كان حريصا على ألا تقع عين على القبر؛ حفظا لكرامة الأسرة. ووفقوا إلى صرف المشيعين، وركبوا سيارة الموتى وليس في ركابهم إلا عم فرج سليمان، وفريد أفندي محمد الذي أبى الرجوع إباء لم ينفع فيه الرجاء. وانطلقت السيارة بهم إلى باب النصر، ووقفت بهم ناحية قامت بها القبور في العراء ثم ووري جثمان كامل أفندي في قبر غير بعيد من الطريق الملتوي الذي يشق المدافن كأنه من قبور الصدقة. ووقف حسنين غارقا في الحزن والبكاء، ولكنه على حزنه كان يسترق النظرات إلى محمد أفندي فريد في خجل واستياء «لو علم التلاميذ بالوفاة لجاءوا معزين، ولرافقني بعضهم حتما إلى هذا القبر. الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. لا مقبرة ولا يحزنون. لماذا لم يبن والدنا مقبرة تليق بأسرتنا؟!»
5
انتصف الليل أو كاد، وخلت الشقة إلا من أهلها. وآوت الأسرة إلى الصالة ومعهم الخالة وزوجها. وراحت الأم تعيد قصة الوفاة للمرة العشرين في ذاك اليوم الحزين، وأنصت إليها حسين وحسنين باهتمام، على حين وجم حسن متفكرا.
وتحدث حسنين عن أحمد بك يسري متحاشيا مسألة جهله للبيت؛ لوجود خالته وزوجها من ناحية، ولأنه لم يكن يحب أن يذكرها من ناحية أخرى. وكان شعور العطف نحو والده يملأ عليه نفسه، فجعل يرنو إلى باب حجرته المغلقة بطرف حزين، ويتخيل فراشه الخالي بإنكار وأسف، ثم نظرت الأم إلى الأبناء وقالت: قوموا للنوم.
وأذعنوا لمشيئتها بلا اعتراض بعد يوم شاق أليم، ومضوا إلى حجرتهم. وكان بالحجرة ثلاثة أسرة صغيرة فأخلوا واحدا لزوج خالتهم الذي لحق بهم على الأثر، وشارك حسنين حسين في فراشه. ولكنهم لم يستسلموا للنوم، أو تأبى النوم عليهم، فراحوا يتحدثون عن أبيهم بحزن وحنان، ويذكرون أيامه الأخيرة، وميتته المفاجئة. ثم قال حسين: كانت جنازته تليق بمقامه حقا.
فقال عم فرج سليمان مؤمنا على قوله: كان رحمه الله رحمة واسعة رجلا عظيما، فلا عجب أن تكون جنازته عظيمة مثله. ولقد امتلأت عطفة نصر الله بالمشيعين من البيت إلى شارع شبرا.
ولم يرتح حسنين لصوت الرجل، وكان يشعر لوجوده بضيق، ثم ذكر حانقا أنه رأى القبر العاري، فقال: العجيب أن والدنا وقد أفنى مالا كثيرا لم يفكر في بناء مقبرة تليق بالأسرة.
فعاد الصوت الذي لم يرتح إليه يقول: وهل كان يظن أنه سيهلك في مثل هذه السن؟ إن والدك في الخمسين. وعندنا في الريف كثيرون يتزوجون للمرة الثانية أو الثالثة في هذه السن.
وصمت الرجل مليا ثم استدرك قائلا: ولا تنس أن والدك قد هاجر مع جدته من دمياط إلى القاهرة، وهو في مثل سنك يا سي حسنين، فلستم من أهل القاهرة الذين يتوارثون المقابر جيلا بعد جيل.
فقال حسنين بامتعاض: حقا لسنا من أهل القاهرة، وإن كانت أسبابنا بآلنا في دمياط قد انقطعت.
ناپیژندل شوی مخ