التمهيد
بنت قسطنطين
1 - حديث القاص1
2 - عهد ونذر
3 - ابنة البطريق
4 - ويك مسلمة
5 - أمهات الملوك!
6 - ولي العهد
7 - راهب البلقاء
8 - بارقة أمل
9 - نداء الدم
10 - قبر على الطريق
11 - لبيك أبا أيوب!
12 - وفاء بذمة ...
13 - نفير الحرب
14 - على شاطئ البرزخ
15 - تميمة رومية!
16 - عرش يهتز ...
17 - دسيسة العرق ...
18 - على حافة الموت
19 - وفاء النذر
خاتمة
التمهيد
بنت قسطنطين
1 - حديث القاص1
2 - عهد ونذر
3 - ابنة البطريق
4 - ويك مسلمة
5 - أمهات الملوك!
6 - ولي العهد
7 - راهب البلقاء
8 - بارقة أمل
9 - نداء الدم
10 - قبر على الطريق
11 - لبيك أبا أيوب!
12 - وفاء بذمة ...
13 - نفير الحرب
14 - على شاطئ البرزخ
15 - تميمة رومية!
16 - عرش يهتز ...
17 - دسيسة العرق ...
18 - على حافة الموت
19 - وفاء النذر
خاتمة
بنت قسطنطين
بنت قسطنطين
تأليف
محمد سعيد العريان
التمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
وقعت حوادث هذه القصة خلال النصف الثاني من القرن الأول بعد الهجرة، والحكم يومئذ لبني أمية، ودمشق عاصمة الدولة العربية العظمى، وجيوش الفتح توغل في الشرق والغرب والشمال والجنوب، والرقعة العربية تنبسط كل يوم أميالا وفراسخ، والإمبراطوريات العريقة تتهاوى إمبراطورية بعد إمبراطورية، والأباطرة المتألهون يخرون للأذقان سجدا؛ إذ لا يستطيعون عن أنفسهم، ولا عمن حولهم دفاعا ولا مقاومة ...
وكانت الخطة العربية يومئذ أن يصير هذا البحر المتوسط بيننا وبين أوروبا - وكان اسمه يومذاك بحر الروم - أن يصير بحر العرب، ليس على شواطئه الفوقانية ولا التحتانية إلا بلاد عربية يرتفع فيها الأذان وتقام الصلوات.
وكان الجيش الزاحف في شمال إفريقية قد فتح مصر، وبرقة وما يليهما من بلاد المغرب حتى بلغ شاطيء المحيط الأطلسي - وهو يومئذ آخر الدنيا من جهة الغرب - فأخذ يتطلع إلى الشمال يريد أن يثب إلى أوروبا من نحو المضيق - مضيق جبل طارق - لينساب من شبه جزيرة أيبريا إلى أرض إفرنسة ورومية.
وكانت جيوش عربية أخرى في المشرق قد طهرت ثغور الشام من بقايا الروم، وأبطلت مقاومتهم، ثم مضت زاحفة، فاخترقت شبه جزيرة الأناضول، وعسكرت تحت أسوار بيزنطة - القسطنطينية - عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، تريد أن تثب إليها فتملكها، في الوقت الذي تثب فيه جيوش المغرب إلى شبه جزيرة أيبريا، ثم يمضي الجيشان مشرقين ومغربين، حتى يلتقيا في الأرض الكبيرة، أرض رومية، عاصمة الدولة الرومانية الغربية، وبذلك تخلص أوروبا للعرب، ويصير بحر الروم بحيرة عربية، فليس ثمة إسبانيا، ولا إفرنسة، ولا الإمبراطورية الرومانية ...
وكانت الخطة ماضية إلى غايتها بلا ريث، فما تزال الأنباء تتوالى على عاصمة العرب، كل مشرق صبح ومغرب شمس، بما أفاء الله عليهم من الفتح والنصر في كل جبهة من جبهات القتال، فملك العرب شبه جزيرة الأندلس، وأزالوا عنها ملك إسبانيا والبرتغال، ووثبوا إلى فرنسا، فاحتلوا من جنوبها بلادا على الشاطيء، وجهروا فيها بالأذان وأقاموا الصلوات ...
وأحرزت جيوش المشرق على الروم نصرا بعد نصر، فاخترقت شبه جزيرة الأناضول، ونفدت منها إلى البحر الأسود، فعسكرت على شواطئه، وصارت القسطنطينية على مرمى السهم ...
وجاءت الأنباء من تركستان والعجم، ومن الهند والصين، ومن بلاد الحبش والزنج، بما فتح الله على العرب من تلك الأصقاع البعيدة الشاسعة المترامية الأطراف.
كل ذلك ولم يمض على العرب منذ هاجروا بدينهم إلى الله، غير بضع عشرات من السنين لا تبلغ تمام القرن.
وكان لهذه الفتوح آثارها في المجتمع العربي بدمشق وغير دمشق من العواصم العربية، فتفتحت عيون العرب على ألوان من الترف وفنون من الحضارة لم يكن لهم بها عهد ...
وكان من آثارها أن كثر الأسارى والسبايا في أيدي المقاتلين العرب، فانتقلوا بهم إلى الحواضر العربية، فمنهم من والى العرب وآمن بدينهم، واندمج في المجتمع العربي، وعاش بين العرب مولى من مواليهم ينتسب إليهم ولا يحسب منهم، ومنهم من انتقل من أيدي المقاتلين إلى سوق الرقيق، يشتريه من يشتري للعمل والمهنة، أو للتكثر بالأتباع ...
وكان من أولئك الأسارى بعض أبناء السادة والقادة والأمراء في بلادهم، وكان لهم ثقافة ومهارات وفنون، فبرزوا في المجتمع العربي بفنونهم ومهاراتهم وثقافتهم، وذاع لهم جاه وصيت، واكتسبوا مالا وحظوة، ولكنهم لم يبلغوا في المجتمع العربي لعهد الدولة الأموية منزلة العربي الأصيل؛ إذ كانت تلك الدولة تؤمن بالعرق والنسب.
وكان بين السبايا من بنات الأمم المغلوبة ذوات ثقافة وفنون ومهارات كذلك، أو ذوات ملاحة ودلال وفتنة ، أو ذوات حسب ونسب ومجد؛ فأغرى كل أولئك - أو بعضه - رجالا من العرب باتخاذ زوجات منهن أو وصائف وحظايا ...
وكثرت الزوجات والحظايا من بنات الفرس والروم والترك والإسبان والصقالبة، وغيرهم في بيوت أمراء العرب، وفي بيوت السوقة كذلك، وولدن لهم بنين وبنات من ذوي النجابة والفطنة والعزم، أو من ذوات الحسن المطعم، وكان أولادهن هؤلاء من قومهم في منزلة وسطى بين منزلة العرب الخلص ومنزلة الموالي؛ إذ كانوا هجناء قد اختلط في أعراقهم دم عربي بدم غير عربي. •••
كذلك كان المجتمع العربي في السنين التي وقعت فيها حوادث هذه القصة، وتلك كانت سماته وملامحه العامة ...
وتبدأ القصة في مسجد «الرقة» - وهي بلد من بلاد الجزيرة على شاطيء الفرات - حيث جلس قاص من قصاص الدولة إلى سارية من سواري المسجد، يتحدث إلى أهل حلقته حديثا يشوقهم به إلى الجهاد، ويرغبهم فيه، ويحبب إليهم أن ينتظموا في صفوف الجيوش الغازية في الشرق أو في الغرب ...
وكان لمثل هذا القاص في عهد الدولة الأموية شأن وأثر، فهي قد ابتدعت هذه الوظيفة، واختارت لها طائفة من العارفين بالسير وأخبار المغازي والفتوح، تأجرهم على ما يقصون من قصص في مساجد الأمصار، بقدر ما يتركون من أثر في سامعيهم؛ ليسارعوا إلى التطوع في الجيوش الغازية، أو يكونوا حزبا للخليفة، فكان أولئك القصاص يقومون في وقتهم ذاك بمثل مهمة صحف الدعاية، ومكاتب الاستعلامات في هذه الأيام ...
ولعل الدولة الأموية بابتداعها لهذه الوظيفة، كانت أسبق الدول إلى الأخذ بهذا المذهب، الذي يهدف إلى توثيق صلة الحكومة بالجماهير، وكسب تأييدهم فيما تحاول من تدبير سياسي في الداخل أو في الخارج، وهو مذهب له اليوم في السياسات العامة شأن كبير، ولعلها - إلى ذلك - كانت أول دولة عرفت أثر القصص في النفوذ إلى نفوس الجماهير، فاستخدمت هؤلاء القصاص؛ لتنفذ بهم إليها، إذ كانت تشعر أنها بإزاء منافسة قوية على العرش، يحمل رايتها بنو هاشم، من آل أبي طالب وآل العباس، الأحباء إلى قلوب الجماهير لقرابتهم القريبة من النبي ...
على أن أحاديث هؤلاء القصاص في حلقاتهم تلك لم تكن قصصا بالمعنى الفني، الذي نفهمه في هذه الأيام من كلمة «قصص»، وإنما هي أخبار وروايات تتداعى لمناسباتها، وتتساوق لإحداث الانفعال والتحميس والسمو بالروح المعنوية للشعب، ولكنها برغم ذلك نوع من القصص على غير قاعدة من قواعد ذلك الفن ... •••
وتمضي القصة من حيث بدأت في حلقة ذلك القاص بمسجد الرقة، حتى تنتهي إلى غاية من غايات كل قصة، تتفاعل فيها نفوس البشر بالعواطف المتناقضة التي تنشئها في نفوس أبطالها ظروف المجتمع الذي يعيشون فيه ...
وقد عرفنا في بعض ما مضى من هذا التمهيد بعض ملامح هذا المجتمع، الذي وقعت فيه حوادث هذه القصة ...
المجتمع الذي ينتظم عربا خالصي النسب، قد جعلهم دستور الحكم طبقة فوق الناس، وموالي ليس لهم في العرب نسب، ولكن لهم على كل عربي حق الولاء، ولهم في نفوسهم ذكريات عميقة لماض بعيد، وهجناء يمتون إلى العرب بنسب، وإلى عدو العرب بنسب، فلهم أسرة هنا وأسرة هنالك، والحرب لم تزل ناشبة بين الأسرتين ... وفي كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث، التي ينتظمها المجتمع رجال ونساء ... رجال من طبقات ثلاث، ونساء من طبقات ثلاث كذلك، وللمجتمع الذي يعيشون فيه دستور، وللعواطف الإنسانية دستور آخر فوق دساتير الناس ...
بهذه العواطف المتناقضة تفاعلت حوادث هذه القصة، ورجلها الأول هو مسلمة بن عبد الملك، أبوه الخليفة عبد الملك بن مروان، ولدته له سبية من سبايا الروم، فلما كبر حمل راية العرب في وجه الروم، وتحت رايته هذه رجال من الطبقات الثلاث، ووراء كل رجل منهم امرأة؛ زوجة أو أم، من إحدى طبقات ثلاث كذلك، وفي قلب كل أم أو زوجة منهن ذكريات قديمة، وعواطف جديدة، وآمال مرتقبة ...
ذلك هو الجو الإنساني لهذه القصة، ولست أريد أن أصفه أكثر مما وصفت؛ لتبقى للقصة قوة التشويق، أما جوها التاريخي فيصف خطا العرب في زحفهم إلى القسطنطينية - عاصمة الروم - في القرن الأول، وهم قد بلغوا في زحفهم ذاك مبلغا، كان خليقا بأن ينتهي بنصر عظيم، ولكنهم تراجعوا والثمرة دانية، فلماذا؟ ... ولكني لا أريد كذلك أن أجيب الآن؛ لتبقى للقصة كذلك قوة التشويق ...
أما بعد، فإن في هذه القصة صورة من كفاح العرب في تاريخ مضى؛ لتبليغ رسالة، وتحقيق سيادة، وإنهم ليكافحون اليوم كفاحا من نوع آخر؛ لتبليغ رسالة، وتحقيق سيادة، ورد عدوان، فما أحراهم في مرحلة كفاحهم الحاضر أن يتدبروا بعض ما مضى من فصول ذلك التاريخ ...
بنت قسطنطين
قصة تاريخية
معركة ... بدأت منذ ألف وثلاثمائة سنة، وما تزال حتى اليوم ناشبة ...
الذرات التي نفضتها رمال الجزيرة العربية على أرض البشر منذ ارتجت بتلك الزلزلة العظمى، لم يزل فيها من قوة الاشتعال بروق وصواعق ...
لهداية البشرية الضالة، زحفت هذه الجحافل من المشرق - منذ التاريخ البعيد - ولم تزل حتى اليوم تناضل ...
الحرب سجال ... ولكن العاقبة لنا!
الفصل الأول
حديث القاص1
فرغ الناس في مسجد الرقة
2
من صلاة العشاء الآخرة، فتنفلوا
3
ما طاب لهم التنفل، ثم دلفوا
4
إلى حيث كان أبو داود الحمصي مستندا إلى سارية من سواري المسجد، يقص القصص، ويرغب في الجهاد، ويروي من أنباء المغازي والفتوح ما يحمس الجبان، ويشد العزم، ويستلب ألباب الشيوخ وقلوب الشباب ...
وكان أبو داود هذا قاصا واسع الرواية، عذب الحديث، لطيف الإشارة، قد تتبع أنباء المغازي والفتوح منذ أول عهد العرب بالفتح، فأتقنها حفظا ورواية، وتمثيلا بالقول والإشارة ونبر الصوت، حتى ليحسب كل من سمعه يقص أنه شهد بعينيه، وشارك بسيفه في كل معركة من معارك الفتح، فلم يتخلف عن واحدة!
وكان رجلا في الأربعين، لم يطعن في السن، ولم تثقل كاهله السنون، قصيرا بطينا معتجر العمامة، قد أرسل لحية تضرب أطرافها على بطنه، فما يراه أحد في منظره ذاك، ويستمع إلى حديثه مسندا إلى الرواة من أبطال الفتح، إلا ظنه شيخا عميق الجذر، بعيد المولد والدار، إلا تكن له صحبة أو هجرة، فإنه لا بد قد عاصر وغزا واستظل في معارك الفتح بلواء الفوج الأول!
وكان عظيم القدر عند أمراء بني أمية في الشام، فهو جليسهم وجارهم ما أقام بدمشق، فإذا بدت له الرحلة إلى أي بلد من بلاد الإسلام، لم تزل صلاتهم وعطاياهم ترد عليه حيث كان، على أن أمير المؤمنين عبد الملك
5
كان أكثرهم عطفا عليه وصلات إليه، وكان يقول له: لسنا نحاول اصطناعك بهذا يا أبا داود، بل أنت اصطنعتنا بخالص ولائك وكريم بلائك؛ لنصرة بني مروان ... •••
وتكاملت الحلقة، وأخذ أبو داود يتنقل بالناس في قصصه من فن إلى فن، ومن واد إلى واد، فهو حينا في البر، وحينا في البحر، وطورا على ظهر البادية، وتارة في ظل حصن من حصون الروم، في المغرب أو في المشرق، وآونة في سهول الجزيرة، وفيافي العراق يصف كيد الخوارج
6
وتطاحن الفرق ... ثم قال:
7
ضل من فتنته دنياه عن دينه، وشغلته أولاه عن آخرته، وأزله الشيطان فأذله، وأطعمه السلطان فأضرعه! ...
8
ألا إن قوما في بعض الأمصار - غفر الله لهم - قد زين لهم الباطل، فشرعوا سيوفهم لحرب أمير المؤمنين، يأبون - بزعمهم - أن تكون هرقلية
9
يتوارثها خلف عن سلف، فهلا شرعوا سيوفهم هذه لحرب هرقل، ودك معاقل الكفر في بلاده، ونشر دين الله في الأرض ...
وصمت أبو داود برهة، ثم رفع عينيه يجول بهما فيمن حوله، وهو يخلل لحيته بأصابعه، ثم استأنف حديثه:
حدثنا نصر بن عوانة - وكان في جيش عقبة بن نافع
10
بالمغرب - قال: لقد رأيت عقبة، وقد بلغ بجيشه شاطيء الأقيانوس الأخضر،
11
فيدفع حصانه إلى البحر، ويقول بحماسة: اللهم رب محمد، لولا أني لا أعلم وراء هذا البحر يابسة، لاقتحمت هذا الهول المائج؛ لأنشر اسمك المجيد في أقصى حدود الدنيا!
رحم الله عقبة، وأين مثل عقبة؟! فإن قسطنطين بن هرقل ما يزال وراء هذه الحدود المتاخمة، يتهدد أصحابنا بالغارة بعد الغارة برا وبحرا، فهلا خرجنا إليه؛ لننشر اسم الله المجيد في أقصى بلاد الروم! ضل من جعل إلهه هواه! ألا إنه لولا ابن هرقل على هذه التخوم لما صارت - بزعمهم - هرقلية.
وتلبث القاص برهة أخرى، ثم استأنف:
لقد كان معاوية،
12
وكان ابنه يزيد،
13
وكان مروان،
14
ثم كان أمير المؤمنين عبد الملك ... كأنما لم تمض تلك السنون، وكأني أرى الساعة، وأسمع تكبير جند الشام يقودهم يزيد بن أمير المؤمنين،
15
وفيهم ابن عباس،
16
وابن عمر،
17
وابن الزبير،
18
وأبو أيوب الأنصاري
19
جار رسول الله، ومضيفه في دار هجرته، قد ركبوا في عشرات الآلاف من الجند، تقلهم سبعمائة وألف سفينة، قد صنعها معاوية بعينيه من أرز هذه الغابات الكثيفة في جبال لبنان،
20
ثم أرسلها في البحر لحرب الروم، تغزو بلادهم، وتدك حصونهم، وتملك جزائرهم في البحر، وتأخذ عليهم طريقهم في البر، وتطوق مدينتهم هذه التي بناها قسطنطين الأول،
21
واتخذها قاعدة لملكه، فما يزالون على حصارها سنين ذات عدد، لا يصدر منها ولا يرد إليها، حتى يبلغ الجهد بقسطنطين وأهل ملته ما يبلغ، فيعطي الجزية صاغرا ... ويعود المسلمون ظافرين، لم يتخلف من رؤسائهم غير أبي أيوب، قد دفن عند سور القسطنطينية كما وعده رسول الله!
22
رد الله غربتك يا أبا أيوب! مضيف رسول الله أول هجرته إلى المدينة، قد ثوى
23
تحت أسوار القسطنطينية ضيفا على أهل الكفر!
يا أبناء المهاجرين من ضيوف أبي أيوب، يا أبناء الأنصار من صحابته، إن أبا أيوب لم يزل كريما كعهدكم به، فهاجروا إليه يضيفكم في داره الجديدة، كما ضيف نبيكم محمدا منذ سنين سلفت.
24
هتف عتبة بن عبيد الله، وقد مس حديث الشيخ شغاف قلبه: لبيك أبا أيوب.
فضج المجلس وراءه بالتلبية ... •••
ذلك شأن القاص أبي داود، وذلك شأن الناس معه؛ ما يزال يتنقل بين الأمصار، يدعو إلى الجماعة،
25
أو يدعو إلى جهاد أهل الشرك، فيستجيب له من يستجيب، ويلبي من يلبي.
ولكن الفتنة التي نشبت بين أهل القرآن منذ سنين لم تطفأ بعد؛ فما يزال في كل بلد داع يدعو لنفسه، ويؤازره من المسلمين طائفة، فأمير المؤمنين في الحجاز وما والاها عبد الله بن الزبير، وأمير المؤمنين في الشام عبد الملك بن مروان، وما يزال في الجزيرة والكوفة، وما وراءها من أرض المشرق داع أو دعاة، يهتفون باسم أمير من بني علي بن أبي طالب،
26
وفي دمشق نفسها لم يزل واحد أو أكثر من السفيانية
27
أو غيرهم من فروع بني أمية، ينفس
28
على بني مروان أن تكون الخلافة فيهم ... وعبد الملك يحاول أن يوطيء لنفسه بين هذه الزعازع،
29
فما ينفك متنقلا على رأس جيشه من مصر إلى مصر،
30
مكافحا صابرا قد استحل سفك الدم في سبيل توطيد العرش، وتوطئة الأكناف لبني مروان، وكان قبل أن يليها شيخا من أهل الرأي
31
لا يكاد يفارق مسجد رسول الله في المدينة، أو يدع المصحف!
وحلت سنة 70 من الهجرة، وما تزال الفتنة ناشبة، وكان الروم قد انحسروا عن أرض المشرق، فليس لهم في الشام باع ولا ذراع، ولكنهم منذ جلوا عن أرض المشرق، لم تزل أنفسهم تنازعهم إلى استرداد ما فقدوا من تلك الأرض الواسعة الخصبة، فكأنما انتهزوا هذه الفتنة الناشبة، فسيروا جيوشهم إلى أنطاكية
32
فحاصروها، ثم وضعوا أقدامهم وأوغلوا في البلاد.
الفصل الثاني
عهد ونذر
كان النعمان بن عبيد الله يدندن بيتا من الشعر:
أروح إلى القصاص كل عشية
أرجي ثواب الله في عدد الخطا
حين ابتدره أخوه عتبة: قد مس والله حديث أبي داود القاص شغاف نفسي، وما أرى هذه الفتنة الناشبة في الأمصار إلا كيدا من الشيطان؛ لتفريق الجماعة، وصدع الجبهة، والتمكين للمشركين كي ينالوا منا منالهم، وإن هؤلاء الخوارج ليزعمون أنهم يدعون إلى الله، ويغفلون عما وراء ذلك العصيان من تفريق الكلمة ووهن المسلمين، ولو أن هذه الجموع المسلمة التي تساق كل يوم إلى المذابح بالأيدي المسلمة، قد سيقت صوائف وشواتي
1
إلى بلاد الروم، لرجوت أن تكون القسطنطينية بأيدينا، وينزل المسلمون ضيوفا على أبي أيوب ...
2
ثم استطرد قائلا في عزم: وإني قد رأيت يا نعمان رأيا أرجو أن تمضي فيه معي ...
قال النعمان مستدركا: دع عنك ما رأيت يا أخي، وأعد علي ما قلت: أزعمت - ويحك - أن ابن مروان أحق بها من عترة محمد،
3
ومن ابن ذات النطاقين؟
4
لقد مات أبوك إذن على ضلال يا عتبة،
5
فقد علمت ما أبلى أبوك يوم الجمل،
6
وفي حرب صفين،
7
ومعركة الطف ،
8
فلم يقعد عن الحرب حتى استشهد مع المختار ابن أبي عبيد طلبا لثأر الحسين،
9
أفهذا تعني حين تذكر صدع الجبهة ووهن المسلمين؟...
صمت عتبة برهة مفكرا، ثم رفع رأسه يقول: ما هذا عنيت يا أخي، ولقد اجتهد أبي ما اجتهد لصلاح هذه الأمة، حتى ذهب إلى ربه راضيا مرضيا، وإني لأرجو أن يقبل الله شهادته،
10
ولكن نفسي لا تطيب بأن أحارب إخواني في الدين، وأدع هؤلاء الروم حتى يطئوا من بلادنا كل موطئ، ويسترقوا
11
الحرائر والولدان من نسائنا وبنينا، فسأطلب منذ الغد إلى مسلمة بن عبد الملك
12
أن يغزيني في صائفته، لعلي أن أدرك نصرا أو أجاور أبا أيوب. •••
ولكن مسلمة بن عبد الملك لم يخرج في هذا الموسم لحرب الروم صائفا ولا شاتيا، فقد كان عبد الملك من أصالة الرأي وحسن التدبير، بحيث رأى مصانعة
13
جوستنيان الثاني قيصر الروم خيرا له في هذه الفترة التي تعصف فيها العواصف بالدولة الإسلامية، فصالحه على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار؛ ليفرغ لتدمير قوة ابن الزبير، ويحطم الخوارج، ويرد كيد ابن عمه عمرو بن سعيد ...
14
وهدأت أمواج البحر، وسكن غبار البادية،
15
ولكن عتبة بن عبيد الله لم يعد إلى داره بالرقة منذ كان ذلك الحديث بينه وبين أخيه النعمان، ولم يقف له أحد على خبر.
وطال الانتظار بأهله حتى آب كل غائب، ولكنه لم يؤب، وهدأت الفتن في الدولة الإسلامية أو كادت، وانقضى أمر ابن الزبير، واغتيل عمرو بن سعيد منافس عبد الملك على عرش بني مروان، واستتب لهم الملك، وعادت الصوائف والشواتي تغدو وتروح في البر والبحر، تغزو بلاد الروم فتصيب منها ما تصيب ثم تئوب، ولم يؤب عتبة بن عبيد الله!
وقال جيرانه وأهله: يرحمه الله، لقد آثر جوار أبي أيوب المضياف، فمات غازيا في بلاد الروم.
وبكت أمه ما شاءت، ثم فاءت
16
إلى الرضا بقضاء الله.
وخلعت امرأته أحمرها وأبيضها ولبست الحداد، ولزمت دارها ترأم
17
طفلا في حجرها، وطفلة في بطنها.
وقال أخوه النعمان لنفسه متأسيا:
18
نعم العزاء الصبر في الغازي الشهيد الغريب المطفل.
19
وأقسم لا يدع السيف حتى يلحق بأخيه أو يدرك ثأره، ولا يكون ثأره إلا بطريقا من بطارقة الروم.
20
وأخذ النعمان أهبته منذ ذلك اليوم للبر بما أقسم.
