Bodley’s Allegations, Errors, and Contradictions in 'The Messenger': A Critical Study of Muhammad’s Life
مزاعم وأخطاء وتناقضات وشبهات بودلي في كتابه الرسول، حياة محمد دراسة نقدية
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
ژانرونه
مزاعم وأخطاء وتناقضات وشبهات بودلي في كتابه " الرسول - حياة محمد " دراسة نقدية
إعداد: الأستاذ الدكتور / مهدي رزق الله أحمد أستاذ الدراسات الإسلامية بقسم الثقافة الإسلامية
التعريف ببودلي وكتابه " الرسول - حياة محمد "
هو المستشرق البريطاني R.V.C. BODLLY. التحق بالجيش البريطاني عام ١٩٠٨م، وتدرج في رتبه إلى أن وصل رتبة كولونيل. عمل في وحدة الجيش البريطاني بالعراق، ثم في شرقي الأردن عام ١٩٢٢م، ثم مستشارًا لسلطنة مسقط عام ١٩٢٤م.
كان أول من عبر الربع الخالي، وكشف عن أسراره المجهولة بين عامي ١٩٣٠-١٩٣١م.
عندما ترك الخدمة الحكومية ذهب ليعيش بين عرب الصحراء، لأنه -كما يقول في مقدمة كتابه- كان ضجرًا من التعقيدات التافهة التي جاءت عقب الحرب العالمية الأولى، وبقي مع الأعراب سبع سنين، وسمع عن محمد الرجل الذي وحَّد حفنة من القبائل المتنافرة المتنافسة، وجعلهم دعامة إمبراطورية من أعظم إمبراطوريات العالم قوة، وسمع عنه أنه الرجل ذو القلب الحار الذي حَوَّل الوثنيين وعبدة الأصنام إلى مؤمنين صادقين، يؤمنون بإله واحد وباليقين وبالموت والبعث في الحياة الأخرى. هذا ما قاله في مقدمة كتابه: "الرسول".
لم أقتنع بتحليل بودلي وسبب مجيئه من عاصمة الضباب –لندن- ليعيش سبع سنين مع بدو الصحراء. والراجح عندي -والله أعلم- أنه كان يقوم بمهام استخباراتية استعمارية تنصيرية لمصلحة التاج البريطاني، وهي ظاهرة معروفة في الدوائر الاستشراقية والاستعمارية والتنصيرية.
1 / 1
والمثال الأول على هذه الظاهرة:
جون اسبنسر درمنجهام المستشرق البريطاني الذي أرسلته جمعيتان تنصيريتان بريطانيتان إلى إفريقية لدراسة مجتمعاتها الإسلامية وغيرها في إفريقية. وكان نتيجة عيشه وسط الشعوب الإفريقية كتابة مؤلفاته الكثيرة التي شملت معظم أنحاء إفريقية، أشهرها: الإسلام في غربي إفريقية، تاريخ الإسلام في غربي إفريقية، الإسلام في شمالي إفريقية، الإسلام في السودان، الإسلام في إثيوبيا، الإسلام في شرقي إفريقية، وأثر الإسلام في إفريقية. هذا ما كشفه لنا، أما التقارير السرية المبنية على دراساته المذكورة فذاك سر من أسرار المهنة لا يعطى إلا لمن انتدبه من أجله.
والمثال الثاني:
الرحالة والمستشرق الألماني زيتزن ZEETZEN، الذي انتحل شخصية طبيب مسلم يدعى الحاج موسى، وتظاهر بأداء الحج عام ١٨٠٩م.
والمثال الثالث:
المستشرق السويسري الأصل والبريطاني بالتجنس بوركهارت، الذي اختلف الكتاب في إسلامه: أحقيقي أم ادعاء، تسمى بإبراهيم عبد الله، وأدى مناسك الحج مع المسلمين عام ١٨١٤م.
والمثال الرابع:
الرحالة الإسباني المستشرق دومينغو بديا، الذي اتخذ اسم علي بك العباسي ليزور مكة عام ١٨٠٧م.
والمثال الخامس:
المستشرق الإنجليزي السير ريتشارد برتون (١٨٢١ـ١٨٩٠م)، الذي انتحل شخصية طبيب مسلم - الشيخ عبد الله.
1 / 2
والمثال السادس:
المستشرق الهولندي الشهير سنوك هرجرونيه (١٨٥٧- ١٩٣٦م)، الذي ادعى الإسلام، وتسمى بعبد الغفار عام ١٨٨٤م، ومكث بمكة خمسة شهور، ولكن انكشف أمره قبل أن يشهد الحج مع المسلمين في ذلك العام.
وعندما عاد بودلي من الصحراء، انقطع للدراسة والكتابة بصفة خاصة عن المنطقة التي عاش فيها. ومن مؤلفاته: "الرسول - حياة محمد "، وهو موضوع بحثنا هذا، و" عاصفة في الصحراء"، [Wind in the Sahara]، و" دراما محمد الصحراوية ".
