منذ أن بدأ جديا مجال الأديان المقارنة بعد الحرب العالمية الثانية، مثلت البوذية لغزا للدارسين الذين حاولوا تقديم تعريف مقبول لهذا الموضوع. وكان من أنجح أساليب التعامل مع هذه المشكلة ذلك الأسلوب الذي تبناه نينيان سمارت الذي حلل ظاهرة الدين إلى سبعة أبعاد رئيسية بدلا من تقديم تعريف للموضوع؛ وبذلك يمكن القول بأن الأديان لديها بعد عملي وطقسي، وبعد تجريبي وعاطفي، وبعد سردي أو أسطوري، وبعد عقائدي وفلسفي، وبعد أخلاقي وتشريعي، وبعد اجتماعي ومؤسسي، وبعد مادي. وما يلفت النظر في هذا الأسلوب هو أنه لا يختصر الدين في أي من هذه المبادئ أو المعتقدات، أو يزعم أن كل المؤمنين بالأديان لديهم قاسم مشترك؛ فالبيانات المأخوذة من مختلف الثقافات والفترات التاريخية توضح أنه في العموم لا يوجد بينها قاسم مشترك. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أنه توجد مجموعة من الأشياء التي تشكل مجتمعة الظاهرة التي نسميها «الدين»؛ فما وضع البوذية فيما يتعلق بتلك الأبعاد السبعة؟ إن تحليل البوذية من خلال كل بعد من هذه الأبعاد تباعا سوف يميزنا عن الرجال العميان؛ إذ سنتمكن من استكشاف سبعة أجزاء من الفيل بدلا من جزء واحد فقط.
البعد العملي والطقسي
البعد العملي والطقسي أقل وضوحا في البوذية منه في الأديان التي تربطها علاقة قوية بالأسرار المقدسة مثل اليهودية أو المسيحية الأرثوذكسية. وليس للرهبان البوذيين دور كهنوتي - فهم ليسوا وسطاء بين الرب والبشر - كما أن ترسيمهم رهبانا لا يمنحهم أي قوى خارقة ولا أي سلطة. ورغم ذلك، تشتمل البوذية على طقوس ومراسم ذات طبيعة عامة وخاصة أيضا، وكثير من تلك الطقوس يتعلق بحياة الرهبان؛ فطقوس الانضمام إلى الرهبان تتم عندما يصبح الشخص راهبا (فيحلق رأسه على سبيل المثال)، وتوجد طقوس دورية مثل التدريب الجماعي على قواعد الرهبنة (الباتيموكا) في أيام البدر والهلال في كل شهر. ومن الطقوس السنوية المهمة مهرجان «كاتينا» الذي يقدم العامة فيه مواد جديدة لصنع الحبال بعد أن ينتهي الرهبان من اعتكافهم خلال موسم المطر. يعد المعبد المحلي جزءا من مجتمع حي، ويلعب الرهبان دورا في الرفاهة الاجتماعية، واقتصاد المجتمع المحلي وسياسته. وعلى الرغم من أن العقيدة البوذية تمقت الطقوس الأخرى المتعلقة بدورة الحياة، فإن هذه الطقوس من الناحية العملية أصبحت مقبولة؛ وبذلك فإن طقوس الحماية والتعبد في المعابد أو في الأماكن المقدسة أصبحت جزءا من تقاليد ما قبل الولادة وما بعد الولادة في كل أنحاء العالم البوذي. وبالمثل فإن البركات البوذية أو وجود الرهبان البوذيين قد يضفي طابعا بوذيا على الطقوس التقليدية والحديثة لدورة الحياة، بداية من تعلم قراءة الأبجدية حتى التخرج في التعليم الثانوي أو الجامعة. وفي تايلاند، يعد الترسيم كراهب من طقوس البلوغ لدى الذكور، وعادة تسبق بركات دير الرهبان حفلات الزفاف. وفي كل مكان آخر، ولا سيما في العصور الحديثة، أصبح الرهبان والرموز البوذية يلعبون دورا أكبر في مراسم الزواج. وقد يصبح أيضا التقاعد من الحياة الصاخبة بؤرة اهتمام الطقوس البوذية إذا تزامن ذلك، كما يحدث عادة، مع الترسيم كراهب أو تبني الوصايا الثماني أو الوصايا العشر.