وتتابعت الصوائف والشواتي في البر والبحر لغزو الروم، فلم يتخلف النعمان بن عبيد الله في صيف ولا شتاء عن دعوة الجهاد.
الفصل الثالث
ابنة البطريق
لم يطب الروم نفسا بسياسة القيصر جوستنيان الثاني، ونقموا منه
1
أن ضيع عليهم الفرصة المتاحة لاسترداد سواحل الشام في سنة 70 للهجرة، بعدما وطئتها أقدامهم، وقاربوا أن يملكوها ويوغلوا في بلاد العرب، لا يكاد يدافعهم أحد من جند الخليفة المنهوك القوة في قمع الفتن الناشبة في الأمصار الإسلامية، لقد كان عبد الملك أعرف بنفس هذا القيصر وأسد منه سياسة، فطلب إليه الصلح على مال يؤديه إلى الروم كل جمعة، فتحلب لعاب القيصر إلى ذهب بني مروان، وأجاب الخليفة إلى ما طلب، ولكنه لم ينعم بهذا السلم الذهبي طويلا، فما هو إلا أن فرغ عبد الملك مما كان فيه حتى منع القيصر ما كان يؤدي إليه من مال، وجهز الجند في البر والبحر صائفة وشاتية للغارة على الثغور الرومية ...
وكان قادة جيش الروم أشد سخطا على القيصر لهذه الخيبة، فثاروا به وقبضوا عليه، فجدعوا أنفه
2
ونفوه إلى بلاد القريم، ثم راحوا يتنازعون العرش فيما بينهم، فيلونه قائدا بعد قائد، وقيصرهم في منفاه مجدوع الأنف، منكسر النفس، لا يكاد يملك لنفسه أمرا، والصوائف العربية ما تزال تغير على الثغور والسواحل، فتصيب من الروم مقاتل، وتحمل أسارى وسبايا وولدانا ...
3
وكان البطريق قسطنطين على ثغر من تلك الثغور التي تشرف على الخليج مما يلي القسطنطينية، ما يزال يستقبل كل صيف غزاة من العرب يناوشهم ويناوشونه، فينال منهم حينا وينالون منه، ويصيب منهم أسرى وقتلى ويصيبون، وكان له عند العرب ترات
4
وتاريخ بعيد، وقد اصطنع في الحرب خطة عربية، فهو يخرج إلى لقائهم - حين يخرج - ومعه نساؤه وراء الصفوف، يهزجن بالأغاني للتحميس، ويضربن الفارين في وجوههم بالعمد ، أو يحصبنهم بالحصى ؛ ليرددنهم إلى الحرب،
5
وقد أيقن قسطنطين البطريق أنه إلا يدفع عن نفسه وعن ثغره، فلن يدفع عنه أحد من الروم الذين توزعتهم المطامع، وفت في أعضادهم ما لقوا من الهزائم المتوالية في حرب العرب، وعلى هذا اليقين رابط في ذلك الثغر مدافعا شديد العزم والقوة سنين طويلة.
وفجأتهم ذات مساء سرية من سرايا العرب،
6
قد هبطت في جنح الليل على الساحل، ثم أوغلت حتى طرقت القوم في بيوتهم على حين غفلة، فأعجلتهم عن أخذ الأهبة، والتحموا أجسادا لأجساد، يتجالدون بالسيوف أو يتصارعون بالأيدي، لا يكادون يتعارفون في ظلام الليل إلا بالتكبير والتلبية،
7
وكان شعار المسلمين يومئذ: الله أكبر، لبيك أبا أيوب.
ووقف قسطنطين في وسط الملحمة يرطن بالرومية، وهو يجيل سيفا في يمينه، له في الظلام بريق يومض، وبصر به النعمان بن عبيد الله في غبشة الليل ولم يكد، فنهد إليه وهو يقول وسيفه في يده: إني لأرجو أن أبر بك قسمي - أيها البطريق - فأثأر لأخي أو أنال الشهادة.
ثم عطف عليه بالسيف، فأفلت منه قسطنطين واحتوشته داره،
8
واقتحم النعمان وراءه، فتهارب الصبيان والنساء بين يديه ولم ينل منالا.
وتشتت شمل أصحاب قسطنطين، وذهبوا في الأرض فارين لا يلوون على شيء، قد خلفوا متاعهم وسلاحهم، وتخلف عنهم بعض النساء والصبيان، فسيقوا إلى مضرب الأمير، وعاد النعمان بن عبيد الله إلى صحابته؛ ليقاسمهم ما أفاء الله عليهم
9
في هذه الغارة المظفرة، فلم يكن نصيبه من ذلك إلا فتاة من بناتهم، لم تنضج نضج الأنثى، ولكنها جاوزت حد الطفولة
10 ... وكان عليها مطرف خز،
11
وقد تدلت على صدرها قلادة من ياقوت، ولمعت في مفرقها جوهرة،
12
فقال النعمان: إلا تكن هذه بنت البطريق، فإن لأبيها بين القوم شأنا.
ثم مال إليها يداعبها، ويسألها عن شأنها وشأن أبيها فلم تجب بلسان، ولو أنها أجابت لما أبانت، فليست تعرف إلا الرومية، وليس يعرف النعمان إلا العربية ...
واستقل الغزاة سفينتهم قبل أن ينبثق الفجر، وأداروا شراعها نحو الغرب، ثم انحدروا نحو الجنوب، يلتمسون ثغرا من ثغور المسلمين يأوون إليه، وكلهم فرح بما أفاء الله عليه من السلامة والغنيمة والظفر بالعدو.
الفصل الرابع
ويك مسلمة
ثبتت دعائم العرش لبني مروان، ولم يكن الخليفة عبد الملك في غفلة عما يقتضيه هذا العرش من حق التدبير في حياته وبعد موته ... فإنه ليخشى أن يتواثب إليه الطامعون من السفيانية أو الهاشمية بعد موته، وقد خلف عبد الملك بضعة عشر ولدا كلهم لأب، ولكن أمهاتهم شتى؛
1
منهن العبسية، والمخزومية، والهاشمية، والسفيانية، ومنهن أمهات أولاد
2
من الترك والسودان والروم وبنات كسرى، فما أحرى كل واحدة من هؤلاء الضرائر أن ترجى العرش لولدها، وأن ينفخ فيه أخواله من روح العصبية ما يدفعه إلى الفتنة ...
3
لقد كان عبد الملك شيخا من أهل الرأي قبل أن يلي هذا الأمر،
4
وكانوا يسمونه فقيه بني مروان؛ لصلاحه وعلمه وطول ملازمته لأهل الحديث وحملة القرآن، وأصحاب الرأي من العباد والصالحين وأهل التحرج،
5
فما كان أجدر شيخا هذا مكانه أن يترك أمر المسلمين شورى بينهم، يختارون بعده من يشاءون ليلي أمرهم، لولا أنه يخشى عليهم الفتنة، فليول عهده رجلا من أهل هذا البيت المرواني، ينهض بأمر الدولة من بعده؛ ليذهب إلى ربه راضيا مطمئنا قد أمن على هذه الأمة أن تتوزعها الفتن وأسباب المطامع.
إن أباه مروان قد جعل العهد من بعده لأخيه عبد العزيز بن مروان، ولكن عبد الملك يرى بنيه أحق بهذا العرش وأقدر على صيانته، لولا أن بنيه كثير، قد تقاربوا أعمارا، وتشابهوا مزايا، وتشاكلوا كفاية.
6
لو لم يكن الوليد لحانا لا يكاد يقيم لسانه بالعربية، متلافا لا يكاد يمسك درهما ... إنه لأحب إلى عبد الملك، وإن أمه لأدنى إلى قلبه منزلة.
7
لو لم يكن سليمان بطينا أكولا تياها كثير العجب بنفسه ... إن أمه العبسية لترجوه كما ترجو أخاه الوليد، ولكن الوليد أسن منه.
8
وإن هشاما لحقيق بأن يلي هذا الأمر يوما، لولا أنه جبان بخيل، ولولا خشية ما يتدسس إليه من حمق أمه المخزومية، وما كان عبد الملك ليولي عهده ابن مطلقته الحمقاء ، ويدع الذين نشئوا على عينيه من بنيه.
9
وإن يزيد لأعرق بنيه أمومة،
10
فأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، أبوها خليفة،
11
وجدها خليفة،
12
وزوجها خليفة،
13
فما أحرى ولدها أن يكون خليفة كذلك فيضم المجد من أطرافه، لولا أن يزيد لم يزل صبيا لم يبلغ مبلغ أهل الرشد.
وهناك - إلى هؤلاء - عبد العزيز بن مروان أخو الخليفة، ما يزال يطمع في العرش بعد عبد الملك، بعهد من أبيه مروان.
14
ولكن ما بال عبد الملك لم يذكر ولده مسلمة، وإنه لأشب بنيه شبابا، وأجرؤهم قلبا، وأسدهم رأيا، وأكثرهم حمية، وله الرايات البيض لم تزل تخفق على السفائن غادية على سواحل الروم للغزو، أو مرفرفة فوق رءوس الجند في البرية لبيات العدو
15 ... ولكن مسلمة - إلى كل ذلك - من أبناء الجواري، فكيف يليها ابن الرومية، ويحرمها أبناء الحرائر من بنات عبس ومخزوم وأمية! ...
16 •••
أقيمت حلبة السباق في ظاهر دمشق على العادة في كل موسم،
17
وتقدم فتيان العرب بأفراسهم المضمرة، يطمع كل منهم أن ينال بالسبق جائزة أمير المؤمنين عبد الملك، وجلس عبد الملك على شرف في طرف الحلبة،
18
قد أقيم له سرادق من خز، ونصبت على رأسه راية بيضاء، وكان الشوط الأول للأمراء من بني عبد الملك؛ الوليد، ومسلمة، وسليمان، ويزيد، وهشام.
وأشار رائض الحلبة إشارته،
19
فوثب الأمراء على ظهور الجياد، وشدوا اللجم، ومالوا على الأعناق، يتبعهم الآلاف بعيون جاحظة، وأنفاس مبهورة، وأعناق تتلوى على كواهل أصحابها، وبدا كأن مسلمة سيبلغ آخر الشوط قبل إخوته، فبدت الكراهة في وجه عبد الملك، على حين انبعث من جوانب الحلبة هتاف الجماهير باسم الأمير المظفر في كل غزاة: مسلمة بن عبد الملك.
ولكن فرس مسلمة لم يلبث أن عثر براكبه، ثم لم يكد ينهض ليستأنف عدوه، حتى سبقه إخوته جميعا وبلغوا آخر المدى ...
وطأطأ مسلمة رأسه أسفا وهو يتقدم في صف من إخوته إلى مجلس أبيه في سرادقه ذاك؛ ليستمع إليه وهو ينشد متمثلا:
20
نهيتكم أن تحملوا فوق خيلكم
هجينا
21
لكم يوم الرهان فيدرك
فتعثر كفاه ويسقط سوطه
وتخدر ساقاه فما يتحرك
وهل يستوي المرءان هذا ابن حرة
وهذا ابن أخرى ظهرها متشرك
قال مسلمة وقد بدا في وجهه الغضب: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، ليس هذا مثلي، ولكن كما قال الآخر:
فما أنكحونا طائعين بناتهم
ولكن خطبناهم بأرماحنا قسرا
22
فما زادنا فيها السباء مذلة
ولا كلفت خبزا ولا طبخت قدرا
23
وكم قد ترى فينا من ابن سبية
إذا لقى الأبطال يطعنهم شزرا
ويأخذ ريان الطعان بكفه
فيوردها بيضا ويصدرها حمرا ...
ثم أردف: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات يا أمير المؤمنين، وقد كانت أم إسماعيل بن إبراهيم جارية
24 ...
ولمعت دمعتان في عيني عبد الملك واختلجت شفتاه، فقال وهو يميل على مسلمة فيقبل رأسه وعينيه: أحسنت يا بني، ذاك والله مكانك.
وانفضت الحلبة، وعاد عبد الملك إلى قصره وعاد بنوه، ولكن حديثا ما ظل يدور في رأس عبد الملك منذ ذلك اليوم، ويدور مثله في رأس مسملة وفي رءوس أخرى ...
الفصل الخامس
أمهات الملوك!
في غرفة من غرفات القصر الأموي الشامخ بدمشق، اجتمع أربع نسوة لم يجتمعن من قبل على مودة:
ولادة بنت العباس العبسي، وعاتكة بنت يزيد بن معاوية، وعائشة بنت موسى بن طلحة التيمي، وأم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان؛ زوجات عبد الملك، لم يتخلف عن مجلسهن إلا مطلقته أم هشام المخزومية!
قالت ولادة - أم الوليد وسليمان - بعد صمت: بلى، قد أحل الله له فراش جواريه فهن له حلائل، ليس لواحدة من زوجاته أن تمنعه أن يفيء إلى خلواتهن في أي وقت شاء من ليل أو نهار، ولكن للحرائر من زوجاته العهد والأمومة، إن الوليد وسليمان، وإن يزيد وأبا بكر والحكم وهشاما، لأولى بعهد أمير المؤمنين من عبد الله ومسلمة ومحمد وسعيد، ومن لا أذكر من أبناء جواريه وإمائه، فليطب لهن فراش عبد الملك، أما عرش أمية فلن يكون لأحد من أبنائهن!
قالت عاتكة أم يزيد: أترينه يا ولادة يغفل عن ذلك الحق؟ إنه لأسد رأيا من ذاك، وقد سألته أمس حين أوى إلى مقصورتي لبعض الراحة، حين منصرفه من حلبة السباق، عما حدثني به يزيد من إقباله على مسلمة دون إخوته، وتقبيله على ملأ من الخلق في رأسه وعينيه، واستنشاده إياه شعرا يعرض فيه بأبناء الحرائر، فضحك عبد الملك وقال: أظننت يا عاتكة أنني أفعلها؟ إني لآمل أن يكون يزيد على عرش بني أمية خلفا من أبيه وجده وجد أمه.
1
انقلبت سحنة ولادة كأنما أصابها المسخ، ونسيت مجلسها من ضرائرها، وما دعتهن إلى الحديث فيه، فقالت منكرة: أي شيء تقولين يا عاتكة؟ وهل أوى عبد الملك إلى غير مقصورتي حين منصرفه من حلبة السباق؟
قالت عائشة بنت موسى: نعم، وجلس إلي ساعة يرقص أبا بكر ويغني له:
يا ملكا من ملك من ملك
ته واستطل على الملا وامتلك
ولد ملوكا كنجوم الحلك
يستبقون للعلا في فلك!
قالت أم أيوب العثمانية محنقة: أما الحكم ابني فلم يرقصه أحد أو يغن له؛ إذ كانت أمه - بنت عثمان الخليفة المظلوم
2
أقل منزلة عند عبد الملك من بنات عبس، وتيم، ويزيد بن معاوية!
ثم جمعت أطراف ثوبها، ونهضت معجلة إلى مقصورتها، لم تحي أحدا أو تستمع إلى تحيته، ونهض صواحبها كذلك فتفرقن في حجراتهن! •••
ودخل مسلمة على أمه «ورد»؛ ليشهد في عينيها دموعا حائرة، فلا تكاد تراه مقبلا حتى ترسل دموعها وتطرق في انكسار ... - ماذا بك يا أماه؟ - لا شيء يا مسلمة. - ولكنك تبكين يا أماه! - لا تصدق كل ما ترى عيناك يا مسلمة. - هل نالك أحد بمساءة؟ - ومن ذا ينالني بالمساءة وأنا أم مسلمة، وحظية عبد الملك أمير المؤمنين وسيد بني مروان! - لعل أمير المؤمنين نفسه ... - وكيف يسوءني أمير المؤمنين، وأنا ولدت له مسلمة؟ - فلما إذن تبكين يا أماه؟ - من أجلك يا مسلمة. - من أجلي؟ - نعم، فلو لم ألدك، لكنت اليوم ولي عهد أمير المؤمنين.
3 - لو لم تلديني يا أماه لم يلدني غيرك، وما تطيب نفسي بغيرك أما ولو كانت ... - صه! حسبك ما أوغرت من صدورهن عليك. - وماذا يوغر صدورهن على مسلمة، وإنه ليحمل العبء كله عن أبنائهن، فهو المدعو لكل كريهة، وعليه أعباؤها دون غيره من أبناء عبد الملك، فما تزال تتقاذفه الفلوات وأمواج البحر من مفازة مهلكة إلى ثغر مخوف؛ ليمكن لعرش يتنازعه من لم يسل سيفا من غمده للدفاع أو يحمل راية! - من أجل ذلك بكيت لك يا مسلمة. - ولكني سعيد يا أماه بما أبذل، ولست أطمع - ولا أريد - أن أحمل أوزارها
4
فليحملوا منها ما قدروا عليه، وليدعوا لي سيفي وفرسي ورايتي أجاهد في سبيل الله. - تخادعني يا مسلمة! - لا والله يا أم، وإني ليسعدني أنك ولدتيني، أكثر مما يسعدني أن أبي هو أمير المؤمنين عبد الملك. - صدق حدسك
5
يا مسلمة ... - ماذا؟ - لا شيء. - بل قلت شيئا! - دع هذه يا مسلمة ولا تلحف. - تريدين أن تطوي عني سرا ... - نعم. - أي سر؟ - السر لا يسأل عنه يا مسلمة. - هو إذن سر يشين. - أخطأت وأسأت يا مسلمة؟ - وهل يكتم المرء من سره إلا ما يشين؟ - نعم، وما يضر. - يضرني أو يضرك يا أم؟ - يضرني ويضرك يا مسلمة. - لم أفهم بعد! - خير لك ألا تفهم. - ولكن سرا تطوينه عني وفيه مضرة ... يثقل على ضميري ويبلبل خاطري. - ليتني لم أبدأ حديثا معك يا مسلمة. - ولكنك بدأت. - ولكني بدأت. - ووقفت عند كلمة السر، فطويتيها عني وتركتني في بلبلة! - اسمع يا مسلمة. - هيه! - أنت يا بني صاحب اللواء في هذه الدولة، ما تزال تقود الجند لحرب الروم، فتثخن فيهم قتلا وتجريحا وأسرا، حتى أرهقت الروم من أمرهم عسرا، فهل تجد يا بني راحة نفس فيما تفعل من ذلك؟ - نعم يا أم. - فكيف تصنع يا بني إذا عرفت أن في هؤلاء الروم خئولتك؟ - قد عرفت ذلك منذ بعيد ... أفهذا هو السر الذي تطوينه عني؟ - نعم يا مسلمة. - ليس ذاك ... - تريد أن أزيدك يا مسلمة؟ - نعم. - فاعلم - وعليك وحدك تبعة هذا العلم - أنك تركب من الأمر عظيما في حرب الروم. - ماذا تعنين؟ - أنت تطلب رأس جدك! - جدي؟ - نعم، أبي ... - وما تزالين تذكرين أباك يا أم؟ ... - نعم، كأنه بعيني منذ ساعات. - واسمه؟ - قسطنطين ... - كل رومي قسطنطين! - ليس مثل أبي قسطنطين أحد من الروم. - أهو قيصر؟ - كأن قد بلغ هذه المنزلة. - ولم يبلغ بعد؟ - لست أدري! فقد انقطع ما بيني وبين بني أبي، منذ صرت إلى عبد الملك. - وكان أبوك يومئذ ... - بطريقا يؤهله نسبه وجاهه إلى العرش! •••
أطبق الفتى شفتيه، وحدق فيما أمامه، وأمال رأسه إلى جانب، وسبح في أوهامه، وجلست أمه بإزائه صامتة، ترمقه بعينين فيهما حب وإشفاق ووجل.
وطال صمت الفتى حتى قلقت أمه، فقالت في حنان وعطف: لقد طوفت بعيدا في أوهامك يا مسلمة. - نعم. - وهل عدت؟ - نعم. - وماذا رأيت في سرحتك يا بني؟ - رأيت أباك. - جدك؟ - نعم. - وقلت له ... وقال لك ... - لم أستمع إلى قول منه أو يستمع إلى قول مني ... - تغاضبتما إذن؟ - نحن متغاضبان منذ كنا ... إنني أنا مسلمة بن عبد الملك، وهو قسطنطين وحسب! - ولكنه أبو أمك! - قد كان ذلك يوما، أما اليوم فلست منه وليس مني. - وإذن فلم يغير من رأيك شيئا أن عرفت هذا السر؟ - بل قد أجد لي عزما جديدا ... - وما ذاك؟ - أن لمسلمة حقا في عرش القياصرة، فسأحارب الروم منذ اليوم على عرش قسطنطين؛ لأستخلصه لنفسي غير غاصب ... بحق أمومتك. - الآن طابت نفسي يا مسلمة. - طابت نفسك بتقويض عرش القياصرة من آبائك وآلك؟ - ذلك شيء آخر. - فماذا تعنين إذن؟ - لقد كنت أخشى يا مسلمة - لو عرفت سر أمك - أن تطفأ في قلبك جذوة الحماسة لحرب الروم، وهي كل ما تملك يا بني من أسباب المجد حين يتفاخر أبناء عبد الملك، فالآن قد أمنت وطابت نفسي. - الحمد لله. - وسر آخر لم يزل يحيك في صدر أمك يا مسلمة ... - ماذا يا أم؟ - ولا تغضب؟ - لن أغضب لما يرضيك يا أماه ... - تنازعني نفسي إلى القسطنطينية حيث نشأت. - تريدين أن أردك إليها؟ - بل تردها إلي ... - لست أفهم! - إنني آمل أن أجد ولدي مسلمة يجلس منها على عرش القياصرة، ذلك حلمي القديم منذ كنت فتاة لم تدرك، فقد علمت يا مسلمة أن بنات الروم - كبنات العرب - لا يحلمن حلما أمجد ولا أسعد من أن تكون إحداهن أما لقيصر، وقد حسبت أني وجدت تعبير رؤياي هذه حين ولدتك لعبد الملك، أما وإخوتك - كما ترى - يتسابقون دونك إلى ولاية عرش أمية، فإني أرجو لرؤياي تعبيرا آخر روميا لا يعرف من الملوك غير قيصر. - بل عرش قيصر وعرش أمية. - صه. - ماذا؟ - أخاف عليك كيد بني مروان يا مسلمة. - ولكن مسلمة لا يخاف يا أماه.
الفصل السادس
ولي العهد
تغير كل شيء في نظر مسلمة منذ ذلك اليوم الذي سابق فيه إخوته في حلبة الخيل بين يدي أبيه فسبقوه؛ وكأنه لم يدر إلا يومئذ أنه ابن جارية ... فلتكن أمه تلك من بنات الملوك أو من بنات الملائكة، فليست في أعين الناس جميعا إلا جارية.
ولم يقع في وهم مسلمة قبل ذلك اليوم أن أباه قد يختاره لولاية عهده، ويرشحه للجلوس على عرش الخلفاء في دمشق؛ فلو أن أباه اختار غيره من إخوته قبل ذلك اليوم لولاية العهد لما ثقل عليه ذلك ولا التمس السبيل إلى معرفة أسبابه؛ أما اليوم فإن له في نفسه وفي إخوته رأيا آخر ... فقد وجد ندبة في قلبه
1
من حديث أبيه إليه بعد السباق، ومما بلغه من حديث زوجات أبيه بعضهن إلى بعض، ثم من حديثه إلى أمه، ولكن رأيه ذاك، وما ناله من المساءة في حديث أبيه وحديث زوجات أبيه، لم يكن ليغير موقفه من إخوته شيئا؛ فليكن العرش والتاج لمن شاء أبوه من إخوته أو من غير إخوته، فليس يعنيه ذلك في شيء، إنهم أحوج إلى مسلمة منه إليهم؛ إنه سيف بني عبد الملك، وحامل رايتهم في الجهاد، وصاحب رأيهم في السلام، رضوا أو سخطوا؛ فليستأثروا دونه بعرش أمية، فإن له عرشا في قلب كل عربي بين المشرق والمغرب، وإنه ليأمل فوق ذلك أن يقتعد عرش جوستنيان في القسطنطينية، ويتخذها دار هجرة، فينزل في بلد خئولته ضيفا على أبي أيوب الأنصاري ... •••
لم يعد النعمان بن عبيد الله إلى دار أهله في الجزيرة منذ خرج ليطلب ثأر أخيه عتبة في بلاد الروم؛ فقد اتخذ في اللاذقية
2
أسرة ودارا يأوي إليها كلما عاد من صائفة أو شاتية؛ وما كان ليأوي إليها إلا أياما أو أسابيع يعود بعدها إلى ما بدأ، صائفا أو شاتيا.
وكان له نكاية في العدو وصبر على القتال واستماتة في المعركة؛ لا يقتحمها إلا وقد كسر جفن سيفه
3
فلا يغمده إلا في اللبات
4
والصدور والجنوب، وكان شعاره في الحرب: لبيك عتبة! لبيك أبا أيوب!
وكم تعرض للشهادة فأخطأته، وعاد مثقلا بالغنائم وفي كفه سيف بلا جفن يقطر دما، وكم احتز من رءوس، وبقر من بطون، وشق من مرائر، ولكنه لم ينل مرة واحدة رأس بطريق من بطارقة الروم ثأرا لأخيه ...
وتشيع بطولة النعمان بين القوم، ويتحدث المشاة والركبان بأنباء معاركه المظفرة، حتى تبلغ تلك الأنباء أمه وعشيرته في أرض الجزيرة، فتدمع عينا العجوز الثكلى، وترفع يديها إلى الله ضارعة أن يكلأه ويرعاه؛ ليكون خلفا من أبيه وأخيه ... وتهمس الشفاه باسمه في ثغور الروم خائفة وجلة، فتتعوذ منه بالمسيح والعذراء، إنه لينال بالرعب من أعدائه أكثر مما ينال بسيفه!