ترجم كتابه "الرسول.." إلى العربية: محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، عام ١٩٤٥م، في ٤٣٩ صفحة مع مقدمتين، وطبعته الإنجليزية في ٣٥٥ صفحة. ويتكون من أربعة وعشرين فصلًا، وخاتمة. ذكر في الخاتمة شيئًا يسيرًا عن سير الخلفاء الراشدين وزوجات النبي ﷺ وسراريه، وشرح بعض الكلمات الواردة في كتابه، مثل كلمة عبد وأبو وال وأمير وحج.. إلخ. وذكر في نهاية كتابه المراجع التي اعتمد عليها، وعددها ثمان وعشرون، ليس فيها من المراجع العربية سوى ثلاث ترجمات لمعاني القرآن الكريم، بأيدي مستشرقين، وعمل فهرسًا للأعلام الوارد ذكرها في كتابه (١) .
_________
(١) من مصادر هذا التعريف: العقيقي، نجيب: المستشرقون (٢/٥٢٩)؛ نخبة من العلماء: الإسلام والمستشرقون؛ محمد سعيد السرحاني: موقف المستشرقين من العبادات في الإسلام من خلال دائرة المعارف الإسلامية - رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة الإمام، كلية الدعوة بالمدينة، قسم الاستشراق، ١٤٢٢هـ/١٤٢٣هـ، ص ٦٢١ـ٦٢٤، نذير أحمد: الرسول في كتابات المستشرقين، ط٢، ص ١٧٥، ١٩٠، بودلي: الرسول، ص ١٠٧، ٣٥٦.
1 / 3
أهداف البحث:
لم يهتم مترجما كتاب بودلي بالتصحيح اللازم لأخطائه وشبهاته، لذا كان لزامًا على أحد أبناء الأمة الإسلامية أن يقوم بالتصحيح اللازم، ودحض شبهاته ومزاعمه، التي تشوه سيرة الرسول ﷺ، وتخدم أهداف وأغراض أعداء الإسلام، ولا سيما أن الكتاب أصبح متداولًا بين الناس باللغتين: الإنجليزية والعربية. ومنه نسخة بالعربية وأخرى بالإنجليزية بمكتبة جامعة الملك سعود.
وقد نَوَّه بالأخطاء الكثيرة في هذا الكتاب مختصون في دراسة الظاهرة الاستشراقية، ومثاله ما جاء في كتاب: " الإسلام والمستشرقون" تأليف نخبة من العلماء، (ص ٢٣٠) .
"ومن نماذج كتب المستشرقين المليئة بالأخطاء والشبهات في سيرة الرسول ﷺ كتاب المستشرق (ز. ف. بودلي)، الذي ترجم إلى العربية دون الاعتناء بإجراء التصحيح اللازم لأخطائه.." وما جاء في كتاب " المستشرقون " لنجيب العقيقي: ".. وقد آمن في مقدمة كتابه "الرسول" بسلامة العقيدة الإسلامية، وضلَّ من بعدُ في تفسير الزكاة والجنة والنار والقضاء والقدر".
ودراسة مثل هذا الكتاب تبصر طلاب الحقيقة من المستشرقين المنصفين بحقائق الإسلام ومناهج المغرضين من المستشرقين في تناول سيرة الرسول ﷺ. وتبصر أبناء الأمة الإسلامية الذين ينخدعون بكتابات المستشرقين ويعتمدون عليها في أبحاثهم عن الإسلام وتاريخه وحضارته.
1 / 4
المقدمة:
لا تخلو مقدمة بحث عن الاستشراق عامة أو عن مستشرق بعينه من ذكر أهداف الاستشراق ووسائله ودوافعه، المنحصرة في الأهداف والدوافع: الدينية والسياسية والاستعمارية والعلمية والتجارية والشخصية.
وتجنبًا للتكرار، فالراجح عندي من خلال سيرة بودلي أن الأهداف السياسية هي التي جاءت به ليعيش مع بدو صحراء الحجاز، ليقدم لبلاده المعلومات الاستخباراتية التي تريدها؛ لرسم سياستها الاستعمارية في هذه المنطقة الاستراتيجية؛ وذلك بدليل أن كتابات بودلي لا تحمل الطابع العلمي في أدنى مستوياته، والذي نلحظه في كتابات المستشرقين الذين استقى منهم معلوماته عن سيرة النبي ﷺ؛ وبقائه تلك المدة الطويلة في البادية - سبع سنوات. لأن من يريد أن يكتب عن سيرة محمد ﷺ لا يحتاج إلى البقاء في مهد الإسلام هذه المدة، بل يحتاج إلى قضاء نحو خمس هذه المدة فقط، وقضاء أربعة الأخماس الباقية في المكتبات، حيث مصادر السيرة النبوية الأصلية.
