وآل بي الأمر إلى الاعتماد على قضاء الناس وتقديرهم لعملي دون غيره؛ لأنهم يشترون كتبي وأسمع منهم من يقول حيث لا يعرفني أحد خلال طوافي بالمدينة: «كذلك قال ريتشارد المسكين» فأشاع ذلك في نفسي مع توالي الأيام شيئا من الرضا؛ لأنه لا يدل على العناية بآرائي وحسب، بل يدل مع ذلك على أنني قد أصبحت مرجعا لهم يستشهدون به ويعتمدون عليه، وإنني لأقر هنا أنني في سبيل الحض على ذكر تلك الحكم وتكرارها، طالما استشهدت أنا نفسي بكلامي في جد وتوقير.
وعلى هذا تستطيعون أن تقدروا مبلغ اغتباطي بالقصة التي سأرويها لكم فيما يلي: وقفت حصاني أخيرا حيث كانت جمهرة من الناس تتجمع في بعض الأسواق، ولم تكن ساعة البيع قد حانت بعد، فأخذوا يتحدثون بينهم عن سوء الحال وأومأ أحدهم إلى شيخ من عامة الجمع نظيف البزة فسأله: بربك أيها الأب إبراهيم ، ما ظنك بهذه الأحوال؟ أليست هذه الضرائب الثقيلة وشيكة أن تفضي بالبلد إلى الخراب؟ فكيف ترانا قادرين على أدائها؟ وبماذا تنصح لنا في أمرها؟
فقام إبراهيم في مجلسه وأجابهم قائلا: «إن أردتم نصيحتي فهأنذا أمحضكم إياها في كلمات وجيزة؛ لأن الكلمة فيها الكفاية للعاقل، وكثير من المقال لا يملأ المكيال كما يقول ريتشارد المسكين، فأقبلوا عليه يستمعون إليه ورجوه أن يكاشفهم بجلية رأيه، فقال: أيها الصحاب، أيها الجيران، إن الضرائب لثقيلة حقا، ولو كانت ضرائب الحكومة وحدها هي التي نطالب بها لكان من الميسور لنا سدادها، ولكننا ننوء بضرائب شتى يتضاعف ثقلها على بعضنا.
فنحن مثقلون بضعفيها من جراء كسلنا، ومثقلون بثلاثة أضعافها من جراء كبريائنا، ومثقلون بأربعة أضعافها من جراء حماقتنا، وكلها من الضرائب التي لا يستطيع الجباة أن يخففوها عنا بالتقسيط أو النسيئة، فعلينا إذن أن نصغي للنصيحة الحسنة، ونترقب من ثم شيئا ينفعنا، فإن الله في عون من يعين نفسه كما قال ريتشارد المسكين في تقويم ثلاث وثلاثين.
إنها لحكومة قاسية تلك الحكومة التي تسوم رعاياها أن يفرغوا عشر أوقاتهم لخدمتها، ولكن الكسل يسوم الكثيرين منا فوق ذلك لو أننا أحصينا الساعات التي ذهبت منا هدرا في التواني والتهاون لا نعمل شيئا، أو نعمل ما ليس بشيء من ضروب اللهو والمجانة، وإن الكسل ليسقم أبداننا مذ كان الركود كالصدأ يبلي منها ما ليس يبليه الجهد والتعب، ولن يزال المفتاح العامل لامعا كما قال ريتشارد المسكين. وكذلك قال: إننا ما دمنا نحب الحياة، فلا ينبغي أن نفرط في الوقت؛ لأن الوقت هو قوام الحياة، وكم من الوقت نقضيه في غير ضرورة مستسلمين للرقاد ناسين أن الثعلب النائم لا يصطاد دجاجا، وأن تحت التراب نوما طويلا كما قال ريتشارد المسكين.
