من مكة إلى المدينة، مما كان سببا في رسوخ الإسلام وانتصاره وانتشاره؛ أقول إني استلهمت تلك الهجرة لأحفز نفسي على هجرة مما كنت فيه حتى ذلك الحين من نقل أفكار الآخرين، إلى موقف جديد أقف فيه مع فكرتي ما دمت مؤمنا بصوابها، وذلك أني منذ ذلك العهد البعيد، أحسست إحساسا غامضا باتجاه رأيت فيه الصواب، وكان الأساس فيه أن تعزل الحقائق «العلمية» وحدها، لتكون لها شروطها فيما يقبل منها وما يرفض، وأما ما عدا تلك الحقائق العلمية فهو أنواع كثيرة، تشترك كلها معا في كونها لا تخضع لأحكام العقل، بالمعنى الذي يجعل العقل حركة استدلالية تبدأ من نقطة أعدت له من قبل، إلى نتيجة تلزم عنها، أي أنه بمنزلة قطار ينتقل بين محطتين: إحداهما محطة القيام والأخرى محطة الوصول؛ فأما الأولى فهي ليست من صنعه وأما الثانية فهي التي يصل إليها، وبذلك تصبح ملزمة للإنسان العاقل، ما دام هذا الإنسان نفسه هو الذي أعد للقطار محطة قيامه، التي حتمت عليه أن يصل إلى ما وصل إليه، لكن ما ليس بعقل (بالمعنى الذي حددناه) من مجالات النشاط البشري، فهو فروع كثيرة - كما قلت - ولكل فرع فيها خصائصه التي تميزه، وأهم ما يفصلها جميعا عن دائرة العقل، أنها ليست انتقالية بين محطة للقيام ومحطة للوصول، بل هي تسكن عند موضوعها، سكون «المؤمن» إذا كان الموضوع عقيدة ما دينية أو غير دينية، وسكون «المتذوق» إذا كان الموضوع ناتجا من فن أو من أدب، أو غيرهما من مواضع الجمال حيثما وجده.
كانت تلك هي رؤيتي - بما كان يكتنفها عندئذ من غموض - عندما نشرت مقالتي «هجرة الروح» في أول الأربعينيات، ثم شاء الله تعالى بعد ذلك أن أسافر طالب علم، وهناك وجدت تيارا فكريا حديث عهد بالظهور، أنشأته جماعة من علماء في ميداني العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، أي أنها جماعة لم تكن «الفلسفة» موضوع دراستها الأولى، وقد عن لأعضائها - لأمر ما - أن يعرضوا مسائل الفلسفة على عقولهم العلمية الصرف، ليروا ماذا عساها أن تعني عند «العلم»، فإذا بهم يتوسعون بحثا وتدقيقا، ليصلوا آخر الأمر إلى ضوابط للتفكير فيما هو «علم» من جهة وما هو «فلسفة» من جهة ثانية، ثم ما هو شيء آخر، فلا هو إلى العلم ولا هو إلى الفلسفة من جهة ثالثة، وذلك الشيء الآخر إنما يراد به كل الميادين التي تقام على إيمان أو تذوق، ولقد كانت تلك الضوابط التي أحكموا صياغتها بمنزلة «منهج» للنظر، كلما أردنا أن نحدد طبيعة عبارة لغوية بين أيدينا، من أي الأقسام الثلاثة هي؟ أهي من «العلم» فنطالبها بما يتطلبه العلم من معايير التطبيق؟ أم هي «فلسفة» فنراها في هذا المجال، أم هي تعبير عن «إيمان» بعقيدة فنزنها بموازين الإيمان، أم هي عبارة قيلت تعبيرا عن تذوق لأثر من آثار الفن والأدب، فنقيسها بمقاييس ميدانها، ولقد أطلقوا على منهجهم النقدي هذا، اسم الوضعية المنطقية آنا أو اسم التجريبية العلمية آنا آخر، فلماذا هي «وضعية»؟ ولماذا هي منطقية؟ كأن هذا الاسم مقصود به ما يخص العلوم الطبيعية بصفة خاصة، فإذا زعم لنا زاعم فكرة ما، تتصل بأي شيء من أشياء الواقع، كان لزاما على فكرته تلك أن تجيء مطابقة بل زعم لها أنها تطابقه، ومن هنا جاءت كلمة «الوضعية» في عنوان المنهج، على أن الأمر لا يقتضي أن نخرج بالعبارة المزعومة إلى الواقع الفعلي، لنرى أهي مطابقة لواقعها أم غير مطابقة، بل لا بد لنا قبل ذلك أن نفحص التركيبة اللفظية نفسها، التي سيقت بها الفكرة المعروضة للفحص؛ لأن هنالك ما يدل تركيبه اللغوي على بطلانه، فلا يكون بك حاجة إلى البحث عن إمكان تطبيقه، ومن هنا جاءت صفة «المنطقية» في العنوان.