وكان النعمان أثيرا عند مسلمة
5
منذ شهد ألوان بطولته، فأدناه منزلة وقربه مجلسا، وصار له عنده نفل مضاعف
6
من أسلاب كل معركة.
وعاد النعمان ذات خريف من صائفته؛ ليستقبل ضيفا جديدا على الدنيا؛ فقد ولد له مولود ذكر، ها هو ذا يستهل صارخا يؤذن أباه بمقدمه، ورن صراخه الأعجم في أذن أبيه كأنما يسمع منه صائحا يهتف في المعركة: لبيك أبا أيوب! فمال عليه يقبله في المهد وهو يجيب: لبيك يا عتبة! وصار اسم ذلك الصبي من يومئذ: عتيبة بن النعمان.
وكأنما خشي النعمان - وقد صار أبا - أن تكون أبوته مجبنة مبخلة،
7
فاحتمل أهله وولده إلى الرقة حيث تقيم أمه وعشيرته، وعاد معجلا إلى الثغر يتربص بالروم في كل صائفة وشاتية، وعاش الصبي بين جدته وبني عمومته، وخف أبوه إلى الميدان. •••
المعارك تتوالى بين العرب والروم، والسفن العربية عليها الرايات البيض، تغدو وتروح في بحر الروم بين أقريطش
8
وقبرص وأرواد
9
وسواحل القسطنطينية، ما أجدر هذا البحر الأبيض أن يسمى «بحر العرب»! إن جند العرب لتحتل شاطئه الأفريقي والأسيوي جميعا من المضيق إلى المضيق، وما فيه من جزيرة إلا ارتفع فيها الأذان ورفرفت عليها الراية العربية، وإن قوات الفتح لتوشك أن تثب من شاطئ إلى شاطئ، فتبلغ القسطنطينية في الشرق وجزيرة الأندلس في الغرب، ثم تمد مدها حتى يلتقي جناحاها في الأرض الكبيرة
10
فلا يكون على شاطئ هذا البحر من فوق ولا من تحت إلا نفوس عربية مؤمنة تعج بالتكبير والأذان. ••• «أقيموا المآذن في كل أفق يذكر عليها اسم الله: الله أكبر ...» واستجاب المسلمون للداعي، وتفرقت جيوش المسلمين في الأرض:
محمد بن القاسم الثقفي
11
في الهند والسند يكتسح معاقل الكفر، ويدعو إلى الله عباد الوثن ...
وقتيبة بن مسلم الباهلي
12
في خرسان وبلاد الترك يثخن في الأعداء إثخانا بليغا، وينشر اسم الله في البرية الشاسعة بين الصين وجبال القبج.
13
وموسى بن نصير اللخمي
14
يحاول خطة لم يحاولها عربي قبله، فيجهز مولاه طارق بن زياد لفتح أوروبا ...
ومسلمة بن عبد الملك ومحمد بن مروان
15
ومن معهم من أبطال البر والبحر يضيقون الحصار على قصبة بلاد الروم
16
فيتهاوى ما يليها من المعاقل معقلا بعد معقل حتى توشك مدينة قسطنطين الأكبر أن تدين بالولاء والطاعة للخليفة في دمشق.
ولكن الخليفة قد تقدمت به السن، ويوشك أن يدركه أجله، وهو لا يريد أن يترك هذه الدولة طعمة للطامعين، يتنازعون حول العرش حتى تذهب ريحهم، وتقتلعهم العاصفة، فترمي بهم إلى البادية حيث بدءوا الزحف منذ بضع وثمانين سنة.
ويرى عبد الملك أن يختار ولي عهده ليبايع له قبل أن يموت؛ فتخفق القلوب حوله وتطمح الأعين إليه ...
ويرى عبد الملك رؤيا، فيبعث إلى المدينة من يقصها على سعيد بن المسيب
17
يسأله تأويلها، ويقول سعيد لرسول عبد الملك: قل له: إن أربعة من بنيه سيلون هذا الأمر؛ فليحسن إعداد بنيه لاحتمال تبعاتها.
وتشرئب الأعناق إلى قصر الخلافة، وتصطرع المطامع في نفوس بضعة عشر ولدا من أبناء عبد الملك، وفي نفوس بضع عشرة من زوجاته وأمهات أولاده.
أيجعل العهد لأربعة من ولده؟
ومن يكون هؤلاء الأربعة؟ ...
ما أحرى هذا أن ينشيء العداوة والبغضاء بين بني أب واحد، وما يدريه ما ترتيب آجالهم في لوح القدر وإن أسنانهم لمتقاربة؟
لا، فليدع سعيد بن المسيب يعبر الرؤيا على أي وجه شاء، وليدبر هو أمره على ما يرى، لقد استأثر الله بالغيب فلم يطلع عليه أحدا من خلقه.
فليول عهده واحدا وحسب، وليأخذ له البيعة من إخوته؛ فإن ذلك حقيق بأن يبقي على وحدتهم ورأيهم، وليكن ولي عهده الوليد ...
ولكن أخاه عبد العزيز بن مروان يطمع أن ينالها،
18
وقد أوصاه به أبوه قبل مصرعه، فما أحراه أن يحفظ وصاة أبيه في عبد العزيز ليحفظ بنوه وصاته؟ ...
فلتكن ولاية العهد إذن للوليد بن عبد الملك وعمه عبد العزيز بن مروان جميعا.
ولكن عبد العزيز لا يلبث أن يجيء نعيه من مصر، وتنحل العقدة المستعصية، فيجعل عبد الملك عهده من بعده لولديه: الوليد، ثم سليمان، ابني ولادة العبسية.
وتتم البيعة للأميرين، ويحلف لهما بنو مروان وبنو أمية جميعا، ثم تؤخذ لهما البيعة من الأمصار ...
ويؤوي عبد الملك إليه أولاده ليقول لهم: «يا بني عبد الملك، أوصيكم بتقوى الله، فإنها عصمة باقية، وجنة
19
واقية، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حق الكبير، مع سلامة الصدور، والأخذ بجميل الأمور، وإياكم والفرقة والخلاف؛ فبهما هلك الأولون، وذل ذوو العز المعظمون، وانظروا مسلمة، فاصدروا عن رأيه؛ فإنه بابكم الذي منه تعبرون، ومجنكم
20
الذي به تستجنون، وكونوا بني أم بررة،
21
وإلا دبت بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أحرارا، وللمعروف منارا ...»
ثم يقبل على ابنه الوليد، فيقول: «لا ألفينك إذا مت تعصر عينك وتحن حنين الأمة،
22
ولكن شمر وائتزر، والبس جلد النمر، ودلني في حفرتي وخلني وشأني وعليك شأنك، ثم ادع الناس للبيعة؛ فمن قال هكذا ... فقل بالسيف هكذا ...»
23
ثم يغمض عبد الملك جفنه!
الفصل السابع
راهب البلقاء
ويجلس الوليد بن عبد الملك على عرش بني مروان في دمشق، وتستمر الفتوح شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ويشرع الوليد في بناء مسجد دمشق،
1
ومسجد الرسول بالمدينة، ويأخذ في تعمير المرافق، وإعانة الزمنى،
2
وتأمين المحتاجين وذوي الخلة،
3
ويتردد اسم الوليد بين أربعة أقطار الأرض ...
وتقول ورد لولدها مسلمة: كيف رأيت أخاك الوليد على العرش يا أبا سعيد؟ - رأيت خيرا يا أم، لو وفى لأخيه سليمان. - ماذا؟! - أحسبه يا أم يحاول خلع أخيه من ولاية العهد ليجعلها لولده. - وعهد أبيه ووصاته له؟ - لقد هم أبوه أن يغدر بأخيه عبد العزيز لولا أن عجل إليه أجله، فما أجدر الوليد أن يغدر بسليمان!
4 - إلا أن يعجل إليه أجله.
5 - من تعنين يا أماه؟! - لم أعن أحدا، فليختر القدر.
6 - ولكن سليمان حقيق بأن يليها! - كلاهما أخوان لأب وأم. - ولكن راهبا في دير منعزل من أرض البلقاء
7
أنبأني أن سليمان سيليها، ويفتح الله عليه بلادا لم تطأها من قبل قدم عربي! - أي بلاد حدست؟
8 - القسطنطينية ... - مرادك بعيد يا مسلمة، فما دامت هذه الأسوار، وتلك الحصون، وهذه النار الرومية التي يقذفونها على الغزاة، فما تدع من شيء إلا جعلته ترابا؛ فلست آمل أن تفتح عليكم حاضرة الروم من ذلك الطريق. - ولكننا سنأخذ عليها كل طريق، ونسلك سبيل البحر والسهل والجبل، من الشرق والغرب والشمال والجنوب، فلا تملك إلا التسليم. - أي شمال وجنوب؟ وأي شرق وغرب؟ - لقد وطيء جيش العرب جزيرة الأندلس يا أماه، فما أسرع ما تنثال
9
جيوشهم في الأرض الكبيرة زاحفة نحو الشرق، فيقتحمون على القسطنطينية أبوابها من الغرب، وقد ملك قتيبة بن مسلم من أقصى بلاد الترك إلى جبال القبج وبحر بنطش،
10
فما أسرع ما يثب من البحر إلى الساحل، وهذا جيش مسلمة
11
ما يزال يراوحها ويغاديها من البر والبحر، فهل ترين لها خلاصا بين هذه القوات الأربع؟ - ويجلس مسلمة على عرش قسطنطين؟ - ويجلس مسلمة على عرش قسطنطين، ويحقق لأمه أمنية، ويدع أبناء عبد الملك يتصارعون على عرش أمية. - وتكبت عدوي وعدوك يا مسلمة؟ - ويبلغ عدوي وعدوك من هوان الشأن ما لا يحمل أحدا على التفكير في أمره! •••
كان الإسلام في ذلك العهد دينا خالصا لله - كأول عهد المسلمين به يوم نزل - لم تدخله خرافة، ولم يغلب عليه باطل، ولم يبتدع فيه مبطل حدثا، إلا بعض ميراث الجاهلية في العامة من الإيمان بالنجوم والتماس علم الغد عندها،
12
وإلا مطمع بعض الخاصة في صدق الرؤيا والهاتف وحدس النفس المؤمنة،
13
فقد حدثهم من حدث أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: إن الرؤيا بضعة من النبوة،
14
وإلا بعض ما ألهمتهم آيات من القرآن الكريم عما يتوارثه بعض أهل الكتاب من علم عن الغد يجدونه مكتوبا عندهم في الإنجيل والتوراة،
15
فهم يلتمسونه عند الرهبان المنقطعين للعبادة في الأديار والبيع
16
المنتثرة في أرض البلقاء ووادي الأردن وأرباض الشام
17
وأطراف الجزيرة؛ وإلا ما أحدثه بعض الفرق الإسلامية الناشئة مما يسمونه علم الملاحم ويسندونه إلى فلان، إلى فلان، إلى علي بن أبي طالب، ويزعمون أن فيه علم الغد كله مكتوبا في «جفر»
18
على سبيل الرمز والإيماء، فلا يحل طلسمه إلا من أوتي حظا من علم.
وكان إيمان الناس في ذلك العهد بهذه المستحدثات يختلف باختلاف بيئاتهم وميراثهم العقلي وحظهم من فهم الإسلام.
ولكن كل نفس تستشرف إلى معرفة ما استسر في غدها من غيب الله؛
19
فلا عجب أن نرى - في مثل ذلك العهد - طائفة من أهل التمييز والبصيرة، لا تستنكف من غشيان الأديار وصوامع الرهبان تسألهم بعض ما عندهم من علم الغد!
وكذلك رأى مسلمة بن عبد الملك نفسه مسوقا ذات يوم إلى دير من هذه الأديار، يسأل راهبها بعض ما عنده، وكان يصحبه في سرحته تلك مجاهد من أهل اللاذقية اسمه النعمان بن عبيد الله ... •••
قال مسلمة للراهب: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟
20 - نعم، نجد ما مضى من أمركم، وما أنتم فيه، وما هو كائن! - أفمسمى أم موصوفا؟
21 - كل ذلك موصوف بغير اسم، واسم بغير صفة. - فهل ترى من صفتي وصفة صاحبي هذا عندك؟ - أمير يعزف عن الإمارة،
22
أو تعزف عنه الإمارة ؛ ينزع به عرق ، ويجذبه عرق
23
جرادة صفراء، تحت راية بيضاء، يفتح به لغيره ولا يفتح له، عن يمينه على العرش أربعة، وعن يساره أربعة، يدنو حتى يكون قاب قوسين، فيقف بين بين، ثم يفلتها بعد الأين،
24
بينه وبين ما يأمله مائتان ومائتان وثلاثمائة، ثم يكون ما أراد، حين لا متاع له بشيء من ذلك الزاد، إلا عين جارية، وسيرة باقية، ويذكر أبو أيوب، وأبو سعيد، ومحمد بن مراد
25 ... - وهذا الخليفة الجالس على العرش؟ - اسم صبي
26
وما هو بصبي، ترمقه العيون، وتتوهمه الظنون، وهو مما يراد به في حرز مصون، يعلي البناء، ويوسع الفناء، ويجزل العطاء، ويلد النجباء، ثم يمضي كما جاء، ويخلفه ملك له اسم نبي، ووجه وضي، تفتح عليه بلاد لم يسلكها بدوي، ولم تطأها قدم عربي، يا سليمان بن داود! ارفع الغطاء عن المائدة للضيفان، إن للمأدبة موعدا قد حان!
وصمت الراهب برهة، وأطرق، ومال مسلمة على أذن رفيقه يسر إليه، ثم رفع الراهب رأسه يقول: وصاحب بالجنب ينشد ضالة، والضالة تنشد ناشدها، والباب بين الناشد والمنشود عليه قفل ورتاج، وستر من ديباج ... أيها الصبي، أيتها الجارية، إن لكما وراء هذا الباب عمومة وخئولة؛ اختلط الدم بالدم، وتدسس العرق إلى العرق،
27
ويلك لو انكشف المخبوء وانهتك الستر وأزيح النقاب، لقد نذرت نذرا ونذرت المقادير نذرا، فأوف بنذرك، أو تجاوز عن ثأرك، فستبلغ المقادير غايتها برغمك، ويشهد الأمير ضاحك السن عاقبة أمره وأمرك، فيحدب
28
على الوليد، ويترحم على الشهيد، ويصل رحم القريب والبعيد!
وتفصد جبين الشيخ عرقا
29
كأنما كان يمتح على رأس بئر،
30
ثم تنفس نفسا عميقا كأنما خرج من جب، وراح يقلب عينيه بين الأمير وصاحبه صامتا، والأمير وصاحبه يتبادلان نظرات لا تكاد تفصح عن معنى. •••
وقال الأمير لصاحبه وقد أخذا طريقهما إلى المدينة: هل فهمت مما وصف الراهب شيئا يا أبا عتيبة؟ - قليلا يا مولاي، وغاب عني الكثير! - أفتدري ما المائتان والمائتان والثلاثمائة؟! - أحسبه يعني الذين يستشهدون منا قبل أن تدين القسطنطينية بالفتح. - أكذلك تزعم؟ - وماذا تكون هذه السبعمائة إلا ذلك! - ظننته يحصي الأيام أو الأسابيع، فإن كان ذلك فإن بيننا وبين الفتح عامين، أو أربعة عشر عاما ... - أو بضعة وخمسين!
31 - وي!
32 - بلى، فما أراه - إن كان يحصي الأزمان - إلا حاسبا حساب الأهلة،
33
لا الأسابيع ولا الأيام. - ذلك كثير يا أبا عتيبة! - ولكنه في عمر الدول قليل يا مولاي. - أخطأ حدسك؛ فإني أزعم أن سيكون ذلك في عهد سليمان،
34
وتفتح عليه بلاد لم يطأها عربي، أفترى سليمان يعمر بضعة وخمسين؟ - أفذلك قوله لابن داود: «ارفع الغطاء عن المائدة للضيفان.» - ظننته كذلك. - لقد كان لسليمان بن داود يا مولاي ملك لا ينبغي - في بني إسرائيل - لأحد من بعده، فما أحرى هذا أن يكون بشرى لسليمان بن عبد الملك أن تفتح عليه كنوز الدنيا! - ويكون اللواء في يدي يا أبا عتيبة! - ويكون أبو عتيبة في ظل لواء الأمير! - ونبلغ عرش قسطنطين الأكبر، ونطأ بساطه، ونحطم أصنامه، وأدفع إليك عشرة من بطارقته تحتز رءوسهم ثأرا لأخيك. - سيدي! - ماذا يا نعمان؟ - لقد تحدث الراهب عن الضالة وناشدها حديثا لم أعه! - أفلم يقل إنني سأشهد عاقبة أمرك ضاحك السن؟ - بلى ... - فماذا يعنيك من سائر هذيانه وخلطه؟ - أتراه يهذي ويخلط يا مولاي؟ فلماذا يصدق في الحديث عنك، ويخلط في الحديث عني؟! - أفظننت هؤلاء الرهبان يا نعمان يصدقون في كل ما يحكون؟ - ولم لا ...؟ - فهبهم قد علموا من كتبهم غيب الملوك والأمراء، فمن أين لهم غيب سائر الناس؟ - وماذا يحمله على أن يكذب؟ - ذلك يا نعمان كل ما بقي في أيدي هؤلاء القساوسة من الجاه في هذه البلاد بعد أن أظلها الإسلام، أفتحسبهم ينزلون طائعين عن هذا الجاه، فيقولون لبعض العامة: لا ندري! - قد فهمت. - بل ما تزال بعيدا عن الفهم. - ماذا؟! - أريد أن أقول لك: إني لم أصدق حرفا واحدا من حديث ذلك الراهب الشيخ، وما قصدته مؤمنا مصدقا، وإنما أردت أن ألتمس إلى التسلية سببا، وأنشد راحة نفس، فدع عنك حديثه ذلك كله كأن لم تستمع إليه، ولم تجلس بين يديه. - قد سمعت!
ومضيا عائدين من الدير قد أطبقا شفاههما، لا يتحدث أحدهما إلى صاحبه بعد ذلك الحديث، ولكن لكل منهما مع نفسه حديثا ضافي الذيول.
الفصل الثامن
بارقة أمل
لم تكن أم النعمان تعرف أن ولدها اتخذ زوجا، إلا يوم عاد إليها بعد غيبة دامت سنين يصحبه ذلك الطفل وأمه؛ أما الطفل فقد عرفته، إن فيه مخايل من أبيه - وإن لم يزل رضيعا في لفائفه - وإن اسمه عتبة، أو عتيبة، وما أحبه اسما إلى قلبها! إنه ليذكرها بعمه عتبة بن عبيد الله الذي ذهب منذ سنين ولم يعد بعد، فلا تدري أفي الأحياء هو أم في الموتى، فليكن هذا الصبي خلفا من عمه الذي طواه الغيب في ظلماته، وذكرى دائمة لأبيه الذي قطعه الغزو عن لداته ورماه في البحر والفلوات لا يكاد يستقر في بلد أو يهدأ على ظهر سابحة.
ولكن من تكون أم هذا الغلام؟ من أي بلاد العرب؟ وإلى أي بطونهم تنتمي؟ إنها لنحيلة ممشوقة، في عينيها زرقة، وفي خديها شحوب، ولحديثها نبر عذب، وفي يدها إشارة لطيفة، ولها حظ من علم وأدب وظرف لم يحصل مثله كثير من بنات العرب، كل ما تعرف أم النعمان عن كنتها
1
هذه الجديدة أن اسمها «سبيكة»، وأنها أم ذلك الصبي العزيز: عتيبة بن النعمان ...
أعربية هي أم مولدة؟ أم فتاة جلبها ولدها من السباء
2
أو من سوق الرقيق في بعض بلاد الشام؟ أزوجة هي أم أم ولد؟ ليس يدري أحد، ولكنهم جميعا يعطفون عليها، ويأنسون إلى حديثها، ويسارعون إلى مرضاتها، لا يسألونها عما لا يعرفون من خبرها، حفظا لغيب صاحبها،
3
ولا تحدثهم هي مبتدئة عما يريدون أن يعرفوا، حفظا لغيب نفسها ...
وتعاقبت الأعوام وسبيكة تعيش في ظل الحنان والعطف من حماتها وسلفتها
4
وأخوات زوجها وولد أخيه، لا تكاد تحس أنها غريبة في هذا الجو الجديد عليها ولا يكادون يحسون.
ولم ينس النعمان بن عبيد الله أن له زوجا وولدا، فكان يلم بالرقة حينا بعد حين، كلما وجد فسحة من الوقت بين صائفتين ، فيقيم بين أهله أياما قليلة ثم يرحل ...
وشب عتيبة بين فتيان الحي وفتياته، وقد آخى ابن عمه بشيرا وأخته نوار؛ فكأنما جمعتهم أمومة واحدة وأبوة، وكذلك مضت الحياة بهذه الأسرة كما تمضي بكل الأسر في ذلك البلد، لم ينكر أحد من أمرها شيئا، ولم تنكر من أمر نفسها؛ قد غاب رجلها في الغزو والجهاد كما يغيب رجال كثر في مثل تلك السنين عن زوجاتهم وأهليهم، واحتملت الأسرة غيبته راضية كما تحتمل أسر كثيرة في مثل تلك السنين غيبة رجالها راضية، بلى، كان في هذه الأسرة رجلان صغيران، هما عتيبة بن النعمان، وبشير بن عتبة، ولكنهما طفلان وإن بدا لهما - من مكانتهما في الأسرة - أنهما رجلا الأسرة وعليهما لها مثل تبعات الرجال.
وكانت الصوائف والشواتي ما تزال غادية رائحة بين الثغور في البر والبحر، عليها من أصحاب مسلمة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لم يخرجوا في هذه الرحلات المتتابعة لاهين ولا هازلين، قد وطنوا أنفسهم على الظفر في كل غارة يغيرونها أو يستشهدوا؛ منهم النعمان بن عبيد الله الرقي، ومنهم أبو محمد الأنطاكي، ومنهم عبد الوهاب بن بخت؛ ثلاثة ما يزال صدى أسمائهم يتردد في بلاد الروم مخيفا مفزعا، يرعب الصغير، ويؤرق الكبير، ويقض مضاجع النوام؛ فإن الأم في ثغور الروم ليذنب صغيرها أو يبكي فتريد تأديبه، فتقول له: اسكت أو أدفعك إلى الأنطاكي، أو ابن بخت، أو النعمان! فيكف الصغير عن بكائه ويستغفر من ذنبه!
وكانت صيحتهم في الحرب: لبيك أبا أيوب، فكأنما ترددها وراءهم - حين يلفظونها - أواذي البحر
5
وصخور الجبل، وتنداح
6
في سهول البادية صدى متصل الرنين، يفزع ويرهب ويقطع علائق القلوب.
وكانوا يحملون في الحرب سيوفا بلا أغماد، إذ كانوا لا يخرجون بها من المعركة إلا محطمة من طول الضراب!
وجلس ثلاثتهم ذات ليلة من ليالي العطلة في بعض مضارب الجند يسمرون، كعادتهم كلما سكن غبار الحرب، وأخذوا في لون من ألوان المفاخرة بما أتوا من أعمال البطولة في حرب الروم، فراح كل منهم يحصي ما في جسده من آثار الجراح، لا يكادون يستقصونها إحصاء وعدا، وبدا الأنطاكي أكثرهم آثار جراح، فقال ابن بخت معجبا: لله ما أبليت يا أبا محمد في سبيل الله، إنك لبطل!
قال النعمان: إنه لأعلى منزلة مما تصف يا أبا عبيدة؛ إنه لبطال.
7
وضحك الثلاثة ضحكا عريضا، ترددت أصداؤه في مضارب الجند، وصار اسمه من يومئذ: أبا محمد البطال،
8
لا يكاد يعرفه أحد إلا به.
وقال أبو محمد ولم يزل يشرق بضحكته: لقد أذكرتماني أمرا حانت مناسبته، فقد كنت بأنطاكية ذات يوم من سنة 70، وقد زحف الروم بجحافلهم يلتمسون غرة عبد الملك، حين اشتغاله بحرب ابن الزبير وتوقي مكايد عمرو بن سعيد ومقاومة الخوارج،
9
وبدا للروم كأنما دانت لهم أنطاكية وانفتح البر، ولم يكن ثمة جيش للعرب يصد غاراتهم، واستضعف المسلمون فأوى منهم من أوى إلى داره، وفر من فر إلى خارج المدينة، ورأيتني ذلك اليوم بغتة بين كوكبة من جند الروم، يسوقون في الحبال ثلاثة أسارى من العرب، وليس معي إلا سيف مفلول، قد تحطم من كثرة الضراب، وهتف بي الأسارى في أغلالهم يطلبون النجدة: إلينا يا أخا العرب!
وثارت حميتي، فحملت فردا على الجماعة بسيفي المسلول، لم أحفل بما تنال سيوفهم من لحمي، وقصدت إلى الأسارى أريد أن أخلصهم من أيدي القوم، وتوالت علي الضربات لا أكاد أحس وقعها على جسدي، وأوشكت أن أخلص الرجال، بعد أن جندلت في طريقي إليهم بضعة نفر، وهتف أحد الأسارى بصاحبيه: أبشر عتبة! أبشر سعيد! وهتف آخر منهم - وهو يشير إلى جانبي فزعا: فديتك يا بطال ... احذر! ونظرت إلى حيث كان يشير؛ فإذا رومي في زي بطريق قد رفع سيفه على رأسي، فهممت أن أخلى للضربة القاسمة، ولكن سيفه نالني ...
