وهكذا كانت المساعدات الأمريكية لإسرائيل ، قبل حرب يونيو وأثناءها وبعدها، موجهة في المقام الأول ضد النفوذ السوفيتي لا ضد التجربة الناصرية من حيث هي نظام داخلي، على أنه كان من النتائج التي ترتبت على هزيمة 5 يونيو، بطبيعة الحال، كشف البناء الهش للاشتراكية المطبقة محليا، وأظهر عيوبها من خلال منظار مكبر، فكان ذلك مكسبا آخر لم تتردد الإمبريالية العالمية، ولا اليمين المحلي، في استغلاله لتشويه سمعة الاشتراكية كمبدأ، لا كتجربة محلية فاشلة فحسب.
لقد استكملت هذه الاشتراكية المحلية معظم المقومات الشكلية لأي تجربة اشتراكية: تصفية الإقطاع ورأس المال المستغل - التمصير ثم التأميم - إقامة قطاع عام قوي واسع النطاق ... كل ما تتطلبه الاشتراكية كان موجودا، فيما عدا شيئا واحدا، هو لب الاشتراكية، وقلبها، وجوهرها، هذا الجوهر الذي افتقده الشعب المصري، وهو الذي لم تفتقده شعوب أخرى تغلغلت الاشتراكية في حياتها وفي وجدانها، فوقفت تدافع عنها حتى آخر قطرة من دمائها.
ولقد كان من الطبيعي أن ينعكس فقدان هذا «الجوهر» على قدرتنا على الصمود أمام الإمبريالية، وهكذا حدث الانهيار بسرعة، وكانت الإمبريالية هي الرابحة في نهاية الأمر.
والحق أن الكفاح ضد الإمبريالية العالمية ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة تستهدف آخر الأمر غاية عليا، هي النهوض بالإنسان وإتاحة الفرصة أمامه لكي يمارس قدراته وملكاته الإبداعية دون قهر أو ظلم، وكل المكافحين الكبار ضد الإمبريالية كانوا يعرفون هذه الحقيقة، ويرددونها خلال كفاحهم، وهكذا كانت الإمبريالية، في نظرهم، قوة غاشمة تتسلط على الإنسان، وعقبة كبرى في طريق نموه السليم، ولذلك فلا بد من إزاحتها من الطريق، أما أن يكافح نظام ضد الإمبريالية ويسحق الإنسان في داخله، فإنه يكون بذلك قد ناقض نفسه، وحكم على كفاحه بالإخفاق.
تهمة الرشوة
بقيت نقطة أخيرة لا أود أن أتركها دون إيضاح، وهي ما قيل من «رشوة» الماركسيين فقد استخدم فتحي خليل تعبير «الرشوة» في سؤال وجهه إلى نجيب محفوظ، فكان من الطبيعي أن يرد عليه بالنفي القاطع، ولست أختلف مع الإجابة في شيء، بل إن اختلافي كله مع السؤال.
إنني أعترف بأن عدد الماركسيين الذين تولوا مناصب هامة ليس كبيرا، وبأن معظمهم كانوا من أصحاب المواهب والكفاءات؛ ومن ثم لم تكن هذه المناصب أكبر مما يستحقون، ولكن العبرة ليست بعدد من تولوا المناصب من اليساريين، وإنما كان هؤلاء هم «واجهة» اليسار أمام الشعب، ومن ثم فإن ارتباطهم بالتجربة لا بد أن يترتب عليه ارتباط أعم بين اليسار ككل، وبين التجربة الناصرية في نجاحها أو إخفاقها، حتى لو كان هناك قطاع من اليسار قد رفض هذا الارتباط (وهو ما حدث فعلا).
ومن جهة أخرى ليست المسألة هي كون هؤلاء اليساريين يستحقون هذه المناصب أو لا يستحقونها، بل إن لب المشكلة هو أن تولي الثوريين اليساريين لهذه المناصب كان معناه أنهم أصبحوا يسيرون في طريق غير ذلك الذي نذروا أنفسهم له، وأن ارتباطهم بالسلطة وتكوينهم جزءا منها، كان معناه تقديم تنازلات، قد تكون بسيطة في البداية، ولكنها تزداد بالتدريج إلى أن ينتهي الأمر إلى مرحلة التبرير المطلق لكل الأخطاء، ولعلنا جميعا نذكر كيف وصل الأمر ببعضهم إلى استعداد السلطة على زملاء سابقين لهم في الكفاح.
أما لفظ «الرشوة» فهو لفظ سطحي لا يعبر أبدا عن حقيقة ما حدث؛ فالرشوة تقدم إلى من لا يستحقها، ولم يكن اليساريون غير جديرين بما نالوا، ولكن كل ما في الأمر هو أن هذا ليس هو الطريق الذي كرسوا حياتهم له، وعلى حين أن الرشوة عملية بسيطة مباشرة، فإن ما حدث مع هؤلاء اليساريين كان موقفا دراميا شديد التعقيد، عناصره سنوات الاعتقال والتعذيب السابقة، والمنصب الجديد المعروض، والاعتقاد بأن الأهداف التي كانت غاية قصوى للكفاح الطويل قد تحققت وبأنه لم يعد هناك ما يمنع من المشاركة في الحكم، وأكاد أجزم بأن معظم من تعرضوا لهذه التجربة قد مروا، في لحظة أو أخرى، بأزمات نفسية حادة ناجمة عن التوتر بين الواقع والمثل الأعلى المنشود.
وبالاختصار، فقد كان في الكلام عن «الرشوة» تسطيح للمشكلة لا أوافق عليه، ومن ثم فإن نفي تهمة الرشوة لا يتعارض مع موقفي الأساسي في شيء.
ناپیژندل شوی مخ