أما رسائله فهي عنوان واحد لكل ما يخطر على البال من الموضوعات التي شغل بها في حياته العامة وعلاقاته الشخصية، وقد شملت حياته العامة - كما تقدم - مباحث العلم، ومشاكل السياسة، والإدارة، وجهود الخدمة الوطنية في داخل بلاده وخارجها، وشملت علاقاته الشخصية أناسا من الوزراء، والشعراء، وأناسا من العلماء ورجال الدين، وأناسا من الجهلاء والأغمار، كما شملت الرجال والنساء، وذوي قرباه، ومن ليست له قرابة بهم غير قرابة المودة والعاطفة، أو قرابة الاشتراك في المصلحة العامة. ورب رسالة في مسألة علمية تتخللها نصيحة إنسانية أو استطراد إلى البراهين على وجود الله، ورب رسالة في الدعابة تكشف عن أعمق أعماق نفسه من حب الخير للناس والرحمة بالحيوان في زمن لم تعرف فيه كلمة الرفق بالحيوان، ورب رسالة تكتب إلى إحدى الصحف عن مسألة عارضة، وتعتبر اليوم مرجعا من المراجع الهامة في تحقيق التاريخ والعلاقات الدولية، وقلما تخلو رسالة من هذه الرسائل على أنواعها من أسلوب الفكاهة الساخرة التي تسلكه مع الطبقة الأولى بين الكتاب الساخرين في عصره، وتفرده بين الأكثرين منهم ببراءة الطوية من الضغن والإيذاء، وبراءة القلم واللسان من لواذع الهجاء.
وليس ما ترجمناه في الصفحات التالية كل ما يترجم لفرنكلين من الرسائل أو الفصول، ولكنه - فيما نرجو - نماذج كافية للدلالة عليه والإبانة عن مزاياه وملكاته، وقد يزاد عليها الكثير من قبيلها، ولكن الزيادة تأتي مكررة لصفات هذه «الشخصية» التي ألممنا بها في حدود الإيجاز والاكتفاء بالميسور.
تقويم ريتشارد المسكين
جرت عادة التقويميين في أيام فرنكلين على إصدار تقويماتهم خلال شهر أكتوبر من السنة السابقة لتاريخ التقويم، ولما صحت نية فرنكلين على إصدار تقويمه لم يتيسر له إصداره في ذلك الوعد، فتأخر إلى التاسع عشر من شهر ديسمبر، ولكنه سبق التقاويم التي ظهرت قبله إلى بيوت القراء، وجيوبهم، وعوض ما فاته من مسافة الزمن بالأسلوب المبتكر الذي قربه إلى قلوب قرائه، فأصبح في صحبة كل قارئ منهم، كأنه الصديق المؤتمن الذي يرجع إليه للاستشارة في مشكلات العيش، كما يرجع إليه للسؤال عن التواريخ والمواقيت.
وقد سماه تقويم «ريتشارد المسكين» وصرح فيه بفقره وحاجته إلى حظ من الرزق يرجوه من رواج ذلك التقويم، فنجح في كسب زمالة القراء، كما نجح قبل ذلك في كسب كل زمالة صالحة فيمن يلقاهم ويلقونه من الصحاب والأعوان، ونظر إليه كل قارئ من طلاب الرزق في القارة الجديدة نظرته إلى صاحب يعرف ما يعنيه ويحتاج إلى مثل حاجته من السعي والتدبير والعمل بالتجارب والوصايا من غير من ولا استعلاء، إذ كان القارئ يتخيل ناصحه في صورة الزميل الذي يبتلى بمثل بليته ويعرف الحكمة من ضنك الحياة، ولا يدعي عرفانها من تفوق في الرأي أو مزية في العلم والدراسة.
قال في فاتحة التقويم الأول: «لقد كان في وسعي هنا أن أحاول كسب الحظوة عندك بدعواي أنني لا أكتب هذه التقويمات إلا رغبة مني في خدمة المصلحة العامة، ولكنني إذا زعمت هذا لا أخلص القول، وهو من زخرف المقال الذي بلغ من يقظة الناس في هذا الزمن أنهم يقبلونه، أما حقيقة الأمر على جليتها، فهي أنني فقير جد فقير، وامرأتي الطيبة، كما أقول لها، جد متكبرة، وهي تهيب بي قائلة أنها لا تستطيع أن تعكف على مغزلها، ولا تراني أعمل شيئا غير النظر في النجوم، وتوعدتني غير مرة أن تحرق جميع كتبي وكل ما عندي من تلك الفخاخ، كما تسمي آلات الرصد والحساب، إن لم أستطع أن أصنع بها شيئا ينفع أهلي، وقد سمح لي الطابع بحصة قيمة من الربح، وبدأت من ثم في الاستجابة لما أمرت به سيدتي.»
