فضرب الأرض مغيظا محنقا، وجعل يذهب ويجيء أمامها في حيرة وعبوس، فبدا في وجهها القلق وقالت: أعتقد أنك تناسيت طلباتك المزعجة وطبت نفسا بحياتنا الوديعة اللطيفة، فما الذي ينزع بك اليوم إلى إلحاحك المخيف القديم؟ كن طفلا مهذبا وأمسك عن الإلحاح والطمع، الحب الحقيقي لا يعرف هذا العبث.
فهز رأسه في قهر ويأس وعجب؛ وما أدراها بالحب الحقيقي؟! أي لغز؟! أتحبه حقا؟ لا يسعه أن يشك في هذا، ولكنه حب لا يفهمه، أو أنه لا يستطيع فهمها هي، يا لها من شابة رزينة هادئة؛ عينان زرقاوان صافيتان، ليس فيهما ذرة من شيطنة أو خفة، ولا حرارة، باردتان. ومن عجب أن يكون هذا الجسم الفتان لصاحبة هاتين العينين الهادئتين الباردتين. إن نار الحب لا تروى بالماء، ولكن بنار مثلها أو أشد منها. وهكذا يمضي اليوم كما مضى الأمس وكما يمضي الغد، بلا أمل! وكثيرا ما يبدو له أن حديث الحب يزعجها ويقلقها، وأنها لا تسترد طمأنينتها حتى يثوبا إلى الصمت، أو إلى حديث آمالهما البعيدة، وهي لا تمل الحديث عن هذه الآمال، وبه تنسى نفسها والزمان والمكان، فتشع عيناها نورا بهيجا، وتتدفق في أطرافها حيوية جديدة. وفي هذه الساعة يحبها بمجامع قلبه، بيد أنه حب لا يخلو من تكدر، أو من غيظ وحنق في بعض الأحيان، وينقلب متسائلا لماذا لا ينشرح صدرها أيضا بالحب نفسه؟ لماذا تخافه وتجفل من ذكره وإشارته؟ وإلام يبقى هذا الحجاب قائما بينه وبينها؟! وتفرس في وجهها طويلا فيما يشبه الحنق، ثم تساءل: هل أكابد هذا الحرمان إلى الأبد؟
وابتسمت - على رغمها - وقد زادت الابتسامة من حقده وقالت: ليس إلى الأبد.
وشعر برجفة في قلبه، ورنا إليها لا يحول عنها عينيه، ثم قال باقتضاب: الزواج؟!
فخفضت عينيها حتى لم يعد يرى إلا جفنين منسدلين وخدين موردين، وحينذاك شبت بنفسه رغبة في الانتقام والإيذاء، ولو باللسان، فقال: وإذا تم الزواج بذلت لي ما تتمنعين عنه بنفس راضية، أليس كذلك؟ تهبينني شفتيك وصدرك وجسدك، وتنزعين عنك ثوبك فتبدين عارية كالبلور.
ولكنها كانت قد غادرته كأنها تفر وحثت خطاها نحو باب السطح. وكانت الكلمات تقذف من فيه بحرارة وحنق وتشف.
39
أصبحت قهوة علي صبري ملهى صغيرا بما تحفل به من غناء ورقص وخمر، وقد ركبت على هامتها لافتة كبيرة سطر عليها بالخط العريض «علي صبري». وأقيمت في نهايتها من الداخل منصة للتخت، ونضدت الموائد والكراسي على الجانبين، وبحذاء مدخلها. وكان الأستاذ علي صبري قد انتهى من الوصلة الأولى، وآنس الجلوس بكئوسهم وسمرهم، حين جاء زنجي - طويل رشيق مفتول العضلات يتطاير الشرر من عينيه - فوقف على عتبة القهوة وصاح بصوت وقح مرتفع: أين صاحب القهوة؟
فجاءه الأستاذ علي صبري مداريا دهشته بابتسامة باهتة، وتساءل: أفندم؟
فقال الزنجي بتحد: سمعت أن لديك أقذر خمر توجد في هذه الناحية، ولما كانت الخمر الجيدة لم تعد تؤثر في، فقد قصدتك لأسكر.
ناپیژندل شوی مخ