إذا توانى المتعلمون على يديه ولم يستجيبوا لدعوته بمثل حميته وإخلاصه؛ لأنه يحسب استجابتهم غاية له تعنيه قبل أن تعنيهم، وإن كان فيها غاية النفع لأولئك المتعلمين عليه.
وأكثر ما يكون هذا الباعث الوجداني في نفوس المعلمين المطبوعين خصلة من خصال النخوة الإنسانية في كل ما تمثلت فيه من غوث الضعيف، والرثاء للذليل، وكراهية الجهل المذل للمبتلين به من ضحايا الغفلة والغباء وصرعى الظلم والخديعة، ولا يثير هذه النخوة شيء كما تثيرها عزة الظالم الخادع واستكانة الجاهل الغافل، ولكنها نخوة ترتفع مع ارتفاع الهمم وتقوى مع قوة الطباع، فلا تقنع بمحاربة الجهل في واحد وآحاد وهي قادرة على محاربته في جماعات وأقوام، ولا تقصر الغوث على الدرس وهي قادرة على غوث للضعيف المفتقر إليه كيفما كان.
وأعمق ما تكون النخوة إذا كانت سجية موروثة تنتقل من الأجداد إلى الآباء والأبناء، كما رأيناها في أسرة أستاذنا الإمام منذ عرفت لهم أعمال ورويت عنهم أخبار.
فهم في قريتهم الصغيرة كرام يجودون بما عندهم، ويأبون الضيم لأنفسهم ولمن يلوذ بهم من جيرتهم، وقد كان أكبر ذنوبهم عند الأقوياء أنهم يأوون إليهم طرداءهم المطلوبين، ويشدون أزرهم بمعونة رجالهم وبقوة السلاح إذا وجدوا السلاح الذي ينفعهم في مقاومتهم، ومن لم يستطع منهم أن يقاوم القوة بالقوة لم يصبر على الضيم في بلده، وآثر أن ينجو منه بكرامته وإن ضيع بعده كل تراثه من آبائه، غير هذا التراث المضنون به على الضياع.
قيل إن العبقري يستنزف من أسرته صفوة اللباب من خلائقها الحيوية أو ملكاتها الذهنية، وقيل إنه من أجل ذلك قلما ينجب الذرية من العباقرة أمثاله، وإن ذريته لا تزال عرضة لنقص العمر أو نقص التكوين، وكل ما قيل من هذا القبيل هو تشبيه على المجاز لا يخلو من المبالغة التي تعرض لكل تشبيه، ولكنه كذلك لا يخلو من الصحة التي تؤيدها مشاهدات الواقع. ومن هذه المشاهدات أن طابع الأسرة المأثور عنها كثيرا ما يتجلى في عبقريتها مكبرا مهيمنا منبعثا على جادته في غير هوادة، وأنه في انبعاثه عصي على الكبح والتوقف دون قبلته التي ينساق إليها، وكأنما هو غريزة من الغرائز النوعية يخلق للفرد إرادة نوع كامل، يوشك ألا يملك معه إرادته الفردية في سبيل بقاء النوع وارتقائه.
وأحرى الخصال أن تورث في أسرة صاحب الترجمة هي تلك النخوة الإنسانية في كل ما تمثلت فيه - كما أسلفنا - من غوث الضعيف والرثاء للذليل وكراهة الجهل المذل للمبتلين به من ضحايا الغفلة والغباء؛ ورثها نخوة إنسان وأصبحت فيه نخوة معلم مطبوع على التعليم، لأنه لم يملك سلاحا للنخوة أقوى من تعليم المغلوبين المستضعفين، ولكنه لم يكن بالبداهة معطل النخوة فيما يملكه من أسبابها غير هذا السلاح الذي كان أنفذ سلاح في يديه؛ لأن أعماله في إغاثة الملهوفين وإنصاف المظلومين كادت أن تكون وحدها وظيفة حياة عامرة بالمآثر حافلة بالحسنات، وسيأتي من بيان هذه المآثر والحسنات ما يتسع له موضعه من هذا الكتاب، ولكننا نوجزه إذا قلنا إنه لم تسمع في حياته دعوة إلى الغوث والإحسان تنفيسا عن المكروبين في فواجع هذا البلد أو إعانة للمعوزين من ضعفائه، إلا كان هو صاحب الدعوة، أو كان في مقدمة الملبين لها والعاملين على نجاحها ودوام أثرها.
وكاتب هذه السطور قد سمع بمحمد عبده نصير المظلوم قبل أن يسمع بمحمد عبده المصلح العظيم.
ناپیژندل شوی مخ