إن علاقة مثل هذه الشخصيات التي تعد استشراقية بدوائر الاستعمار، من الظواهر البارزة في تاريخ الاستشراق. ولعل الدور الاستعماري لبودلي بالذات هو دراسة حياة الناس الذين يعيشون في هذه المنطقة وطبيعتهم وخصائصهم، وهل بالإمكان استعمارهم؟! ومعرفة الاتجاهات والحركات المناهضة للاستعمار في المناطق المجاورة في آسية وإفريقية.
أما تفكير بودلي في تأليف الكتب التي أشرنا إليها عن هذه المنطقة، فهو كما يبدو مشروع لاحق، فكَّر فيه عندما رجع واستقر في بلاده، واستهوته شخصية محمد ﷺ التي وجد تأثيرها العميق في هذه المنطقة.
1 / 5
لقد اتبعت المنهج التحليلي في دراسة كتابه المذكور، إذ أوردت آراءه، ثم نقدتها في ضوء مصادر السيرة الأصلية. وإلى القارئ أبرز مزاعمه وأخطائه وتناقضاته وشبهه:
أبرز مزاعمه وأخطائه وتناقضاته وشبهه التشكيك في الوحي ... ١- التشكيك في الوحي: يزعم بودلي (١) أن محمدا ﷺ كان يعرف القراءة والكتابة، ثم يبني على هذا الزعم أن القرآن من تأليف محمد ﷺ. جاء هذا في معرض كلامه على عمه أبي لهب وزوجته أم جميل، إذ يقول عن النبي ﷺ: "ولم يكن في استطاعته أكثر مما احتمل، ففارقه طبعه الكريم، فلعن عمه وزوجته في صوت عال واضح النبرات، وأضاف إلى اللعن أن أم جميل ستحمل حطب الجحيم. وقد وصف الجحيم وصفًا مروعًا، وقد عنى كل ما قاله، وجاءت هذه اللعنة فيما بعد في سورة (١٠١) من القرآن: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [سورة المسد:١] . ولما كان العرب بطبعهم قومًا يتطيرون، ولما كانت لعنة محمد في غاية من الحبكة والبلاغة، فقد انسحب أبو لهب وأم جميل من مجلسه، فانسحب القرشيون في أثرهم.. " (٢) . وجاء ذلك في معرض كلامه عن عطف زوجته خديجة عليه في مراحل الوحي الأولى، فيقول: ".. وإن هذا العطف قد دفع محمدًا فيما بعد أن يكتب هذه الآيات كجزءٍ من القرآن: ﴿وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا _________ (١) الرسول، ص ٥٣. (٢) المرجع نفسه، ص ٦٢.
أبرز مزاعمه وأخطائه وتناقضاته وشبهه التشكيك في الوحي ... ١- التشكيك في الوحي: يزعم بودلي (١) أن محمدا ﷺ كان يعرف القراءة والكتابة، ثم يبني على هذا الزعم أن القرآن من تأليف محمد ﷺ. جاء هذا في معرض كلامه على عمه أبي لهب وزوجته أم جميل، إذ يقول عن النبي ﷺ: "ولم يكن في استطاعته أكثر مما احتمل، ففارقه طبعه الكريم، فلعن عمه وزوجته في صوت عال واضح النبرات، وأضاف إلى اللعن أن أم جميل ستحمل حطب الجحيم. وقد وصف الجحيم وصفًا مروعًا، وقد عنى كل ما قاله، وجاءت هذه اللعنة فيما بعد في سورة (١٠١) من القرآن: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [سورة المسد:١] . ولما كان العرب بطبعهم قومًا يتطيرون، ولما كانت لعنة محمد في غاية من الحبكة والبلاغة، فقد انسحب أبو لهب وأم جميل من مجلسه، فانسحب القرشيون في أثرهم.. " (٢) . وجاء ذلك في معرض كلامه عن عطف زوجته خديجة عليه في مراحل الوحي الأولى، فيقول: ".. وإن هذا العطف قد دفع محمدًا فيما بعد أن يكتب هذه الآيات كجزءٍ من القرآن: ﴿وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا _________ (١) الرسول، ص ٥٣. (٢) المرجع نفسه، ص ٦٢.
1 / 6
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى َلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [سورة الضحى: ١ـ١١] (١) .
وجاء في معرض كلامه على القرآن: "ولكَمْ حاسب نفسه لكي لا يكون في رسالته أثر لإنسان، فكان يفضل أن تكون الآيات التي يأتي فيها ذكر الله مبتدئة بـ ﴿قُلْ﴾ (٢) .
ويقول: ".. وقد كتب محمد في السورة الثانية، ثم في السورة الخامسة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة المائدة: ٦٩] " (٣) .
