عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
ژانرونه
أما المعلوم من أخبار إقامته بها فخلاصته أنه كان يؤثر السكن في الأحياء الوطنية بين شارع محمد علي والحي الحسيني إلى جوار الجامع الأزهر، وكان يؤثر في صحبته لمن يلقونه ويلقاهم أن يتجنب التحيز والتشيع لهذا الفريق من أصحاب الخصومات السياسية، فكان يلقى الأستاذ الإمام وتلاميذه كما يلقى الشيخ علي يوسف وزملاءه من أنصار السياسة الخديوية، وكان يجتمع بكل من تجمعهم جلسة «سبلندد» وجلسة «يلدز» من أندية القاهرة المشهورة، وبينهم طائفة من حزب «تركيا الفتاة» وطائفة من دعاة الجامعة الإسلامية، وكان المتطرفون من جماعة «تركيا الفتاة» يستحبون الجلوس بقهوة يلدز تفاؤلا باحتلال «يلدز» الكبرى في يوم من الأيام، فإذا وجدوه هناك جلسوا إليه فلم يعرض عنهم ولم يخض معهم في دعايتهم، وربما كان بينهم أذناب مدسوسون من قبل السلطان عبد الحميد أو الشيخ أبي الهدى أو خدام الدسائس الأجنبية المتلبسون بلباس الوطنية، فيعرفهم أو لا يعرفهم، ثم لا يبالي أن يستمعوا إليه ويستمع إليهم، وقد يعتصم بالصمت ساعات إذا تطرق بهم الحديث إلى غير ما يرتضيه.
وقد تعددت الروايات عن أخباره الأخيرة ليلة وفاته - رحمه الله - فمنها ما تقدم بيانه في مذكرات الأستاذ كرد علي، ومنها ما رواه أحد أصدقائه الشيخ صالح عيسى وكان مقيما في مصر؛ إذ يقول - كما جاء في عدد يناير 1943 من مجلة الكتاب: «وفي اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1320 هجرية ورد على السيد عبد الرحمن من قبل حضرة الخديو - وكان مصطافا في الإسكندرية - بطاقة يدعوه فيها لحضور ضيافة يقيمها هذا اليوم في إحدى سراياته في الإسكندرية، فأجاب السيد الدعوة وركب قطار السرعة، وسار إلى الإسكندرية وقابل الحضرة الخديوية وحضر ضيافته وعاد إلى مصر من يومه، وفي الليل سهرنا معه في مقهى «ستانبول» مع جماعة من أدباء مصر وأفاضلها، يزيد عددهم على العشرة، وكنت جالسا جانب السيد عبد الرحمن، ولما صارت الساعة الرابعة عربية من تلك الليلة هممت بالقيام؛ لأن النوم غلبني، فاستدعاني إليه وكنت جالسا في قربه، وقال لي: أحس بوجع شديد في خاصرتي اليسرى، وهو إذا دام معي ساعة أخرى، فلا شك أنه يكون قاتلي! فقلت له: لا بأس عليك إن شاء الله. ثم انصرفت إلى منزلي ورقدت في فراشي؛ وما كاد شفق الفجر يلهب فحمة الليل إلا والباب يطرق علي، فنهضت من فراشي مسرعا وقلت: من بالباب؟ فأجابني الطارق بقوله: أنا كاظم، إن أخاك والدي قد مات، فدهشت من هذا الخبر المفاجئ!»
ونقل الدكتور سامي الدهان عن مجلة الحديث «1940» رواية أخرى فقال: «في مساء الخميس 14 يونيو سنة 1902 الموافق 5 ربيع الأول سنة 1320 هجرية، جلس في مقهى يلدز قرب حديقة الأزبكية إلى أصحابه وأصدقائه وفيهم السيد رشيد رضا والأستاذ محمد كرد علي وإبراهيم سليم النجار، وشرب قهوة مرة، وبعد نصف ساعة أحس بألم في أمعائه، فقام للحال وقصد مع ابنه السيد كاظم في عربة حنطور إلى الدار، وظل يقيء حتى قارب الليل منتصفه، فأصيب بنوبة قلبية ضعيفة، فأحس ابنه بالخطر وذهب يستدعي أقرب طبيب من المحلة، ولما عاد بصحبة الطبيب وجد أباه قد فارق الحياة ... وسرى الخبر صباح الجمعة في مدينة القاهرة، فأمر الخديو بدفن الكواكبي على نفقته الخاصة، وأن يعجل بدفنه، وأرسل مندوبا عنه لتشييعه ودفن في قرافة باب الوزير في سفح المقطم، واحتفل له السيد علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بثلاث ليال حضر فيها القراء.»
ويكاد أصحاب هذه الروايات المختلفة عن وفاته - رحمه الله - يتفقون على ظن واحد سبق إلى الكثيرين ممن سمعوا بنعيه في حينه، فقد خطر لهم جميعا أنه ذهب ضحية الغدر والدسيسة بتدبير من أبي الهدى أو من جواسيس السلطان عبد الحميد، وقال الأستاذ الغزي في مجلة الحديث: «كأن وفاته كانت منتظرة؛ لأنها لم يمض عليها يوم أو بعض يوم إلا وقد اتصلت بمسامع السلطان عبد الحميد، وعلى الفور أصدر إرادته إلى السيد عبد القادر القباني - صاحب جريدة ثمرات الفنون التي كانت تصدر في مدينة بيروت - لأن يهبط سريعا ويقصد محل إقامة السيد ويحرز جميع ما يجده من الأوراق ويرسلها إلى المابين ...»
وما كان أحد في ذلك العصر ليستبعد هذه الفعلة وأمثالها على المتهمين بها، ولكن تحقيق الخبر للتاريخ لا تكفي فيه مظنة السوء، وأرجح الأقوال في هذا النبأ ما كتبه الأستاذ محمد لطفي جمعة في مجلة الحديث «1937»؛ إذ يقول إنه «ذهب ضحية ذبحة صدرية». ويؤيد هذا القول ما شعر به الفقيد من أعراض الذبحة كوجع الذراع، وألم الجنب الأيسر، وما جاء في النبأ الأخير عن إصابته بنوبة قلبية خفيفة تلتها نوبة الوفاة، وربما كان للإعياء من أثر القيء فعله في تحريك عوارض النوبة وتعجيل القضاء المحتوم.
وما كان باليقين الذي لا ظن فيه، إلا ضحية الخيانة والظلم فيما تجنيان من داء يفعل في النفوس ما تفعله السموم في الأبدان. •••
وضريحه بالقاهرة في مثواه الأخير بباب الوزير، نقلته إليه مصلحة التنظيم بعد وفاته بنحو خمس عشرة سنة، وعلى صفحته المرمرية هذان البيتان لحافظ إبراهيم:
هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى
هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب
قفوا واقرءوا أم الكتاب وسلموا
ناپیژندل شوی مخ