ترى أتكون هذه الظاهرة متمثلة في أفراد الناس جميعا، على تفاوت في الدرجة بينهم، أم هي مميزة لبعض دون بعض؟ لست أدري جواب ذلك على وجه اليقين، ولكنني قد عهدت نفسي منذ طفولتي، أن أجد همومي منعكسة في الأشياء التي حولي فأنظر إلى تلك الأشياء، وكأنني أقرأ فيها كلمات تنطق بما قد أثقل صدري من هموم، وأحسبني ما زلت على هذه الحال إلى يومي هذا. وماذا كانت هموم ذلك الطفل، ولقد كان على ميسرة نسبية من العيش؟ ربما كانت أفدح همومه - فيما أذكر - أن يشار له إلى نقص فيه على سبيل الجد أو على سبيل المزاح، فكثيرا ما كانت تسقط من أفواه الناس، بالتلميح أو بالتصريح، أقوال هازئة بضروب من العجز يرونها في مداركه - مدارك الحواس آنا، ومدارك العقل آنا - فتحز تلك الأقوال الساخرة في نفسي وأظل أجترها لعدة أيام بعد ذلك، فإذا وجهت بصري - خلال تلك الأيام - إلى شروخ في طلاء الجدران، أخذت تلك الشروخ تتشكل أمامي صورا تتلاحق، كل صورة منها تمثل لي ضربا من ضروب العدوان: فها هو ذا سبع قد غرس مخالبه في فريسته، وتذهب هذه الصورة لأرى رجلا ضخما شائه الوجه، وأمامه طفل دسر وجهه بين ذراعيه، وهكذا، وأما إذا كان الذي تلقاه الطفل ممن حوله، علامات تشير إلى الرضا، فلقد كانت تلك الشروخ ذاتها في طلاء الجدران، تبدو له وكأنها جماعات الطير تمرح وثوبا في الهواء، أو نقرا في الأرض، وكذلك كان السحاب من أغنى المصادر التي تمد الطفل بما يشتهي من صور، فلقد كان يقرأ كل ما أراد قراءته، في قطع السحاب تتصل وتنفصل في أشكال لا تنتهي.
وبالطبع قد اختلفت أنواع الهموم مع اختلاف مراحل العمر، إلا أنه قد بقيت عندي بقية من الطريقة التي كنت ألجأ إليها - دون أن أدبر الأمر في ذلك تدبيرا مقصودا - وهي أن أقرأ تلك الهموم فيما أجدها متمثلة فيه، من الأشياء التي أصادفها حيثما أقمت وأينما سرت، وأقرب الأمثلة التي أسوقها، ذلك المثل الذي وقع لي منذ وقت ليس ببعيد، وهو أن سؤالا كان يلح على فكري إلحاحا لم يكن لي قبل برده، وهو سؤال من أسئلة كثيرة تعاودني في هذه المرحلة الأخيرة من حياتي، وكلها يدور حول البحث عن علة الكبوة الحضارية التي كبوناها، وعن الطريقة التي يمكن بها أن ننقذ أنفسنا مما نحن فيه، وكان السؤال الذي أشرت إليه هو: إننا قد نجد عند جماعة المثقفين منا، أفكارا كانت لتكفل كل ما نريده لأنفسنا من نهوض، فما الذي شل تلك الأفكار حتى تجمدت على أقلام أصحابها، ولم تجد طريقها إلى الجريان في دنيا السلوك والعمل؟
ورسخ السؤال في رأسي رسوخ الجبل، لا يريد أن ينزاح أو يتحول، حتى أجد له الجواب، كنت أحمله ماشيا، وقاعدا، وواقفا، وراقدا، لماذا لا تتحول أفكارنا الفنية الهادية البصيرة إلى عمل؟ إن في رءوس المثقفين منا أفكارا تتعلق بما هو «الأعلى» و«الأعلم» و«الأقوى» و«الأقوم»، فما الذي يقعدنا ويشدنا إلى أديم الأرض، قانعين بما هو «الأسفل» و«الأجهل» و«الأضعف» و«الأضل سبيلا»؟ وإنه لمما زاد ذلك السؤال إلحاحا على نفسي، هو أنني كلما تلفت حولي، وجدت بشائر الخير، لكنها تأبى أن تجاوز حدود «البشائر» فهنالك في كل ميدان أوجه إليه البصر، من هم على علم بمجالهم، ومن هم على قدرة لو أتيحت لهم الوسائل فأي شيطان - إذن - قام ليحول بين هؤلاء العلماء والقادرين وبين أن يغيروا لنا وجه الحياة؟
وبينما السؤال رابض بكل ثقله الثقيل، مررت في حي قديم من أحياء القاهرة بحداد في دكانه، بجواره غلام جثا على الأرض بركبتيه، وأخذ ينفخ النار للحداد، بمنفاخ ضخم، يعلو بين يدي الغلام ويهبط، والحداد في سرعة لاهثة، يطرق أسياخ الحديد، فوقفت قبالة الدكان، بحيث أرى، دون أن أحدث للحداد وغلامه شيئا من القلق والحرج، على أني لم أطل الوقوف؛ لأنني اكتفيت بأن لمحت نماذج من حديد مشغول، فرغ الحداد من تشكيلها، وأسندها على الجدران، خارج الدكان وداخله.