ثم كشف أبو محمد عن كتفه؛ فإذا أثر ضربة غائرة في حبل العاتق مما يلي العنق ... واستأنف أبو محمد: فذلك أول ما سمعت كلمة «البطال»!
كان النعمان يسمع ذاهلا، قد اختلجت شفتاه وحال لونه، فلم يكد يسكت أبو محمد البطال حتى ابتدره سائلا في لهفة: وماذا صنع بالأسارى؟ - لست أدري؛ فقد أعجلتني ضربة قسطنطين عن تخليصهم، فنجوت من الموت ولم أكد! - من قسطنطين؟ - ذلك البطريق الذي نالني بتلك الضربة، لقد لقيته بعدها في بعض الصوائف، وعرفته وعرفني، ولكنه أفلت من يدي ... - والأسارى؟ ...
قال البطال مستخفا: وما عنايتك هذه بهؤلاء الأسارى وقد مضى زمان؟ وكم بين العرب والروم من قتلى وأسارى! - قد قلت: إن عتبة كان أحد هؤلاء الثلاثة؟! - ومن عتبة هذا؟ - إني لأظنه أخي. - أخاك؟! - نعم، فقد خرج للغزو منذ ذلك التاريخ فلم يعد، ولم تكن صوائف ولا شوات يومئذ، فقد كان عبد الملك في شغل عن الصوائف والشواتي بحرب الخوارج.
صمت البطال برهة وهو يحدق في وجه صاحبيه، ثم قال موافقا: قد يكون إياه ...
وكان عبد الوهاب بن بخت صامتا، يستمع إلى ما يدور من الحوار بين الرجلين في اهتمام، ثم عقب: بل إني لأرجو أن يكون إياه.
فالتفت إليه النعمان قائلا وقد شاع في وجهه الأمل: عندك ما تقول يا أبا عبيدة؟ - نعم، فقد كان أحد الثلاثة سعيد بن جنادة، وقد خلص بهم الروم إلى البحر، فاحتملوهم أسارى على ظهر سفينة رومية، ولكن ابن جنادة التمس غرة من القوم، فألقى بنفسه من السفينة بعد ما أبعدت عن الساحل، فبلغ البر سابحا ... وقد لقيته فحدثني ... - بماذا حدثك؟ - قال: إن أحد صاحبيه اسمه عتبة الرقي، أليس بلدك الرقة؟ - بلى، وماذا قال غير هذا؟ - لم يحدثني عنهما أكثر من ذاك. - وأين ابن جنادة هذا؟ - مات تحت أسوار ملطية
10 ... - مات؟ ... - نعم، وإني لأرجو أن يكون أخوك حيا فتلقاه ويحدثك الخبر! - ليت الأماني تصدق يا أبا عبيدة!
وخلا النعمان إلى نفسه يفكر في أمره ... هل تصدق الأماني؟ وهل يرى أخاه حيا فيحدثه ويستمع إليه؟ ولكن أين ...؟
وهرول عائدا إلى أبي محمد البطال يستزيده: لقد قلت يا أبا محمد: إن البطريق الذي نالك بسيفه اسمه قسطنطين؟ - نعم! - وإنك لقيته بعدها في بعض المغازي فعرفته وعرفك؟ - نعم! - أفلست تظنه يعرف ما آل إليه أمر هؤلاء الأسرى؟ - أظن ... - فإني أريد أن ألقاه. - من ؟! - قسطنطين البطريق. - كل رومي قسطنطين يا أبا عتيبة،
11
فهل تظنني أذكر كل ما مر بي من الصور والحوادث على تعاقب السنين؟ - أفلست تذكر أين لقيت قسطنطين هذا في الغزاة الثانية؟ - لست أذكر. - ولكنه يعرف بعض أنباء أخي، فأين ألقاه إذن؟ - في بعض المعارك. - ماذا؟ - أعني لا بد أنك ستلقاه في معركة قابلة، فإنه رجل جلاد فيما يبدو، هذا إذ لم يكن قد مات. - أتظنه مات؟ - وماذا يمنع؟ لقد كان يوم أنطاكية شيخا قد جاوز الخمسين، فإن لم يكن قد لقي أجله في بعض المعارك فقد جاوز اليوم سن الموت. - وا أسفاه! - تأسف على موت عدوك وعدو الله! - بل آسف على أخي، وما غاب عني من خبره. - إنك لتسرف في الأمل يا أبا عتيبة إسرافا يوشك أن يفل عزمك عند أول صدمة فيقطع بك، فهل استيقنت يقينا لا شبهة فيه أن ذاك أخوك؟ فكم في العرب من «عتبة»، وكم عربي اسمه «الرقي» ولم يدخل الرقة أو يرها بعينين، فمن أين لك اليقين بأن ذاك أخوك؟ - إلا يكن أخي لأبي وأمي، فإنه أخي في الدين والنسب. - صدقت، وإنه لأخي كذلك، وأخو كل مسلم وعربي. - فستحرص منذ اليوم على ما أحرص، فتلتمس له أسباب الحرية؟ - نعم، ولكل عربي في الأسر، وأطلب ثأر القتلى بكل رأس رأسين.
ودوى النفير، فهب المسلمون إلى أسلحتهم، وهب النعمان معهم إلى سلاحه وهو يلبي: لبيك عتبة، لبيك أبا أيوب، الله أكبر.
الفصل التاسع
نداء الدم
- يوشك حديث الراهب أن يكون حقا!
كذلك قال النعمان لنفسه، ألم يقل ذلك الراهب: إن صاحبا بالجنب ينشد ضالة، والضالة تنشد ناشدها؟ ... فذانك هو وأخوه، ولكنه يريد أن يعرف أين تنتهي القصة؟ وما ذلك الباب عليه القفل والرتاج وستر الديباج؟ ومن ذلك الصبي وتلك الجارية؟ وما تلك العمومة والخئولة واختلاط الدم بالدم وتدسس العرق إلى العرق؟
1
ليته يعود إلى ذلك الراهب فيسأله أن يوضح له ما غمض من هذه الأحاجي؛
2
إن الرهبان ليعرفون كثيرا من غيب الخاصة وغيب العامة على السواء،
3
وما أنصف مسلمة حين وصف ذاك الراهب بما وصف ورماه بالهذيان والخلط!
وطوح الخيال لنعمان إلى مرامي بعيدة، وطوف حالما بين ما يعرف من ثغور الروم يتحسس آثار أخيه، ثم آب من رحلته تلك مكدود الذهن، ضيق النفس، خائر العزيمة، لقد كان قبل اليوم يجاهد مستميتا ليدرك ثأرا أو يظفر بالشهادة، أما اليوم فإن له هدفا آخر ... ليس في نفسه اليوم إلا صورة أخيه الذي يزعم أنه لم يزل حيا في الأسر عند بعض بطارقة الروم، وليس له أمنية إلا أن يصل إليه فيستنقذه فيرده إلى أمه وزوجه وولده!
والتفت خاطره إلى الذين يقيمون في الرقة من أهله، إن له ثمة زوجا وولدا، يعيشان بين أمه وزوج أخيه وولديه، لا يكاد يطرقهم زائرا حتى يؤذنهم بالفراق،
4
وقد مضى عامان منذ آخر زياراته لهم، فلم يرهم ولم يروه منذ ذلك الحين، كيف صار ولده عتيبة اليوم؟ وما شأنه وشأن ابن عمه بشير بن عتبة؟ وأخته نوار بنت عتبة؛ تلك الدمية الصغيرة الضاحكة أبدا كأنما يصبحها أبوها ويمسيها بالمزاح والدعابة والطرائف المجلوبة، وأبوها أسير في حصن من حصون الروم لم تره قط ولم يرها ...
وعاد يذكر أخاه عتبة ... وتخيل كأنما لقيه بعد أين، فاعتنقا، وتذاكرا الماضي طويلا، واصطحبا على الطريق إلى الرقة، حيث يقيم بشير ونوار وعتيبة وجدتهم العجوز وامرأتان أخريان قد فارقهما زوجاهما منذ بعيد، فلا هما زوجتان ولا أرملتان! ...
ويرى عتبة بن عبيد الله ابنته نوار، عروسا فاتنة ضاحكة السن أبدا، فيسأل: من هذه؟ فيضمها عتيبة بن النعمان إليه ويقول: هذه لي.
وتضحك امرأتان ورجلان، وتمتلئ قلوبهم غبطة ومسرة، ويحقق عتبة لابن أخيه ما أراد، فيزوجه نوار، ويعود الأنس إلى تلك الدار الموحشة.
5
ثم يستيقظ النعمان من حلمه ذلك، فإذا هو في خيمته، منبطح على فراشه، وإلى جانبه سيفه وترسه، ويفيء إلى الحقيقة
6
بعد مشوار طويل في وادي الأحلام، ويهم أن ينهض فتجاذبه الأرض. إن الأماني مكسلة مجبنة،
7
ولكنه لا بد أن ينهض، فإن الجند في الميدان لا يؤذن لهم في أن ينبطحوا على الأرض طويلا، وينسرحوا في الأحلام من واد إلى واد ... •••
كانت الدولة حتى ذلك اليوم عربية خالصة، وكانت عصبية الأبوة والأمومة وخلوص العرق من هجنة الدم، هي السياسة ومدار التدبير في الدولة؛ فليس للموالي ولا لأبناء الجواري جاه في الحكم ولا مطمع في الرياسة ولا اعتبار عند الأمراء ولا عند السوقة،
8
وكان الخلفاء مع ذلك يؤثرون الروميات والصقلبيات
9
وبنات الترك والعجم والمجلوبات السود أحيانا على الحرائر من بنات العم والخال، فيتخذونهن للفراش والخدمة وسياسة القصور ومجالس الأنس والمسرة، ولكنهن إن يلدن فليس أولادهن في اعتبار آبائهم إلا أبناء جوار، وإن كانوا في الذورة من الفضائل والحكمة وسياسة الأمور والشجاعة في الحرب، وكان أبناء العامة والخاصة من جواريهم في هذه المنزلة كذلك عند آبائهم وإخوتهم وأهليهم، فليس لهم عند أحد منزلة ابن العربية الحرة ...
من أجل ذلك أبعد مسلمة عن عرش بني مروان، وهو من إخوته - كما قال أبوه - «حكيمهم الذي عن رأيه يصدرون، وبابهم الذي منه يعبرون، ومجنهم الذي به يستجنون ...»
10
ومن أجل ذلك أيضا كتم النعمان بن عبيد الله عن أمه وأهله أمر امرأته سبيكة، فلم يحدثهم أنها أم ولد، كانت نصيبه من الفيء في بعض الغزوات، فحازها في داره حتى نضجت نضج الأنثى، وأحكمت العربية لسانا، وتشربت الإسلام دينا، فاتخذها أم ولد، ثم ترقى بها درجة فجعلها زوجا، ثم حملها إلى أهله لا يدرون من أمرها إلا أنها أم عتيبة بن النعمان!
لقد خشي النعمان أن يهجن أولاد عمومته ولده عتيبة حين يعرفون أنه لأم ولد رومية؛
11
فكذب تلك الكذبة الصامتة، ولم يتحدث إلى أهله بشيء من خبرها، وبعض الكذب لا تلفظه شفتان.
12
ولكن هذا النحول في القد، وتلك الزرقة في العينين، وذاك الشحوب في الخد، وذلك النبر في الحديث، كل أولئك ينم نميمة فاضحة عن أرومة تلك الصبية؛
13
فتتهامس حولها بعض الشفاه، وتنقبض عنها بعض النفوس.
ويفد النعمان إلى الرقة زائرا ذات مرة - كبعض عادته - بعد غيبة طويلة، فتلقاه زوجه طيبة النفس راضية ، قد افتر ثغرها عن ابتسامة، تعبر عن مدى شوقها إليه وسرورها بمقدمه، ولكنه يرى وجنتيها قد ازدادتا شحوبا، وعينيها قد بدتا أكثر زرقة وعمقا، ويرى على تينك الشفتين الرقيقتين كلمات تختلج يجاذبها الحياء منه والحفاظ على مودته أن تلفظها، ويسألها النعمان عما بها فلا تجيب، ولكنها ما تكاد تسمع صوته الحاني حتى تستحيل تلك الاختلاجة دموعا تنحدر على الوجنتين الشاحبتين، ويدنو منها النعمان، فيمسح على شعرها بيده، ويعيد سؤاله متلطفا، فتجيبه: ليس يخفى علي يا نعمان - ولا يطيب لي أن أنكر - أنني جاريتك. - بل زوجتي وأم ولدي يا سبيكة. - نعم، أم ولدك التي أكرمتها بنسبك فسميتها زوجا. - بل أنت أكرمتيني يا سبيكة بديا بما أسبغت علي من حنانك وعطفك، ثم أكرمتيني ثانية حين ولدت لي عتيبة هذا الذي أرجو أن يكون قرة عين لي ولك، وما زلت تكرمينني بما تحفظين من غيبي وتحدبين على أهلي وترعين ولدي راضية صابرة على مر الفراق وشظف العيش. - ولكن أمك لا ترضى يا نعمان. - أمي؟! - وزوج أخيك أيضا، وولدك عتيبة! - ماذا؟ ... قد علمت من علم الناس أن الحماة والسلفة لا ترضيان أبدا عن الكنة ... ولكن ما شأن ولدنا عتيبة؟! - إنه مثلهما ينكر على أمه أنها ليست عربية. - ومن أنبأه؟ - لم ينبئه أحد! - فماذا قال إذن؟ - جاءني ذات يوم يسألني: إلى أي عرب اللاذقية تنتسبين يا أم؟ - فكيف كان جوابك؟ - قلت له: إن أباك يعرف، ولم أزد، فقد خنقتني العبرة، ففررت من بين يديه إلى خلوتي. - أفهذا ما تقولين إنه ينكره عليك؟ - نعم! - لقد أسأت الفهم يا سبيكة. - بل قل: يا سبية! - أوه! - لست أريد مساءتك يا نعمان. - ولم يرد عتيبة مساءتك. - ففيم كان سؤاله ذاك عن نسبي؟ - تلك عادة عربية: أن يفخر الأبناء بما يمتون من نسب الآباء والأمهات. - وكيف كنت تراني أجيب؟
قال النعمان ضاحكا، وقد مال عليها حتى خالطتها أنفاسه: قولي له: إنك في أعلى بيت من بني الأصفر.
14
ونفرت سبيكة مبتعدة، وعضت على شفتها، ثم أرسلت عينيها وقالت، وقد سترت وجهها بكفيها وبدنها يختلج كله: وكذلك أنت يا نعمان ما تزال تقولها!
قال وقد زحف إليها حتى لاصقها ثانية: فماذا كنت تريدين أن أقول إذن؟ - لا شيء! - ولكن كل مسئول لا بد أن يجيب.
قالت وقد شرعت عينيها وبرق فيهما بريق عجيب: قل إنك ولدتني ولادة ثانية ثم اتخذتني زوجا! - وإذن فأنا أبوك وزوجك؟ - نعم. - ولكنك أنت ولدتيني كذلك ثم ولدت لي! - إذن فأنا أمك وزوجك؟ - نعم! - وأمك؟ - إن لكل رجل أمين وأبوين. - ولكل امرأة ...! - فمن أمك الثانية إذن؟ - أمك! - ولكنك تكرهينها يا سبيكة فيما أرى! - بل هي تكرهني. - وهل تكره الأم ابنتها؟ - نعم، حين تكون كنة لها، فتغلبها على أمومة ولدها. - فهل أيقنت إذن أنك قد غلبتيها على أمومتي؟ ... - أيقنت.
قال وقد مد إليها يدا يعابثها: فإن طفلك الكبير ... جائع يا أم.
فابتعدت عنه معجلة وهي تقول: صه، فإن عتيبة قادم.
وسمع وقع أقدامه في الفناء، ثم دخل، فألقى بنفسه بين ذراعي أبيه ...
لم يعد عتيبة صبيا، فقد شب ونما واخضر شاربه، وكان قويا عريض الألواح مفتول الساعد خشن الكف، ولكن في خديه شحوبا، وفي عينيه زرقة وعمق، ولصوته نبر عذب، من يراه ويرى هذين الرجل والمرأة لا يشك للنظرة الأولى أنهما زوجان قد أنجبا، فإن فيه من كليهما وليس لأحدهما من صاحبه شيء ...
ورأى عتيبة فرصة سانحة ليتحدث إلى أبيه في أمر يشغله منذ بعيد، ثم استحيا ... فآثر السكوت حتى يروي في الأمر فيعرف من أين يبدأ ...
ولكن الرجل الكهل لم يكن من الغفلة بحيث يغيب عنه معنى تلك اللمحات الغامضة والإشارات المكبوتة التي بدت من ولده حين أخذا في الحديث عن بعض ما كان هنا وهنالك في أثناء تلك الغيبة الطويلة ... - إن عتيبة قد بلغ مبلغ الرجال يا سبيكة. - نعم! - ويرى من حقه أن يؤوي إليه زوجة. - نعم! - وتغلبك على أمومته أم أخرى ... - تخف تبعاتي إذن. - أتؤمنين بما تقولين يا سبيكة؟ - كل الإيمان. - وإذا لم يجد عندها ما يلتمس كل رجل في امرأته من حنان الأمومة وعطف الزوجة وإيثار الحب؟ ... - لن يفتقد عتيبة عند زوجه شيئا من ذلك. - تعرفينها إذن؟ - نعم! - حدثك بخبرها؟ - حدثتني عيناه دون لسانه. - أهي نوار بنت عمه؟ - من حدثك؟ - حدثتني عيناه كذلك. - وبماذا أجبته؟ - غضضت طرفي، واصطنعت الغفلة. - ولمه؟ - أردت أن أستنبيء عينيها قبل أن آخذ في الحديث معه. - ولكن عينيها لا تتحدثان إلى أحد بشيء! - فكيف عرفت إذن أنها تحبه؟ - إن عيون النساء أقدر على الغوص في أعماق النفوس والكشف عن خبيئاتها! - وغاصت عيناك في أعماقها وكشفتا عن خبيئتها؟ - ورأيت صورته في أعمق الأغوار من قلبها، ولكن إطارا أسود يمسكها ويلقي عليها ظلا كريها. - لست أفهم ما تعنين يا سبيكة! - إن أمها لا تريد أن يكون زوجها فتى هجينا، يتدسس إليه عرق من الروم، الذين أيتموها جنينا وأيموا أمها شابة.
15 - ومن أنبأها أن عتيبة يمت إلى الروم؟ - لم ينبئها أحد! - فكيف عرفت إذن؟ - ذاك يوم جاء يسألني عن نسبي. - قد وهمت يا سبيكة. - وشيء آخر ... - ماذا؟ - كلمة لا أقولها ... - بل قوليها ... - لقد حدثتني أمها ذات يوم أنها لن تزوج فتاتها إلا فتى يمهرها تاج بطريق رومي! - ما أرخصه مهرا! - يقتله ويحمل إليها تاجه. - فهمت. - ويسوق إليها مع هذا المهر جارية من بنات البطارقة. - وفيم هذا الغلو؟ - تريد أن تثأر لأبيها. - ولكن أباها لم يمت! - ماذا قلت؟
لم يكن النعمان يريد أن يفضي إلى أحد بذلك السر، فإنه لم يطب له عيش منذ حمله، وليس يريد أن يشق على أحبائه بتحميلهم من ذلك ما لا يحتمل هو، ثم إن أمر أخيه لم يزل حدسا لا يعرف آخرته؛ أإلى لقاء سعيد؟ أم إلى خيبة أشد مرارة من ذلك الحاضر المر؟ فلم تكد تجري على لسانه تلك العبارة، وتتبعها امرأته بالسؤال حتى فاء إلى نفسه واستدرك: أعني أن أباها لا يعرف أين ذهب، فمن أين لها أن الروم قتلته؟ - كيف تزعم! - ولكن هذا الزعم لن يحول بين قلبين تعارفا، فائتلفا فأضمر كل منهما لصاحبه مثل ما يضمر لنفسه. - وذلك المهر؟ - دعي ذلك إلى إبانه.
16 •••
لم يودع النعمان زوجته وولده في هذه المرة قلقا حيران، قد توزعته التبعات؛ فقد خلف على أهله في هذه المرة رجلين يقومان بأمرهم، هما عتيبة ابنه، وبشير ابن أخيه، وقد كشف لزوجه عن ذات صدره في أمور لم يكشف لها عن مثلها من قبل، وتحدث إلى أمه وامرأة أخيه وولديها أحاديث ذات بال في شئون شتى، لم يصرح بكل ما في نفسه، ولكنه مهد تمهيدا لبعض الأمر، ووضع في الأرض الطيبة بذرة يرجو لها النماء ... ثم وثب إلى ظهر فرسه ومضى ...
وكان فتى وفتاة يتبعانه بأعين دامعة وقلباهما يجفان، ثم لم يكد يغيب الراكب المغذ حتى التقت أعينهما في نظرة طويلة، ثم أنغضت الفتاة رأسها وأنغض الفتى،
17
واتخذا طريقهما صامتين إلى الدار.
الفصل العاشر
قبر على الطريق
لم تزل الغنائم والأسلاب والأسارى تتدفق على الثغور الإسلامية إثر كل صائفة وشاتية، قد ازدحمت بها الأسواق وقلت فيها الرغبة، حتى ليباع مطرف الخز بدراهم، وتشرى السبية من بنات الأمراء والسادة بدينار، على أن أعظم ما أفاء الله على المسلمين في تلك السنين من غنائم الحرب؛ ما عاد به موسى بن نصير قائد جيش المغرب من غنائم الأندلس.
هذا موكبه يدخل دمشق في سنة 94 فيذهل الوالدة عن ولدها ويلهي الصبي عن طعامه وشرابه.
ذلك أمير الركب موسى بن نصير في وشيه وديباجه؛ يتبعه ثلاثون غلاما من أولاد ملوك الإسبان على رءوسهم التيجان، ويلبسون الثياب مطرزة بخيوط الذهب، مرقشة بفصوص الجوهر، يسعى بين أيديهم المئات من غلمانهم وخدمهم وحشمهم، كأنهم في موكبهم الملوكي بطليطلة؛
1
يتبع أولئك عجلات تجرها الدواب ولا تكاد، قد رص عليها ما لا يحصى من أحمال الذهب والفضة والجوهر والياقوت، والطنافس المنسوجة بقضبان الذهب المنظومة باللؤلؤ الغالي والجوهر المثمن؛ يتبع ذلك عجلات أخرى قد تفسخت من ثقل ما تحمل، عليها مائدة سليمان بن داود
2
قد نقلت من حيث كانت في طليطلة إلى عاصمة الدولة في دمشق، وكانت من خالص الذهب والفضة، وعليها ثلاثة أطواق من لؤلؤ وياقوت وزمرد، يتبع كل أولئك موكب الأسارى ، وعدتهم أربعون ألفا من أبناء الإسبان.
ذلك كله هو بعض الخمس
3
مما اغتنم موسى بن نصير في حرب الأندلس؛ فكم جملة ما حصل من السبايا والأسارى والمغانم! •••
قال مسلمة للنعمان بن عبيد الله: أتذكر ما قال ذلك الراهب يا أبا عتيبة؟ فقد رفع سليمان الغطاء عن المائدة للضيفان، أفلا تظن أن موعد المأدبة قد حان؟
4
قال النعمان: صدق الراهب وبر ... - بل كذب وفجر، وإن وافقه القدر.
وصمت مسلمة برهة، ثم أردف: وسأخرج إلى الحجاز في عامي هذا فأؤدي الفريضة، ثم أرجع فأعد للغزو عدته، لا أنتظر سبعمائة ولا سبعين ولا سبعة،
5
ليس موسى بن نصير ومولاه طارق بأوسع ذرعا من مسلمة، فسنفتح القسطنطينية وننفذ منها إلى الأرض الكبيرة قبل أن يجاوز موسى بن نصير جبل الزهرة إلى أرض إفرنسة، وتشهد دمشق موكبا آخر قريبا ينسي أهل الشام موكب ابن نصير، ويلهيهم عن مائدة سليمان بن داود! •••
كان عهد الوليد بن عبد الملك خليقا بأن يطول؛ فقد ولي الخلافة ولم يزل في باكر الشباب، وقد عمر أبوه عبد الملك وجده مروان حتى جاوزا الستين، ولكن بني عبد الملك كثير، وكأن كلا منهم قد استقر في وعيه الباطن أن من حقه أن يجلس قدرا من عمره على عرش عبد الملك، فلولا بقية من الحفاظ على العهد - أو لعلها خشية افتراق الكلمة - لوثب بعضهم على بعض يستبقون عرش الخلافة؛ فكأنما اقتضت حكمة الله ألا يعمر الوليد طويلا من أجل ذلك.
على أن الوليد كان على نية الغدر، فلولا أن الأجل أعجله من مأمله لجعلها وراثة لولده دون أخيه وولي عهده سليمان؛ وكان يؤازره على هذه النية طائفة من أمرائه وبطانته وقادة جنده، فلما بغته الموت ووليها من بعده سليمان بن عبد الملك، كانت أشياء تحيك في صدره من بطانة الخليفة الراحل ... وكانت أشياء تحيك في صدورهم كذلك، ولكن مسلمة بن عبد الملك - كما قال أبوه - كان مجن هذه الدولة، فرد سيوفا - كانت مشرعة - إلى أغمادها، وبصق على الفتنة فانطفأت. •••
وتهيأ مسلمة للحج، ففرق أصحابه على الثغور ، وعقد الألوية لأمراء الصائفة، ووزع الأعطيات في الجند، ثم سار في موكب فخم ضخم على ظهر البادية إلى الحجاز، يصحبه النعمان بن عبيد الله ...
