بناء امه عربي
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
ژانرونه
إن المتتبع لحركة التاريخ الإسلامي لا يلبث أن يرى أن الأقطار التي تكون منها العالم الإسلامي أخذت تخضع شيئا فشيئا لمؤثرات تختلف من قطر لآخر وتتنوع من قطر لآخر بحسب الموقع الجغرافي للقطر وبحسب ماضيها الإسلامي القريب وماضيها البعيد السابق للإسلام. فالأقطار الشرقية من العالم الإسلامي خضعت - مثلا - لتأثير الهجرات والفتوح التتارية المنبعثة من قلب آسيا على نحو يقل تدريجيا كلما اتجهنا غربا نحو المغرب الأقصى، والأقطار المغربية والأقطار الوسطى (مصر وسوريا) أدركها من تأثير الحملات الصليبية للفرنجة ما لم يصب الأقطار الشرقية، وهكذا.
وطبيعة الماضي القريب والبعيد تحكمت في إحياء لغة وطنية كالفارسية، ولم تؤد إلى إحياء لغة كالقبطية أو السريانية، كما أنها يظهر أثرها أو لا يظهر في مختلف أقاليم الفنون الإسلامية.
اختلاف المؤثرات هذا انتهى إلى تقسيم العالم الإسلامي إلى قسمين رئيسيين: إيراني وعربي، ويرجع المؤرخون اتضاح أمر التقسيم إلى اشتداد وطأة الزحف التتاري في القرن الثالث عشر على الأقطار الشرقية، وإلى ما سبق هذا من اشتداد الضغط الصليبي على الأقطار الوسطى والمغربية من العالم الإسلامي (في حوض البحر المتوسط). ومهما يكن فقد نمت للقسم الإيراني ثقافة تنعم بشباب وحيوية، وبقيت للقسم العربي ثقافة قديمة تحمل طابع المحافظ وتنعدم تدريجيا صفات الأصالة فيها.
والدولة العثمانية التي تألق مجدها عندما فتح محمد الفاتح القسطنطينية في 1453 دولة إيرانية الحضارة الإسلامية، ولكن تغير في أواخر ذلك القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر مجرى تاريخها، ويرجع ذلك إلى قيام الشاه إسماعيل الصفوي صاحب فارس بشن حرب دينية إسلامية على السنية والسنيين.
والشاه إسماعيل ينتمي إلى بيت تصوف ودين، وأصبح إماميا شيعيا، واستخدم السيف في نشر مذهب الشيعة الإمامية، ولم يستخدمه في إيران فحسب، بل في العراق وفي المناطق الشرقية من الأناضول. ونهض سليم العثماني في وجه هذا التحدي واستخدم هو أيضا السيف في إبادة من اتهمهم بممالأة إسماعيل من رعاياه. ولا عجب فالسلاطين العثمانيون جروا على ما جرى عليه السلاطين السلاجقة قبله من رفع راية أهل السنة في كل مكان، وغزا سليم الأول بلاد فارس على بعد الشقة وصعوبات المواصلات، وهزم الشاه إسماعيل في واقعة تشالديران، ودخل مدينة تبريز قاعدة ملكه، ولكنه اضطر للعودة لبلاده؛ فإن طول خطوط مواصلاته بقواعده وتذمر جنده فرضا عليه الانسحاب. وعاد إسماعيل لعرشه ولسياسته الدينية.
هل معنى ذلك أن الغزو لم يثمر شيئا ما؟ الواقع أنه لم يقض على استقلال فارس، بل بقيت فارس والدولة العثمانية على حال من الجوار السيئ مدة تزيد عن أربعة قرون إلى أيام الانقلابين الكمالي والبهلوي حين ابتدأ عهد جديد من العلاقات العثمانية الإيرانية. لم يقض الغزو على استقلال فارس، ولكنه أضعف نفوذها في العراق وكردستان؛ مما مهد لامتلاك الدولة العثمانية للعراق في عهد سليمان القانوني، وكشف الغزو لسليم عن مسائل خطيرة؛ كشف له أولا عن وجوب تقوية الصفة الإسلامية لدولته، وكشف له ثانيا عن مبلغ ما تعرضت له خطوط مواصلاته إلى فارس من تدخل السلطنة المملوكية، وإن ذلك يحتم عليه أن يكفي نفسه شر التدخل المملوكي إما بمحالفة عثمانية مملوكية أو بانتزاع الأقطار السورية من المماليك. والمحالفة العثمانية المملوكية وانتزاع الأقطار السورية كلاهما يؤدي إلى زيادة الصفة الإسلامية للدولة العثمانية.