ويقول أثناء كلامه عما دار من لغط حول أحداث نتائج سرية عبد الله بن جحش - سرية نخلة -: ".. فلما هدأت الضجة الأولى، لجأ إلى شيء كان يفعله كلما وجد حرجًا، وهو أنه يوحى إليه، وأن هذا الوحي يحمل إليه رأي الله في الأمر الذي يقلق رسوله، قال: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ الآية" [البقرة: ٢١٧] (٤) .
_________
(١) المرجع نفسه، ص ٥٧.
(٢) المرجع نفسه، ص ٥٦.
(٣) المرجع نفسه، ص ٢٨٣.
(٤) المرجع نفسه، ص ١٣٧.
1 / 7
ويقول في تحليلاته لحديث الإفك: ".. وعرف محمد أنه الوحيد الذي يلام، فإن الفضيحة ستستمر ما دام مترددا، فمن واجبه أن يحكم ببراءة عائشة أو إدانتها، فقام بعمل حاسم كما هي عادته في المعارك.." (١) .
ويصور عقوبة الإفك بأنها تشريع من محمد، فيقول: "فلما انتهى أمر تنفيذ العقوبة التي شرعها الآن في حسان وحمنة ومسطح، وكان مسطح صديقًا لأبي بكر (٢)، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة" (٣) .
وقال عن مسألة حرمة الزواج من الوثنيات وجوازه من الكتابيات: "وأكد ذلك محمد في القرآن بقوله: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ " [المائدة: ٥] (٤) .
ويقول في معرض كلامه على جمع القرآن: ".. فلما جمع زيد كل كلمة كتبها محمد.." (٥)، و: "لقد عمل زيد بإخلاص لا يمكن تصوره حتى إنه لما انتهى من نشر القرآن، كان الكتاب من عمل مؤلفه خالصًا، ومؤلفه فقط" (٦) . ويعني بمؤلفه هنا الرسول محمد ﷺ.
_________
(١) المرجع نفسه، ص ١٩٩.
(٢) لم يكن صديقًا لأبي بكر فحسب بل ابن بنت خالته.
(٣) المرجع السابق، الرسول، ص ٢٠٠.
(٤) المرجع نفسه، ص ٢٠٤.
(٥) المرجع نفسه، ص ٢١٠.
(٦) المرجع والمكان نفساهما.
1 / 8
لولا كثرة ترديده مزاعم نسبة تأليف القرآن إلى الرسول ﷺ لقلنا إنه ربما يعني في هذه العبارة أن المؤلف المعني هنا هو الله ﷾.
وقال عند كلامه على غزوة تبوك: ".. وكان يعلق على أقوال هؤلاء الذين جاؤوا إليه يعتذرون في سخرية جارحة. قال للذين اعتذروا بحرارة شمس جزيرة العرب في الصيف: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾ [التوبة: ٨١] " (١) .
ويقول أثناء مزاعمه حول الإسراء والمعراج: "..وإن كل ما جاء فعلًا عن هذه الرحلة الإلهية على لسان محمد، هو ما ذكر في سورة الإسراء.." (٢) .
ويقول عند تعرضه وتحليله لأحداث غزوة حنين: ".. فكتب في السورة التاسعة عشرة.." (٣) .
ويقول في فصله الذي عقده عن القرآن: "وقد كتب محمد القرآن بمفرده، وقد استغرق ذلك منه ما يقرب من عشرين سنة.." (٤) .ويقول: "..وضع محمد قوانين محكمة للطلاق..وقد ختم ضرورة معاملة المطلقة معاملة عادلة: ففي السورة الثانية من القرآن نجد: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٢٩] " (٥) .
_________
(١) المرجع نفسه، ص ٢٧٧.
(٢) المرجع نفسه، ص ٣٠٥.
(٣) المرجع نفسه، ص ٢٧٣.
(٤) المرجع نفسه، ص ٢١٩.
(٥) المرجع نفسه، ص ٢٠٤.
1 / 9
ويقول في أثناء كلامه على محمد ﷺ في قومه: ".. وقلما فكرت فيه كمؤلف للقرآن.." (١) .
ومن أقواله الدالة كذلك على تشكيكه في الوحي، قوله عن القرآن الكريم عند تقديمه لكتابه هذا: ".. إنه انعكاس هذا الفكر الثاقب.." (٢) .
وحقيقة الوحي عنده مجرد احتمال، إذ يقول في معرض الكلام عن نقاط التشابه بين محمد وعيسى ﵉: "فقد كانا يعتقدان اعتقاد اليقين أن الله يوحي إليهما، ومن المحتمل أن يكون ذلك صحيحًا" (٣) .
ويقول مرة عن موضوعات القرآن الكريم: ".. ربما كانت جميعها وحيًا سماويًا" (٤) . ويقول مرة أخرى عنها: ".. وإنها لتعطي فكرة عن نوع العقل الذي كان يتمتع به محمد، وإنها لتجعل المرء يعجب كيف عرف كل هذا، ومتى فكر في كل هذا، وأين تعلم نظم الشعر المرسل الرنان؟ " (٥) .
