عابدة
فشكر الفقيه له اختصاصه بهذا الإكرام، وظل جالسا يكتب، وقد انتهت الضوضاء، وبينما هو في ذلك، إذ سمع وقع أقدام خارج غرفته، فالتفت فلمح شبحا مر ببالها يكاد أن يكون امرأة حاسرة الوجه جميلة الطلعة، فاستغرب الفقيه ذلك وأنصت لعله يستطلع شيئا، فسمع سعيدا يرحب بالقادم بصيغة التأنيث، فدفعه حب الاطلاع إلى رؤية القادم، فنهض وأطل من الباب وهو يتجاهل، فإذا به يرى فتاة على جانب كبير من الجمال تخاطب سعيدا بلسان فصيح يدل على علم وأدب، وسعيد يقول لها: «أتيت أهلا ووطئت سهلا يا عابدة. لقد طال انتظاري لحضورك.»
فقالت عابدة: «لم يكن تأخري عن عمد، ولكنني شغلت بمطالعة كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، ونسخه؛ فإن هذا الرجل قد جمع فيه ما لا مثيل له في سواه من العروض، والشعر، والأخبار، والأمثال، والتاريخ، ناهيك بالفوائد الصحية، والعظات الدينية. وقد نظم أعمال أمير المؤمنين شعرا، وتوفي وهو ينظمها منذ ثماني سنوات (فقد توفي ابن عبد ربه سنة 328ه).» قالت عابدة ذلك وأخرجت من تحت ثيابها صرة كبيرة وقالت: «وهذه هي النسخة التي نسختها.»
فتناولها سعيد منها وهو يقول: «أنت التي نسختها بيدك؟»
قالت عابدة: «نعم، أنا التي نسختها بيدي، وأرجو أن تعجبك.»
فأخذ سعيد يقلب النسخة ويتصفحها وهو يقول: «إن هذا الكتاب نادر المثال. ومع أن صاحبه توفي في هذه المدينة منذ تسعة أعوام فإني لم أجد نسخة منه بمثل هذا الخط وهذا الضبط.» قال سعيد ذلك وهم بالمسير نحو غرفة الفقيه ابن عبد البر وهو يقول: «أظن أن هذه النسخة تليق بمكتبة الأمير عبد الله ابن أمير المؤمنين.»
فلما رأي الفقيه ابن عبد البر أن سعيدا يتقدم نحوه عاد إلى مجلسه، وتظاهر بأنه كان مشتغلا بالكتابة، فلما وصل سعيد إلى الباب قال: «هل يأذن لي الفقيه بالدخول؟»
قال الفقيه: «تفضل، ادخل.»
فدخل سعيد والكتاب بيده، وأشار إلى الفتاة أن تدخل، فدخلت وهي حاسرة الوجه، والذكاء يتجلى في عينيها، فدهش الفقيه لرؤيتها واستغرب كشف وجهها على هذه الصورة، وتوسم لأول وهلة أن تكون نصرانية أو يهودية؛ لأن اليهود كانوا يعنون بالأدب العربي، والتفت إلى سعيد وهو ينتظر ما يبدو منه، فإذا هو يقدم له الكتاب ويقول: «جاءتني هذه الأديبة بهذا الكتاب مكتوبا بخط يدها، وهو كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، وأظن أن في مكتبة مولانا الأمير عبد الله عدة نسخ مثله!»
فتناول الفقيه الكتاب وهو ضخم، وأخذ يقلبه على ضوء السراج ويعجب بجمال خطه وضبطه، وقال: «نعم، فيها منه عدة نسخ، ولكن لا شبيه بينها لهذه النسخة، وأظن أن مولانا الأمير يرغب في اقتنائها إذا أرادت هذه الحسناء بيعها، وهل هذا هو خط يدها؟» ورفع بصره إليها.
ناپیژندل شوی مخ