ووضحت مزية هذا التقويم من سنته الأولى على سائر التقاويم بما احتواه من حشو الفراغ ونوافل الكلمات التي لا شأن لها بالتاريخ والتوقيت، ولكنها ذات شأن نافع في التوجيه والانتفاع بالأوقات، وعابها بعض النظراء والمنافسين على ما يظهر بما فيها من النكات والمضحكات، فأراد فرنكلين أن يقنع قراءه بفضل هذه الزيادة، وأنها لا تقتطع شيئا من حق القارئ في الزاد المفيد، بل تسوغ له مذاقه وتساعده على هضمه، فقال في مقدمة التقويم لسنة 1739: «لا تقلق أيها القارئ الرصين الوقور إذا رأيت بين عبارات الجد الكثيرة في تقويمي هذا نتفة هنا أو هناك من أحاديث الهزل والبطالة. ففي كل صحفة طهوتها لك كفاية من اللحم للوفاء بنقودك، وهنا وهناك قدد من مائدة الحكمة تعود مع حسن الهضم بالغذاء الجيد إلى لبك، ولكن المعدات المتعللة لا تطيق الأكل خلوا من التوابل والمشهيات، ولعلها في الحق لا تنفع بشيء في غير هذا الموضع، ولكنها تعين على تناول الطعام.»
ولم يكن تقويم ريتشارد المسكين باكورة فرنكلين في عالم الكتابة؛ لأنه بدأ الكتابة كما تقدم في صحيفة أخيه وهو في نحو السادسة عشرة، فأتى فيها بما يفوق محصول أمثاله من خبرة العمر ودرجة التعليم، وقد أخذ في كتابة التقويم وهو في نحو السابعة والعشرين بعد أن مضى عليه أكثر من عشر سنوات يمارس صناعة القلم ويكتب الرسائل والفصول، ولكنه اختار لعبارات التقويم - أو لمعظمها - أسلوب جوامع الكلم، وهو أدق الأساليب، وأحوجها إلى الفهم المستقيم والتعبير المحكم والإيجاز البليغ مع البساطة والوضوح، فكانت جوامع كلمه في تقويماته خير دلالة على الكاتب بلفظها ومعناها، ورسمته لمن يريد أن يفهمه رسما لا تزيد عليه كتاباته الأخرى شيئا غير التفصيل والتوكيد.
ففي أسلوبها اللفظي دلالة على ملكة التعبير وقدرة على النفاذ إلى الجوهر واجتناب الفضول، وفي أسلوبها المعنوي دلالة على الدراية العملية والسجية السمحة والعقل الحصيف الذي لم يقف بالمعرفة قط دون التطبيق المفيد، فإذا صح قول القائلين: إن الأسلوب هو الرجل فهو أصح ما يكون على فرنكلين، وأصح ما يكون على فرنكلين نفسه في «جوامع الكلم» وما شابهها من الحكمة الناجزة والخبرة المركزة، وليس من النافع أن نطيل التساؤل عن مصدر هذه القدرة على البيان الصحيح؛ هل كان الفضل فيها لملكة التعبير وذخيرة الكاتب من المفردات والأساليب؟ أو كان الفضل فيها لصواب الفهم وأصالته في استخلاص المعاني الجوهرية من الحواشي والفضول؟ فمهما يكن من فضل ملكة التعبير فهي لا تغني عن صواب الفهم، ومهما يكن من صواب الفهم فهو مفتقر إلى التعبير المبين، وجماع القول أن الكاتب أحسن تعبيرا؛ لأنه أصاب فهما، وأصاب قبل كل شيء في فهم رسالة التعبير وأداته وما يعينه عليه.
ونحن نتوسع في النقل من تقويمات ريتشارد المسكين؛ لأنه كتبها في عدة سنوات تمتد من شبيبته إلى كهولته، ولأنها أدل كتاباته عليه في جوانبه الخلقية والعقلية، وما من صفة اشتهر بها هذا النابغة المتعدد الجوانب إلا رأيتها بارزة ناطقة في بعض كلماته التي تناثرت بين هذه التقويمات، ويكفي أن يتصفح القارئ جملة منها لتثبت في روعه صورة رجل معتدل المزاج، سمح الطباع، متزن العقل، بعيد النظر، صادق الملاحظة، خبير بالموازنة بين الاحتمالات المتفرقة والأطراف المتعارضة، موفور الحظ من ملكة التعبير في أسلوب يجمع بين الصواب والفكاهة، وهكذا كان فرنكلين في جميع أطوار حياته، وفي جميع ما تولاه من المهام والأعمال.
ناپیژندل شوی مخ