وتلاحظ في هذه العبارة أنه يردد زعم كفار قريش بأن القرآن شعر، كما في الآيات ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥] . و: ﴿وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ
_________
(١) المرجع نفسه، ص ٣٠٥.
(٢) المرجع نفسه، ص ٧.
(٣) المرجع نفسه، ص ٥٩.
(٤) المرجع نفسه، ص ٢١٨.
(٥) المرجع نفسه.
1 / 10
مَجْنُونٍ﴾ [الصافات: ٣٦] . و: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠] . وقد رد الله عليهم في هذا بقوله: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾ [الحاقة:٤١] . و: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس: ٦٩] .
إن الزعم بأن محمدا ﷺ كان يعرف القراءة والكتابة، وأنه هو مؤلف القرآن الكريم، مما ردده كثير من المستشرقين. وواضح أن بودلي قد تأثر بأشد أساتذته تعصبًا ضد الإسلام، وهو المنصر المستشرق هنري لامنس، الذي أفردنا له بحثًا عن افتراءاته على السيرة النبوية، وآخر عن افتراءاته على التاريخ الإسلامي.
والغريب في الأمر أن شيخه آرفنج لم يتعرض لمسألة معرفة محمد ﷺ القراءة والكتابة، وأن شيخه درمنجهم أقر بأن أبا طالب حين كفل محمدًا بعد وفاة جده، لم يكن غنيًا، وكذا لم يتح له تعليم الصبي الذي بقي أميًا طوال حياته (١) .
وقبل أن نخوض في الكلام لدحض هذه المزاعم والافتراءات، نقرر حقيقة واضحة هي أن بودلي متناقض في مزاعمه مثل غيره من كثير من المستشرقين المغرضين، فهو يقول –مثلا- عن القرآن الكريم: ".. فبين أيدينا الآن كتاب معاصر، فريد في أصالته وفي سلامته، لم يشك في صحته كما أنزل أي شك جدِّي" (٢) . ويقول: "إن ورقة بن نوفل قد مات قبل أن يبدأ محمد في تدوين
_________
(١) درمنجهم، حياة محمد، ص٤٩.
(٢) الرسول، ص ٦، من التقديم.
1 / 11
ما أوحى به إليه جبريل، وقبل أن يبدأ محمد في تنسيق القرآن بكثير" (١) .
ويقول في ثنايا كلامه عن المنافقين في غزوة تبوك: "فقد نزل الوحي يتبعه الوحي في القرآن" (٢) . ويقول: "ينفرد محمد في تاريخ الديانات بأنه كان يوحى إليه جميع ما كان يفعله.." (٣) .
وعلى الرغم من تناقض بودلي في موقفه من القرآن الكريم، فهو يتهم القرآن بالتناقض حين قال عنه:".. فهو أحيانًا غير فني، ويناقض نفسه.." (٤) .
فهو يردد هنا بلا وعي فرية أسلافه من مشركي مكة، ويهود المدينة. فقد جاء في كتب التفسير المعتمدة أن سبب نزول قول الله ﷾: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة:١٠٦] . و: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل:١٠١]، أن المشركين قالوا: ألا ترون محمدًا، يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولًا يرجع عنه غدًا. ما هذا إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضًا (٥) .
_________
(١) المرجع نفسه، ص ٢١٦.
(٢) المرجع نفسه، ص ٢٨٠.
(٣) المرجع نفسه، ص ٣٠٤.
(٤) المرجع نفسه، ص ٧ من التقديم.
(٥) انظر: الواحدي، أسباب النزول، ط١، الحلبي، ١٩٥٩م، ج٢، ص ١٩ـ١٦١.
1 / 12
لا يخفى على أحد من طلاب العلم أن زعم بودلي وغيره من المستشرقين المغرضين بأن محمدًا لم يكن أميًا، الغرض منه الوصول إلى الطعن في الوحي، أصل العقيدة والشريعة الإسلامية، أو التشكيك فيه، ومن ثم فتح الباب على مصراعيه ليقول من شاء إنه من وضع محمد وليس من الله.
إن أول من أثار هذه الفرية أو الزعم هم كفار مكة، الذين استخدموا شتى الوسائل والأساليب لمحاربة الرسول ﷺ، والتشكيك في رسالته وفي شخصه. وفي القرآن الكريم ردٌّ لكل مزاعمهم. ومما قاله سبحانه بشأن معرفة الرسول ﷺ القراءة والكتابة: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٨- ٤٩] . وتواترت أقوال المفسرين من الصحابة ﵃ والتابعين على أن الله ﷾ قد نفى عن نبيه محمد ﷺ صفة القراءة والكتابة في هذه الآية المحكمة (١) .
