وقد تمنت زايا وحلقت في سموات السعادة بجناحي الأحلام، ورأت نفسها تسير بهذا الطفل الجميل إلى كاردا وتقول له: «انظر لقد ولدت لك هذا الطفل الجميل.» ورأت زوجها يتهلل، ويطير من الفرح، ويقبل عليها وعلى ددف الصغير يحتضنهما ويقبلهما معا! وانتشت بنشوة السعادة الخيالية فتمددت على جنبها الأيمن، وأمسكت زمام الثورين بيد ووضعت رأسها على الأخرى واسترسلت في عالم الأحلام، وجرت - في غفلة منها - أنامل النوم على عينيها بخفة ورشاقة؛ فحجبت عنهما نور اليقظة، كما أخذ أفق الغرب يحجب نور الشمس عن الدنيا ...
ولما عادت زايا إلى عالم الشعور ظنت أنها نائمة على سريرها بقصر سيدها كاهن رع تستقبل الصباح، ومدت يدها لتسحب اللحاف عليها؛ لأنها أحست بتيار هواء بارد، فانغرست يدها فيما يشبه الرمل، ففتحت عينيها دهشة فرأت كونا مظلما وسماء مزدانة بالنجوم. وأحست بجسمها يهتز اهتزازا غريبا ... فتذكرت العربة والسيدة رده ديديت وطفلها الصغير الهارب، وجميع الذكريات التي انتزعها منها سلطان النوم القاهر ...
ولكن أين هن؟ وفي أية ساعة من الليل؟
ونظرت فيما حولها فرأت فضاء مظلما محيطا يطبق عليها من ثلاث نواح، وتراءى في الناحية الرابعة نور خافت عن بعد سحيق، لم تشك في أنه يشع من القرى المنثورة على شاطئ النيل ... وسوى ذلك فليس بالمكان الذي ضل فيه الثوران ما يدل على حياة ...
وتسربت وحشة الكون إلى نفسها، ونفذت ظلمته إلى قلبها، فانكمشت مرتجفة مذعورة، واصطكت أسنانها من الخوف، وجعلت تنظر إلى الظلام بعينين تتوقعان المخاوف فتخلقها خلقا مزعجا.
وقد خيل إليها أنها ترى في أفق الظلام أشباح قافلة من البدو، وكانت تذكر أشتاتا مما يروى عن قبائل سيناء، وسطوهم على القرى، وخطفهم للتائهين والضالين وقطعهم الطريق على القوافل. وكانت لا تشك في أن العربة التي تقودها على غير هدى تعد غنيمة ثمينة بما فيها من حنطة، وبالثورين اللذين تشد إليهما، وبالمرأتين اللتين يحق للعاب رئيس القبيلة أن يسيل عليهما ... فاشتد بها الخوف وجن جنونها، فقفزت على رمل الصحراء، واتجه نظرها إلى المرأة النائمة وطفلها وكانت ترى وجهيهما على ضوء النجوم الخافت، فمدت يديها بلا وعي ولا تدبر إلى الطفل ورفعته بخفة، وأحكمت لف القماط حوله، وأطلقت ساقيها للريح صوب أنوار المدينة، وخيل إليها وهي تعدو أنها سمعت صوتا ينادي عليها بفزع، فظنت أن البدو أحاطوا بسيدتها، فازداد بها الرعب وضاعفت سرعة عدوها، لا يعوقها الرمل المكدس ولا الحمل العزيز ولا التعب الشديد، فكانت كالمتردي في هاوية يهوي بحكم ثقله دون أن يستطيع لنفسه إمساكا. ولعلها لم تكن قد توغلت في الصحراء توغلا بعيدا، أو لعلها قطعت بعدوها شوطا يجاوز تقدير المقدرين وتصور المتصورين؛ لأنها أحست تحت قدميها بأرض ممهدة كأرض الطريق الصحراوي، ونظرت خلفها فلم تر إلا ظلاما، وكانت عند ذاك قد استهلكت قوتها الجنونية، فهدأت من سرعتها وثقلت خطاها، ثم ارتمت على ركبتيها وهي تلهث بعنف وشدة مخيفين، وكانت ما تزال مذعورة مجنونة، ولكنها لم تستطع حراكا، مثل فريسة الكابوس الذي تطارده الأخطار ولا تطيعه قدماه، فجعلت تتلفت يمنة ويسرة لا تدري عن أي طريق يأتي الفرج، ولا في أية ناحية يجثم الهلاك.
وخيل إليها أنها تسمع وقع عجلات وصهيل خيل! ترى هي عجلات عربات وخيل فرسان أم نبض الدم بأذنيها ورأسها؟ ولكن الأصوات وضحت فتأكدت وبدت في الظلمة أشباح الراكبين العادين الآتين من الشمال، ولم تدر إن كانوا يحملون لها سلاما أم هلاكا، ولم تستطع اختفاء لأن ددف علا صوته بالصراخ والعويل، ولم تكن تأمن في ركعتها وسط الطريق أن تلتهمهما عجلات العربات المندفعة فرفعت عقيرتها صائحة: «أيها الراكبون.»
واندفعت تكررها بصوت المستغيث وقد أسلمت نفسها للمقادير، وأتى الركب سريعا، ووقف على بعد منها قريب، وسمعت صوتا يسأل عن الصارخ، خيل إليها أنه ليس غريبا عنها، فشدت يديها على الطفل وتنبه بها الحذر، فقالت بلهجة ريفية قحة غيرت بها نبرات صوتها: أنا امرأة هلكى، قصر بي الجهد عن متابعة الطريق، وغشيني الظلام، وهذا طفلي، يكاد يقتله هواء الليل الرطيب.
فسألها صاحب الصوت الأول: وإلى أين تقصدين؟
فقالت زايا وقد بدأت تطمئن إلى أنها في حضرة جنود مصريين: أقصد يا سيدي إلى منف.
ناپیژندل شوی مخ