قد قلنا: إن الأشياء تبين بذواتها لمن تبين، وتعبر بمعانيها لمن اعتبر، وإن بعض بيانها ظاهر، وبعضه باطن، ونحن نذكر ذلك ونشرحه فنقول: إن الظاهر من ذلك ما أدرك بالحس كتبيننا حرارة النار، وبرودة الثلج على الملاقاة لهما، أو ما أدرك بنظره العقل التي تتساوى العقول فيها مثل تبيننا أن الزوج خلاف الفرد، وأن الكل أكثر من الجزء والباطن ما غاب عن الحس، واختلفت العقول في إ ثباته، فالظاهر مستغن بظهوره عن الاستدلال عليه والاجتماع عليه لأنه لا خلاف له، والباطن هو المحتاج إلى أن يستدل عليه بضروب الاستدلال، ويعتبر بوجوه المقاييس والأشكال. والطريق إلى علم باطن الأشياء في ذواتها والوقوف على أحكامها ومعانيها من جهتين هما: القياس، والخبر، وحجتنا في القياس (أن الله - عز وجل - قال: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} وذلك الأمثال التي جاءت في كتابه كمثل كذا وكذا في مواضع كثيرة، وذلك كله تشبيه وقياس. وأيضا فقد قاس) في كتابه فقال لمن حرم وحلل وهو جاحد للرسل الذي يأتون بالتحليل والتحريم: {أم كنتم # شهداء إذ وصاكم الله بهذا} وقال: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} فلما لم يمكنهم أن يدعوا أن الله سبحانه شافههم بذلك، وكان في قولهم واعتقادهم إبطال الرسل الذين يؤدون عن الله - عز وجل - أمره، تبين لهم أن الذي شرعوه لأنفسهم ضلال وبهتان من غير حجة ولا سلطان، فقال لهم بعد أن تبين ذلك لهم: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ومن الحديث ما حدثه زبيد، الأيامي يرفعه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كل قوم على بينة من أمرهم ومفلحة عند أنفسهم يردون على من سواهم" والحق في ذلك يعرف بالمقايسة عند ذوي الألباب وأما الخبر فحجتنا فيه من الكتاب قول الله عز وجل: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، {فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} ولم يكن ليأمر بمسألتهم إذا لم يعلم، إلا وأخبارهم تفيدنا علما وتزيل عنا شكا.
ومن الأثر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها" وقوله: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب"، ولم يأمر بذلك إلا وإبلاغ الشاهد الغائب يوجب الحجة، واستماع الغائب من الشاهد يكسب علما وفائدة.
مخ ۶۶