Vergenne
وزير الخارجية الفرنسية لسفير الثورة الناجحة بعد يوم واحد من وصول الخبر، وطلب الوزير في هذه المرة فتح باب الكلام في المعاهدة، فأرسل فرنكلين نصوصها إليه بعد يوم، ولم يأت شهر فبراير حتى كانت المفاوضة كلها مفروغا منها، وكانت المعاهدة معدة للتوقيع، فسميت معاهدة التجارة والتحالف، واشتملت على الاعتراف باستقلال الولايات، وعلى التعهد بالاتفاق على مقاتلة بريطانيا العظمى والاستمرار في القتال إلى أن يتفاهم الفريقان على قبول الصلح، ولا يعقد أحدهما صلحا مع بريطانيا على انفراد.
وأقام فرنكلين أيامه بفرنسا خلال الحرب محفوفا بالأصدقاء والمعجبين من صفوة السادة والسيدات ، وكان قصر «باسي» الذي أقام فيه قبلة القصاد من الأدباء والساسة المقيمين بالعاصمة الفرنسية والوافدين إليها من الأقاليم أو الأقطار الأوروبية، وأقل من هذه الحفاوة الشاملة يثير حسد الحساد، ويوغر صدور النظراء والأنداد، ولكنه نجح هنا نجاحه الذي لم يسعد به قط عظيم ناجح مشهور، فكان نصيبه من حسد الحساد أقل نصيب، وكانت سقطاته التي عدوها عليه أهون السقطات.
من هذه السقطات أنه لم يحترس كما ينبغي أن يحترس من الجواسيس والعيون، وأفرط هنا في سجية السماحة وكراهية التضييق، وأخذ الأمور كلها على هينة وميل إلى المغفرة والاعتذار، وتفلسف بهذا التهاون كأنه يقصده ولا يقع فيه على غير علم وانتباه. فكتب إلى صديقته جوليانا ريتشي يقول: أتراني لو تحققت من تجسس خادمي أستغني عنه لهذا السب إذا كنت راضيا عن خدماته الأخرى؟ ولا جرم تتسرب الجاسوسية إليه من هذه الثغرة، ويثبت بعد ذلك أن مساعده المقيم معه في الدار - إدوارد بنكروفت - كان في خدمة الحكومة البريطانية لنقل أخباره ومراسلاته ولو لم تكن على صلة بالسياسة والمفاوضات الحكومية، ويشاء الحظ الحسن لهذا الرجل المجدود أن تكون معاذيره على الدوام راجحة على سيئاته في أظهر السقطات. فكم له من معذرة ظاهرة في هذه السقطة التي لا مراء فيها؟ لقد كان من معاذيره أن الجاسوسية لم تضره، ولم تضر دولته في كثير ولا قليل، وكان من معاذيره أنه يريد أن يعرف العالم أجمع أن قضيته بينة جلية كالشمس في رائعة النهار، فلا حاجة بها إلى تقية أو مداراة، وكان من معاذيره أنه عامل نفسه كما عامل دولته في هذه السماحة التي جاوزت حدودها بغير مراء، لأنه لم يكن يأمن على حياته، ولم يكن ثمة خطر على مصالح دولته أعظم من الخطر الكبير الذي كان يتربص به حيث أقام وحيث سار أيام تلك السفارة، ومن الحظ الحسن ولا ريب أن تحسب للإنسان المعاذير كلما حسبت عليه أمثال تلك السقطات.
ويستوفي هذا السياسي الزعيم والسياسي المفاوض وظائف السياسة العامة بآرائه في شئون الحكم وقضايا الاجتماع ، وهي آراء لا تحيط بالمسائل والقضايا إحاطة المذهب الجامع للقواعد والفصول، ولكنها تعرض علينا حلا عمليا لكل مشكلة أو فكرة تجريبية عن كل واقعة، ويؤلف منها الباحث مذهبا مجملا إذا أراد أن يعرضها معرض الترتيب والتبويب.