مضيت في سبيلي، وكان السؤال الملح الثقيل، قد تلقى شعاعا من النور، فوجدته شيئا من الحل، وأول ذلك الحل، هو أن يكون فينا من ينفخ النار، فلقد كانت قطع الحديد الخام المكومة وراء ظهر الحداد، راقدة هناك لا نفع منها إلا أن تكون أثقالا تتعثر عليها أقدام السائرين، لكنها كانت تطوي في جوفها منافع ومنافع، لا ينقصها إلا أن يلهبها الغلام بالنار ينفخها، وعلى الحداد عندئذ أن يخرج من قطع الحديد ما شاء أن يخرج، كما قد أخرج بالفعل كماشات، وسكاكين، وسلاسل، وشكائم، وما لست أدري ماذا مما رأيته مسبوكا ومصفوفا إلى جوانب الجدران.
فتولد عن السؤال القديم سؤال جديد، أيسر حلا من سابقه، وهو: من ذا الذي ينفخ لأفكار رءوسنا، نارا تلهبها، وتذيبها، لتيسر لها أن تتحول من مكانها إلى دنيا المنفعة وتتغير الحياة؟ وبمثل ما كنت أفعل أيام الطفولة الأولى؛ إذ كنت إذا ما ضاق صدري لعسر من أمري، جلست أحوم ببصري في أي مرئي صادفته، فما يلبث الخيال أن يستولد مما يرى أوهاما وأحلاما، تمتلئ بالحياة وكأنها واقع من الواقع، أقول: إني بمثل ما كنت أفعل في أيام الطفولة وخيالها، رأيتني أفعل اليوم، فها أنا ذا لم أزل على مقربة قريبة من دكان الحداد، ولم يزل رأسي مثقلا بسؤاله: ما الذي يحول بيننا وبين النقلة من أفكار خامدة في ذاكرتنا، وكأنها جثث محنطة، إلى دنيا العمل وفي أيدينا تلك الأفكار نفسها، بعد أن نكون قد نفخنا فيها روح الحياة؟ ما الذي يحول بيننا وبين أن نصنع بأفكارنا التي تجمدت في رءوسنا، مثل هذا الذي يصنعه الحداد في قطع الحديد الخام؟
أسندت ظهري إلى الجدار، وحللت عن الخيال الطفلي القديم قيوده، فما هو إلا أن بسط جناحيه ومعي الغلام وقد أمسك بالمنفاخ ليلهب النار، ووراء ظهري كومة من أفكار يبست حتى لتحسها قطعا من الحديد والحجر؟ فناديت الغلام: هات يا غلام أول ما يصادفك من كومة الأفكار اليابسة، وضعها في الموقد وانفخ النار: فكانت الفكرة الأولى التي عاد بها الصبي، هي ما نطلق عليه اسم «الهوية»، وانفرجت لها أسارير وجهي، فهي من تلك النفائس النفيسة، الغنية بمضمونها، وإني لأسمعها تدور اليوم على ألسنتنا وعلى أقلامنا، دورانا لم يترك فردا واحدا منا إلا وقد سمعها أو قرأها، فظن أنه قد عرفها، ولو أنه عرفها حقا لانحلت له مشكلات كثيرة من أضخم مشكلاتنا حجما وأشدها خطرا؟ وحسبك أن تعلم بأن مشكلة «الانتماء» الوطني، والقومي، إنما هي فرع من فروعها: وإن مشكلة «التراث» وما يجب علينا إزاءه، إنما هي الأخرى فرع آخر، لكننا نقول اسم «الهوية» ونردده ونكتبه ونقرؤه، دون أن نعلم شيئا واضحا من مسماه.
