202

عبد الرحمن الناصر

عبد الرحمن الناصر

ژانرونه

وبينما هي مستغرقة في البكاء إذ سمعت الأذان، وعلمت أنه أذان نصف الليل، فتذكرت وصية سعيد أن تسقي الخليفة العقار وتشربه في تلك الساعة فغلبت عليها الطاعة للاستهواء، فنهضت وأخرجت الورقة من جيبها وعمدت إلى الكأس وفيها الماء وصبت العقار فوقه وأخذت تتأمله وتقول: «هل الموت مختبئ في هذا الماء؟ الموت ولا هذا العذاب، ولكن لا، لا، ربما صدق سعيد فيأتيني بعد قليل. كيف يأتي وقد فر بالزهراء؟ لا، لا أظنه يفعل ، بل هو يشفق على قلبي لأنه يعلم مقدار حبي له.»

ثم وضعت الكأس من يدها وأسندت رأسها على الحائط، فغلب عليها النعاس من فرط التعب، فتوالت عليها الأحلام المزعجة، ولم تستيقظ إلا على أذان الصبح، فنهضت مذعورة لصوت الأذان ورأت الكأس لا يزال كما هو فتناولته، وكان الاستهواء قد ذهب تأثيره فانتبهت لنفسها وقالت: «أين ذهب سعيد؟ هل يعود ويشفق على قلبي؟ سامحك الله، ما أقسى قلبك! وإذا لم ترجع فهل أبقى على قيد الحياة! تبا للحياة بعدك! الأفضل أن أموت، إن الموت في هذه الكأس.»

ورفعت الكأس وتأملته، وهمت أن تضعه على شفتيها، فإذا بيد قد قبضت على ذراعها، فوقع الكأس إلى الأرض وانسكب ما فيه، فأجفلت والتفتت فرأت ساهرا ينظر إليها بوجه عبوس ويقول لها: «أين معلمك؟ أين سعيد الوراق الخائن؟» قالت عابدة: «لا أعلم أين هو، إني أبحث عنه؟»

قال ساهر: «قبحه الله من خائن! قد وشى بالأمير عبد الله والفقيه وعجل بقتلهما، وهو سبب خروجهما على الخليفة، وأنت معه لأنك رفيقته.»

فقالت عابدة: «أنا؟ أنا المسكينة الذليلة؟ إنه خانني قبل الجميع.»

وأطلقت لنفسها البكاء، فرق ساهر لها وقال: «خانك أنت؟»

قالت عابدة: «قد عذبني عدة أعوام وهو يعدني بالزواج فأطعته إلى هذه الساعة، ثم ظهر لي أنه فر. ألم يفر؟»

قال ساهر: «يظهر أنه فر والزهراء معه، وقد علم الخليفة بذلك وبعث إلي فأمرني أن أبحث عنه، فلما وجدتك هممت بالقبض عليك لأنك رفيقته.»

قالت عابدة: «ويلاه من ذلك الظالم الخائن! آه لو ألقاه لقتلته بيدي! قد كنت حتى هذه الليلة أتعشقه وأتفانى في حبه، أما الآن بعد أن تحققت من خيانته فليس في الدنيا أبغض إلي منه، ولو استطعت أن أمتص دمه لفعلت.» قالت ذلك وهي ترتعد وتصر على أسنانها.

ومن نواميس الحب أن يزداد بالتبادل أو بالأمل؛ فالمحب يزداد تعلقا بحبيبه إذا تحقق أنه يحبه أو استدل من تصرفه أنه سيحبه، فيحيا بالأمل، فإذا علم بعد ذلك أن أمله في غير موضعه وأن ذلك الحبيب كان يخادعه تصيبه صدمة الفشل، فينقلب حبه بغضا، ويشتد غضبه بنسبة ذلك الحب. وهذا ما حدث لعابدة حين تحققت من خيانة سعيد لها، فإنها نقمت عليه نقمة لا تقاس بها نقمة أعدى الأعداء.

ناپیژندل شوی مخ