ونزلوا ذات يوم للقيلولة في بعض مراحل الطريق، ثم نهضوا يستأنفون الرحلة، وكان بالنعمان في ذلك اليوم وجع يثقل به، فلا يكاد ينهض، ولكنه لم يطب نفسا بالتخلف، فتحامل على نفسه حتى ركب، وأسلم زمام ناقته إلى الحادي،
6
ثم أخذته إغفاءة،
7
فمال برأسه على قتب الراحلة، وسبحت به الأحلام في بحر بعيد الشاطيء، فانكشفت له صور من الحياة لم يرها من قبل، ولم تخطر له في وهم، ولا في أمنية ...
ثم نشط من إغفاءته هذه معافى خفيف الحركة، ولكن رأسه مما ازدحم فيه من الأوهام والصور لا يكاد يثبت بين كتفيه ...
واستمر الركب في سراه على ظهر البادية، والحداة يوقعون أغانيهم في هدوء الليل، فترجع الصخور صداها عذبا صافي الرنين كأن موسيقى تعزف وراء تلك التلال التي تكتنف طريق الوادي ...
وامتلأت نفس النعمان شعرا بليغا، ولكن شفتيه لم تلفظا بيتا، ولم يتحرك لسانه بقافية، واستحالت العواطف الشاعرة دموعا في أجفانه، وتأججت نارا في رأسه، وكان نسيم الليل باردا بليلا، فحبس في عينيه تلك الدموع، ولكنه لم يطفئ الوجد الملتهب في صدره، والنار المشتعلة في رأسه، وبسط صدره ورفع أنفه يعب الهواء عبا، ولكنه لم يرو من ظمأ أو يبترد من غلة؛ فاستحث راحلته حتى تقدمت فحاذت راحلة أمير الركب مسلمة بن عبد الملك، فهم أن يتحدث إليه حديثا، ثم أمسك ...
والتفت مسلمة إلى حيث كان النعمان، فرآه فعرفه فبدأه محييا: طابت رحلتك يا أبا عتيبة. - طابت لك الرحلة والإقامة يا مولاي.
وكان مسلمة قريب الإفاقة من إغفاءة حالمة مثل إغفاءة صاحبه، قد رأى فيها رؤيا، وانكشفت له صور من ماضيه وحاضره، وصور أخرى لم يرها من قبل، وكان النعمان يصحبه في كل مراحل تلك الرؤيا؛ فلم يكد يفيق من إغفاءته ويرى النعمان إلى جانب راحلته حتى أخذه العجب، فقال وفي صوته نبر غريب : لأمر ما رأيتك إلى جانبي الساعة يا أبا عتيبة. - لقد رأيت رؤيا يا مولاي فرغبت ... - رؤيا؟ ... - نعم، وكان الأمير معي ... - معك؟ - أعني أنني كنت معه ... - نعم، نعم! - ورأيتك تضم إليك شابا فيه ملامح من أبيه فتتملاه طويلا، ثم تفيض عيناك بالدموع، ولم أكن معكما بعد ذلك، ولكني رأيت كل ما كان وعرفت ...
قال مسلمة كالذاهل: نعم، نعم؛ ولكن كيف حدث هذا؟ ... - قد رأيت ... - عرفت، ولكن كيف اقتحمت علي غفوتي فرأيت ما رأيته؟ ... - وي! ... هل رأى مولاي مثل هذه الرؤيا؟ ...
فاء مسلمة إلى نفسه ولم يكد، فقال مستدركا: ثم ماذا يا نعمان، فإن حديثك لعجيب! - حسبت مولاي قال إنه رأى مثل رؤياي! - بل عجبت أن تكون معي وأكون معك في اليقظة والمنام ... إن بيننا نسبا يا أبا عتيبة! ... - وكذلك تراءى لي ...
وهم لسان مسلمة أن يسبقه ثانية إلى ما لا يريد أن يقول، فأمسك وترك النعمان يقص رؤياه، لا يزيد على أن يقول له مرة بعد مرة: هيه يا أبا عتيبة! ...
ومضى النعمان في قصصه: ورأيت ولدي عتيبة على رأسي، وقد اخضلت عيناه بالدمع، وكانت أمه سبيكة وراء ظهره، وكان على وجهها ستر رقيق تجول عيناها من ورائه، وكان مجلسك يا مولاي إلى يمين فراشي، ورأيت عيني سبيكة تستقران على وجهك، ورأيت عينيك تستقران على وجهها؛ فثار دمي غيرة وحنقا - ومعذرة إليك يا مولاي - وهممت أن أنهض، ولكن جسدي كان قد ناله يبس الموت، وهم لساني أن ينطق، ولكنه لصق بفكي، وكأنما كنت أرى بغير عينين، فقد كانت أجفاني مثقلة قد أطبقت واشتبكت أهدابها، ولكن المنظر - مع ذلك - لم يزايلني؛ كانت عيناك مستقرتين على وجهها، وعلى شفتيك كلمات أراها ولا أسمعها، وبعض الكلام يرى ولا يسمع، ثم ملت علي فقبلت جبيني، وانحدرت على خديك دمعتان، وسمعتك تقول: هون عليك يا أبا عتيبة، إن بيننا نسبا وصهرا ...
وكانت دمعتان تنحدران في تلك اللحظة على خدي مسلمة، وقد مال على النعمان كأنما يهم أن يقبله، لولا بعد ما بين الراحلتين، ثم قال وصوته يختلج: هيه يا أبا عتيبة! - وخففت من ثقل، وحلقت بعيدا، وغاب عني منظر السماء والأرض، ثم فئت إليك، ورأيتك هذه المرة في خيمة من ديباج، قد أقيمت في واد أفيح قد انبسط الزرع فيه على مد البصر، وانتثرت فيه بيوت من خشب تسرح حواليها قطعان من الجاموس والغنم، وكأنما سمعت الأذان والتكبير في هذه البيوت المنتثرة بين المراعي الخصبة، فعلمت أنني في أرض عربية، وأنك صاحبها، فإن صدقت رؤياي يا مولاي، فتلك بضعة من أرض الروم مما يلي القسطنطينية، حيث ينتهي خليج أبي أيوب، لقد نزلت هذه الأرض ذات مرة في بعض الصوائف ضيفا على أبي أيوب، فأطعمني من ثمراتها وسقاني وأظل مقيلي!
كان مسلمة منصتا لحديث صاحبه وهو مسترسل فيما يقص من رؤياه: ورأيتك في خيمتك هذه التي وصفت، وقد سيق إليك أسارى من الروم، فأمرت بأن تضرب أعناقهم، ومثلت سبيكة لعيني في تلك اللحظة تحول بينك وبين ما تريد من سفك دمائهم، فنولتها العفو عنهم ونولتهم العافية ...
وكان بدن مسلمة يختلج، وهو يقول ولا يكاد صوته يبلع أذنيه: هيه يا أبا عتيبة! - ثم رأيتك في الرقة، وكان ثمة أخي عتبة قد جلس بين ولديه بشير ونوار، ورأيتك تدني عتيبة ولدي منك فتضمه إليك، وعلى شفتيك كلمات لا أسمعها، وتفيض برك على أخي وولدي وأهلي جميعا، لا تستثني منهم أحدا، ثم تمضي وعلى شفتيك كلمات لا أسمعها كذلك ...
ثم ماذا يا أبا عتيبة؟ - ثم أراني وإياك على راحلتين في أرض البلقاء، نقصد ذلك الدير الذي لقينا فيه ذلك الراهب ذات يوم فحدثنا، ولكننا نجد الراهب قد مات، فنرجع محزونين وأنت تقول: قد انقطع الوحي منذ محمد، وما صدق الراهب ولا بر، بل كذب وفجر، وإن وافقه القدر؛ ولولا علالة نفس تستشرف إلى معرفة ما استسر في غدها من غيب الله؛ ما غبرت قدمي في هذه البادية ألتمس إلى التسلية سببا وأنشد راحة نفس. - ثم ماذا يا أبا عتيبة؟ - ثم أفقت من إغفاءتي فإذا أنا على هذا الطريق في ركب الحاج إلى مكة ، قد شرفني مولاي بصحبته وبسط لي معروفه وبره. - ذاك حقك علينا يا أبا عتيبة، ولكن ما شأن ولدك عتيبة هذا وما خبره؟ فقد شوقتنا إليه يا صاح! - فتى يخطو إلى الشباب، قد خلف أباه على أهله، وحفظ عنه الولاء لأميره، فهو غلامك يا مولاي وإن لم يكن له حظ الرؤية وشرف المصاحبة. - فقد صار له علينا الحق - إذن - أن نثبته في ديوان الجند، وأن نقدر له الأعطية، ونعفيه من عبء الجهاد، حفاظا لعهد أبيه، واعترافا بما أبلى في الحرب وما لا يزال يبلي ... - بورك لك يا مولاي! - وبورك لك يا أبا عتيبة. - ولكن هذه الرؤية التي رأيت ... - اكتمها يا نعمان، فلا تقصصها على أحد؛ حتى ندخل المدينة، فنلتمس ابن سيرين
8
في مسجد رسول الله فنقصها عليه، فنسأله تعبيرها، وإني لأرجو أن تكون خيرا بشرت به. - وانسرح مسلمة في واد سحيق، والهواجس تصطرع في رأسه، وانسرح النعمان في واد آخر ...
هذه الرؤيا التي قصها النعمان على مسلمة لم تكن غريبة عليه؛ لقد تراءت له في إغفاءته تلك القصيرة - كما تراءت لصاحبه، وكما قصها عليه - ولو كانت أضغاث أحلام
9
لما تراءت في صورة واحدة لرجلين قد اختلفا نفسا، وتباعدا آمالا، وتباينا في أسلوب العيش، وإدراك صور الحياة!
وخطرت في رأس مسلمة صورة أمه ورد، ثم غابت في حواشي الظلام، وخفق قلبه خفقة؛ لقد خلفها في دمشق مريضة، أتكون الآن في اللحظة التي تذكر فيها كل أم ولدها، وولدها بعيد قد لفه الليل في مجاهل البادية، فليس له سبيل إلى لقائها؟
وضاق صدره، ولكن نسيم الليل الهاديء لم يلبث أن رده إلى نوع من الهدوء يشبه الاستسلام؛ فاطرح كل ما كان يصطرع من الأوهام في رأسه، وأقبل على ذكر الله مطمئنا راضيا مؤمنا بقضاء الله وقدره.
الفصل الحادي عشر
لبيك أبا أيوب!
وعاد ركب الحاج من المدينة، ولم يكن فيه النعمان؛ فقد حضره أجله في مكة قبل أن يحل من إحرامه
1
وقبل أن يدخل المدينة ليقص رؤياه على ابن سيرين ، ويعرف تأويلها، ولم يقصها عليه مسلمة أو يلتمس لقاءه؛ فقد كان من رزئه بصاحبه في هم، وكان من الرغبة في سرعة الرواح إلى دمشق ليرى أمه، بحيث لم يمكث في مدينة الرسول إلا بمقدار ما زار ووفى النذور وفرق الأعطيات؛ ثم نادى مناديه في القافلة بالرحيل.
وبلغ دمشق، ولكنه لم ير أمه؛ فقد ودعت أمه دمشق وتركت دنياها جميعا قبل أن يعود مسلمة ولدها من حجته!
وقعد مسلمة أياما يتقبل العزاء؛ ولكنه لم ينس منذ أول لحظة هبط فيها الحاضرة أن عليه حقا لرفيقه الذي خلفه تحت الجنادل في صعيد مكة؛ فأرسل رسولا إلى ولده عتيبة في الرقة، وأرسل معه لأسرة الشهيد مالا وأحمالا ... •••
كانت جيوش الفتح قد بلغت شأوا بعيدا في الشرق والغرب: قد قوض جيش المغرب عرش الإسبان، وحاز الأندلس من أطرافها، وأخذ يتهيأ للزحف شرقا نحو بلاد إفرنسة، وما يليها من أرض الروم.
وبلغت جيوش المشرق قزوين، ونفذت إلى شواطيء بحر بنطش.
واتخذ أسطول العرب قواعد في ثغور بحر الروم يتهيأ منها للوثبة؛ وما تزال بعض سفنه تغدو وتروح على بحر بنطش وخليج القسطنطينية، فتصيب من ثغور الروم غنائم وأسرى وسبايا؛ وما تنفك قوات الفدائيين من العرب المتطوعة تغير على أطراف بلاد الروم تشعث فيها، وتدك حصونها، وتنشر بين أهلها الرعب والفزع ...
وقد عجزت جيوش الروم عن صد هذه الغارات العربية المتتابعة على البر والبحر، وأخذوا بالرعب عن تدبير أسباب الدفاع عن بلادهم، فساءوا رأيا في القياصرة والبطارقة والأمراء وقادة الجند، ووقعوا في اضطراب وفوضى ولجاج عنيف؛ فلا يكاد يستقر على العرش قيصر من القياصرة حتى يبادروا إليه فيخلعوه فيقتلوه أو يسملوا عينيه ويجدعوا أنفه،
2
وينفوه إلى جزائر البحر أو سهول القريم ...
وخلا عرش القسطنطينية من قيصر، وسنحت الفرصة ليضرب العرب ضربتهم الحاسمة، وقال أنسطاثيوس الصالح كاتم سر القيصر المخلوع: قد - والله - أوشك العرب أن ينالوا منالهم ويملكوا البر والبحر والسهل والجبل، وقد غلب أسطولهم على البحرين ونفذ إلى الخليج، ووطئت جنودهم ساحل «أبيدوس»
3
وكأني بهم قد وثبوا غدا إلى «بيزانت»
4
و«كيلس»
5
فنقبوا الأسوار أو تسلقوها كالجن فإذا هم بين ظهرانينا لا يردهم أحد، وكأني بمسلمة على رأس جيشه قد وطئ بلاط قسطنطين، وحطم تاجه ودنس «أيا صوفيا»
6
بنعله وكب تمثال العذراء على وجهه!
قال قسطنطين بطريق أبيدوس: بعض هذا أيها الأمير؛ فوالله لا ينالون منا منالا وفينا عرق ينبض؛ فإلا يكن دفاعنا عن أرضنا وديارنا وحرياتنا، فليكن دفاعنا عن الصليب وتمثال العذراء.
قال ميناس القائد ساخرا: فهلا دافع قسطنطين عن عرضه؛ إذ سبيت بنتاه وسيقتا تحت عينيه إلى الأسر فلم يستطع ردهما، ولم يزل يبكي فقدهما بكاء يعقوب،
7
لا يكاد يخف لأخذ الثأر؟
قال قسطنطين مغضبا: ألي يقال هذا؟ وما رأيت بطريقا من البطارقة قد حمل بعض ما حملت من عبء الدفاع عن ذلك الثغر؛ فإن كانت بنتاي قد سبيتا واحدة بعد واحدة فما قصرت في الدفاع، ولا عجزت عن الثأر؛ وما طرق العدو أبيدوس مرة إلا خلف نصف جنده على ثراها صرعى، أو أسارى مقرنين في الأصفاد؛ ووالله ما يخدم أهلي - منذ بعيد - إلا الأسارى من سادة العرب!
وكأنما أجد هذا الحديث ذكرى أليمة لقسطنطين، ومس عاطفته حديث بنتيه، فغلبه مدمعه ...
وكان قسطنطين هذا بطريقا شيخا، قد نيف على السبعين، وكان له - في تلك الدولة - سلطان وجاه، قبل أن يتغلب على عرشها هؤلاء المتغلبون من السوقة والطغام، وكل صاحب أيد وكيد، من قيصر كان غناما، وآخر كان جابيا، وثالث كان جنديا في المؤخرة فبرز إلى الطليعة، ثم ترقى إلى القيادة، ووثب على العرش،
8
فلما اضطرب حال القياصرة وضعفت مهابتهم في نفوس الخاصة والعامة، وآذنت الدولة بهذا الانحلال الخطير؛ اعتزل البلاط، وعزف عن السياسة وأوى إلى هذه البليدة على الشاطيء الأسيوي من خليج القسطنطينية، فحشد فيها أهله وولده وقبيله، واتخذها دار إقامة بعيدا عن مكايد الساسة ومؤامرات القواد وتقلبات الحوادث ...
ولكنه - وقد التمس الهدوء في موطنه هذا الجديد - لم يوفق إلى ما أراد؛ فإن غارات الفدائيين من العرب لم تزل تناله من البر والبحر، فلما كانت أيام القيصر «قسطنطين بوغونات» وحاصرت جيوش معاوية مدينة الروم فطوقتها برا وبحرا بالآلاف من السفن وعشرات الآلاف من الجند،
9
نزلت أبيدوس سرية من سرايا العرب فأعجلت أهلها عن الدفاع، وعاثت فيهم عيثا شديدا؛ ففتكت وهتكت واحتملت أسارى وسبايا، وكان فيمن سبيت «روديا» بنت قسطنطين نفسه؛ وقد دافع البطريق البطل عن أهله وولده وبلده ما استطاع الدفاع، حتى رد العرب على أدبارهم، ولكنه لم يستطع أن يستخلص فتاته السبية، وحملت فيمن حمل من الأسارى والسبايا إلى دمشق ...
وتتابعت غارات العرب - بعد ذلك - على هذا الحصن الصغير كل صائفة وكل شاتية، ولكن قسطنطين لم يقصر في الدفاع مرة ...
فلما كانت أيام جوستنيان الثاني - بعد استباء بنت قسطنطين بعشرين سنة أو يزيد - وبدا للروم أن الدولة العربية في الشام قد أشرفت على الانحلال - أيام عبد الملك
10 - لما يتوزعها من أسباب الخلاف وما ينشب فيها من الفتن، كان قسطنطين أول من كتب الكتائب الرومية لاهتبال الفرصة السانحة، ودعا الروم إلى التطوع للجهاد، وكانت الفرقة التي ألفها من بنيه وبني إخوته ومن شباب أبيدوس أول فرقة رومية وطئت ثغر أنطاكية وأوغلت في أرض الشام، ثم كان الصلح بين عبد الملك وجوستنيان الثاني؛ فارتد الروم مصحرين أو مبحرين
11
إلى بلادهم، ولكن قسطنطين لم يرتد حتى أصاب غنائم وأسرى مصفدين في الأغلال يسوقهم إلى أبيدوس؛ ولولا أن جوستنيان أمره فأغلظ في الأمر لما عاد حتى يثخن في بلاد العرب، ويبلغ من العلم عما آل إليه أمر ابنته التي استباها العرب منذ نيف وعشرين سنة، ولكنه - مع ذلك - قد ارتد بأسارى يرجو أن يبقوا عنده رهائن إلى يوم قريب أو بعيد.
12
وكان الشاطيء الشمالي من خليج القسطنطينية قبلة الغزاة العرب في كل غارة، حيث يثوي أبو أيوب الأنصاري؛ يهاجرون إليه لينزلوا عليه ضيوفا في داره هذه التي اتخذها مثوى إلى يوم يبعث الله الموتى، فكانت أبيدوس لذلك طريقا لهؤلاء الغزاة المغيرين، يبيتونها
13
برا وبحرا في الذهاب والعودة، ويصيبون من أهلها، ويصيب أهلها منهم؛ فلم تنقطع الغارات عليها صائفة وشاتية، ولم يكف قسطنطين عن النضال!
ثم كانت غارة من تلك الغارات الباغتة، أثخن فيها العرب في الروم إثخانا شديدا، واحتملوا أسارى وسبايا؛ وكان من بين السبايا ابنة أخرى لقسطنطين، لم تنضج نضج الأنثى، ولكنها جاوزت حد الطفولة ... وافتلذ العرب فلذة أخرى من كبد البطريق المرزأ ...
هل كان البطريق قسطنطين يجاهد العرب منذ ذلك اليوم ثأرا لابنتيه السبيتين، أو ثأرا لوطنه، وكفاحا عن أمجاد قومه؟
من يدري؟ ولكنه - على أي حاليه - لم يكف عن النضال.
وهذا القائد ميناس يعيره بسبي ابنتيه، ويوشك أن يتهمه في وطنيته وفي شجاعته ومصابرته، فيدافع دفاع الغضبان، ثم لا يلبث أن يغلبه الدمع.
يا للبطريق الشيخ! دريئة من درايا قومه
14
يتلقى عنهم سهام العدو، ففي كل موضع منه جراحة لم تلتئم، ويتهمه قومه بالجبن والخور ...!
وابنتاه ... أين هما اليوم؟
أحظيتان في بعض بيوت الأمراء والسادة، أم جاريتان ممتهنتان في بعض بيوت الرعاع والسوقة؟
أولدتا لبعض العرب جندا يشهرون السيوف في وجوه بني الخال والخالة من سادة الروم؛ أم آثرتا الموت على ذل الإسار أو آثرهما الموت؟
أتذكرانه كما يذكرهما ويذكرهما معه الإخوة والأخوات وبنو الأعمام والعمات، أم استبدلتا في العرب أهلا بأهل؟ وباعتا بالسيد والولد الأب والأم والإخوة والأخوات؟
في أي البلاد تعيشان؟ أو في أي الأرض سوي عليهما التراب؟
ابنتا البطريق المعظم، جاريتان قد انقطعت بينه وبينهما الأسباب؛ فيا له من الفجيعة في ابنتيه، ويا له من بذاءة بعض قومه!
قال أنسطاثيوس الصالح: هون عليك يا قسطنطين؛ فقد علم - والله - كل رومي في هذه البلاد بلاءك في جهاد العرب؛ فلا عليك من قول لم تحمل عليه إلا الغيرة. •••
وبويع أنسطاثيوس قيصرا؛ فراح يحاول ما يحاول لتدبير أمر البلاد وتنظيم قوات الدفاع، ولكن غارات العرب المتتابعة لم تدع له فرصة للتدبير ولا لتنظيم قوات الدفاع؛ فنالوا منه ولم ينل منهم، وتوالت هزائمه في البر والبحر، فاعتزل العرش إلى بعض الأديار حزينا أسوان، يلتمس في الصلاة والدعاء بعض السلوان.
ووثب إلى العرش سوقي آخر كان جابيا للخراج في بعض الأقاليم؛ فلم تكن حال البلاد في عهده خيرا منها في عهد أسلافه، واضطرب به الأمر وأحاطت به الأحداث ...
وكان العرب - وقتئذ - يتأهبون للغارة الكبرى تحت راية مسلمة ... •••
كان سليمان بن عبد الملك في بستانه، قد رمى نفسه على الرمل بلا وطاء يبترد من حر ذلك النهار، وإلى جانبه زنبيلان قد ملئا بيضا وتينا، فهو يمد يده إلى زنبيل بعد زنبيل، يأخذ من هذا ومن ذاك بيضة وتينة بعد بيضة وتينة، حتى أتى على الزنبيلين وما شبع، ثم ألزق بطنه بالرمل، وهو يقول: ما أحب إلي هذه المنامة وأبردها في هذا اليوم القائظ!
ثم أتوه بغدائه: جدي مشوي كأنه عكة سمن، ودجاجتان هنديتان كأنهما رألا النعام، وعس يغيب فيه الرأس، قد امتلأ حريرة كأنها قراضة الذهب، ثم صف بين يديه ثمانون قدرا مختلفة الألوان ...
15
واعتدل سليمان في مجلسة، وأقبل على الجدي المشوي فأتى عليه، ومال على الدجاجتين يأخذ برجل واحدة بعد واحدة، فيلقي عظامها نقية، ثم جعل يقلع الحريرة بيده، ويشرب ويتجشأ كأنما يصيح في جب، فلما فرغ من ذلك مال على القدور الثمانين يكشف عن أغطيتها قدرا بعد قدر، فيأكل من كل منها لقمة أو لقمتين أو ثلاثا ... ثم مسح يديه واستلقى ...
قال له مسلمة: أمتعك الله يا أمير المؤمنين، وأمتع بك! ... - ويك يا مسلمة، فهل عندك من جديد؟ - نعم، فإن هذه الروم على ما ترى من الضعف، واحتلاف الأمر، وهوان المنزلة، ولم يبق ثغر من ثغورهم مما يلي بلادنا إلا وطئه جند العرب وجاسوا خلاله، ولا حصن من حصونهم إلا شعثناه، حتى تطامن من شموخ، واستبيح بعد منعة؛ وإني أرى الأوان قد آن يا أمير المؤمنين للضربة التي تدك حصونهم وأسوارهم، وتبيح أرضهم وحريمهم، وتعلي كلمة الله في تلك الأرض الكافرة. - وعتادك وجندك؟ - على الأهبة يا أمير المؤمنين، عشرون ومائة ألف في البر، ومثلها في البحر. - وسفن الغزو؟ - ثمانمائة وألف سفينة تطاود الموج ولا تنطاد فوقها السحب! - والنار الرومية يا مسلمة؟ - لن تنال منا منالا يا أمير المؤمنين ، أو توهن لنا عزيمة. - وتلك الأسوار المملسة لا يقف عليها الذر، الشامخة قد ركبتها السحب؟ - سيفتحون لنا الأبواب طائعين حين يضر بهم الحصار، فلا تكون أسوارهم هذه إلا سجنا لهم لا يملكون منصرفا عنه. - ولكن الحصار لا يضر بهم من قريب يا مسلمة، وعندهم من الزاد والأقوات، ومما تمدهم به أمم النصرانية في الأرض الكبيرة، وما يعاونهم به البلغار من غلات بلادهم؛ ما يطول معه الأمد! - سنصابرهم حتى ينفد المذخور، وينكل الصبور، ويتسلل الجبان، ويسأم الأعوان، وينقطع المدد. - وشتاؤهم الذي يجمد الأطراف، ويوجب الكن؟ - سنبني حول الأسوار بيوتا كبيوتهم، ومصانع خيرا من مصانعهم، ونتخذها دار إقامة حتى يفتح الله علينا، وتسقط في أيدينا مدينة قسطنطين. - وطعام الجيش وزاده، والطريق إليكم طويل، والبر موحش والبحر هائج؟ - سيكون لنا هناك زرع وضرع ومرعى وماشية. - أراك يا مسلمة تحاول عظيما من الأمر! - كل عظيم يا أمير المؤمنين، فأنت أعظم منه! - الله يا ابن عبد الملك، إنك لتنكر قدرك، ولولا أن سبق إلي عهد أمير المؤمنين عبد الملك لكنت أحق بها وأهلها.
