عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
ژانرونه
ولكننا قد علمنا من طبيعة تفكير الكواكبي أنه يدرس ليعمل وينفذ، أو ليدل على وسائل العمل والتنفيذ؛ فكل ما كتبه في موضوعات العلم السياسي فهو من قبيل «المذكرات الإيضاحية» التي تبين حدود العمل المطلوب وتبين الطريقة التي تتبع في تنفيذه، وما عدا ذلك من مباحث النظر والتأمل فقد بقيت في كتاباته المعروفة «رءوس موضوعات» لم يتسع له الوقت لاستيفائها، ولعله لم يجد من لوازم عمله أن يستوفيها على المنهج المدرسي كما يصنع الباحث الذي يدرس الموضوع ليؤلف فيه أو ليضطلع بتعليمه والإقناع به من الوجهة النظرية، وإنما أحالها بعناوينها المجملة لمن يريد أن يرجع إليها في مصادر التخصص والبيان ليصحح النظر أو ليحقق وسائل العمل المتفق.
ومن قبيل هذه المباحث التي تركها «رءوس موضوعات» في الصفحات الأخيرة من «طبائع الاستبداد» قوله في مبحث الحقوق العمومية: «هل للحكومة صفة المالكية؛ أم صفة الأمانة والنظارة على الأملاك العمومية؛ مثل الأراضي والمعادن والأنهر والسواحل والقلاع والمعابد والأساطيل والمعدات، ومثل حقوق المعاهدات والاستعمار، ومثل حقوق إقامة الحكومة وتأمين العدالة وتسهيل الترقي الاجتماعي وإيجاد التضامن الإفرادي، إلى غير ذلك مما يحق لكل فرد أن يتمتع به وأن يطمئن؟»
ومن هذه المباحث قوله عن توزيع السلطة: «هل يجمع بين سلطتين أو ثلاث في واحد؟ أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان ولا يجوز الجمع منعا لاستفحال السلطة؟»
وقد أثبت من عناوين هذه المباحث خمسة وعشرين عنوانا قال عنها: «إن كلا منها يحتاج إلى تدقيق عميق وتفصيل طويل وتطبيق على الأحوال والمقتضيات الخصوصية.»
ثم مضى قائلا إنه ذكر «هذه المباحث تذكرة للكتاب ذوي الألباب وتنشيطا للنجباء على الخوض فيها بترتيب؛ اتباعا لحكمة إتيان البيوت من أبوابها، وإن اقتصر على بعض الكلام فيما يتعلق بالمبحث الأخير منها فقط، أعني مبحث السعي في رفع الاستبداد».
وإنما خص هذا المبحث الأخير لأنه يمس فيه الوسيلة العملية التي لا يكفي فيها مجرد التأمل وتقليب وجوه النظر في مختلف الآراء، وذلك شأنه في كل ما يكتبه عند وجوب التفرقة بين ما يدرس وما يعمل، ووجوب التفرقة أيضا بين ما يشرع في عمله وبين ما يؤجل إلى حين ليعمل في أوانه.
ولا ننسى أن الكواكبي كان يكتب ما ينوي إعلانه في بلاد تابعة للسيادة العثمانية، سواء منه ما كتبه في حلب قبل هجرته الأخيرة، وما كتبه في مصر باسمه الصريح أو باسم مستعار، فلم يكن في وسعه أن يعلن ما يمنعه القانون ويمنعه العرف الشائع بين الناشرين، ومنهم أصحاب الصحف والمطابع التي تدين بالولاء للدولة صاحبة السيادة، ولكنه كان يتحرى التعبير عن رأيه بالأسلوب الذي يدل عليه دلالة لا شك فيها دون أن يخرج بالنص المكتوب عن حدوده القانونية. وعلى صعوبة التعبير البين عن خطط الثورة لم يكن برنامجه في مسألة النظام السياسي بالبرنامج المجهول عند قرائه، ولو لم يكن منهم من يلقاه ويسمع منه الرأي الصريح فيما يريده وفيما يراه.
فلم يكن أصرح - في حدود القانون - من دعوته للعرب إلى الاستقلال بحكم أنفسهم حيث يقول في «أم القرى»: إن التطابق في الجنس بين الراعي والرعية «يجعل الأمة تعتبر رئيسها رأسها، فتتفانى دون حفظه ودون حكم نفسها بنفسها حيث لا يكون لها في غير ذلك فلاح أبدا كما قال الحكيم المتنبي:
وإنما الناس بالملوك ولا
يفلح عرب ملوكها عجم
ناپیژندل شوی مخ