ووصف الله ﷾ رسوله ونبيه محمدًا ﷺ بأنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، مثل ما جاء في قوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
_________
(١) انظر هذا في تفسير هذه الآية عند الطبري في تفسيره، وابن كثير في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور، والواحدي في أسباب النزول، وغيرهم.
1 / 13
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الأعراف:١٥٧] . وفي قوله: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٨] . ورويت أحاديث وآثار تدل على أمية الرسول ﷺ.
فمن الأحاديث، قوله ﷺ: "إذا أنتم صليتم عليَّ فقولوا: اللهم صلِّ على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد،.." (١)، وقوله: "أنا محمد النبي الأمي - قالها ثلاثًا - ولا نبي بعدي.." (٢) . ورحب به موسى ﵊ في خبر الإسراء والمعراج، قائلًا له: "مرحبًا بالنبي الأمي" (٣) .
ومن الآثار المروية بهذا الشأن، قول علي ﵁: "والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي ﷺ إليَّ ألاّ يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق" (٤) .
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه روي أثر يدل على نفي أمية الرسول ﷺ، فرح
_________
(١) أحمد: المسند (٤/١١٩) صححه شعيب الأرناؤوط ومن معه في تحقيق المسند برقم ١٧٠٧٢.
(٢) المصدر نفسه، (١١/١٧٩) برقم ٦٦٠٦ ضعفه شعيب الأرناؤوط ومن معه في تحقيق المسند لضعف ابن لهيعة وقوله "لا نبي بعدي" ثابت من رواية البخاري (٤٤١٦) ومسلم) ١٥٨٣، ٢٤٠٤) قلت: أميّة النبي ﷺ ثابتة من غير طريق ابن لهيعة كما في هذا المبحث مما يدل على أن لحديث ابن لهيعة أصلًا.
(٣) المصدر نفسه، (١/٢٥٧) ضعفه محققو الموسوعة الحديثية، لأن في إسناده قابوسًا وهو مختلف فيه، وباقي رجاله رجال الشيخين، وصحح ابن كثير إسناده في التفسير (٥/٢٦) ولجلّه شواهد وصححه الضياء في المختارة برقم ٥٤٤، وورد في معنى هذا أحاديث عن أنس ﵁ وغيره في الدّر المنثور (٥/١٨٥-٢١٣) . وعند ابن حجر في الفتح (٧/٢٠٨-٢٠٩) .
(٤) مسلم، (١/٨٦/ ح١٣١) .
1 / 14
به المستشرقون والمتفيهقون، وهو من رواية ابن أبي شيبة وغيره، ولفظه: "ما مات رسول الله ﷺ حتى كتب وقرأ"، وهو أثر موضوع كما حققه الشيخ الألباني (١) .
واستدل بعض العلماء بعبارات وردت في بعض أحداث السيرة النبوية، فسروها على غير حقيقتها، على أن الرسول ﷺ عرف الكتابة والقراءة في أواخر سني عمره. ولما لم يُثر بودلي هذه المسألة، فقد آثرنا عدم الخوض فيها. ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الكتابات التي ردت عليهم، من ذلك كتاب الأستاذ علي شواخ إسحاق: "ماذا حول أمية الرسول ﷺ" وكتاب الدكتور قحطان عبد الرحمن بن علي: "الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر".
أما الأدلة النقلية والعقلية التي تدحض مزاعم بودلي ومن دار في فلكه المتعلقة ببشرية القرآن الكريم فقد ذكرناها في بحثنا الآخر الموسوم بـ" افتراءات المستشرق هنري لامنس على السيرة النبوية".
_________
(١) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، (١/٥١٨) رقم ٣٤٣، طبعة مكتبة المعارف - الرياض ١٤١٢؟.
٢- الزعم بأن زيد بن حارثة كان نصرانيًا وقبيحًا، تأثر به محمد: يقول بودلي (٢): "وكان زيد بن حارثة نصرانيًا، اختطفه قريب لخديجة في غارة على الشام.. وكان زيد شديد السمرة، قبيح الشكل..". _________ (٢) الرسول - حياة محمد، ص ٥٠، ولفظه ص ٥٩: " فلما رأى زيد في مبادئ محمد نفس السمو الديني الذي في المسيحية، أعلن إيمانه وتصديقه لما جاء به الرجل الذي حرره ".
٢- الزعم بأن زيد بن حارثة كان نصرانيًا وقبيحًا، تأثر به محمد: يقول بودلي (٢): "وكان زيد بن حارثة نصرانيًا، اختطفه قريب لخديجة في غارة على الشام.. وكان زيد شديد السمرة، قبيح الشكل..". _________ (٢) الرسول - حياة محمد، ص ٥٠، ولفظه ص ٥٩: " فلما رأى زيد في مبادئ محمد نفس السمو الديني الذي في المسيحية، أعلن إيمانه وتصديقه لما جاء به الرجل الذي حرره ".
