وطالما أن هذا التحول لم يتحقق، فلن يكون في وسع أحد أن يرد على النقد الذي كان يتردد من آن لآخر وهو أن الدولة في بعض النظم تسيطر على المرافق الإنتاجية لخدمة جهازها الخاص، وللتخلص من الخطورة التي يشكلها وجود المال وأدوات الإنتاج في أيدي طبقة منافسة.
وربما بدا للبعض أن هذا النقد الأخير له مبرراته القوية في حالة التجربة الناصرية بالذات؛ إذ قد لا يكون من المصادفات أن تبدأ إجراءات التأميم في أواخر أيام الوحدة مع سوريا، حتى بدأت الطبقة المسيطرة على المال في الإقليم الشمالي تناوئ الوحدة بوضوح وتعززت هذه الإجراءات في مصر حين تبين - بعد الانفصال - أن هذه الطبقة تشكل خطرا حقيقيا، وأنها تستطيع أن تهدد النظام القائم بما لديها من قوة اقتصادية.
كذلك سيكون من الصعب الرد على النقد الذي تردد على ألسنة الكثيرين، والذي قيل فيه إن هذه السيطرة على مرافق الإنتاج يمكن - في أحوال معينة - أن تنقلب إلى إجراء في غير مصلحة الشعب، إذا كانت السياسة العامة للدولة التي تحدث فيها هذه السيطرة سياسة مغامرات وشراء للأعوان والأنصار في الداخل والخارج. وكلها أمور تحتاج إلى أموال لن تتوافر إذا كان الإنتاج في أيدي أفراد.
ولعل الأمر الذي يدهشني حقا سكوت اليساريين عليه، في التجربة الناصرية، هو الانعدام التام للرقابة الشعبية على المال العام؛ فقد تدفقت أموال كثيرة، ابتداء من القصور الملكية المصادرة حتى أموال المجهود الحربي، مرورا بالحراسات وغيرها في مسارب ليست كلها معروفة، وظهرت حالات عديدة من الثراء غير المشروع لدى أفراد لم يكن إيرادهم أو دخلهم يسمح لهم بأن يكونوا من الأثرياء. والأهم من ذلك أن الوظائف العامة ذاتها أصبحت، خلال فترة طويلة من هذه التجربة، فرصة للحصول على مغانم، لا لأداء خدمات عامة ومن المؤكد أن أجهزة كثيرة كانت تعرف تفاصيل حالات استغلال النفوذ التي كان معدلها يزداد عاما بعد عام، ولكنها كانت تصمت أو تتستر عليها، ولا تستغل ما تعرفه من معلومات إلا في الحالات التي تريد فيها أن تفضح شيئا.
وبوصفي مواطنا عاديا يحس بالقلق على مصير بلاده، وبالحزن على أوضاع الملايين من فقراء شعبه، فإني لا أستطيع أن أتصور تجربة اشتراكية يكاد يكون استغلال النفوذ هو القاعدة فيها، والنزاهة هي الشذوذ ولقد كانت تلك بالفعل هي النتيجة المنطقية لانعدام الرقابة الشعبية على المال العام، ولأن معظم المستغلين كانوا يستندون إلى مراكز القوى، بأجيالها المختلفة، ومن ثم كانوا في كثير من الأحيان يرتكبون آثامهم بطريقة شبه علنية، اعتمادا على متانة «المسند» الذي يرتكزون عليه. وفي شعب فقير مطحون، كالشعب المصري، يصبح مثل هذا الاستغلال جريمة كان ينبغي أن يشنق مرتكبها علنا في أوسع الميادين، ومع ذلك فإن التستر كان هو القاعدة، وما زالوا يشاركون فيه إلى اليوم بدفاعهم المطلق عن التجربة الناصرية.
المقال الثاني
دفاع اليسار ... والرد عليه
كان العذر الذي يقدم لهذا التسيب في الداخل، ولهذا التراخي في تطبيق المعايير الاشتراكية الصحيحة على الحياة الاقتصادية للبلاد؛ عذرا مزدوجا: فقد كانت مصر تمر بمرحلة تريد فيها أن تثبت وجودها خارجيا، وأن تؤدي رسالتها على المستوى العربي والأفريقي ومستوى بلاد العالم الثالث بوجه عام. ومن جهة أخرى كان من الضروري بناء جيش قوي لدعم هذه السياسة الخارجية، ولتأكيد هيبة مصر في العالم والوقوف في وجه المؤامرات المناوئة، التي كانت إسرائيل هي الأداة المختارة لتنفيذها، وبالفعل أثبتت مصر وجودها، خلال فترة التجربة الناصرية، على نحو لا يستطيع أحد أن ينكره، وتمت إنجازات على الصعيد الخارجي جعلت للتجربة الناصرية سمعة عالمية وسط بلاد العالم الثالث.
وإذا كان هناك من مأخذ على هذه الإنجازات، فربما كان المأخذ الوحيد هو نجاحها الزائد ذاته؛ ذلك لأن هذا النجاح كان يغري بمزيد من الاهتمام بالسياسة الخارجية على حساب الأوضاع الداخلية للشعب.
وحين أقول «على حساب»، فأنا أستخدم هذه الكلمة بمعنيين:
ناپیژندل شوی مخ