إلا أنه لوهم ثقيل، قاتم، مخيف، دق أوتاده ونصب خيامه في صدور الناس، منذ أن كانت الإنسانية في فجر تاريخها تحبو، وذلك هو الوهم الذي خيل للإنسان تناقضا بين وجدانية القلب ومنطقية العقل، وشيئا فشيئا رسخ في النفوس أنه إذا كان عقله ومنطقه الصارم المسنون، لم يكن دين وما يحيط به من طمأنينة الإيمان، حتى لقد جعلت حدة الذكاء صفة للشيطان أكثر منها صفة للمؤمن النقي العابد، ومن هنا كان أخف على الإنسان بأن يتهم في ذكائه، من أن يتهم بجحود قلبه وجموده، بل سبق إلى ظنون الناس في شتى العصور، وفي العصور الأولى بصفة خاصة، أن «العلم» بحقائق الأشياء، هو بكل معانيه أمر متروك لله وحده - سبحانه وتعالى - بحيث عدت زندقة من الإنسان إذا حاول السير في طريق العلم مهتديا بعقله، ومن هنا كذلك نفهم أسطورة «برومثيوس» عند اليونان القدماء؛ إذ أراد برومثيوس أن يخرج الإنسان من ظلمات جهله، ولما كان ذلك متعذرا إلا بنور العلم، ثم لما كان العلم كله حكرا على الآلهة في ذلك العهد القديم، لم يجد برومثيوس من سبيل أمامه، إلا أن يسرق من الآلهة قبسا من نور علمها، ليهبط به من قمة الأولب إلى أرض الناس، وكان جزاؤه عند الآلهة أن ربطوه على جذع شجرة، وسلطوا عليه النسور الجارحة لتنهش جسده نهشا، وكلما فرغت سباع الطير من افتراسها لجسده، جددت له الآلهة جسدا لتعاود تلك السباع الفاتكة عملها.
وهكذا لبث الإنسان طويلا تأخذه الحيرة إزاء العقل وذكائه، مع أن العقل عقله هو، والذكاء ذكاؤه هو ، ومع ذلك فهو يخشاه ويتردد في الأخذ بحسابه وتدبيره؛ لأن ذلك كله أقرب في ظنه إلى أفاعيل الشيطان، وإذا كان الإنسان قد أخذ يطمئن إلى «عقله»، وما ينتجه له ذلك العقل من «علوم» تكشف له عن بعض أسرار الكون، فإن تلك الطمأنينة كادت تقتصر على قلة قليلة، وأما الأغلب الأعم من جمهور الناس، فهو يؤثر أن تسير أموره «بالبركة» فلا حساب ولا قلاب، ولا أظن أنه قد مضى وقت يزيد على ثلاثة أعوام قبل هذا اليوم من عام 1988م، منذ قرأت في حديث أملاه شيخ جليل، بأن يحذر الناس من الثقة بالعلوم العقلية، فإنما يفعل ذلك خشية أن يقوى الإنسان بعلمه فيطغى، واستشهد بالآية الكريمة:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى .
واعجب ما شئت وما استطعت من عجب أن يطول الزمن بهذه اللعبة الخبيثة من شيطان خبيث، أراد أن يخاصم بين الإنسان وعقله، فنجح فيما أراد نجاحا قد اتسع حتى حمل الكثرة الكاثرة، ولم ينج من براثنه إلا نفر قليل، لمعت عقولهم فأضاءوا الطريق لمن شاء السير على هدى، وكان ذلك النفر القليل في ركونهم إلى «العقل» يبدون لمن لا يعلم، أنهم هم الشياطين الذين غلظت قلوبهم ويبست فلم تعرف طريقها إلى الإيمان، ولقد شهد عصرنا من هؤلاء الأعلام الهداة، من وضع يده على المفتاح السهل البسيط الذي يحل اللغز القديم، لغز الحيرة بين عقل وقلب، كأنما هو حتم على الإنسان أن يلقي بزمامه إلى أحدهما دون الآخر، على نحو ما تصور أبو العلاء فيما قدمته إليك عنه، وكأنه ليس أمرا تدركه البديهة الفطرية، أن يكون الإنسان إنسانا بقلبه وبعقله معا، كما أراد له خالقه - جلت قدرته - أن يكون، ولن يكون بين القطبين شد ولا جذب، إذا ما عرف كل منهما أين مجاله وما هي حدود ذلك المجال، فللعقل مجال «الاستدلال» الذي يستند إلى ركيزة مقبولة حتى ولو كان ذلك القبول مؤقتا ومأخوذا على سبيل الفرض، ومن تلك الركيزة يلتمس طريقه إلى نتيجة يستدلها، وذلك هو العقل وحدوده في إيجاز شديد ، وأما ما عدا ذلك كله - وهو كثير وأكثر من كثير - فهو متروك للوجدان بمختلف وسائله، على أن ما يوقع كثيرين في خطأ وخلط، بالنسبة إلى الميدان الوجداني الواسع، الذي يشتمل فيما يشتمل عليه على الإيمان الديني بكل أهميته في حياة الناس، أقول إن ما يوقع الناس هنا في خطأ وخلط، هو أن يروا موضوعات الميدان الوجداني، مطروحة أمام رجال التفكير العلمي، فيظنوا بناء على ذلك أنها من «العلوم»، ويفوتهم أن يفرقوا بين أن يقبل الإنسان ما تقبله بنبضة مباشرة من قلبه، وقد يكتفي بهذا القبول المباشر، وبين أن يظهر من الناس من يتناول الحقيقة نفسها التي نبض لها قلب من أخذ بها، ليجعلها ركيزة يستدل منها ما أمكنه استدلاله من نتائج، وهي عملية عقلية تجعل من القائم بها رجل علم، بسبب التزامه منهج العلم في عملياته الاستدلالية.
ولا علينا من هذه الفوارق، التي قد يسهل إدراكها وقد يصعب، وحسبنا الآن هذه الحقيقة البسيطة، التي باعد الشيطان بين الناس وبينها حتى لا تقع عليها بصائرهم، وهي أن للإنسان الواحد مجالين، يتوحدان بتوحده، كما أن له عينين، وشفتين، وذراعين، ورجلين، فلا يقال إنه بسبب هذه الثنائيات قد انشطر اثنين، وليست أهمية إبراز «العقل» وجودا ووظيفة في الكيان البشري، مقصورة على أهمية «العلم» الذي هو من صنائع العقل، بل إن أهميته لتجاوز ذلك إلى جانب خطير في حياة الناس، ألا وهو «الحرية»؛ فالحرية بأهم معنى من معانيها هي السيطرة على ظواهر الطبيعة، التي لو تركت مجهولة، لأمكن أن تقف عقبات في سبيل الإنسان، وأما إذا كشف العلم قوانينها، انقلبت رهائن ملك يديه، يسيرها كيفما شاء وأينما شاء.
لا، ليس ما نريده لأنفسنا موقفا شبيها بموقف مفستوفوليس؛ إذ هو يقايض فاوست علما بإيمان، ويندفع فاوست بدافع حبه للعمل، لتمضي به السنون بعد ذلك، ويجيء الأجل المحتوم، فيرى كم كانت صفقته مع الشيطان خاسرة، ويأخذ منه الندم مأخذه «ولات ساعة مندم» كلا، ولا الذي نراه في الأمر هو ما رآه المعري، من أنه إما عقل (أي علم) ولا دين، وإما دين ولا عقل، ظنا منه بأنهما ضدان لا يجتمعان، مع أن الحق في ذلك واضح أبلج، وهو أنهما بالفعل مجتمعان في كل إنسان فرد، وشاهد ذلك هو الإنسان نفسه؛ إذ يراه آنا مركزا انتباهه في عملية فكرية استدلالية، وآنا آخر موجها انتباهه إلى الحق سبحانه وتعالى، نابض القلب بإيمانه الديني، فقوة الانتباه واحدة، كشعاع الضوء، يوجهه الممسك بالسراج إلى ما أراد أن ينصب عليه الضوء ليراه، لكن الذي نريده لأنفسنا هما الجانبان معا، لكل من العقل والقلب مجاله، وفي الإنسان وحياته يلتقي الطرفان، على أن المجالين وإن تجاورا فاعلية وأداء، فقوة أي منهما تضفي قوة على الآخر، وضعف أي منهما يضفي ضعفا، إنهما كالعينين أو الأذنين، يستقلان ويتعاونان في آن معا.