وأظنه واضحا وضوح الشمس في سماء صافية أن اشتراط مطابقة الكلام على أشياء الدنيا الواقعة، واشتراط ما يجيء قبل ذلك وهو أن يكون ذلك الكلام بادئ ذي بدء مما يقبل أن يكون موضعا للتحقيق من معناه، إنما ينحصر في الحالات التي يتكلم فيها المتكلم عن دنيا «الأشياء»، كما هي الحال في العلوم الطبيعية، ويخرج من حسابنا في هذين الاشتراطين: اشتراط «الوضعية» واشتراط «المنطقية»، أقول إنه يخرج من حسابنا كل ما يتصل بميادين الأقوال الأخرى؛ لأن لكل ميدان منها مقاييسه، إننا بهذين الاشتراطين نحصر أنفسنا فيما هو متصل بدنيا الأشياء، مما نريد أن يكون الكلام عنه محكوما بشروط التفكير العلمي، مهما يكن موضوع الحديث إذا ما كنا جادين في القول لا مازحين، فقد يكون كلامنا منصبا - مثلا - على السد العالي، أو المزارع السمكية، أو المفاعلات الذرية أو يدعم السلع التموينية، أو مناهج التعليم أو أي موضوع آخر يجري في هذا المجرى المتصل بدنيا الأشياء والمواقف والوقائع: فها هنا يجب مراعاة الضوابط التي تجعل كلامنا علمي النزعة لكي نضمن إمكان تطبيقه، ولكننا ونحن في سبيلنا إلى تفصيل القول في تلك الضوابط، مضطرون إلى معرفة دقيقة بالفواصل التي تفصل ما هو متصل بالتفكير العلمي عما هو إيمان بالقلب، وما هو تذوق في دنيا الأدب والفن، فلكل صنف ضوابطه الخاصة بطبيعته.
وليس تحديد تلك الفواصل أمرا هينا؛ إذ هو يقتضينا أن نكون على بينة دقيقة من خصائص العلم الرياضي ومن خصائص العلم الطبيعي، وعلى بينة دقيقة كذلك من خصائص المواقف الذوقية في عالم الفن والأدب، وإلا تعرضنا للخلط بين أنواع من القول مختلفة، ولكل منها أحكامه وهنا تجدر الإشارة إلى حقيقة هامة، قد لا يعرفها كثيرون، ولها نتائج بعيدة المدى، وهي أن الفكر الإنساني في كل عصوره السابقة، وقع تحت وهم بأن العلوم كلها سواء في معاييرها المنهجية، لا فرق في ذلك بين علم رياضي وعلم طبيعي، إلى أن جاءت هذه التحليلات العلمية الفاحصة، والتي بدأت بوادرها منذ منتصف القرن الماضي، فعرفنا على سبيل اليقين القاطع أن الحقيقة الرياضية؛ كقولنا 3 + 4 = 7 مختلفة كل الاختلاف تكوينا ومنهجا، عن الحقيقة في أي علم من علوم الطبيعة، والفرق الجذري بينهما هو أن صدق الحقيقة الرياضية يأتي من كونها تذكر الشيء الواحد مرتين ولكن برمزين مختلفين، فما تقوله «3 + 4» هو نفسه ما تقوله «7»؛ ولهذا فليس هناك مجال للخطأ ما دام التحليل الرياضي قد سار على الطريق السليم، أي أن صدق أية حقيقة رياضية لا يتوقف على أي شيء من أشياء الواقع، بل هو متوقف على تركيب الجملة الرياضية نفسها، وذلك على خلاف العلوم الطبيعية، فصدقها مرهون بصدق تطبيقها على واقع الدنيا الخارجية، ولهذه التفرقة أهمية لا نهاية لحدودها في تقديرنا لما يديره الناس في حياتهم من أفكار؛ وذلك لأن ما قلناه عن الحقيقة الرياضية من أن صدقها غير مرهون بالرجوع إلى واقع الأشياء، يقال كذلك على أي فكرة في أي مجال يكون قوامها موضوعا وتحليله؛ كأن تقول - مثلا - إن الشقيقين جاءا من أب واحد وأم واحدة، فأنت في هذا القول لا تقول أكثر من أن تكرر الشيء الواحد مرتين، ولكن برمزين مختلفين، فإما أطلقت على ذلك الشيء كلمة «شقيقين»، وإما أطلقت عليه من أب واحد وأم واحدة؛ لأن هذه العبارة الثانية هي مجرد تعريف للعبارة الأولى لا أكثر ولا أقل، وتسألني ما أهمية ذلك؟ وأجيب: أهميته أن نسبة ضخمة، أضخم جدا مما تتصور مما يطرحه الناس في حياتهم الفكرية، هو من هذا القبيل الذي يكرر نفسه، ولا يكون بذي شأن بحقائق الواقع، أعني أن صدقه هو في طريقة تركيبه، وليس صدقه في الرجوع به إلى معيار التطبيق؛ لأنك قد تقول ما قلنا عن الشقيقين حتى إذا كنت وحدك على كوكب المريخ، ولا والد هناك ولا والدة ولا أشقاء، وكل ما هو مطلوب منك إذ ذاك، هو أن تكون على علم باللغة العربية، فتعرف معنى الكلمات: شقيق، ووالد، ووالدة، ولست أريد إثارة القلق في نفسك، بأن أؤكد لك كم هو حجم الأفكار، التي يظن الناس أنهم يقولون بها شيئا عن الواقع الفعلي، في حين أنها مجرد ألفاظ معينة وتعريفها على أساس العلم بمعاني الكلمات.
تلك هي بعض التفصيلات التي منها يتكون منهج التحليل المنطقي الجديد، الذي أطلق عليه أصحابه - وكان جميعهم من علماء الرياضة والطبيعة - اسم «الوضعية المنطقية» آنا واسم «التجريبية العلمية» آنا آخر، والهدف المقصود منه هو الزيادة من دقة التفكير العلمي، وفي سبيل ذلك الهدف تراه يعمل على التمييز بين معنى الصدق في العلم الرياضي من جهة، ومعناه في العلم الطبيعي من جهة أخرى، ثم التمييز بين هذين العلمين معا في دائرة وبقية فروع المعرفة في دائرة أخرى، وترك لمن يشاء من أصحاب الاختصاص في هذه الدائرة الثانية، أن يمايزوا بين معايير الصدق في العقائد الإيمانية من ناحية وفي الأدب والفن من ناحية أخرى وهكذا، ولقد كانت قاعدة الانطلاق هي الوقوف طويلا عند «اللغة»، التي هي في معظم الحالات أداة التبادل في ضروب المعرفة والثقافة على اختلافها، نعم كانت الوقفة عند اللغة طويلة وعسيرة لاستخراج فلسفتها، ليعرف الباحث أسرار اللغة ومركباتها في نقل الأفكار، ونقل الحالات العقلية والنفسية على اختلافها، وكان كل ذلك الجهد يبذل التماسا لضوابط الدقة في عرض الإنسان لأفكاره ولسائر حالاته الوجدانية كذلك.
ولقد أنبأتك فيما أسلفته، أنني كنت قبل سفري طالبا للعلم، قد سجلت رؤية رأيتها فيما كنت أعتزم أن أجعله منهجي في التفكير، وكان ذلك في مقالتي «هجرة الروح» التي نشرت لمناسبة عيد الهجرة في أول الأربعينيات، وكنت قد اقتصرت في عرض رؤيتي على الإطار الهيكلي لما أردت له أن يكون منهجي في التفكير، فلما سافرت كان أول ما استوقف نظري ذلك التيار الفكري الجديد الخاص بمنهج التحليل المنطقي، الذي يضمن للمفكر مزيدا من الدقة العلمية في تفكيره، ورأيت في شيء من الدهشة والسرور كم هو قريب جدا هذا التيار الفكري مما كنت قد رأيته لنفسي، غير أنني كنت قد تركت الهيكل عاريا خاليا من تفصيلاته، أما التيار الفكري الذي وجدته هناك فقد كان - بالطبع - مليئا بتفصيلاته لكثرة العقول العلمية التي تناولته بالعرض والشرح أو بالنقد وبيان مواضع النقص فيه، ومهما يكن من أمر ذلك كله، فقد أعطيت ذلك التيار جزءا من وقتي وجهدي لألم بجوانبه ونواحيه، على الرغم من أنه لم يكن هو موضوع دراستي الذي سافرت من أجله.