ولا حاجة إلى القول بغلبة الفكرة الديمقراطية على كل رأي من آرائه في الحكم وفلسفة الاجتماع والسياسة، فربما كانت الديمقراطية شعورا عنده قبل أن تكون تفكيرا ودراسة، وقد كان أخوه - صاحب الصحيفة التي نشر فيها كتابته الأولى - ثائرا متطرفا، وأوشك أن يعاقب بالسجن الطويل على حملاته العنيفة، وكانت السخرية بالألقاب من أوائل الآراء التي نشرها الصبي فرنكلين باسمه المستعار بين الخامسة عشرة والعشرين، وكان من سخرياته في مسألة الألقاب أن يتخيل أسماء التوراة مصحوبة بألقاب النبلاء كاللورد آدم، واللادي حواء، والبارون أرميا، والكونت حزقيال، وكان يقول بعد نضجه وتقدمه في تجارب الحياة أن الحسب الموروث لا يورث الخير ولا الإنصاف، وقد كره ازدواج المجالس التشريعية؛ لأن المجلس الأعلى في رأيه إنما يختار لتغليب سلطان الأغنياء على المجتمع، وهو لا يكره الثورة ولا يعارض حقوق الملكية، ولكنه يكره سيادة الطبقة الغنية على سائر الطبقات، ويؤمن كل الإيمان بوجوب حرية التجارة وإطلاق القيود للمعاملات؛ لأنها لازمة للحضارة الإنسانية لزوم حرية الفكر أو هي ألزم لها في جملة أحوالها، ولكنه على هذا الإيمان القوي بحرية المعاملة، كان يرى من حق المجتمع أن يشرف على تنظيم الملكية واقتناء الثروة؛ لأنها كلها من صنع يديه، فليس في طاقة الفرد إذا انفرد بنفسه أن يحرز ملكا مصونا يزيد على ضروريات المعيشة الموقوتة، فإذا أحرز شيئا يزيد على ذلك فإنما يحرزه بفضل المجتمع وضماناته الطبيعية أو الموضوعة، فلا يحق له أن ينكر على المجتمع سلطان الإشراف على التنظيم والتشريع في هذه الأمور، وإنما يشترط لذلك أن يكون كل حامل عبء من الأعباء الاجتماعية شريكا مسموع الرأي في شرائع التنظيم.
وليس إنكاره لسيادة العلية الغنية إنكارا لرياسة العلية التي ترفعها إلى مكان الزعامة فضائل العقل والأخلاق، بل هو يذهب في الإصلاح الاجتماعي مذهب كنفشيوس الذي يقول بإصلاح الرؤساء وهم قدوة طبيعية للأتباع والمرءوسين، وقدوتهم هذه هي التي تخلق العرف وتروض السواد على اتباعه وتجعلهم على حسب المعهود من عاداتهم يحذرون الخروج على العرف أشد من حذرهم دخول الجحيم حيث يلقون العقاب على الخطايا والذنوب.
وتكاد عقيدة المساواة الديمقراطية تكون عنده إنسانية عامة لا يخصصها بوطن ولا قوم ولا قبيل، فلما لاحظ أن العبيد المحررين ظلوا في حياة الحرية فقراء يحترفون الحرف الوضيعة عقب على ذلك قائلا أنه لا يعتقد أن العيب أصيل في الطبيعة أو دائم لا يتغير بتغير الأحوال، وإنما يرجح أنه من نقص التعليم والمرانة، وأن الزنجي ذو ملكات حسنة واستعداد كامن للفنون، ولذلك يحذق الموسيقى ويبرع فيها، ولو تعلم فنا غيرها لما قصر فيه.
ومن رأيه - بل من آرائه الكثيرة - أن الرق مفسدة للمجتمع الذي يشيع فيه؛ لأنه يركن بالسادة إلى الكسل، ويغري الأطفال بالكبرياء والتجبر في الأسر التي تملك الرقيق، وقد أوصى بالاعتماد على العمل المأجور، وتنبأ بشيوع ارتفاع الأجور في العالم تبعا لارتفاعها في الولايات الأمريكية بعد إلغاء الرقيق.
وكان من رأيه أن العمل هو معيار الثروة، فليس الذهب والفضة معيارا ثابتا لها؛ لأنهما سلعة تتقلب بها الأسعار كما تتقلب بسائر السلع، وإنما تقاس ثروة الأمة بمقياس الأعمال التي تحصل عليها، وليست هذه الأعمال وقفا على الصناعات البدنية وما إليها، بل هي تشمل أعمال الحضارة بأجمعها، وكلما اقتدر المجتمع على توفير تلك الأعمال كانت قدرته هذه مقياسا لغناه.
ناپیژندل شوی مخ