الفرق بين عابر السبيل وبين غيره من العلماء المتخصصين، أو من الرؤساء الحاكمين، هو في «الأسماء» التي يطلقها هؤلاء على أنواع المشكلات، ولا يعرفها هو، فهم يقولون - مثلا - عن مشكلة معينة أنها في «التضخم» أو في «أسعار الصرف» أو في «عجز في الموازنة»، أو ما شئت من أسماء، وأما عابر السبيل فيقولها بلغة الحياة المتوجعة بآلامها؛ إذ يقول إنه لم يعد في مستطاعه الحصول على العدس والفول، وإن ابنه في حاجة إلى درس خصوصي في الرياضة وليس في يده ما يدفعه أجرا للمدرس الخاص، لا، إنه لا يعرف النار حق المعرفة إلا من اكتوى بلهيبها، ولا تصدق من زعم لك العلم بمشكلة هو منها على مبعدة فلا يراها إلا مرقومة على ورق، وانظر إلى البلاغة القرآنية المعجزة حين فرقت بين حالتين في معرفة الإنسان لحقيقة «الجحيم»، الأولى هي أن يعلمها «علم اليقين»، والثانية هي أن يقذف به في سعيرها فيرى من عذابها ما هو «عين اليقين»، نعم، فالفرق بعيد بعيد، بين من عرف الألم وهو منه بمنجاة، وإنما قرأ عنه ما كتبه الكاتبون، وبين من عرف الألم لأنه في كبده أو في عظمه أو عصبه، وكيف أنسى لحظة الحوار القصير الذي دار بيني وبين رجل يحمل قمامة العمارة التي أسكن فيها، فقد صادفني بلمحة منه خلال زجاج النافذة المطلة على السلم الخلفي، حيث تكون أوعية القمامة، فنقر الزجاج بأصبعه وفتحت النافذة الصغيرة لأسأله: ماذا يريد؟ فسألني إن كنت أستطيع الأخذ بيده في مرضه ظانا أنني طبيب، فقلت له إنني «دكتور جامعة» ولست طبيبا، ولكن ما علتك؟ فذكر لي جانبا من مرضه، فأخذني فزع أن تكون تلك هي حالته، ومع ذلك فهو يحمل ذلك المقطف الكبير المليء بما هو مليء به، لينزل به تلك الطوابق كلها على سلم حلزوني ضيق، فقلت له: اذهب يا رجل إلى قصر العيني اليوم قبل الغد، فأجابني بأنه قد فعل، لكن المرض عاوده وليس في وسعه أن يضيع أياما بلا عمل، فأعدت له القول في انفعال من يعلم عن النار شكلها ولكنه لم يحترق بلهيبها: عد إلى المستشفى لأن حالتك قد تسوء فلا يصلح لها علاج، فنظر إلي نظرة معبرة، وتمتم وهو يستدير بالمقطف الكبير على ظهره قائلا: ومن أين يأكل العيال؟
فمعرفة المشكلات من صنفين: معرفة لا تتضمن معاناتها، ومعرفة أخرى هي «عين اليقين» لأنها معرفة من يعاني، وإذا قلت عن مشكلات حياتنا إنها كثيرة، وكلنا يعرفها أو يعرف شيئا منها دون شيء، فقد أردت كذلك أن أبين الفرق بين عارف وعارف، ومن ذا لا يعلم أن في حياتنا مشكلات في الاقتصاد، ومشكلات في زيادة السكان زيادة كالانفجار ومشكلات في الإسكان، وأخرى في مساحة الأرض الصالحة للزراعة، ومشكلات في التعليم، ومشكلات ومشكلات؟ كلنا يعلم، وبعضنا يعاني ما يعلمه، ولكننا جميعا، إذ نبحث عن حلول تلك المشكلات مخلصين، كثيرا ما ننوء تحت العبء الثقيل، فنعجز آسفين، وما أكثر ما وجد كاتب هذه السطور نفسه عاجزا آسفا بين هؤلاء العاجزين الآسفين كلما هم بالنظر في مشكلة التعليم.