16 - ولكن الدولة عربية يا أبا أيوب. - وأنت مسلمة بن عبد الملك. - بل أنا ابن ورد.
17 - فهل ترى ولد عبد الله بن عمر قد نقص من قدره شيئا أن أمه من بنات سابور؟
18 - قد سمعتهم يمزحون فيقولون: إنه أحق بعرش كسرى. - فأنت إذن أحق بعرش قيصر!
19 - ها أنت ذا قد قلتها يا أبا أيوب. - والله لولا أني لا أملك أن أخلع نفسي، وأنضو قميصا قد قمصنيه خليفة رسول الله
20
لرضيت - طيب النفس - أن تجلس مجلسي على عرش عبد الملك، وإنك لأعظم في نفسي مهابة، وأدنى إلى قلبي منزلة من ولدي أيوب. - أمتعك الله به يا أمير المؤمنين، حتى تبايع له بالعهد من بعدك، إن أيوب ابن أمير المؤمنين لريحانة هذا البيت، وإني لأرجو أن يكون له شأن في غده. - طاب فألك يا أبا سعيد! - وطاب عهدك! إنك بأيوب لميمون الكنية؛ فكأني بك أردت أن يكون أبو أيوب الأنصاري أول من يبلغ أسوار القسطنطينية من العرب، وأن يكون أبو أيوب الأموي
21
أول من تفتح له بابها، فيطأ بفرسه بساط قيصر، ويحطم أصنام الشرك في كنيسة أيا صوفيا، ويجهر بالأذان في أكبر بيعة من بيع النصرانية. - طابت نفسي والله لحديثك هذا يا أبا سعيد، وإني لأرجو أن يكون ما قلت، فخذ في أسبابك منذ اليوم، والله معك.
الفصل الثاني عشر
وفاء بذمة ...
لو لم يسبق الأجل إلى ورد أم مسلمة لقرت اليوم عينا؛ فسيبلغ مسلمة عرش قيصر، ويطأ بساطه، ويلبس تاجه، وتدين له تلك البلاد جميعا بالطاعة والولاء؛ ولكنه يتلفت حواليه فلا يرى أمه، ولا تراه أمه، لقد فرغت من الدنيا قبل أن تكتحل عيناها برؤية ولدها مسلمة في الموضع الذي كانت تأمل أن تراه فيه ...
ولكن صورة أخرى تتراءى لعينيه الساعة: صورة فتى عربي في وجهه شحوب، وفي عينيه زرقة وعمق، ولصوته نبر عذب، فيه مخايل من صديق له قد مات منذ قريب، وغيبته الصفائح في البلد المحرم ... وإلى جانبه امرأة منتقبة شابة تجول عيناها وراء ستر شفيف، تجد لها نظراتها ذكرى، فلا يكاد يكف عن النظر إليها، ولا يخجله من ذلك أن ولدها الشاب إلى جانبها، وأنها أرملة صديق قد مات منذ قريب ...
تلك الصورة قد رآها ذات مرة في الحلم، كأن قد أبصرها بعينين، ثم سمع صديقه يقصها عليه - كما رآها - فوعاها بأذنين، وها هي ذي تتخايل لعينيه الساعة يقظان، فكأنما هي صورة في إطار ما تزال تقع عليها العين مرة بعد مرة، فلا تنكر من ملامحها شيئا!
وتحضره إلى جانب هذه الصورة ذكريات أخرى وصور شتى وأحاديث متباينة، فلا يكاد معها يحقق أمرا مما يرد على خاطره!
لقد كان لأمه معه ذات يوم حديث ما يزال صداه في نفسه؛ فإنه ليذكره كلما خطرت القسطنطينية في باله، أو أزمع مع الروم حربا ...
وكان له ولصاحبه النعمان حديث آخر مع الراهب الشيخ، في الدير المنفرد في أرض البلقاء، ما يزال صداه يمتزج بصدى حديثه إلى أمه ...
وتلك الرؤيا ...
ثلاث صور تتزاحم وتلتحم وتتماس أطرها، فلا يبين منظر من منظر، ولكن وراء اجتماعها صورة أخرى لم ترها عيناه بعد ... فلعله يراها أو يرى تأويلها حين يدخل القسطنطينية ظافرا على حصانه!
إن الحقيقة الناصعة التي ينشدها من وراء هذه المعميات قد تمزقت الصحيفة التي تقص خبرها، فشطر منها في القسطنطينية، وشطر في يده، فإذا لم يوافق هنالك شطر الصحيفة التي يجد فيها تمام ما يعلم فلا بد أنه واجده عند الذين يتوارثون علم الملاحم من رهبان القسطنطينية. •••
وكان عتيبة بن النعمان في لهو الشباب، حين جاءه نعي أبيه، فغمه ذلك غما رده في الشباب إلى الكهولة.
وبكت الأم العجوز ما شاءت أن تبكي، فذكرته وذكرت أباه وذكرت أخاه عتبة، ثم فاءت إلى الصبر والرضا بقضاء الله، راجية في حفيديها بشير وعتيبة ما كانت ترجو عند ولديها اللذين مضيا، وخلفاها في وحدتها هذه الموحشة تجتر ذكرياتها السعيدة والمؤلمة وأحزانها المتعاقبة.
وبكت زوجه حتى غارت عيناها وزادت نحولا وشحوبا، وضاعف الحزن انقباضها عمن معها في الدار، فانطوت على ما في نفسها من آلام يعرف منها من يعرف طرفا، ولكن سائرها لم يطلع على غيبه أحد!
وبكت نوار؛ فقد كان النعمان أباها وعمها جميعا، وقد حمل على كتفيه عبء الثأر لأبيها، فلم يزل ينشده في كل مهلكة حتى أدركه أجله، ثم إنه إلى ذلك كله أبو عتيبة، وحسبها ذلك سببا إلى الحزن لا تغيض مدامعه ...
وسفرت نوار عن وجهها منذ جاءها النبأ بمصرع عمها، فقالت لصاحبها: قد مات أبوك يا عتيبة، وعليه نذر لم يتهيأ له الوفاء به. - نعم، الثأر لأبيك برأس بطريق من بطارقة الروم، أو الثواء تحت أسوار القسطنطينية في ضيافة أبي أيوب. - وتريد وفاء بهذا النذر يا عتيبة؟ - وأزيد عليه يا نوار، أن آتيك بتاج البطريق وأخدمك ابنته.
1
وتضرجت وجنتاها، وقد فهمت ما يعنيه، فقالت وقد غضت من بصرها: الثأر أولا يا عتيبة. - بل نذر أبي يا نوار، أما ثأر أبيك فلولا نذر مات النعمان ولم يف به لكان أخوك بشير جديرا بأن يحمل عبأه .
2
وساءها أن يعيرها بأخيها وضعف همته وإيثاره الدعة، ولكنها لم تغضب، فقد سرها أن يكون عتيبة بحيث أراد أن يصف نفسه، فقالت: النذر والثأر جميعا يا عتيبة، فذلك ميراث أبيك. - لو لم يكن ميراث أبي لكان أمرا من نوار واجب الطاعة، وما يكون لي أن أنكص أو أروي في أمري
3
يا ابنة العم، لو أنك أمرتيني أن أثب إلى النار الموقدة لأقبس لك منها جذوة ملتهبة، أو أخوض في بحر من الدم لأخرج لك لؤلؤة حمراء، أو أتطوح في مهاوي الريح لأرد إليك صدى أغنية عذبة ملأت نفسك، فلا تريدين أن يفلت صداها في الزمن! - أكذلك أنت يا عتيبة؟ - بل اسأليني يا نوار: أكذلك أنا في نفسك يا عتيبة؟ - وتكتم عني؟ - بل أنت تعرفين، وتصرين - مع ذلك - على الكتمان. - ألم تكن تعلم ...؟ - كنت أعلم علم نفسي يا أخية، وأهابك أن أسألك عن علم نفسك. - فقد علمت اليوم. - وقد علمت أنت يا نوار. - ليتني لم أعلم. - هل ساءك إذن أن تعرفي أنني أحبك؟! - بل ساءني أن أعلم ذلك حين أنت على أهبة الرحيل عنا يا عتيبة. - ولكنك أنت التي تريد أن أرحل؛ لأدرك ثأرا وأوفي نذرا و... - وماذا يا عتيبة؟ - وأجمع مهرا يا نوار! - ولكن بقاءك أحب إلي. - وأحب إلي يا نوار، ولكن الدم المطلول يطلب واتره.
4 - قد أخذ أبوك بوتره، وقتل بأخيه رجالا، وأطاح برأس رءوسا. - ولكنه لم يحمل إليك رأس بطريق وتاجه. - ولكني أخاف عليك يا عتيبة. - فلست إذن أهلا لحبك يا نوار. •••
ثم انقلب عتيبة إلى حيث كانت أمه سبيكة: أمي. - ولدي عتيبة! - إنني ذاهب. - إلى أين يا عتيبة؟ - إلى حيث ذهب عمي وأبي. - ولمن تدع أمك يا عتيبة؟ - تعالي معي - إن شئت - فلن تقعد بي أمومتك عن الجهاد! - ولكن الأمهات لا يصحبن أبناءهن إلى الحرب! - فما هؤلاء النساء وراء كل جيش محارب؟
5 - زوجات لأزواجهن، وأخوات لإخوتهن، يدفعنهم بحرارة الحب إلى الاستبسال في النضال ليكسبوا الحظوة عندهن، وما أنا وذاك يا عتيبة، وقد جاوزت تلك المنزلة؛ فليس إلي مشتاق ولا وامق؟ - تعوقينني إذن؟ - ولمه؟ - لأنك ... لست أدري! - بل تدري شيئا تحاول كتمانه؟ - فلم تعوقينني إذن؟ - لأنني أمك. - وكل هؤلاء المجاهدين لا أمهات لهم؟ - ولأنني في هذا الحي من العرب لا عم لي ولا خال. - أراك لا تحاولين الكتمان. - ماذا تعني يا عتيبة؟ - أنت تكرهين أن أشرع في وجه الروم سيفا! - ولمه؟ - لأن لك في الروم عما وخالا. - إنني أمك يا عتيبة. - قد علمت. - وذلك كل نسبي. - وترضين أن تنتسبي إلى جبان لا يخف لثأر عمه، ونذر أبيه؟ - ومهر امرأته! ... - قد عرفت إذن؟ - ومن أجل هذا منعتك يا عتيبة. - من أجل أنك لا تحبين نوار! - بل إنني أحبها، وأرى ولدي بها أسعد زوج. - ومن أجل ذلك تحولين بيني وبينها! - بل أحول بينك وبين اقتحام المخاطر من أجل امرأة، ليست هذه هي البطولة. - فما البطولة إذن فيما ترين؟ - ألا تطيع فيما تكره امرأة تحبها، وأعلى من ذلك مرتبة في البطولة أن تقسرها على طاعتك. - ولكنني لم أطعها! - ففيم خروجك إلى الحرب إذن؟ - وفاء بنذر، وإدراكا لثأر ... - وطاعة أمر ... - بل عصيانا ... - لأمري؟ - لأمر نوار. - كيف؟ - لقد منعتني من أن أخرج فعصيت. - وي! - وقسرتها على طاعتي. - لقد كان لك - إذن - معها شأن يا عتيبة! - نعم، وسأعصيك كما عصيتها. - تعصيني؟ - نعم، وأقسرك على طاعتي. - وتقسرني أيضا؟ - نعم؛ لأنني أحبك يا أم. - إنك لبطل يا عتيبة. - لأنك أنت ولدتيني يا أماه. - بل؛ لأن أباك النعمان.
وشرقت سبيكة بدمعها، فأخفت رأسها في صدر عتيبة وأجهشت باكية.
الفصل الثالث عشر
نفير الحرب
أروح إلى القصاص كل عشية
أرجي ثواب الله في عدد الخطا
قالت العجوز الثكلى: إني لأجد ريح عتبة والنعمان، وأسمع رجع غنائهما، فانظروا لي من ذلك الذي يرجع هذا الصوت، وإني به لبعيدة عهد.
قالت نوار: ذاك عتيبة، ما يزال منذ أيام يرجع هذا الصوت غاديا ورائحا ... - رحم الله أباه وعمه، وبورك لي فيه وفي بشير، لقد أذكرني غناؤه أباك وعمك يا نوار؛ إذ كانا يرددان هذا الصوت كلما غدوا على المسجد أو راحا ، فإن هؤلاء القصاص الذين يغشون مساجد المصر للوعظ، والتذكير، ورواية الأخبار والنوادر ليوهمون من يغشى حلقاتهم من الفتيان أن يوما في مجلسهم ذاك خير عند الله من سبعين صلاة، فما يزالون يجتذبونهم بهذا الخيط الدقيق حتى يلزموا حلقاتهم، ثم لا يزالون ينفثون في عقدهم من سحر القول حتى يسوقوهم إلى المنايا باسم الجهاد في سبيل الله.
ودخل عتيبة خفيف الخطا، فسمع، فقال: ماذا تقولين يا جدة؟ أحرام أن نغشى المساجد، وأن نستمع إلى القصاص، وأن نخرج مجاهدين في سبيل الله؟! - لم أقل هذا يا بني. - فما هذا الذي سمعت من قولك؟ - لقد قلت إن في عتيبة ملامح من أبيه، وفي صوته أيضا، وكان أبوك ينشد هذا الشعر إنشادك كلما غدا على المسجد أو راح، ثم ذهب إلى الميدان البعيد، فلم يعد، كما ذهب أخوه من قبل، طار على جناح شاعر، ثم وقع ... - ولكن عتيبة سيطير فلا يقع. - لقد هممت إذن؟ - نعم. - وتعرف سبيكة أنك ذاهب لحرب الروم؟ - قد عرفت. - وطابت بذلك نفسا؟ - قد طابت نفسا ورضيت. - حسبتها تأبى أن يشرع ولدها سيفا لحرب الروم. - ولمه؟ - لأن ... لأنها قد عرفت ما حرب الروم. - لم أفهم! - أعني أنها كانت خليقة بأن تشفق عليك. - علي؟ ... - وعلى غيرك. - من تعنين؟ - رجوت أن تشفق أمك عليك وعلينا، من سوء ما ينالنا به فراقك. - بل عنيت معنى آخر يا أم! - أي معنى؟ - تسألينني؟ - لقد ظننتني أضمر وراء كلماتي معنى غير ما فسرت لك، فسألتك ... - بل إنك لتضمرين معنى آخر ...
وكانت نوار صامتة تستمع إلى ما يدور بين الفتى وجدته من حوار بدأ رفيقا هينا، ثم أوشك أن يكون خصاما، فقالت في رقة: إن جدتك لتعرف حميتك يا ابن عم، ولكنها تشفق عليك وتجزع لفراقك، وإنك لتذكر ما قلت لك قبل أن تتحدث إليك جدتك ...
فاعتدلت الجدة في مجلسها، ونظرت إلى نوار قائلة: هل قلت له؟ - حاولت يا أم أن أحول بينه وبين ما اعتزم، فلم يستمع إلي. - أكذلك يا عتيبة؟ - نعم. - ورضيت أمك ؟ - كانت أدنى إلى الرضا من نوار، ومنك. - وأذنت لك أن تشرع سيفك لحرب الروم؟ - وإذنت لي طيبة النفس. - ولم يسؤها أن يفارقها ولدها إلى حيث تتوزعها الهواجس والهموم، وتصطرع في نفسها المخاوف؟ - بلى، قد ساءها، ولكنها قد علمت أنه حق البطولة على كل عربي.
قالت نوار: بل حق البطولة على كل أم عربية.
قالت الجدة: قد صدقت سبيكة وبرت.
ثم أطرقت وهي تقول، وقد جال في عينيها الدمع: فاذهب مأجورا يا عتيبة والله يكلؤك.
1
وقف عتيبة في فناء الدار مشمرا حاسر الذراعين يشد متاعه إلى ظهر راحلته وهو ينشد:
وأشفق من وشك الفراق وإنني
أظن لمحمول عليه فراكبه
فوالله ما أدري أيغلبني الهوى
إذا جد جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى
فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
وكانت عينان دامعتان ترقبانه من وراء السجف، حيث تورات فتاة موجعة القلب تراه وتسمع نشيده من حيث لا يراها ولا يسمع نشيجها ...
وبغتتها سبيكة، فوضعت راحة على كتفها، وهي تقول في رقة وعطف: أنت هنا وهو هنالك، فهلا تراءيت له لتشدي عزمه ساعة الفراق؟
قالت الفتاة وأطرقت مستحيية: خشيت أن يهن حين يراني، أو يرى في عيني الجزع واللوعة.
وكان صوت آخر ينبعث من بعض غرفات الدار منشدا:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه
حصان
2
عليها نظم در يزينها
نهته، فلما لم تر النهي عاقه
بكت فبكى مما شجاها قطينها
3
ووضع الفتى ما كان بين يديه، ورفع رأسه منصتا، ودلفت الجدة الثكلى إلى حيث كانت أم نوار جالسة تدندن ذلك الشعر، فقالت لها عاتبة: عهدك بالغناء بعيد يا أم بشير، فهلا أشفقت اليوم على الصبي والصبية أن يسمعا غناءك هذا؟
قالت أم بشير ولم ترفع إلى العجوز عينين: لقد كان ذلك والله أحب الشعر إلى عتبة حين يزمع رحله!
قالت الجدة، وهي منصرفة قد ضاقت نفسها بما سمعت من جواب: فقد رحل عتبة، ولم يعد.
وسكن الصوت، فعاد الفتى ينشد وهو يعالج أحماله:
وأشفق من وشك الفراق ...
وخفت إليه نوار معجلة قد سوت ثيابها، وجففت دموعا في عينيها، ثم استقبلته قائلة، وقد اصطنعت الابتسام والمرح: ماذا سمعت من إنشادك يا عتيبة؟ هلا كان قولك لنفسك:
أشوقا ولما تمض بي غير ليلة
فكيف إذا خب المطي بنا عشرا؟
قال، وقد مد يدين إلى يدين، والتقت عينان بعينين: بالله أعيدي يا نوار؛ فقد وقعت على ما كان يهجس في نفسي، ولا تلفظه شفتاي.
واختلجت يداه في يديها، فدفعهما إلى كتفيها، ومال عليها بوجهه، فأفلتت من بين يديه، وهي تقول مؤنبة: وكنت حريا أن تنشد:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
دون النساء ولو باتت بأطهار
ووثبت إلى الدار وخلفته في الفناء مبسوط اليدين، قد ذهل عما حوله من الزمان والمكان والناس، ثم ترامى على بعض ما ازدحم في الفناء من المتاع، وأخفى وجهه في راحتيه. •••
الناس جميعا في شغل بالتهيؤ لتلك الحملة العظيمة التي يجهز لها مسلمة، كل ذي قوة من شباب العرب يرجو أن يكون له شأن في هذه المعركة ...
إن أبا أيوب الأنصاري يدعو ضيفانه إلى المأدبة العظمى في رحاب قيصر.
القصاص في مساجد الأمصار قد تأطر الناس حولهم حلقات حلقات، يستمعون إلى قصصهم مشوقين، يود كل منهم أن يطير إلى الميدان بجناحين ...
الشباب والكهول يهيئون أنفسهم لرحلة طويلة المدى بعيدة الأمد، قد احتقبوا ما قدروا عليه من زاد وعتاد وكسوة تصلح للشتاء والصيف ...
نساء الأمراء والسادة ينفضن الطيب والحلي عن غدائرهن يجعلنها في بيت المال أعطيات للجند ...
الزوجات والأخوات يغزلن وينسجن ويخبزن ويقددن ليهيئن لأزواجهم وإخوتهن كسوة ثقيلة، وغذاء طيبا يدفع عنهم برد الشمال القارس ...
الأمهات يصلين ويدعون ويصنعن لأولادهن الرقى والتمائم.
الكواعب الحسناوات - وغير الحسناوات - قد خط الدمع على وجناتهن خطوطا لم تزل مبتلة أبدا.
الصبيان والبنات في فرح ومسرة بما يرون حولهم من مظاهر النشاط، لا يكادون يدرون بما ينتظرهم من أيام القلق والهم والوحشة ...
الأيامى والأرامل يبكين أزواجهن، كأن قد فقدنهم منذ هنيهات.
الشيوخ قد ردهم ما يرون، وما يسمعون إلى الصبا وذكرياته، فانطلقت ألسنتهم بالحديث عما خاضوا من المعارك المظفرة في الأيام الخالية، وما أبلوا في الجهاد، وما حصلوا من الغنائم، وما حازوا من السبايا ... •••
البادية الرحبة قد ازدحمت بالخلائق، وانتثرت فيها خيام الجند، فضجت وعجت؛ ففي كل خيمة حديث بين اثنين أو بين جماعة، وما تزال أصداء الأغاني تتناوح بين المضارب، تعبر عن ألوان من الإشفاق والرهبة، أو من الشوق واللهفة، أو من العزم والفتوة.
هذا فتى لم ينس آخر لياليه في الحاضرة، وينشد حران الفؤاد:
بنفسي من لو مر برد بنانه
على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هباني في كل شيء وهبته
فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
وذاك فتى آخر يستقبل أول أيام الفراق باللوعة، فيغني:
يطول اليوم لا ألقاك فيه
ويوم نلتقي فيه قصير
وقالوا: لا يضيرك نأي شهر
فقلت لصاحبي: فما يضير؟
وثالث يتهيأ للغارة قبل إبان الغارة، فينشد:
وإنا لتصبح أسيافنا
إذا ما اصطبحن بيوم سفوك
منابرهن بطون الأكف
وأغمادهن رءوس الملوك
ورابع قد خرج للغنيمة والتماس أسباب الخفض والدعة، قد خلف من أجل ذلك أهله وجيرانه، فيقول:
لا يمنعنك خفض العيش في دعة
نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها
أهلا بأهل وجيرانا بجيران
وآخر يجاذبه هواه وتصطرع الهواجس في نفسه بين ما خلف من النعيم وما يستقبل من المشقة، فيجذم حباله
4
ويمضي إلى ما اعتزم منشدا: ... جذام حبل الهوى ماض إذا جعلت
هواجس الهم بعد النوم تعتكر
وما تجهمني ليل ولا بلد
ولا تكاءدني عن حاجتي سفر
والسفائن مرسية في الثغور تتأهب للإقلاع، عليها الجند والعتاد والمتاع والزاد، قد اختلطت فوقها الأحاديث، وتنوعت الأماني، واصطرعت العواطف؛ فعلى ظهر البحر كما في البادية، مفارق حران الفؤاد، ومشوق في أول أيام البعاد، وثالث يهيئ سيفه وترسه للدفاع والغارة، ورابع يحلم بالغنيمة قبل أن يخوض غمار المعركة، وخامس وسادس، وفنون شتى من الخلق قد توزعت نفوسهم الهواجس، ولكن أمانيهم جميعا تلتقي عند غاية واحدة؛ هي الظفر بالروم في المعركة واقتحام مدينة قيصر.
وأذن المؤذن بالرحيل ؛ فتحركت الكتائب في البر، وأقلعت السفائن في البحر، وكانت قيادة الجيش لمسلمة بن عبد الملك ...
وصحب الخليفة جيشه حتى بلغ أطراف الشام؛ فأقام ينتظر بمرج دابق - على عدة مراحل من حلب - واستأنف الموكب سيره ...