ولماذا صادف ذلك المنهج التحليلي قبولا عندي واهتماما؟ كان ذلك لأنني رأيت فيه وسيلة فعالة في نقد الفكر العربي الذي نعيش تحت مظلته؛ فلو أنني سئلت ما الذي تراه نقيصة أولى في الفكر العربي الحديث، تفرعت عنها كل النقائض من فقر في الإبداع الذي هدم للأمة العربية ما يحضها على النهوض والمشاركة في ركب الحضارة العصرية؟ لكان جوابي هو أن النقيضة الأولى هي ذلك الإسهال اللفظي الذي ندفقه دفقا بغير حساب نطقا باللسان، وكتابة بالقلم، فإذا أنت دققت النظر في هذه الزوابع الكلامية التي تعصف بالعقل العربي، لترى كم منها يتحول إلى فعل حقيقي يزيح عن الأمة العربية مشكلاتها، وجدت الجواب يبعث على الأسف والأسى، فمعظم تلك العواصف اللفظية كلام فارغ من المعنى الذي من شأنه أن يؤدي إلى عمل، فماذا يصنع المواطن العربي المخلص لأمته خيرا من أن يضع أصابعه على مواضع النقص، ليوضح العلة توضيحا علميا جادا لا يبتغي إلا الخير لأمته؟
وهكذا صنعت وأصنع وسوف أظل أصنع حتى يحين الأجل، فالذي ينقصنا هو جدية التفكير ودقته، والصدق في الإيمان وفي الإبداع وفي كل جانب آخر من جوانب الحياة الثقافية كلها، إلا أن ما لقيته وما ألقاه وما سوف أظل في أغلب الظن ألقاه من السادة «العلماء» ورجال الفكر والنقد، يدعو إلى العجب، فلو أنهم درسوا وعرفوا ثم غضبوا من منهجي في التحليل المنطقي للأفكار، حتى نقيم المستقيم ونمحو المعوج لاستبشرنا خيرا؛ لأن ذلك الأخذ والرد في الحياة الثقافية هما علامة الحياة، شريطة أن يصدرا عن ضمير علمي حي، لا يفتري على الحق كذبا وجهلا، أما أن يتصدى الناقد لما ليس يعرف عنه شيئا، ولما لم يقرأ عنه سطرا، فذلك هو الحقد الأعمى الذي يهدم ولا يبني. بدأت المعارك الهوجاء منذ أوائل الخمسينيات، فلقد هم «عالم» من علمائنا الذين كنا نود من صميم قلوبنا أن يكونوا «أجلاء» في أواسط الخمسينيات، وأخذ ينشر في الناس أن صاحب هذه الكلمات «عميل» للمستعمرين! سبحانك اللهم فإياك نستعين على البلاء، أهو «عميل» للمستعمرين. ذلك الذي يدعوك إلى مزيد من ضوابط الدقة في التفكير، كلما أردت لذلك التفكير أن ينتج فكرة علمية صحيحة، تعين الناس على حل مشكلة من مشكلاتهم؟ وهل قرأ ذلك العالم ما كنت قد كتبته وقتئذ قراءة فيها العناية التي تبرر له أن يتجهم بمثل تلك التهمة الشنعاء؟ اللهم لا، وإلا فقد قرأ ولم يفهم ما قرأ، وحسبنا أنه أخذ يصول ويجول في نقد المذهب الوضعي الذي ينسب إلى أوجيست كونت، حاسبا أنه هو هو منهج التحليل المنطقي الذي تستهدفه الوضعية المنطقية! ثم تعاقب المهاجمون «عالما» بعد «عالم» وناقدا بعد ناقد، وإني بعد أن أستغفر الله من الحلف به سبحانه وتعالى، في أمثال هذه الصغائر التي كتب علينا أن نشقى بها، أحلف بالله العظيم إن علماءنا هؤلاء الذين كنا نتمنى أن يكونوا أجلاء، قد هاجموا شيئا لم يقرءوا عنه حرفا واحدا، وربما لو قرءوا بمثل قراءتهم القلقة العجلى لما فهموا شيئا.
فهل أخطأ مؤلف الكتاب الذي تحدث فيه عن الفكر العربي قديمه وحديثه، حين أشاد بما كان لأسلافنا من «ضمير علمي» بقدر ما فجع لغياب هذا الضمير في الفكر العربي الحديث؟
لجاج واختصام
ناپیژندل شوی مخ