إنهم قليلون جدا، ربما لا يزيدون عن أصابع اليدين، أولئك الذين قضوا في التعليم ما قضى هذا الكاتب من سنين، أوشكت في عددها على الستين، فلا غرابة في أن يعلم من أسرارها أكثر مما يعلم آخرون، وفي أن تشتد به الرغبة آنا بعد آن في أن يتناول مشكلة التعليم بالنظر الفاحص: أين مواضع العلة؟ وماذا يكون العلاج؟ وها هو ذا يشرك القراء معه في خواطره، فالمشكلة هي - حقا - مشكلة الجميع، وأول خاطر في هذا السبيل هو أن «التعليم» ليس - فقط - مشكلة من المشكلات كما قد نظن عند الوهلة الأولى، بل هو أم تلك المشكلات الأخرى جميعا؛ لأنه في تخليص التعليم من أوجه نقصه، يكون علاج سائر المشكلات، ومن إصابة التعليم بما أصيب به من نقص، ولدت المشكلات الأخرى: إن لم يكن كلها، فأكثرها بكل اليقين، وكيف؟
فلنتصور معا أننا أمام طريق ذي طرفين، في طرف منهما أقيم الجهاز التعليمي التربوي، بجميع أجزائه وطوابقه من الطفل في دار الحضانة، فصاعدا إلى طالب الدراسة العليا، الذي يعد نفسه لإجازة الدكتوراه في فرع من فروع العلم، وأما الطرف الثاني فقد امتدت فيه ميادين الحياة العملية بشتى صنوفها وأشكالها: فهنالك أرض تزرع وأرض تستزرع، ومصانع تدور آلاتها وتنتج ما تنتجه ومصانع أريد لها أن تعمل لكن أصابها شلل، وهناك سياسة تتقسمها أحزاب من الداخل، ويشد لها حبل في الهواء لتمشي عليه متوازنة الخطى، في تعاملها مع الخارج، وهناك مواصلات وبترول وكهرباء، واقتصاد يواجه شئون المال صادرا وواردا، وهناك تعليم، وإعلام، إلى آخر منوعات النشاط البشري إذا كان لها آخر، لكننا إذ ننظر إلى هذا الطرف من طرفي الطريق نرى أمرين: أولهما أن تلك الميادين المدوية بهدير نشاطها تئن وتشكو من علل أصابتها، فأخذت تنذر بالخطر، وأما الأمر الثاني فهو أن «التعليم» الذي يزاحم غيره في الأنين والشكوى كان هو نفسه الذي رأيناه قائما وحده هناك عند الطرف الأول من طرفي الطريق، الذي افترضنا أننا قد وقفنا أمامه ننظر ونرى، وفي هذه الازدواجية في موقع «التعليم » يكون مربط الفرس ، كما يقولون؛ وذلك أن الجهاز التعليمي وإن يكن أحد الجوانب التي فيها تتألف حياتنا العملية، بحسناتها وسيئاتها فهو أيضا وفي الوقت نفسه هو الجهاز الذي نعلق عليه رجاءنا في أن يكون وسيلة الإصلاح فهو مريض بين المرضى، ولكنه دون سائر المرضى هو الطبيب المرتجى.
فمعظم مشكلات الحياة العملية إن لم يكن جميعها، إذا أصابها قصور، لم يكن أمامنا إلا الجهاز التعليمي، نلجأ إليه ونعيد فيه النظر، نلتمس المواضع التي يجب أن تتغير، راجين أن يكون في هذا التغيير ما يسد أوجه القصور التي أصابت جسم الحياة العملية؛ فجهاز التعليم (ومعه جهاز الإعلام) هو مشكلة مع سائر المشكلات، ولكنه كذلك هو المشكلة الأم، التي تلد سائر المشكلات كما تلد الهرة هريراتها، فتعالوا - إذن - نتعقب معا ذلك الطريق الواصل بين مشكلاتنا في الحياة الواقعية كما نعيشها ونكابدها، وبين جهاز «التعليم» لنرى ما الذي ينبغي له أن يتغير وبأسرع الخطى من جهازنا التعليمي مما عساه أن ينعكس على جسم الحياة العملية، بما أصابه من علل فتسد الثقوب ويعتدل المعوج ويقوى الضعيف، ويبرأ العليل من أسباب علته.