الفصل الرابع عشر
على شاطئ البرزخ
قال الفتى الرومي لصاحبه، وهما جالسان على رأس الحصن المشرف على مضيق كليبولي: هل علمت يا لوكاس ما أعد العرب من عدة لحربنا في البر والبحر؟ - ومن أين لي العلم بذلك يا موريس؟ وماذا يجدي علي أن أعلم، وإني وإياك هنا في وجه الغارة الأولى، ليس معنا قوة تغني غناء، أو تدفع بلاء! - لقد جاء العرب يا لوكاس في ثمانمائة وألف سفينة، على كل سفينة مائة جندي، وزحفت على البر قوات تفوت الحصر؛ فهل يطمع قومنا في النصر، وليس على فم الخليج إلا بضع مئات من الجند في بضعة حصون على الشاطئين؟ - وإنهم يا موريس لعماليق أشداء، وقد تحصنوا من الموت بما لا أدري من التمائم؛ فإن الرجل منهم ليخوض المعركة قد حطم غمد سيفه، وألقى ترسه، فما يزال يخلي الطريق لنفسه بما يجندل من الأبطال حواليه حتى يبلغ حيث أراد، لا يعنيه حين يبلغ أسلمت نفسه أم جاءه أجله حيث بلغ! - وإن لهم يا أخي - إلى ذلك - صيحات مفزعة، يهتفون فيها باسم ذلك الشيخ الذي اتخذوا له قبرا تحت سور القسطنطينية منذ خمسين سنة، فما يزالون يفدون إلى قبره ذاك كل صائفة يتبركون به ويعاهدونه عهدا ... - قد كان ذلك القبر شؤما علينا منذ ثوى فيه شيخهم ذاك، فهم ما يزالون يطرقوننا من يومئذ فيصيبون منا في ذهابهم إليه، وفي عودتهم منه، ولا أدري كيف لم يهدم قيصر هذا القبر ويعفي أثره؛ حتى لا يظل هدفا يطئون بلادنا في الطريق إليه ذهابا وجيئة. - قد هم بذلك قسطنطين بوغانات ثم أمسك؛ فقد جاءه الوعيد من ملك العرب أنه إن فعلها استباح العرب مثل ذلك في بلادهم، فلا يتركون لنا ثمة بيعة ولا صومعة إلا هدموها. - ولكن ما ينالنا من غارة هؤلاء الطراق أسوأ أثرا فينا مما أوعد به ملك العرب، فقد انحسرت النصرانية عن بلاد العرب، فلم يبق ثمة إلا فلول لا تساوي ما نتعرض له من الشر ببقاء ذلك القبر! - أفلست تعلم يا لوكاس أن دفين ذلك القبر من أصحاب نبيهم، وأن له عندهم مقاما قد يحمل على الشر الفظيع أن يناله أحد بمهانة! - وأي شر أفظع مما ينالنا منهم يا موريس، صائفين وشاتين؟ - أنت لا تعرف العرب يا لوكاس. - وتعرفهم أنت يا موريس؟ - قد عرفت من أخبارهم ما لو عرفته لكففت! - أتراهم مردة يقذفون من أفواههم اللهب المحرق؟ ويحركون العاصفة الجائحة؟ ويقتحمون الأسوار بغير أجنحة؟ - أراك تسخر يا لوكاس! فهل سمعت عن بشر يفطر بحمل، ويتغدى بجمل، ويتفكه بمائة رمانة، فإذا قام من قيلولته دعا بطعام العصر؟ ... - بل أنت الذي يسخر يا موريس! - ذاك والله ملكهم الذي سير إلينا هذه الجحافل بقيادة أخيه!
1 - ما أحراهم بأن يأكلونا إذن؟ - إنهم لا يأكلون لحوم الموتى! - يموتون إذن تحت أسوار القسطنطينية جوعا؛ فليس هنا ما يكفيهم من الطعام إذا أرادوا حصار المدينة. - أرأيت الجاموس الأسود؟ - أي جاموس؟ - نوع من الحيوان كالفيلة، لا يقطع السكين في جلده، يطأ بحافر، وينطح بقرن، وينظر بعينين ليس فيهما بياض، وما يزال يجتر كالمعزى ... - وما أنا وذاك؟ - لقد جلبوا منه آلافا فسمنوها في مروج الشام، ثم ساقوها معهم إلى الميدان. - يريدون أن يحاربونا بالجاموس؟ - لست أمزح يا لوكاس! - فماذا إذن؟ - يتخذون من لحومها وألبانها طعاما. - ومن أين لهم هذا الجاموس؟ - جلبوه من الهند. - وأين هم من الهند؟! - إن الهند قد صارت منذ بعيد - يا أبله - تحت حكم العرب. - قد غلب العرب إذن يا موريس وملكوا حاضرة قسطنطين. - أراك قد انهزمت من أول جولة يا لوكاس! - وماذا تجدي المقاومة؟ - لو كان العرب يحاربوننا بهذه الروح ما انتصروا قط في معركة. - تريد أن أقاوم بلا رجاء؟ - نعم، حتى تموت. - ويكتب في لوح على قبري: مات منتصرا؟ ... - ليس ذلك هو كل شيء؛ إن الحياة المجيدة لا توهب للجبناء. - لست جبانا . - معذرة ... لم أقصد إساءتك. - فما قصدت إذن؟ - إن الذي يكافح عن حقه حتى يموت يهب حياة لكثيرين من ورائه؛ لأن كل طعنة تناله كانت مسددة إلى واحد ممن خلفه، فلقي عدة طعنات عن عدة أحياء، ومات موتة واحدة، فقد ربحت صفقته إذن! - وما النتيجة؟ - أراك لم تفهم بعد! - ولا أظن أحدا يفهم أن الموت صفقة رابحة. - زن حياتك بحياة الجماعة. - وهل ترى الجماعة تستطيع أن تردني إلى الحياة إذا فاضت نفسي؟ - ولكنك باستماتتك تستطيع أن ترد الجماعة إلى الحياة! - منطق غير مفهوم! - ولكنه بعض إيمان العرب! - حمقى! - ولكنهم انتصروا بحماقتهم هذه يا لوكاس، وذل الروم!
الفصل الخامس عشر
تميمة رومية!
لم تكن سبيكة قد نضجت نضج الأنثى، ولا رشدت رشد العقل يوم احتملها النعمان سبية، ولكنها إلى ذلك كانت مدركة واعية؛ فقد علمت منذ اللحظة الأولى أن ذلك آخر العهد بأهلها ووطنها، فلن تراهم، ولن يروها أبدا، أليست تعلم علم الناس مما يدور حولهم من أحاديث؛ أن أختا لها قد احتملها الغزاة منذ بضع وعشرين سنة فذهبت ولم تعد، قد غاب أثرها، وضاع خبرها؛ فلا يكاد يذكرها أحد إلا أبوها المرزأ، وأمها الثكلى، وكانت أختها - إلى ذلك - فتاة ناضجة رشيدة تملك أسباب الحيلة!
بلى، وقد مضت بضع وعشرون سنة أخرى منذ احتملت هي إلى بلاد العرب، فهل يذكرها اليوم أحد من أهلها؟ ... وإنها لتملك اليوم حريتها، ولكنها لا تحاول أن تعود ولا تريد؛ فقد انقطع ما بينها وبين الماضي فلا تمت إليه بسبب، إنها اليوم امرأة عربية مسلمة، تمت إلى هذه الجماعة التي تعيش بينها بأسباب كثيرة، وتربطها إلى ما حولها - ومن حولها - عواطف شتى، أما تلك التي احتملت من بلادها منذ بضع وعشرين سنة فكانت فتاة لا عربية ولا مسلمة ولا أما ...
ذلك هو شعورها منذ سنين، فما بالها ما تزال - حينا بعد حين - تفيء إلى ركن من دارها فتفض ختم حقيبتها، فتنثر ما فيها من مخلفات ذلك الماضي تتملاه وتشمه وتمسح به عينيها، ثم تبكي ما شاءت؟ ...
وما بالها ما تزال كلما سمعت ناعيا ينعى حبيبا إلى أهله رفرفت بجناح، وجاوزت المكان والزمان إلى حيث كانت تعيش في بلد بعيد بين إخوتها وأخواتها، تريد أن تحصيهم عدا وتتصفحهم فردا فردا؟
وما بالها ما تزال تستطلع طلع كل قادم من سفر، وكل عائد من غزاة، وكل مبحر في صائفة؟
وما بالها - مع ذلك - قد طابت نفسا بخروج ولدها لحرب الروم؟
ما بالها قد شحذت له أمضى سيوف أبيه حدا، وأومضها صفحة؟
وما بالها قد رضيت له نوار زوجا يمهرها رأس بطريق من بطارقة الروم؟
ثم ما بالها قد دفعت إليه - حين مسيره - تلك التميمة التي كانت قلادة صدرها صبية، ليحرزها فتحرزه ... وتلك الجوهرة التي كانت زينة مفرقها طفلة، ليذكرها بها وتذكره؟ ...
أبوعي دفعت إليه ذينك الأثرين، أم دفعتهما بلا وعي ولا إرادة؟
وكيف تحرز مسلما تميمة رومي لا يؤمن بدين محمد؟
وكيف تذكره إياها جوهرة لم يرها في مفرقها قط؟
أما تزال نفسها تنازعها إلى دين ووطن غير هذين الدين والوطن؟ •••
وعبر على الطريق - وهي في خلوتها تلك إلى أشجانها - حاد ينشد:
تعز بصبر لا وجدك لا ترى
سنام الحمى أخرى الليالي الغوابر
كأن فؤادي من تذكري الحمى
وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
فهتفت بلا وعي: ردوه علي!
ثم أخفت وجهها في راحتيها وأجهشت باكية.
وكان عتيبة في تلك اللحظة خاليا بنفسه كذلك في خيمة من خيام الجند، يقلب بين يديه قلادة وجوهرة، ولكنه لا يذكر من أمر صاحبتهما شيئا؛ فقد كان خياله مفعما بصورة أخرى قد ملكت عليه حسه ونفسه، وفاضت معانيها شعرا على لسانه ودموعا في عينيه ...
أترى نوار تذكره الساعة كما يذكرها؟ وهل يعود إليها كما أملت، قد حصل لها مهرا وأدرك ثأرا ووفى بنذر، فيضع بين يديها تاج بطريق وسلبه، ويسألها الوفاء بما وعدت؟
ولم يجد عتيبة جوابا سريعا لسؤاله؛ فقد مثل بباب الخيمة في - تلك اللحظة - حرسي من حاشية مسلمة يدعوه إلى لقاء الأمير، وأعجله الطلب عن حفظ ما كان في يده من خرزات أمه، فمضى إلى لقاء الأمير وما تزال في يده ...
وهش الأمير للقائه، وبسط له وجهه ومجلسه، وغدا عليه يسأله عن حاله وخبره وأهله، وأقبل عليه الفتى يجيبه عما يسأل منبسطا غير متكلف، ويده تعبث بما استند إليه من الطنافس المثمنة في مجلس الأمير، وأفلت شيء كان في يده فتدحرج على البساط، فأدركه في حركة سريعة قبل أن يبعد ...
قال الأمير متلطفا: ما هذا في يدك يا عتيبة؟ - خرزة دفعتها إلي أمي، ترجو أن تكون لي تميمة وحرزا ...
ومد إليه الأمير يدا فحاز القلادة والجوهرة يروزهما بأصابعه لمسا
1
وبوجهه نظرا وشما، ثم دفعهما إلى الفتى وهو يقول في صوت ينم على انفعال: أحرزهما يا عتيبة واحرص عليهما؛ فإنهما بعض آثار أم برة!
ثم أنغص الأمير رأسه وتزاحمت على عينيه صور شتى ...
ولم يطل بالفتى مجلسه، فنهض إلى خيمته والأمير يشيعه بعينين فيهما إشفاق وحب ورحمة!
الفصل السادس عشر
عرش يهتز ...
التقت قوات الغزو البرية والبحرية على جانبي مضيق كليبولي، ثم لم يلبث الجند أن وثبوا من شاطئ إلى شاطئ، فإذا هم تحت أسوار القسطنطينية، لم يلقوا كيدا، ولم يعترض سبيلهم أحد، فحطوا رحالهم في ذلك الوادي الأفيح، وأخذوا يقيمون المضارب وينصبون الخيام، ويعدون لإقامة طويلة المدى، قد أقسموا لا يعودون إلى أهليهم وديارهم إلا إذا فتحوها ووطئوا بساط قيصر، وأذنوا في «أيا صوفيا» وأقاموا الصلاة ...
ونصبت للأمير خيمة من ديباج على شرف من الأرض، وبسطت فيها البسط، وانتثرت الطنافس، ثم أقيمت مضارب الجند، حيث رسم الأمير ... •••
وقال مسلمة يخاطب جنده:
أما بعد حمد الله والصلاة على نبيه، فإنا لم نقطع هذه البرية، ونتجشم هول ذلك البحر من أجل غارة نغيرها، ثم نئوب قد احتملنا أسارى وسبايا، وحصلنا غنائم وتركنا على أديمها صرعى وجرحى من الروم، كما كنا وكانوا في كل صائفة وشاتية؛ فقد كان ذلك كله تمهيدا لهذه الغارة العظمى؛ لتحطيم عرش قيصر ودك معاقله، ونشر كلمة الله في بلاده، فلا معاد إلى دياركم وأهليكم إلى أن يفتح لكم، وإلا فاعتقدوها هجرة إلى دار أبي أيوب لا تبرحونها حتى يبعث الله الموتى.
1
الفتح أو الشهادة، لا غاية وراءهما، فهيئوا أنفسكم لإحدى الغايتين، لا تنازع أحدكم نفسه إلى أهله وزوجه وولده، أو يحن حنين النيب إلى أعطانها،
2
فلا وطن لكم إلا ما أنتم فيه، فاتخذوه مقاما حتى يأذن الله بالفتح ...
ألا وإن الروم قد حصنوا أسوارهم وملسوها وطاولوا بها حتى لا مطمع لناقب أو متسلق أو واثب؛ فلتدعوهم سجناء وراء أسوارهم هذه لا يدخل إليهم داخل، ولا يخرج منهم خارج، حتى ينفد الزاد والعتاد، ويبلغ منهم الجهد، فيطلبوا السلامة ويلقوا السلاح ويفتح لكم.
ألا وإن مقامكم على هذا سيطول حتى ينفد ما عندهم من ذخر؛ فلا يمسس أحد منكم طعاما أتى به من هنالك، والتمسوا الرزق مما يليكم من هذه القرى الرومية، ودونكم الأرض فاحرثوا وابذروا وثمروا، وقد جلبت لكم قطعانا من الجاموس والإبل والضأن؛ للحرث واللبن واللحم ودفء الشتاء، ولا تطل إقامتكم في هذه الخيام حتى يفجأكم البرد ويسد الثلج عليكم أبوابها، فدونكم هذه الغابات فاقتطعوا من أشجارها، واتخذوها بيوتا من خشب تجعلون فيها متاعكم وتأوون إليها، واحتفروا العيون واستنبطوا الآبار تروون منها وتسقون الزرع والضرع ...
أيها العرب، إن أظفر الطائفتين في هذه المعركة أصبرهما؛ فلا عليكم من طول المقام ما ضمنتم الظفر في العاقبة.
أيها المهاجرون إلى الله، لقد خلفتم طائعين دياركم وأهليكم وأزواجكم وأولادكم إلى مدينة أبي أيوب، فتربصوا في دار هجرتكم هذه بعدوكم وعدو الله حتى يأذن الله لكم أن تلقوه بيوم كيوم بدر.
وتفرق جند العرب في الأرض الفيحاء على استدارة القوس من أسوار القسطنطينية، قد اتخذوا بيوتا، وفلحوا أرضا، واستنبطوا آبارا، واستنبتوا مراعي، وأنشئوا حظائر، واستوطنوا استيطان من لا يفكر في الرحيل!
وكانت غاراتهم ما تزال تبغت القرى الرومية على الشاطئين فيصيبون مغانم، ويعودون إلى بيوتها ظافرين قد أضافوا إلى ما ادخروا من الزاد والعتاد ذخرا جديدا، وزاد العدو جهدا على جهد.
ومضى عام وجيش مسلمة لم يزل يحاصر القسطنطينية، حتى جهدت جهدا شديدا، وأوشكت أسواقها أن تقفر من الطعام، وضاق أهلها بالحياة ...
وبلغت الحال في بلاد الروم من الفوضى والاختلال مبلغا حمل القيصر أنسطاثيوس على اعتزال الملك لينقطع للدعاء والعبادة راهبا في دير، وخلا عرش القسطنطينية من قيصر، فراح الأمراء والبطارقة وقادة الجند يتواثبون كالضفدع حول العرش، يأمل كل منهم بلا كفاية أن يكون قيصرا ...
وكان إليون المرعشي «الإيزوري» رأس الفتنة؛ وهو رجل من غثاء الناس
3
ليس له جذر يمت به، كان أبوه إسكافا يصنع النعال؛ فنشأ كما ينشأ ابن كل إسكاف، ثم اتجر في الماشية فأثرى وجمع مالا، ثم اصطنع كما يصطنع الأثرياء بطانة وحاشية، ثم رأى اختلال الأمر في الدولة، فحبب إليه أن يكون قيصرا، فاتخذ كل وسيلة إلى ما يحب ...
ولم يكن له مطمع في رضا قومه من الروم رضاء يحملهم على أن يصعدوا به إلى العرش، فصار له مطمع في رضا العرب؛ فأوى إلى سليمان بن عبد الملك وأخيه مسلمة يؤامرهما على تحطيم قوات الدفاع الرومية لتخلص البلاد للعرب، وتخلص له رياسة الروم، فاستعانه سليمان ومسلمة على شرطه، ووثق به مسلمة فأسلم إليه بعض الأمر!
وبلغ الجهد بأهل القسطنطينية ما بلغ، فاستعانوا البلغار والروس وأهل رومية، ولكن هؤلاء كانوا في شغل بأنفسهم عن معونة غيرهم؛ وكان مسلمة قد خلف على جيش القسطنطينية بعض قادته، ودار دورة على رأس بعض فرق الجيش إلى ملك البلغار فحطم مقاومته وبدد شمله، ثم آب ...
وأخذ الوهن يدب في قوى الروم؛ فلم يجدوا بدا من النزول على شرط العرب، فبعثوا إلى مسلمة في وقف القتال، وفك الحصار على أن يؤدوا إليه الجزية؛ ولكن مسلمة أبى، فبعثوا إليه ثانية يطلبون أن يوفد إليهم إليون الرومي ليفاوضوه في شروط التسليم؛ فأجابهم إلى ما طلبوا ... •••
ما أجدر هذا الرومي أن يهديه الله فيكون أخا معينا ووزيرا ناصحا!
كذلك قال مسلمة لنفسه، وقد أوفد إليون إلى قومه ليفاوضهم في شروط التسليم، فبمعونة هذا الرومي يقرع مسلمة اليوم أبواب القسطنطينية، ويوشك أن يدخلها غدا، فيطأ بلاط قيصر، فيجلس على عرش قسطنطين، فيجهر بالأذان على أسوارها المنيعة، فيؤم جنده في الصلاة بأيا صوفيا، فينشر كلمة الله من ثمة في الأرض الكبيرة، فيمضي قدما حتى يطأ رومية، ويجوس في بلاد إفرنسة، وينفذ إلى الأندلس من المشرق، ويقف على شاطيء الأقيانوس الأخضر مثل موقف عقبة بن نافع منذ سنين ...
إن في الروم لذوي أعراق طيبة، وإن كان آباؤهم من ذوي المهنة.
ردد مسلمة هذه العبارة كذلك فيما بينه وبين نفسه، وكأنما ذكر في هذه اللحظة أمه ورد ونسبها في بلاد الروم، فحن عرق إلى عرق!
واسترسل إليون في محادثاته مع القوم، وطالت غيبته، واسترسل مسلمة في أوهامه، وكان الجند في مضاربهم، أو في بيوتهم يديرون بينهم ألوانا من الحديث يتصل أكثرها من قريب، أو من بعيد بهذه السفارة التي دعا إليها الروم، وخف لها إليون، وهش لها مسلمة.
قال ابن جبير العبسي مغتبطا: أين نحن اليوم، وأين نكون غدا؟
قال ابن هبيرة: وأين تكون إلا وراء مسلمة؟
قال العبسي: فذلك ما أردت يا ابن هبيرة! - اسكت! فوالله ما تعلم ولا يعلم مسلمة ما يخبئه - له ولكم - الغد! - وتعلم أنت علم الغد يا ابن هبيرة، ولا يعلمه مسلمة؟ - قد كان له ذلك لو كان ابن حرة.
هب عتيبة بن النعمان واقفا قد اخترط سيفه وهو يصيح: أمسك عليك يا ابن هبيرة، فإنه لأعرق نسبا، وأعلى أرومة من كل بني مروان، فإلا تكن أمه من عبس ومخزوم وأمية فإنها إلى الذروة من بني الأصفر!
قال ابن هبيرة ولم يتحلحل عن موضعه: هون عليك يا ابن أخي؛ فإنك لتقف مني موقفا يستحي منه أبوك - غفر الله له - وما أردت أن أتنقص مسلمة، ولكني أعيب عليه أن يركن إلى رجل من أهل الغدر والنفاق قد باع أمته للعدو، فما أجدره أن يغدر بنا كما غدر بقومه! - وترى ذلك يغيب عن فطنة مسلمة؟ - إن لكل فطن غفلة تأتيه من قبل أبيه، أو من قبل أمه، قد تدسست في العرق، وخالطت الدم، وقد كان عبد الملك حازما أريبا ... فذلك ما عنيت يا ابن النعمان. - ومن أين لك أن مسلمة قد غفل عما فطنت له؟ - لقد أتيته أحدثه عن ذاك، فإذا هو قد تغدى وملأ بطنه ونام ... وجلست إليه أحدثه، فما أراه قد سمع شيئا مما قلت أو درى بي! - أفلست تعيب عليه يا ابن هبيرة إلا أنه قد أكل ونام؟ - إن الأحمق يا ابن أخ من يملأ بطنه من كل شيء يجده، وأحمق منه من ينام والحوادث ترقبه بعيون يقظة! - غدا ترى عاقبة أمره وأمرك يا ابن هبيرة. - إن كان وعيدا يا ابن النعمان فقد والله جاوزت قدرك، وإن كان أملا تأمله فإني والله لأرجو مثل ما ترجوه على حذر وتخوف. - ومم تحذر؟ - تدبير ذلك الكلب إليون، فما أظنه الساعة إلا يؤامر الروم على الكيد لمسلمة وقد ملأ مسلمة بطنه ونام! •••
ورجع إليون إلى مسلمة يعرض عليه ما انتهت إليه محادثاته، قال: إن الروم أمة محاربة يا أمير منذ التاريخ البعيد، لم تضع سيفها قط منذ كانت، ولا رضيت الدنية، وقد أدال الله لكم منها فغلبتم خلفاء قسطنطين على أرضهم وديارهم ورعاياهم في سائر فجاج الأرض، ثم جئتم تطلبون هذه الحاضرة فكأن قد دانت لكم كما دانت الممالك وأسلمت مفاتيحها، فقد بلغ منهم الجهد ما رأيت بعيني - وما لا أظنه قد غاب عن فطنة الأمير - فلولا أنهم أهل مصابرة لأسلموا إليكم منذ بعيد، ولكن عيونهم ما تزال تطلع عليكم حينا بعد حين فيرون ضخامة ما اختزنتم من الزاد والعتاد وما لا يزال يرد إليكم من ذلك؛ فيقولون لولا أنكم ترون أجل الفتح بعيدا وأن دونه مصاعب وأهوالا لما أسرفتم فيما تجمعون من هذه الأقوات، وإنهم إلى ذلك ليخشون - لو أسلموا إليكم - أن يقع عليهم حيف في المعاملة، كما يصف لهم بعض رواة الأخبار من فلول المنهزمين أمام جحافل العرب في الأمصار المفتوحة. - وبم يرجف هؤلاء يا إليون؟ - يزعمون أن العرب لم يدخلوا بلدا - عنوة أو صلحا - إلا استرقوا الرجال، واستبوا النساء، وهتكوا الستور، واستولوا على النفائس، وأذلوا السادة، واحتملوا كل ما في البلد من قوت وزاد، فلا يجد أهله ما يحفظ عليهم أرماقهم. - وترانا كما يصفون يا إليون؟ - إن العرب ما علمت لأهل وفاء وذمة وشرف ودين. - فماذا يرون إذن؟ وماذا ترى أنت؟ - أرى الثمرة قد دانت وحان قطافها، ولكنكم إن تدخلوا القسطنطينية بالقهر والغلبة لا تجدوا فيها من السلام والطمأنينة ما يحبب إليكم الإقامة، فهلا دخلتم أصدقاء قد أمنوا وأمنتم وطابوا نفوسا وطبتم! - وأين لنا ذلك؟ - أن تحملوهم بديا على اليقين بأن المدينة طوع أيديكم، فتتخففوا من هذا الزاد الذي جمعتموه ركاما بعضه فوق بعض يوهم من يراه أنكم على نية إقامة طويلة عجزا عن اقتحام المدينة، فإنهم إن رأوا هذا الزاد قد أزيل عن موضعه أيقنوا أنكم قد أزمعتم الاقتحام، فتخور عزائمهم ويفتحون الأبواب.
وأخرى أيها الأمير: أن يكون تخففكم من هذا الزاد بابا إلى اكتساب مودتهم واطمئنانهم إليكم، فتهبوا لهم منه ما يدفع عنهم الجوع ويحفظ عليهم الرمق، فإنهم حقيقون بأن يحفظوا لكم هذه اليد فيشكروها لكم، فتدخلوا المدينة - حين تدخلونها - قد أمنوا وأمنتم، وطابت نفوسهم وطبتم! - وآمرتهم على كل ذلك يا إليون؟ - ووافقوني على كل ما عرضت عليهم باسمك من شروط التسليم، وآية بيننا أن ينبئهم أصحاب الأخبار أنكم قد تخففتم من الأزواد أو جدتم عليهم ببعضها. - لك ما اشترطت يا إليون، فاحمل إليهم ما شئت ودعني وأصحابي نعد العدة للنقلة إلى ما وراء هذه الأسوار!
الفصل السابع عشر
دسيسة العرق ...