لقد كان الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل، من ألمع من شهدهم عصرنا الراهن، وإنا لواجدون في حياته من بعض جوانبها، عبرة ودرسا؛ فقد كان من أعظم علماء الرياضة ثم كان من أعظم فلاسفة الرياضة (وقد كنت في مناسبة سابقة شرحت الفرق بين علم معين وفلسفته) على أن برتراند رسل، إلى جانب المجال الرياضي - علما وفلسفة - قد تعرض لموضوعات عامة لم يجر العرف على إدراجها في زمرة العلوم، فقد كتب عن «الحرية والسبل المؤدية إلى تحقيقها» وعن «نظام الزواج وعلاقته بالأخلاق»، وكتب عن «قوة السلطان» وأنواعها المختلفة، وكتب عن «التربية والنظام الاجتماعي»، وغير هذه الموضوعات، مما يدور مدارها حول الإنسان وقيمته وحريته، حتى لقد أسست اللجنة التي قررت له جائزة نوبل في الأدب، قرارها على كونه نصيرا للإنسانية وحرية الإنسان، لكنك إذ تقرأ له شيئا من هذه الموضوعات التي ناقش فيها الإنسان وحياته، تبهرك دقة العبارة التي تبلغ عنده غاية ليس وراءها ما هو أبعد منها، إن العبارة على قلمه تجيء وكأنها حد السيف القاطع، فلا لبس فيها ولا غموض ولا زيادة في كلماتها ولا نقصان، فمحال محال أن تقرأ جملة كتبها برتراند رسل، وتسأله: ماذا يعني؟ لأن مفرداته والطريقة التي رتبت بها، لا تدع مجالا لسائل يسأله هذا السؤال، فهل نخطئ التعليل إذ قلنا إن الدقة «الرياضية» التي درب عليها في مجال الرياضيات، عالما بها وفيلسوفا لها، قد انتقلت معه على سن قلمه، كلما تناول موضوعا إنسانيا عاما، فإذا كانت المعادلات الرياضية هي «العقل» تجسدت خاصته التحليلية الاستدلالية في رموزها، فكذلك كل ما جرى به قلمه في حياة الإنسان ووسائلها بأهدافها وقيمها، هو أيضا «عقل» تجسد في كل فكرة معروضة من حيث تصويرها باللفظ الذي يبينها، ومن حيث استدلالها من مصادرها، والاستدلال منها ما عساها دالة عليه من نتائج.
وعلى نحو ما انتقلت دقة الفكر مع برتراند رسل من مجال الرياضيات إلى مجال الإنسانيات، التي قلما تبلغ كل هذه الدقة عند كاتب آخر، نقول إن مجال العلم ومجال الدين، وهما اللذان يفصحان عما انطوى عليه الإنسان من «عقل» و«إيمان»، وأن يكونا مستقلين أحدهما عن الآخر موضوعا ومنهجا، إلا أن التقاءهما معا في الإنسان الواحد الفرد، الذي يحيا بهما معا، كما يبصر بالعينين، ويسمع بالأذنين، ويتنفس بالرنين، يجعل كل جار منها يشع على جاره من قوته قوة، ومن ضعفه ضعفا؛ فالعالم في العلوم الكونية، أيا ما كان موضوع تخصصه العلمي: علم الفلك، أو فرع من فروع الفيزياء، أو علم الكيمياء في أي فرع من فروعه، أو علم النبات أو الحيوان، أقول إن العالم في أي جانب من تلك الجوانب الكونية، إذا ما حمل بين جوانحه قلبا مؤمنا بالدين، فيستحيل ألا يزداد إيمانه الديني نورا على نور؛ لأن علمه بأسرار الكائنات، هو في الوقت نفسه علم بعظمة من خلق تلك الكائنات، وبراها، وسواها، وأجراها على سنن منظومة، هي