ومشكلات حياتنا العملية - كما أسلفناه - معروفة لكل ذي بصر يرى وأذن تسمع، فاقتصادنا وإن يكن شهد له بسلامة هيكله، إلا أنه بغير شك يصارع موجا من فوقه موج من فوقه سحاب، ويكفينا دليلا على خلل البناء الاقتصادي أن أصبح أصحاب الملايين يعدون بعشرات الألوف (كما أقرأ وأسمع)، وإلى جانبهم مكافحون يأخذهم القلق كلما وضعوا مع قدوم الليل رءوسهم على الوسائد خشية أن يجيء صباح ليس فيه إفطار، واختل الميزان حتى أصبحت الشغالة تتقاضى أجرها الشهري مساويا لرواتب ثلاثة أطباء تخرجوا، وكان رجاؤهم هو أن يجدوا طريق الحياة ممدودا أمامهم، وأصبحنا لا نقرأ صحيفة الصباح إلا وعلى صفحاتها شيء من جرائم المخدرات وشيء من طغيان الإرهاب، وهنالك مشكلة التفجر السكاني الرهيب، وهجرة الأيدي العاملة وارتحال العقول القادرة إلخ إلخ، وإذا أمعنت النظر في كل هذه المشكلات، وجدتها منطوية على عاملين ضفر أحدهما في الآخر: أحدهما هو الجانب المهني أو الحرفي، والثاني هو «الإنسان» نفسه من حيث هو إنسان، وفي كل عامل من هذين العاملين أوجه قصوره؛ فقد يكون الطبيب - مثلا - قليل الخبرة أو منقوص الأجهزة الحديثة، لكنه كذلك قد يكون في جانبه الإنساني البحت على غير ما يرجوه منه مواطنوه.
وأمام هذا التركيب الثنائي لكل مشكلة على حدة، وأعني الجانب العملي منها والجانب الإنساني المتمثل في شخص القائم بالعمل، أقول إننا إذا قفلنا معا راجعين من مشكلات حياتنا إلى جهاز التعليم لنصلحه، رجاء أن ينصلح بإصلاحه ما قد فسد من جوانب حياتنا، وجدنا أكثرنا يتجه مباشرة إلى «مقررات» التعليم، ظانا أنها هي موطن الداء، وأما «الإنسان» من حيث هو إنسان، فقلما نلتفت إليه ونحن في سبيلنا إلى إصلاح التعليم, وربما كان ذلك لأن معالجة القصور في تكوين الإنسان أصعب جدا على المصلح، من أن يغير جزءا من مقرر التاريخ، ويحذف جزءا من مقرر الكيمياء، وهو كذلك أصعب جدا من إعادة توزيع السنوات الدراسية، فنجعل هذه المرحلة المعينة سنة واحدة بدل سنتين، وندمج تلك المرحلة في سابقتها، ليكون هناك مرحلة واحدة بعد مرحلتين وهكذا.
