ولكنه لم يدعهن يذهبن، وكانت واحدة منهن تطلب منه غفلة، فلما لاحت فرصة انقضت عليه كاللبؤة وارتمت على ساقه وتعلقت به وعضته في فخذه، وارتمت عليه الفتيات جميعا، منهن من تعلقت بساقه الأخرى، ومنهن من احتضنته بقوة، وجعل يقاومهن بالصبر دون المدافعة، ولكنه عجز عن الحركة ورأى - وهو يكاد يجن - الفلاحة الجميلة تجري ناحية الحقول كالغزال النافر، فناداها وتوسل إليها، وقد اختل توازنه فسقط على الحشائش الخضراء، وما زلن يتشبثن به، ولم يتركنه حتى اطمأنن إلى اختفاء صاحبتهن. وقام مهتاجا غاضبا، وجرى في الطريق الذي ذهبت فيه، ولكنه لم ير إلا فضاء، فعاد قانطا وقد رجا أن يهتدي إليها بواسطة صاحباتها، ولكنهن كن دهاة فقعدن هادئات لا يبرحن أماكنهن.
وقالت له واحدة بسخرية: ابق الآن أو اذهب كما تشاء.
وقالت أخرى بخبث: عسى أن تكون هذه أول مرة تهزم فيها أيها الجندي.
فقال بغضب شديد: لم تنته المعركة بعد ... وسأتبعكن ولو رحلتن إلى طيبة!
فقالت التي عضته: سنبيت ليلنا هنا ...
17
وكان الشهر الذي قضاه في المدرسة بعد ذاك المساء الجميل أطول الشهور وأشدها قسوة، وكان في أول الأمر كثير التألم لكرامته وكبريائه يسائل نفسه مغيظا محنقا: كيف أخيب هذه الخيبة وما ينقصني الجمال ولا الشباب، ولا القوة ولا الغنى؟! وكان يديم النظر إلى المرآة، ويحدث نفسه ما الذي يعيبه؟ ما الذي ينفر الحسان منه؟ لماذا أصلته إهانة تلو إهانة، وسخرية بعد سخرية! لماذا فرت منه كما يفر السليم من الأجرب؟ ثم يجد رغبة شديدة إلى معاودتها وملاحقتها، ولكنه يذكر الشهر الطويل الذي تحجزه فيه المدرسة بين جدرانها، فتذهب نفسه حسرات، وتسيل جوى ولوعة؛ فقد يستطيع لو ثابر على مغازلتها يوما بعد يوم أن يكبح جماحها، ويلين عريكتها ويكتسب مودتها، وأي فتاة تقسو إلى الأبد؟ ولكن أنى له هذا وهو حبيس هذه الجدران الضخمة التي ترتد عنها القسي والنبال؟!
وبالرغم من كل شيء ظل مفتونا بها، لا تفارق صورتها صدره، كي يخلو إليها كلما خلا إلى نفسه، ترى من هي تلك الجبارة الفاتنة؟ فلاحة صغيرة؟ هذا عجيب، وأين أعين الفلاحات من عينيها النيرتين الساحرتين؟ وأين بساطة الفلاحات من كبريائها وعنادها؟ وأين سذاجة الفلاحات من سخريتها المريرة وتهكمها المتعالي؟ لو أنه باغت فلاحة بما باغتها به لربما فرت هاربة أو استسلمت راضية، ولكن هيهات! وهل يستطيع أن ينسى جلستها وسط صويحباتها كالأميرة بين أفراد حاشيتها ووصيفاتها؟ وهل ينسى كيف دافعته عنها مدافعة المستميت؟ وهل ينسى كيف لبثن بين يديه - بعد فرارها - لا يبرحن حذار أن يتبعهن إليها، صابرات على البرد والظلمة؟ فهل يفعلن كل هذا من أجل فلاحة مثلهن؟! كلا وكلا، ولعلها ريفية نبيلة بل عسى أن تكون كذلك حتى لا يقول نافا مرة أخرى إنه وقع على كوخ متهدم؟ ولكن هل وفق معها لكي يقول ذلك لنافا مرة أخرى؟ وا أسفاه ...!
ومهما يكن فقد انتهى الشهر الذي خاله لا ينتهي أبدا، وغادر المدرسة كمن يغادر سجنا رهيبا، وذهب إلى البيت بشوق مدخر لغير أهله، وقابلهم بفرح ليس هم الباعث عليه، وجلس بينهم بقلب غائب، فلم يلاحظ ما طرأ على جاموركا من الجمود والفتور، وانتظر العصر بصبر فارغ، ذلك العصر الذي عد الدقائق إليه شهرا كاملا، ثم انطلق إلى بقعة أبيس الطاهرة تنشد عيناه الوجه الحبيب ...!
وكان الشهر برمودة والجو معتدلا رطبا، آخذا من البرد بقبضة تنعش، وآخذا من الدفء بنفس حي يغري باللهو والهوى، وكانت السماء بيضاء، رقيقة البياض، يشف بياضها الرقيق عن زرقة باهتة.
ناپیژندل شوی مخ