- والله لا يقع في مثل هذه الغفلة ابن حرة! - كذلك قال ابن هبيرة قبل أن تقع الواقعة، ونرى أنفسنا في هذا القفر لا زاد لنا، وقد أخذتنا سيوف الروم من كل جانب! - ذلك الكلب الغادر إليون ... - بل قل: ذلك الأبله ابن ورد، لقد خدعه ذلك الكافر خديعة لو كان امرأة لعيب بها! - ونال بها إليون عرش قسطنطين! - ونلنا بها ما نلنا من الهوان والضعف والمذلة، وما أرانا غدا إلا هالكين جوعا وبردا في هذه القفرة المثلوجة! - وا أسفا! لقد كان مسلمة - فيما أرى - أسد بني مروان رأيا وأخبرهم بفنون الحرب! - وما هي الحرب إلا السياسة والتدبير ونصب الفخاخ وتوقي المهالك؟ - وإنه لكذلك، لولا ما تدسس إليه من أمه الرومية، فكأنما حن العرق إلى العرق فاستنام إلى وعد غادر. - أتذكر حين أنشد عبد الملك بين يدي مسلمة وإخوته في حلبة السباق ذات غدوة:
نهيتكم أن تحملوا فوق خيلكم
هجينا
1 ... ... ... ... - نعم، وقد تناقلها الناس يومئذ وقالوا: ما أنصف عبد الملك مسلمة! - كأنما كان عبد الملك يرى بظهر الغيب ما نحن فيه اليوم! - وقد أخذه سعار الغيظ مما ناله، فلم يأذن بالرحيل وتسريح الجند، كأنما خيل إليه - بعد ما كان - أنه مستطيع في هذه الغزاة أن يفتحها! - بجند قد هزلوا من الجوع، وارتجفوا من البرد، وأثخنوا من الرمي! - قد أبرد بريدا إلى سليمان بمرج دابق يطلب مددا من زاد وعتاد. - وحتى يبلغ البريد ويجيء المدد يصبر العرب على الجوع والبرد تحت هذه الأسوار التي لم تزل تساقط عليهم النيران وتريش إليهم السهام؟ - أظننت أن نفتح القسطنطينية بلا جهد؟ - فقد بذلنا من الجهد ما لا قدرة عليه لبشر حتى دانت الثمرة، ثم أفلتها مسلمة بحمقه!
وكان الخليفة سليمان بن عبد الملك ما يزال منذ عام وعام قبله مرابطا بمرج دابق على الطريق إلى بلاد الروم، قد أقسم لا يبرحها إلى حاضرته حتى يأتيه بشير الفتح، أو يدركه الأجل ...
وكان البريد يتوالى عليه يوما بعد يوم بما بلغ العرب من أسباب النصر، وما نال الروم من الجهد والإعياء، حتى خيل إليه أن ليس بينه وبين ما أراد إلا غلوة سهم، وأنه لولا حرص مسلمة على دماء المسلمين أن تراق لاقتحمها بخيله ورجله، ووطئ بساط قيصر منذ بعيد ...
ثم جاء إليه النبأ بما آل إليه الأمر، وما بلغ الروم من العرب بالمكر والخديعة، فحوقل واسترجع وامتلأت نفسه هما، ولكنه لم ينكص على عقبيه، وأصر على أن يبر قسمه ذاك، فحشد الحشود، وكتب الكتائب، وجمع الأزواد، وأعد العتاد، وسير ذلك كله إلى مسلمة ...
وكان الجوع والبرد قد أضرا بالعرب ضررا بليغا ، حتى التمسوا أقواتهم من ورق الشجر وعشب البرية ودواب البحر، ولولا أن تراب الأرض لا يستساغ لسفوه سفا؛ ليردوا الجوع عن أنفسهم ويحفظوا أرماقهم!
وكأنما شحذت هذه الخيبة عزيمة مسلمة، فصابر ورابط مقاوما كل ما يكتنفه ويكتنف أصحابه من الشدة، فلم يفك الحصار عن المدينة.
وكان أصحابه يموتون كل يوم مئات، صرعى الجوع والبرد منهم أكثر من صرعى السيوف والسهام والنار الرومية،
2
ولكن مسلمة لم ينكل ... وما يزال أصحابه يطيعونه، والموت يتخطف إخوانهم من حولهم جماعات جماعات يبلغون الآلاف، والمدد الذي أرسله سليمان ما يزال في الطريق. •••
وكان سليمان - مما نال مسلمة - في هم دائم بالليل والنهار، وزاده هما أن ولده أيوب الذي كان يرجيه لولاية عهده قد احتضره الموت شابا في ريعانه، فبكى سليمان وقال: الآن لا يدعون أيوب ولا أبا أيوب!
ثم لم يلبث أن لزم فراشه ودب إليه الموت.
وكان عهده - بعد ولده أيوب - إلى ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان ... •••
وقال الخليفة عمر، وقد جلس في ديوانه: ردوا على الشام هذه الفلول المبعثرة في البر والبحر من جيش مسلمة، إن لتلك المدينة موعدا لم يحن بعد، وإني لأخاف أن يأتي الجوع والبرد عليهم جميعا فتكون جريرتها على رأس عمر!
وخب البريد إلى مسلمة بالنبأ، وسيقت إليه الركائب في البر والبحر؛ لتحمل من معه إلى الشام.
الفصل الثامن عشر
على حافة الموت
- أكذلك تكون عاقبتها؟
قالها مسلمة وأطرق، وقد امتلأ قلبه غما وحقدا ومرارة؛ أما الغم فلهذه العاقبة التي انتهت إليها الغزوة العظمى التي كان يهيئ لها منذ سنين؛ ليبلغ شأنا لم يبلغ مثله واحد من بني عبد الملك، وأما الحقد فعلى هؤلاء الروم وقيصرهم ذاك الخسيس الذي أذله بالمكر والخديعة، وخذله حين أمن له، ووثق من مودته، وأما المرارة فلأنه ابن امرأة من هذه الروم الغادرة التي لا تحفظ عهدا، ولا تفي بذمة ... لو كان له أن ينتسب إلى أم غيرها لأنكر أنها أمه، تلك التي باعدت بينه وبين العرش شابا، وحطمت تاج العز على رأسه كهلا ، وتوشك أن تجعل حديثه في هذه الغزاة سخرية الساخرين حتى يبلغ سن الموت.
ومد يدا إلى جيبه فأخرج جوهرة وقلادة، فتملاهما طويلا ثم قذفهما إلى البحر، وهو يقول وقد غلبه الدمع: تميمة لم تحفظها صبية من السباء، ولم تحرز ولدها كبيرا من الهزيمة!
ثم أطبق راحتيه على وجهه وبكى.
وثاب إلى نفسه بعد هنيات، فدعا حاجبه إليه وقال له: قدم أسارى الروم إلى السيف.
وبسطت الأنطاع،
1
وقام على رأس كل أسير حرسي بسيفه، وأخذت الرءوس تتهاوى عن أجسادها، ومسلمة يشهد، قد اشتفت نفسه مما تجد ...
وقدم إلى السيف شيخ حطمة، قد بلغ الثمانين أو قاربها، وهم الجلاد أن يرمي رأسه حين رفع الشيخ يده قائلا: كف! إن لي حديثا إلى الأمير ...
وسيق الشيخ إلى حيث كان مسلمة، فقال: يا ولدي! - اخرس! يتم ولدك. - هل لك في صفقة رابحة، فتبيعني رأسي برجلين عربيين؟ - رجلين عربيين؟ - نعم، في الأسر عندي منذ سنين، ولعلهما من السادة، فإن شئت عفوت عن شيخ حطمة لا يحمل سيفا ولا يدفع غارة، واستنقذت أسيرين من قومك. - جئ بهما. - فيسمح لي الأمير أن أذهب إلى أهلي فأعود بهما. - تحتال حتى تفر بدمك! - ليس الغدر من طبعي! - ولم يكن من طبع إليون القيصر؟ - ذاك ابن إسكاف لا يمت بعرق إلى أسرة نبيلة. - وتمت أنت إلى قسطنطين الأكبر؟ - ليس الكذب من طبعي. - أمفاخرة في هذا المقام يا ابن الغادرة؟ - لم تغدر أمي قط. - اخرس ... رأسه يا حرسي! - يموت العربيان إذن أيها الأمير، وإني لأظن لهما في قومهما شأنا. - ومن يكفلك حتى تعود؟ ... - أخذ الشيخ يقلب نظره في وجوه الجند، ثم أشار إلى فتى منهم: هذا يكفلني أيها الأمير. - تكفله يا عتيبة؟ - قد كفلته. - تبيع شبابك بهرمه؟ إنه ليخادعك عن نفسه! - قد كفلته.
هب مسلمة واقفا، قد بان في وجهه الغضب، ثم مضى إلى خيمته غير متلبث، وأحاط العرب بصاحبهم يسألونه مؤنبين مشفقين: ما حملك على هذا يا عتيبة؟ - شيخ في ضائقة، قد توسم في مروءة، هل أخلف ظنه؟ - ولكن الروم أهل غدر يا عتيبة! - ما كان يجمل بي غيرها. - وإذا لم يعد كفيلك يا أبله؟ - يصنع الأمير في أمري ما يبدو له. - ولكن الأمير مغيظ محنق، قد استل غدر الروم ما كان في نفسه من خلال العفو والرحمة. - يقتلني به إذن. - وتبيع رأسك برأس كافر؟ - قد كان ما لا سبيل إلى الرجوع فيه.
وتفرق الجند عن صاحبهم محزونين، وأوى عتيبة إلى خيمته، قد امتلأت نفسه غما وضاق بكل ما حوله، هذه أول غزاة يغزوها، ولعلها آخر غزاة، فإن الموت يتربص به، وسيموت حين يموت لا شهيدا في المعركة، ولا مبكيا عليه، وتترقب نوار حتى يعود كل الغزاة، ولا يعود عتيبة فتبكيه دهرا ثم تسلو، وتبكيه أمه كذلك، ولكنها لا تسلو أبدا، إن الأمهات لا ينسين من يموت من أبنائهن، قد علم ذلك عن جدته الثكلى، إنها ما تزال تذكر عمه عتبة وأباه النعمان كأنما فقدتهما منذ قريب.
ما لهذه الخواطر تتزاحم في رأسه الساعة؟ أميت هو إذن؟ فلماذا رمى بنفسه في هذا المأزق؟ ولكنه لا يكاد يستشعر شيئا من الندم لشيء مما كان، فما كان له خيرة، أكان يجمل به أن يقول على ملأ من الجند لذلك الشيخ: دعني فلست من المروءة بحيث ظننت؟ وإن في الأمر - إلى ذلك - احتمالا آخر؟ أليس ممكنا أن يكون ذلك الشيخ صادقا فيما وعد؟ فكيف يحول حب الحياة ولؤم الطبع دون إطلاق أسيرين مسلمين؟ ...
وارتد خاطره إلى أمه وإلى صاحبته؛ كيف يعود إلى نوار ولم يف لها بما وعد؟ يا لها من سخرية أليمة! إنه بدل أن يعود إليها برأس بطريق قد قدم رأسه فداء لرأس شيخ حطمة، لا هو من البطارقة ولا من السوقة، أكانت أمه تتوقع أن يصير إلى هذه الخاتمة حين حاولت أن ترده فعصاها؟ لقد وقع عتيبة في شر أفظع مما كانت تتوقع أمه أن يكون!
ومد يده إلى جيبه فأخرج جوهرة وقلادة فتملاهما طويلا، ثم بكى ... أتدفع هذه التميمة عنه شرا؟ يا لهؤلاء الأمهات! ما أضعفهن قلوبا وعقولا!
ومثل بباب الخيمة حرسي يدعوه إلى لقاء الأمير، كشأنه ذات يوم منذ عام وبعض عام، وكانت الجوهرة والقلادة في مثل مكانهما الآن من يده، ولكنه اليوم غير غافل عنهما ... - لأي أمر يدعوني الأمير يا حرسي؟ - لا علم لي! - أفي خيمته هو أم في الميدان؟ - في خيمته. - وفي خلوة هو أم معه أحد؟ - لا علم لي. - تخادعني عن نفسي يا حرسي! - ليس لي مأرب. - فحدثني إذن بما تعرف ... - لست أعرف شيئا. - إذن فهو الموت؟ - لا علم لي. - وبسيفك أو بسيف غيرك؟ - لا سيف لي. - تبا لك. - غفر الله لك.
وجالت الدموع في عيني عتيبة تأثرا ورقة، فقال وأنفاسه تختلج: سامحني فيما اعتديت يا صاحبي.
ثم صحبه مستسلما، وقد ازدحمت في رأسه صور الماضي القريب والبعيد ...
وكان الشيخ الرومي في خيمة الأمير، وقد وقف إلى جانبه عربيان كهلان في زي منكر ...
وثابت نفس عتيبة حين رأى غريمه؛ رومي وفى بذمته! قد أفلت رأس عتيبة إذن من سيف الجلاد، وأفلت رأس الرومي الشيخ، هذان العربيان قد وهبا له الحياة، ولعله كان يسومهما الخسف في أسره، ولكنهما الآن بحيث لا يملكان إلا أن يفتدياه من الموت، رضيا أو كرها ...
وأقبل الرومي الشيخ على عتيبة يشكر له منته، فخجل الفتى؛ علام يشكره؟ لقد كفله مكرها ثم لم يسلم بعد من الندم على ما فعل ...
وكان الشيخ يلحظه بعينين فيهما إشفاق وحب ورحمة، وقد وقف الأسيران العربيان بينهما يشهدان ويسمعان صامتين، وكان مسلمة عبد الملك في مجلسه القريب منهم يرى ويسمع صامتا كذلك، ثم نطق: أيها الشيخ، قد علمنا ما حمل هذا الفتى العربي على كفالتك؛ فإن العرب - ما علمت - أهل مروءة ونجدة، فما حملك أنت على الركون إليه دون من حوله من الجند؟ - رأيت في وجهه مخايل نبل. - ولم تر هذه المخايل في غيره من العرب؟ - ورأيت عاطفة تدفعني إليه، فكأنما سمعت صوتا يناديني إليه. - لأمر ما ... - لأن فيه ملامح من وجه ما زلت ألتمس مثله في الناس فلا أرى! - وجه عربي؟ - وجه فتاة رومية. - فتاة ! - ابنتي ... - ما لنا ولابنتك يا شيخ؟ - استباها عربي في أبيدوس منذ بضع وعشرين سنة، ومضى بها ... - من أبيدوس أنت يا شيخ؟ - بطريق أبيدوس ... البطريق قسطنطين. - قسطنطين ...
واعتدل الأمير في مجلسه وشحب وجهه، ونالت صوته حبسة فلم ينطق ...
وذهل الفتى ودار رأسه ... بعض هذا الذي يسمع قد سبق إلى وهمه منذ لحظات، أتكون أمه بنت هذا البطريق؟ ولكنها لم تعترف بأنها رومية، ولم تنكر أيضا ... يا للمفاجأة العجيبة! لقد وعد نوار أن يمهرها تاج بطريق رومي، وأن يخدمها ابنته ... أكان يعني أن يجعل رأس جده مهر عروس؟ وأن يجعل في خدمتها أمه أو خالته؟ ...
وثقل الموقف على كل من يرى ...
الأمير ضيق النفس، ولكنه لا يستطيع في مجلسه حراكا.
والشيخ يريد أن يمضي إلى خلوة يتحدث فيها إلى الفتى حديثا ما.
والفتى مشوق إلى حديث الشيخ، ولكن شفتيه قد انطبقتا، وجف لعابه فلا يستطيع لسانه أن يلفظ حرفا ...
والعربيان الأسيران قد نال منهما الجهد، واشتغال الفكر واللهفة إلى علم جديد عن أهل وبلد لم يرياهما منذ سنين طويلة، ولم يسمعا عن أنبائهما ...
وأذن الأمير للمجلس أن ينفض ليخلو إلى نفسه ساعة ...
وسيق العربيان إلى بعض مضارب الجند ليصيبا شيئا من الراحة ...
وتبع عتيبة البطريق ذاهلا، لا يكاد يحس أن رجليه تمسان الأرض!
ورغب الشيخ إلى الفتى أن ينزل عليه ضيفا في أبيدوس يوما أو أياما، اعترافا بجميله، فأجاب الفتى دعوته ...
وتنبه عتيبة بعد غفلة إلى أن الجوهرة والقلادة ما تزالان في يده، فرفعهما إلى عينيه كرة أخرى يتملاهما، وكانا في الطريق إلى أبيدوس، وبصر البطريق بالجوهرة والقلادة في يد الفتى، فندت من بين شفتيه صيحة، وارتاع الفتى حين رأى الشيخ يطبق عليه، وأصابعه تتقبض في لحمه، وهو يقول في مثل صوت المحتضر: ذاك والله أنت يا بني، وتلك ابنتي!
وانكشف الغطاء كله لعيني الفتى ... واستسلم للشيخ مسلوب الإرادة، قد محا هذا اللقاء من رأسه صفحات وأثبت صفحات ...
وأوى به البطريق إلى دار أنيقة في أبيدوس، ثم دعا أهله رجلا رجلا، وامرأة امرأة ليتعرفوا إلى نسيبهم العربي، ومثلت بين يدي عتيبة امرأة كأنها سبيكة، في مفرقها جوهرة، وعلى صدرها قلادة، فوثب إليها يريد أن يضمها إليه ويسند رأسه إلى كتفها، وهو يهتف ذاهلا: أمي سبيكة!
قال الشيخ وربت كتفه: تلك خالتك يا بني، توءمة لأمك، وما كان اسم أمك سبيكة يوم ذهبت، ولكني أوثر منذ اليوم أن يكون اسمها سبيكة ... ليت شعري كيف صار اسم أختها «روديا» في بيت سيدها؟
2
قال الفتى: ومن تكون روديا هذه يا أبي؟ - بنت أخرى، استباها الغزاة في غارة معاوية ... - وغاب عنك خبرها من يومئذ؟ - وغاب عني خبرها من يومئذ! - ولا أثر يدل عليها؟ - جوهرة وقلادة كذلك.
وجاءت امرأة البطريق فضمت عتيبة إلى صدرها وهي تهتف: ابني! ابني!
وعرف عتيبة كثيرين وكثيرات، كلهم من بني الخال والخالة، لو وافق أحدا منهم قبل اليوم في المعركة لعلاه بسيفه راجيا عند الله الأجر ...
وأخذ جده البطريق يطوف به في حجرات الدار: هذه الدمى كانت تلعب بها أمك يا عتيبة ... وهذه السلة كانت تجمع فيها الزهر ... وهذه الشجرة هي غرستها بيديها، ولم تذق من ثمرتها شيئا ... وهذا الثوب آخر ما خلعت قبل أن يذهب بها أبوك!
وكانت الدموع تنحدر على خدي الشيخ فتجاوبها دموع الفتى ...
واحتمل عتيبة ما احتمل من آثار أمه، ومما أهدى إليه الشيخ من طرائف الروم، ثم ودع أسرته هذه الجديدة وعاد إلى معسكره، يشيعه عشرات من بني الأخوال والخالات ...
وكان الأمير يرقب مقدمه، فلم يكد يؤذن بحضوره حتى دعاه إليه ... - وأيقنت من صدق ذلك كله يا عتيبة؟ - ورأيت بعيني من دلائل اليقين. - وحدثك البطريق بخبره كله؟ - وحدثني بكل ما كان من قبل ومن بعد! - وعرفت خئولتك فردا فردا؟ - وعرفت خئولتي جميعا إلا فردا ... - من؟ ... - خالتي روديا. - روديا! ... - نعم، فتاة أخرى استباها العرب في غزاة معاوية. - وغاب عنه خبرها من يومئذ؟ - غاب عنه ... - ولا أثر يدل عليها؟ - جوهرة وقلادة كهاتين. - وماذا تنبئ عن خبرها جوهرة وقلادة؟ - مثل ما أنبأته جوهرة أمي وقلادتها. - ولكن أمك ولدتك واستحفظتك جوهرتها وقلادتها! - وتظن روديا لم تلد، ولم تستحفظ أحدا؟ - من يدري؟ - وا أسفا! - علام تأسف يا عتيبة؟ - لقد رجوت - منذ عرفت - أن يكون لي في المسلمين خالة آوي إلى مبرتها بعض أيامي، وأن يكون لي من ولدها خئولة أنتمى إليها! ... - إنك - ما علمت - لذو وفاء يا عتيبة؛ فأنا لك في كل ما أملت يا أخي. - وأين أنا منك يا مولاي؟ - ابن أخ أكدت الحادثات نسبه. - لا زال معروفك يطوق عنقي يا مولاي.
وأوشكت الدموع أن تنبثق من عيني الأمير، فهب واقفا ومال بوجهه ناحية، ونهض الفتى فاستأذن منصرفا إلى خيمته، وقد توزعته أشجانه.
وارتمى بثيابه على فرشه مكدود النفس، وحلق بالوهم في أجواء بعيدة ... ولكنه لم يلبث أن انتبه من سرحته على صوت حرسي يدعوه ثانية إلى لقاء الأمير، وكان أحد العربيين الطليقين في مجلس الأمير، وقد أبدل ثيابا بثياب، وسوى شعره وأحفى شاربه فبدا في منظر آخر غير ما كان منذ قليل ... - مولاي! - أتعرف هذا العربي يا عتيبة؟ - أحد الرجلين اللذين كانا ... - نعم، فهلا عرفت اسمه؟ - وما يكون اسمه؟ - عتبة ...
قال الرجل متمما: عتبة بن عبيد الله الرقي. - عمي؟ أبو نوار؟ - من نوار؟ إنما أنا أبو بشير! - نوار أخت بشير. - ابنتي؟ - ابنة عمي. - فأنت ... - عتيبة بن النعمان. - وماذا فعل النعمان؟ - مات ...
وتحيرت دمعتان في عيني الرجل، ولم يملك الأمير جأشه فأرسل دمعه كذلك، وقال الفتى وجسده يرتعد كله من الانفعال: وكنت في أسر البطريق يا عم كل هذه السنين؟ - نعم. - وكانت ابنة البطريق في أسر النعمان! - وي! - نعم، ولم يكن النعمان يدري ولم يكن البطريق ... - وماذا لو علما ...؟ - لو علما لم تبق سبيكة في دار النعمان حتى تلد له عتيبة، ولم يبق عمي في أسر البطريق. - فأنت ابنها إذن؟ - نعم. - وجدك البطريق؟ - أبو أمي. - ربحت صفقة البطريق!
الفصل التاسع عشر
وفاء النذر
وعاد عتيبة إلى الرقة مثقلا بالغنائم، لم يكن معه رأس بطريق لمهر نوار؛ ولكن معه أباها ...
ونشر على عيني أمه ما عاد به من طرائف الرحلة: هذه الدمية ... وهذه السلة ... وهذا الثوب ... - من أين لك هذا يا عتيبة؟ - من أبيدوس. - وما فعل أولئك القوم؟ - ضيفوا ولدك فأكرموه وبروه. - وعرفوا أمه؟ - وعرفهم ولدها. - وما فعل الله بأبي؟ - ما زال يحمل السيف، ويلزم الثغر، ويتعرض للشهادة! - وأين لقيته؟ - بين السيف والنطع! - أسيرا ... يقدم للقتل؟ - ولكنني فككت سراحه وحقنت دمه. - جوزيت من ولد بر. - ذاك جزاء معروفك وبرك. - ومن هذا الذي صحبك إلى الدار؟ كأنني أعرفه! - قد حدست ذلك ... إنه عمي عتبة. - عمك عتبة؟ وأين لقيته؟ - في أبيدوس. - قد ذكرته ... كان أسيرا في دار قسطنطين. - وكنت تعرفين أنه هنالك؟ - لم أكن أعرف أنه عمك! - ولم يكن أبوك يعرف أنك امرأة أخيه. - ثم عرف؟ - نعم ... بعد أن افترقا. - وعرف أنه أبو فتاتك؟ - لم أنبئه بعد ... - وتأمل أن تنبئه؟ - نعم، إذا خرجنا كرة أخرى لحرب الروم. - وتطيب نفسك بحربهم، وقد عرفت أن فيهم خئولتك؟ - قد كنت أعرف ذلك منذ بعيد. - وكتمت عني؟ - برا بك وإعظاما لأمومتك؟ •••
وكان الاحتفال بزواج عتيبة ونوار حاشدا، قد ركب له مسلمة من دمشق إلى الرقة في موكب من مواكبه، فأفاض من بره ولطائفه على العروسين الشابين وأهليهما ما كان حديث المدينة، ولقى سبيكة فتحدث إليها طويلا، لم تحتجب منه إلا بنقاب شفيف تجول من ورائه عيناها ...
ثم أزمع السفر، فودعها وودع أهل الدار جميعا، وهو يقول لعتيبة: إن بيننا نسبا وصهرا، فاذكر عمك مسلمة كلما ضاق بك أمر ...
ثم ركب وركبت حاشيته، وودعته المدينة كلها إلى حدود البادية، وارتسمت في ذهنه يومئذ صورة لم تفارقه قط في سفر ولا حضر، هي صورة سبيكة، أو لعلها صورة أمه ورد، فلم يكن بين الصورتين كبير فرق، ولكن شفتيه لم تلفظا السر الذي ضم عليه أضلاعه حتى مات.
خاتمة
مسجد الشيخ الصالح تحت أسوار القسطنطينية ...
عين مسلمة ...
خليج أبي أيوب ...
ممر العرب ...
ذلك كل ما بقي ثمة من آثار الغزوة التي كانت سنة 98 للهجرة!
ومضى مائتان من السنين، ثم مائتان، ثم ثلاثمائة، وكان محمد بن مراد، محمد الفاتح ابن عثمان، سنة 857ه، فافتتح القسطنطينية وجعلها للمسلمين دارا، ولم تزل للمسلمين دارا من يومئذ.
1
ناپیژندل شوی مخ