وأود أن أؤكد أمرا خاصا بالجانب المهني والحرفي في القائمين على شئون حياتنا العملية، قبل أن تطغى سيئاتنا على حسناتنا فتمحوها، فأقول: إنه برغم ما قد يكون في قدرات العاملين من قصور، فهؤلاء العاملون هم هم أولئك الذين أقاموا لنا كل هذا العمران الذي ننعم به، وينعم به معنا كل ركن من أركان الوطن العربي، فحيثما وجهت النظر وجدت أطباءنا ومهندسينا ورجال القانون، والمدرسين، وحينما وجهت النظر وجدت على أيدي هؤلاء الذين أخرجتهم جامعاتنا ومعاهدنا تنشأ صناعة وتزدهر زراعة، ويبرع فكر وفن وأدب، وإنك لتستطيع القول بأن من يشكو هذا النقص أو ذاك في حياتنا العملية، فلقد تعلم كيف يحس النقص فيشكو، وهي مرحلة يرتقي بها الإنسان بعد مرحلة تسبقها، تنعدم في المواطن العادي خلالها القدرة على الشعور بأن شيئا ما ينقصه، ويستحق أن يكون موضعا للشكوى، بل للثورة عليه إذا لم تفلح الشكوى.
وبعد هذا التأكيد على قدرات من أخرجهم الجهاز التعليمي خلال قرن كامل أو ما يزيد، نعود لنسير معا من مشكلاتنا الحية، متجهين إلى أجهزة التعليم لنرى أين يجب فيها الإصلاح وكيف؟ وهنا أقول: إذا أرجأنا الحديث مؤقتا عن الجانب «الإنساني» وتقويمه، وهو الجانب الذي أزعم أنه المسئول الأول عما نحن فيه، على نحو ما سأبين بعد حين أقول: إذا أرجأنا هذا الجانب الإنساني مؤقتا لنحصر انتباهنا في الجوانب «العملية» - مهنية، وحرفية، وإبداعية - وجدنا أن علة العلل ليس مكمنها أن تضاف مادة دراسية معينة أو تحذف، وإنما مكمنها الذي يتستر في خفاء حتى لا تراه أعين المصلحين، هو أننا منذ نهضنا بالتعليم في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، وحتى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات، قد عمدنا إلى سلخ المادة العلمية من منهاجها العقلي، فيتخرج المتخرج من جامعته أو من معهده، وهو على دراية لا بأس فيها بمادته العلمية التي ستكون مجالا لعمله، ولكنه يكون على قليل جدا من «النظرة العلمية»، إذا هو فارق مجال عمله الذي تخصص فيه: ومن هنا جاز أن نجد ألوفا وعشرات الألوف ومئاتها من المتعلمين، مهروا في ميادين تخصصاتهم، حتى إذا ما خرجوا عن حدود تلك الميادين ليعيشوا مواطنين كسائر المواطنين، لم تجد فيهم من منهج الرؤية العقلية، ما يحميه من قول «الخرافة» في شتى صورها؛ فليس في تكوينهم العقلي ما يمنعهم من رد الظواهر إلى غير أسبابها، كما هي الحال مع أي مواطن آخر، لم يكن له حظ التعليم بأية درجة من درجاته، ولقد كانت هذه الكارثة لتهون، لو أنها اقتصرت على تفكير «خرافي» في حياة الإنسان الخاصة، لكن الكارثة تمتد لتشمل ميادين التخصص العلمي والمهني ذاتها؛ وذلك بأن يقف المتعلم في حدود المادة العلمية التي «حفظها» أيام الدراسة (وأشدد على كلمة «حفظها»)، حتى لو فتح الله على أحد منهم فتابع الدرس، وتابع القراءة والتحصيل، فيما يستحدث من علوم وتقنيات خاصة بميدان تخصصه، فهو ما يزال «يحفظ» ما كتبه سواه على إثر كشف علمي جديد تحقق على يديه، فموضع الداء في جهازنا التعليمي، الذي يترتب عليه كثير جدا مما نعانيه من قصور وعجز وضعف، هو انعدام القدرة الابتكارية، أو ما يقرب من الانعدام، كل فيما هو مختص فيه.
ولست أشك لحظة واحدة في أن أقوى العوامل التي انتهت بنا إلى هذا الموقف «العلمي
ناپیژندل شوی مخ