وصحت بالغلام: انفخ النار يا غلام، ونفخ الغلام بمنفاخه الضخم، حتى اشتعلت النار وارتفعت منها ألسنة اللهب، وتفككت الفكرة اليابسة، وأخذت عناصرها ومكوناتها في الظهور، فالتقطتها بملقاطي، ووضعتها على السندان، وأخذت أدقها بالمطرقة دقا يخرج من جوفها ما كان كامنا، وأول ما تجلى من كيانها هو الجذر الذي نبت منه اسمها، فمن أين جاءت كلمة «هوية» وكيف ينبغي لنا أن ننطق به؟ وإذا بالحقيقة هينة لا تعقيد فيها، فهي - بكل بساطة - مأخوذة من كلمة «هو»، فنحن إذا ما قابلنا فردا معينا من الناس، ثم غاب عنا فترة، وظهر أمامنا مرة أخرى، عرفناه، وعرفنا أنه «هو » هو نفسه الذي كنا رأيناه؛ وذلك لأننا طابقنا الصورة التي احتفظنا بها في الذاكرة، على الصورة التي نراها الآن ماثلة أمام أعيننا، فعرفنا أن الشخص الأول «هو» هو بذاته الشخص الثاني، وسرعان ما ابتدعنا لأنفسنا اسما لنضيفه إلى محصولنا اللغوي، فقلنا إن «الهوية» واحدة بين الصورتين. ما دام الأمر كذلك، فلم تعد بنا حاجة إلى القول، بأن النطق الصحيح لهذا الاسم، يكون بضم الهاء.
لكن مهلا مهلا يا صاحبي، فلا تسرع بالظن لتقول إن هوية الفرد المعين مرهونة بصورته الظاهرة المرئية بالعين: لا، بل اصبر حتى نرى حقيقة الأمر الكامنة وراء الظاهر.
وناديت بالغلام بعد أن نفخ النار، حتى ينصهر من الأمر ما لم يكن قد انصهر، ومرة أخرى نقلت هذا العنصر الواحد من عناصر المعنى، لأضعه على السندان ولأعيد طرقه بالمطرقة، حتى أسفرت الحقيقة عن وجهها: بالتطابق بين مرئيات العين، هو أقل الجوانب أهمية، أو قل إنه إذا كان أمر «الهوية» في فرد معين من الناس، مرهونا بصورته المرئية بالعين، لما استشكل علينا من حقيقتها شيء، لكن ثبات الهوية الواحدة لفرد من الناس مؤسس على صفات وخصائص مما قد لا تراه الأبصار، ولا ينكشف إلا للعقل بعد إمعان النظر؟ إن الوليد ساعة ولادته، يظل «هو» هو، طفلا، وشابا، ورجلا، مع الفوارق البعيدة والعميقة، بينه وليدا ثم رجلا، فحتى من الناحية العضوية الخالصة، يقال لنا إن كل الخلايا التي تكون منها جسم الوليد، تتبدل ليحل محلها خلايا أخرى (إلا خلايا الجهاز العصبي فيما أتذكر)، فلماذا نظل نؤكد أن هذا «الرجل» هو ذلك «الوليد» برغم التغيرات الجذرية، جسما وعقلا، التي طرأت؟ على أي أساس نؤكد أن ثمة «استمرارية» لهوية واحدة، وليكن من أمر التحولات الظاهرة ما يكون؟ ليس أمر الهوية الواحدة - إذن - موكولا إلى تطابق الصورة المرئية مع سلسلة الصور المرئية التي نراها في الفرد الواحد، كلما اختلفت مراحل عمره، أو ظروف حياته، صحة ومرضا، فرحا وحزنا، صحوا ونوما ... بل إن أمر الهوية الواحدة موكول إلى ما هو أعمق من ظواهر الأشكال كما تبدو للأعين.
ناپیژندل شوی مخ