نفسها السنن (حرف السين هنا مفتوح، والمعنى هو «القوانين»)، أقول إنها هي نفسها السنن التي يكشف عنها العلماء ويطلقون عليها اسم «القوانين العلمية»، وهكذا يزداد الإيمان إيمانية عن طريق العلم، والعكس صحيح أيضا، وهو أن العلم بدوره يزداد علمية عن طريق الإيمان الديني؛ لأن هذا الإيمان يحمل في أصلابه قيما يسلك الإنسان على معيارها، ومن تلك القيم: أفضلية العلم على الجهل، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إذن فها هي ذي قيمة دينية واحدة كفيلة وحدها أن تحفز العالم على المضي في علمه، مهما لقي في سبيله من مشقة وعنت وشظف في العيش، ومن قيم الدين أن تكون «أمينا» على الحق، صادقا في إعلانه، فإذا كان من المرجح أن يتصدى لعلمك جاهلون، فعليك «بالصبر» والصبر في ذاته قيمة أخرى من وعاء الدين، وهكذا وهكذا.
على أن هذا التساند بين علم ودين في الفرد الواحد من الناس، لا ينفي - كما قلنا - أن يكون لكل منهما استقلاليته في الموضوع وفي منهج النظر، ومن أبرز الفوارق بينهما، مما لا بد لنا أن نكون على وعي شديد به، هو أن مبادئ الدين ثابتة عند المؤمنين بذلك الدين؛ لأنها في آخر المطاف «معايير» يقاس بها السلوك ليجزي خيرا بخير وشرا بشر، ولا بد للمعيار أن يحتفظ بمعنى واحد، وإلا فقد معياريته، فانظر إلى حال الناس إذا ما كان «المتر» - مثلا - مختلف الأطوال عند مختلف المتعاملين في سوق البيع والشراء، وأما «العلم» فهو متغير مع تقدمه في تعاقب العصور؛ لأن عصرا لاحقا يصحح أخطاء العلم في عصر سابق، وليس ذلك لذبذبة في طبائع الأشياء لا، فالضوء هو الضوء في طبيعته، والكهرباء هي الكهرباء، لكنها قدرة الإنسان المحدودة، هي التي تجعله يعلم جانبا من الظاهرة المعينة ويغيب عنه جانب، فتجيء معرفته العلمية منقوصة، يكملها خلفاؤه من العلماء.
وهنا أعود بك إلى الحديث عن برتراند رسل، وكيف نرى في بعض جوانب حياته العبرة والدرس، فمن أقواله التي كان يرد بها على مهاجميه، قوله: إنني لا أخجل من تغيير فكرتي إذا رأيتها على خطأ، فقد كان مهاجموه يأخذون عليه أنه ما ينفك يستبدل رأيا برأي، وهذا صحيح، فلقد سار الرجل في حياته الفكرية سبعين عاما أو يزيد، وكان على تعاقب مراحل حياته يصحح نفسه كلما وجد ضرورة ذلك، وفي شرحه لنقطة الخلاف بينه وبين نقاده، قال ما خلاصته: إن مصدر الخطأ عند النقاد، هو أنهم ينظرون إلى «الفلسفة» على أنها أقرب إلى طبيعة «الدين» منها إلى طبيعة «العلم»؛ ولذلك فهم يطالبون الفيلسوف بأن يثبت على فكرة واحدة، وحقيقة الأمر في الفلسفة هي أنها أقرب إلى العلم منها إلى الدين؛ لأنها تحليلات عقلية تنصب على ما تريد أن تعرفه؛ ولذلك فهي في ضرورة تغيرها إنما تلاحق العلم في ضرورة تغيره عصرا بعد عصر، وواضح أن مثل هذا التغير الذي يشير إليه «رسل» هو تغير نحو الأكمل والأصح، وليس هو كما يتغير المريض بعلة تصيبه بعد عافية.
ناپیژندل شوی مخ