دين بغير رب؟
بعض الدارسين نفوا أن تكون البوذية دينا؛ لأن البوذيين لا يؤمنون بوجود كائن أعلى أو روح شخصية. لكن هل هذا حكم قائم على تعريف ضيق الأفق لمفهوم «الدين»؟ وفقا لنينان سمارت، فالأديان لديها «الأبعاد السبعة» التالية. وإذا صحت وجهة نظر سمارت، فسيبدو تصنيف البوذية كدين مبررا. (1) البعد العملي والطقسي. (2) البعد التجريبي والعاطفي. (3) البعد السردي والأسطوري. (4) البعد العقائدي والفلسفي. (5) البعد الأخلاقي والتشريعي. (6) البعد الاجتماعي والمؤسسي. (7) البعد المادي.
توجد اختلافات كبيرة بين الطقوس في المذاهب البوذية المختلفة، وقد تضافر عامل تأثير التقاليد المحلية مع طلب العوام من البوذيين (وفيهم هؤلاء الموجودون في الغرب) وأديا إلى ظهور طقوس جديدة (مثل طقس الزواج) لتوازي تلك الموجودة في الأديان الأخرى. ويبدو أن التأثير متبادل بين الطرفين؛ فهناك دلائل على أن طقوسا بوذية معينة، مثل طقس «ميزوكو كويو» الذي يتم في اليابان عقب الإجهاض، أصبحت جزءا من بعض الطقوس الغربية.
البعد التجريبي والعاطفي
البعد التجريبي والعاطفي للبوذية - البوذية بوصفها تجربة حياتية - هو أمر بالغ الأهمية. إن تجربة بوذا الشخصية في التنوير هي أساس المنهج البوذي بالكامل. وفي أغلب الأحيان يستحضر تجربته الخاصة ليستشهد بها على معتقداته، ويقول إن التعاليم غير المدعومة بتجربة شخصية هي تعاليم قليلة القيمة. ويشتمل تنوير بوذا على بعد عاطفي أيضا يتخذ صورة الشفقة الشديدة على الآخرين، وهذا هو ما حفزه على نشر تعاليمه المسماة دارما. ونظرا لشفقته على البشر بسبب معاناتهم، فقد قضى بوذا جزءا كبيرا من حياته في نشر تعاليم أدرك أنها كانت «صعبة الاستيعاب وصعبة الفهم وغامضة بحيث لا يدركها إلا الحكماء.» كي يفيد قليلا من البشر «في عيونهم قليل من التراب لكنهم يعيشون في ضياع بسبب عدم الاستماع إلى تعاليم دارما» (كتاب ماهايانا).
يشكل البعد التجريبي أهمية بالغة في البوذية؛ لأن البوذية تعتبر الحياة الدينية في جوهرها مسارا لتحويل الذات؛ فالتمارين الروحانية مثل التأمل تولد حالات وعي متغيرة يمكن أن تعجل من التطور الروحي. وفيما يتعلق بأهمية التأمل، فمن الممكن تشبيهه بالصلاة في المسيحية، على الرغم من أنه عادة ما يكون لكل من الصلاة المسيحية والتأمل البوذي أهداف مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، عندما يتأمل البوذيون فهم لا يطلبون تلبية أمنياتهم من الرب، بل يحاولون الحصول على الحكمة والشفقة.
إن هذا التأكيد على البعد التجريبي الداخلي للممارسة الدينية يربط البوذية بالتقاليد الصوفية للهند القديمة مثل اليوجا. وفي اليوجا تستخدم تمارين كثيرة - مثل السيطرة على الوضعية والتنفس - من أجل كسب السيطرة على الجسم والعقل واستخدام قواهما الكامنة. وسنرى في الفصل التالي أن بوذا جرب بعض هذه الطرق بنفسه. وهذه الأساليب ليست مقتصرة على الهند فحسب، بل موجودة في أجزاء أخرى من العالم. وتوجد شواهد حاليا على عودة الاهتمام بالبعد الصوفي في المسيحية، وهو تطور نابع إلى حد ما من الاهتمام المعاصر بالروحانية الهندية.
ناپیژندل شوی مخ