ولم نقف بالضبط على ما جرى ما بين تشالديران وواقعة مرج دابق في 1516. كان هناك نوع من الحرب الباردة على ما عرفتها تلك الأيام، قامت على تبادل رسائل السباب، والظاهر أن سلطان مصر قانصوه الغوري اقتنع بأن سليما يطمع في ملكه، وأن أمراءه متفرقة أهواؤهم، وأن خير سياسة يتبعها هي التأهب للحرب والمراقبة عند حدوده الشمالية، فإن هذه السياسة خليقة من جهة بأن توقف سليما عند حده، وخليقة من جهة أخرى بأن تفتح أعين الأمراء للخطر الذي يتهددهم جميعا فتتحد كلمتم من جديد.
وتحرك السلطانان نحو الحدود، ورابط الغوري عند حلب، واتخذ سليم خطة الهجوم، وهزم الغوري عند مرج دابق، ولم يوقف للغوري على أثر، وتقهقر المماليك نحو مصر، ودخل سليم حلب والمدن السورية الأخرى دون قتال. والظاهر أنه كان يصح أن يكتفي بالأقطار السورية وأن يترك مصر للمماليك على أن يكونوا تحت السيادة العثمانية، ورفض المماليك ذلك، وغزا سليم مصر وقضى على سلطنة المماليك نهائيا ، وورث عنها نفوذها في الحرمين ورعايتها لهما كما ورث عنها ما تدعيه من نفوذ في البحر الأحمر وسواحله. كذلك انتقلت إلى الدولة العثمانية واجبات مصر ومسئولياتها نحو منع ما أخذ البرتغاليون إذ ذاك يحاولونه من قتل الملاحة العربية في البحار العربية بعد أن تمكنوا من الوصول للهند عبر تلك البحار من أفريقيا الجنوبية، وكان الغوري قد جهز في شهوره الأخيرة تجريدات بحرية ضد مشروعاتهم.
ولم يقم سليم في مصر طويلا، بل عاد إلى بلاده بعد تنظيم مبدئي للولايات العربية التي آلت إليه على النحو الذي وصفناه، وينسبون إليه أنه نقل إلى القسطنطينية عددا كبيرا من مهرة الصناع ومن نفائس الآثار، وأنه اقتاد إلى بلاده العباسي المتلقب بلقب الخلافة ثم عاد هذا الرجل إلى مصر بعد سنوات في المنفى وتلاشى أمره، وما بأيدينا من الكتب المعاصرة لا يذكر شيئا عن نزول العباسي لسليم عن الخلافة، كما أن السلطان سليما في الوثائق الرسمية التي صدرت عنه لا يلقب نفسه بذلك اللقب. ومما لا شك فيه أن أكثر من أمير مسلم تلقب بذلك اللقب في ذلك العهد، كما أن أكثر من فقيه إذ ذاك اعتبر أن الخلافة على وجهها الشرعي قد انقرضت من زمان.
وعلى كال حال فالسلطنة العثمانية تمثل نظاما مستقلا لا يحتاج إلى إقامة أو تفويض من سلطة أعلى منها، واهتمام السلاطين بالتلقب بلقب خلفاء يرجع إلى أواخر القرن الثامن عشر، وربما كان لكتابات الأوروبيين إذ ذاك عن الخلافة الإسلامية - وهي كتابات لا تدل في كل الأحوال على فهم صحيح لحقائق التاريخ الإسلامي - أثر في اهتمام السلاطين العثمانيين بالتلقب بلقب الخلفاء.
ناپیژندل شوی مخ