1 / 15
في هذا النص عدة مزاعم أو أخطاء تابع فيها بودلي غيره من المستشرقين استنادًا إلى روايات لا تثبت أمام الحقائق التاريخية المقبولة. فهل كان زيد نصرانيًا كما يزعم بودلي؟
لقد تبنى فرضية نصرانية زيد مستشرقون آخرون من قبل ومن بعد بودلي، أشهرهم كايتاني (١)، شيخ المستشرق الفرنسي المشهور هنري لامنس، الذي تبنى فرضية شيخه، ليزعم أن محمدًا تأثر بزيد، أي أخذ عنه مبادئ النصرانية ليضيفها إلى مصادره المكونة لإسلامه (٢)، والراجح عندي أن بودلي أخذ هذه الفرضية عن شيخه لامنس في كتابه: "جمهور مكة التجارية"، لأنه من بين مراجعه التي ذكرها.
ولمزيد من الأدلة على دوران فرضية نصرانية زيد في كتابات المستشرقين، اقرأ مادة زيد بن حارثة في دائرة المعارف الإسلامية - النسخة الإنجليزية القديمة (٣) - بقلم المستشرق ف. قاكا.
وما يمكننا قوله باختصار شديد هو أنه لم تَرِدْ رواية قوية أو ضعيفة في مصادر تاريخنا الإسلامي الموثوقة تشير من قريب أو بعيد إلى أن زيدًا كان نصرانيًا (٤) . ولا يعدو الأمر كونه فرضية استنتجها المستشرقون من الشواهد
_________
(١) حوليات الإسلام (p Annali)، نقلا عن هنري لامنس: النصارى في مكة قبيل الهجرة، بحث منشور في مجلة المشرق البيروتية التنصيرية، السنة ٣٥ (عام ١٩٣٧م)، وهو من أواخر ما كتب، لأنه توفي عام ١٩٣٧م.
(٢) انظر: د. مهدي رزق الله أحمد: افتراءات المستشرق لامنس على السيرة النبوية.
(٣) ج٤/ ص ١١٩٤.
(٤) انظر: جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي (ت ٥٩٧؟): صفة الصفوة، ج١، تحقيق محمود فاخوري، ود. محمد رواس قلعه جي، دار المعرفة، بيروت، ص٣٧٨.
1 / 16
التي تشير إلى وجود نصارى من قبيلة كلب التي ينتمي إليها والد زيد، ومن قبيلة طيئ التي تنتمي إليها والدة زيد (١) .
وهل اختطف زيدًا قريب لخديجة في غارة على الشام؟
المعروف في مصادر التاريخ الإسلامي الموثوقة أن سعدى بنت ثعلبة بن عامر، والدة زيد بن حارثة بن شرحبيل بن عبد العزى بن امرئ القيس، زارت قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية على منازل بني معن، رهط سعدى، فاحتملوا زيدًا وهو يومئذ غلام يافع، فوافوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله ﷺ وهبته له (٢) .
وهكذا تظهر لنا منهجية بودلي في التعامل مع حقائق تاريخنا الإسلامي والجهل أو التزييف واضحة في هذه المسألة، مما يغني عن الإطالة.
وهل كان زيد شديد السمرة قبيح الوجه كما يزعم بودلي؟!
تذكر مصادرنا الحديثية والتاريخية المعتمدة أنه لم يكن كما وصفه بودلي. فقد قال أبو داود (٣): وسمعت أحمد بن صالح يقول: كان أسامة بن زيد أسود شديد السواد مثل القار، وكان زيد والده أبيض من القطن. وفي رواية: كان
_________
(١) انظر في هذا: الأب لويس شيخو اليسوعي: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، القسم الأول في تاريخ النصرانية وقبائلها في عهد الجاهلية، طبع مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين في بيروت، ١٩١٢م، ص ١٣٠ـ١٥١.
(٢) انظر في هذا المصادر الآتية: ابن حجر: الإصابة (١/٥٦٣/رقم ٢٨٩٠)؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى (٤/٤٠)؛ ابن عبد البر: الاستيعاب (١/٥٤٤)، ابن كثير: البداية والنهاية (/٤٤٨/ التركي) .
(٣) السنن، تحقيق محيي الدين عبد الحميد (٢/٢٨٠ /ح٢٢٦٨ /كتاب الطلاق / باب: في القافة) .
1 / 17
أسامة أسود وكان زيد أبيض (١) .
وروى البخاري ومسلم (٢)، من حديث عائشة ﵂، قالت: "إن رسول الله ﷺ دخل عليَّ مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: "ألم تريْ إلى مُجزَّز نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض". وفي رواية: ".. ألم تري أن مجززًا المدلجي دخل عليَّ فرأى أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" (٣) .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة، لأنه كان أسود شديد السواد، وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال مع اختلاف اللون سر النبي ﷺ بذلك لكونه كافًّا لهم عن الطعن فيه لاعتقادهم ذلك.