وإذا كان الوقت أنفس قنية، فتبديد الوقت على رأي ريتشارد المسكين أسوأ ضروب الإسراف، ولن يعود الوقت الضائع ثانية كما قال في عبارة أخرى، وما نسميه الكفاية من الوقت كثيرا ما ننظر فنراه دون الكفاية. فعلينا إذن أن نمضي قدما عاملين، وأن نعمل ما ينبغي أن يعمل فننجز الكثير، ولا نعاني من القلق والهم غير القليل، وكل شيء صعب مع التهاون والكسل، سهل مع السعي والاجتهاد كما جاء في كلام ريتشارد المسكين، ومن فاته التبكير حق عليه العناء سحابة النهار، وأتى عليه الليل ولما ينجز من عمله ما ينجزه المبكرون، وما أحرى الكسل في خطواته البطاء أن يدركه الفقر على عجل، كما قرأنا في تقويم ريتشارد المسكين الذي يقول هذا ويزيد عليه أن ادفع عملك، ولا تدع عملك يدفعك، وأن التبكير في النوم والتبكير في اليقظة صحة، وثروة، وحكمة.
وأحسبني أسمع بعضكم يقول: ألا يجوز للإنسان أن يسمح لنفسه ببعض الفراغ؟ فأنا قائل لك أيها الصديق ما قاله ريتشارد المسكين: أحسن استخدام وقتك إن أردت أن تنعم بقسط من الفراغ، وما دمت لا تضمن دقيقة فلا تقذف بساعة من يديك.
إن الفراغ وقت ينتفع به، وفي وسع الرجل العاقل أن يجد هذا الفراغ وليس ذلك في وسع المتبطل الكسلان، وصدق ريتشارد المسكين حيث يقول: إن حياة الفراغ وحياة الكسل شيئان مختلفان. أفتحسبون أن التهاون يعطيكم من الراحة فوق ما يعطيه العمل؟ كلا؛ فإن ريتشارد المسكين يقول: تأتي المشكلات من الكسل، وتنجم المشقة من الراحة في غير جدوى. وكثير من الناس يودون بغير عمل أن يعيشوا على حيل ذكائهم فحسب، ولكنهم لا يجدون الخزين الكافي من هذه البضاعة، في حين أن الاجتهاد يأتي بالراحة، والوفر والاحترام. ودعوا المسرات تتبعكم والغازل الدءوب عنده «شلة» وافية، وإذا كانت عندي بقرة وشاة فكل عابر يقرئني التحية، كذلك يقول ريتشارد المسكين.
وعلينا مع الاجتهاد أن نثابر وننتظم ونتنبه، وأن ننظر في عملنا بأعيننا ولا نتكل فيه على غيرنا، وصدق أيضا ريتشارد المسكين إذ يقول: ما رأيت شجرة كثيرة التنقل، ولا أسرة كثيرة الترحال، إلا كانت في ثمراتها دون زميلتها التي تنتظم على حال.
وكذلك يقول: الانتقال ثلاثا نكبة كنكبة الحريق، وكذلك يقول: احفظ دكانك ودكانك يحفظك، وكذلك يقول: إن أردت أن تنجز عملك فامض أنت وإن لم ترد فأرسل فيه من ينوب عنك، ومن أراد أن يسعد بالمحراث فلا بد له من مقاد أو سياق، وعين السيد أفعل من كلتا يديه، وقلة العناية أفدح ضررا من قلة المعرفة، وإذا قصرت في مراقبة صناعك، فأنت تفتح كيسك لهم وتتركه، والاعتماد الكثير على الغير يجر الخراب على الكثير، والناس في هذه الدنيا كما جاء في التقويم لا تتحقق لهم النجاة بالثقة والاتكال، بل بقلة الثقة والاتكال، وعناية الإنسان بنفسه هي المجدية عليه، ويقول ريتشارد المسكين أيضا: المعرفة للدارس والثروة للمعتني كالقوة للجسور المقدام ونعيم السماء للصالح الورع. أو كما قال كذلك: إن أردت لك خادما أمينا وخادما ترضاه فاخدم نفسك، وإنه لينصح بالمراقبة والإشراف حتى في صغار الأمور؛ إذ يحدث كثيرا أن قليلا من الإهمال يجلب البلاء الكبير، وقد ضاع مسمار فضاعت الحدوة، وضاعت الحدوة فضاع الحصان، وضاع الحصان فضاع الفارس حيث أدركه العدو وقضى عليه، من أجل مسمار في حدوة حصان.
ناپیژندل شوی مخ