وقد أخرج عبد الرزاق من طريق ابن سيرين أن أم أسامة، وهي أم أيمن مولاة النبي ﷺ كانت سوداء، فلهذا جاء أسامة أسود. وقد وقع في الصحيح عن ابن شهاب أن أم أيمن كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي ﷺ، ويقال كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطلب، فوهبها
_________
(١) برقم ٢٢٦٧، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (٢/٤٢٨) .
(٢) البخاري مع الفتح (٢٥/١٨٧/رقم ٦٧٧٠/كتاب الفرائض /باب القائف)، ومسلم (٢/١٠٨١) رقم (١٤٥٩) .
(٣) المصدر نفسه (٢٥/١٨٨/رقم ٦٧٧١/ك. الفرائض/ب. القائف) .
1 / 18
لعبد الله، وتزوجت قبل زيد عبيد الحبشي، فولدت له أيمن، فكنيت به.. قال القاضي عياض: لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة، لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود. قلت - أي ابن حجر -: يحتمل أنها كانت صافية، فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك (١) .
قلت: فما دام قد ثبت أن أم أيمن كانت من أصل حبشي، فهذا يعني عدم استبعاد أن يكون سواد بشرة أحد أجدادها من جهة الأم أو الأب مثل سواد الحفيد أسامة. وهذا أمر ملاحظ ومعروف جدًا في إفريقية، وبخاصة في المناطق التي اختلطت فيها أعراق العرب بأعراق الزنوج أو الحاميين الأفارقة، مثلما في السودان. وهذا من بدهيات علم الوراثة أو الجينات. وبذلك لا حجة لمن يستنكر شدة سواد بشرة أسامة.
إن الذي يهمنا من هذا كله أن زيدًا لم يكن شديد السمرة قبيح الوجه كما يزعم بودلي وغيره، بل الذي كان شديد السمرة ابنه أسامة ﵁، لأن أم أسامة ﵁ كانت حبشية. ويبدو أن بودلي اعتمد على أساتذته المستشرقين الذين اعتمدوا على رواية الواقدي عند ابن سعد (٢)، حيث يقول: "وكان زيد رجلًا قصيرًا آدم شديد الأدمة، في أنفه فطس". وربما أخذ هؤلاء رواية الواقدي بطريق غير مباشر، وبخاصة من ابن عبد البر (٣) .
_________
(١) وعن مسألة سواد أسامة وبياض والده وأمه انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء (٢/٤٩٨) و(٢/٥٠٧) ابن عساكر، التهذيب (٢/٤٠١)،.
(٢) الطبقات الكبرى (٣/٤٤) .
(٣) انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب (١/٥٧) .
1 / 19
والواقدي لا يحتج به، فهو "متروك مع سعة علمه" كما يقول ابن حجر في التقريب (١) . ومن العيب المنهجي الواضح الاحتجاج بالروايات الضعيفة جدًا مع وجود الروايات الصحيحة.
ولو افترضنا جدلًا أن زيدًا كان كما وصف بودلي وغيره استنادًا إلى رواية الواقدي، فإن في هذا دليلًا من الأدلة الكثيرة على عظمة الرسول ﷺ الذي أحبه هو وابنه أسامة وهما بهذا الشكل. فقد عرف زيد بأنه حِبُّ رسول الله ﷺ وكذلك ابنه أسامة.
روى البخاري (٢) ومسلم (٣) وغيرهما (٤) أن الرسول ﷺ عندما أمَّر أسامة على الجيش الذي أمر بتجهيزه في مرض وفاته، طعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي ﷺ: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل [يعني عندما أمره على سرية مؤتة]، وأيم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده".
وآخى الرسول ﷺ بينه وبين عمه حمزة، وقدمه في الإمرة على ابن عمه جعفر في سرية مؤتة (٥) .
_________
(١) تقريب التهذيب، ص ٤٩٨.
(٢) البخاري مع الفتح (١٤/٢٣٤/ك. مناقب الصحابة/ب. مناقب زيد بن حارثة/٣٧٣٠)، وانظر أحاديث البخاري الأخرى في هذا المعنى، مثل: ٣٧٣١، ٣٧٣٢، ٣٧٣٤، ٣٧٣٥، ٣٧٣٧.
(٣) صحيحه (٤/١٨٨٤/ك. فضائل الصحابة /ب. فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد ﵄ ٢٤٢٦) .
(٤) انظر في هذا مثلًا: ابن سعد (٣/٢٣ـ٤٤)، من حديث ابن إسحاق، وفيه قول الرسول ﷺ لزيد "يا زيد أنت مولاي، ومني وإلي وأحب القوم إلي".
(٥) انظر: ابن كثير البداية (٦/٤٤٩)، والتفسير (٦/٣٧٧ـ٣٧٩، ٤١٩ـ٤٢٦) .
1 / 20