كانت تخيط منقبضة الصدر، لا ضاحكة الثغر ولا مترنمة كعادتها فيما ولى من أيام. وكانت تنتظر حضور صاحبة البيت بين آونة وأخرى؛ لتفصل لها بعض ثياب داخلية بعثت بها إليها هذا الصباح. أجل بعثت بها هذا الصباح فحسب، عقب حديث أمها بيومين، مما جعلها تظن أنها أرسلتها على سبيل الإحسان! وقد أفضت بأفكارها إلى أمها فانتهرتها قائلة: لا تسلطي هذه الأوهام على نفسك وإلا خاب مسعانا جميعا.
ولم تكن تجرؤ على معارضة أمها إلى ما باتت تكنه لها من الرثاء في هذه الأيام الأخيرة. «ما أغباني! هل حسبتها راضية عن حالي؟ إنها تكابد حيرة قاتلة، وهي أحقنا بالعطف. إن التعاسة تنفذ في لحمنا كما تنفذ هذه الإبرة في قطعة القماش. ما كان أبي ليسمح بشيء من هذا، ولكن أين هو؟ إن حزني عليه يتضاعف يوما بعد يوم، لا للضر الذي مسنا بعده فحسب، ولكن لأن هذا الضر نزل بمن يحبهم ويحب لهم الخير. إني آلم لألمه، لا بد أنه يتألم لنا، لشد ما كان يحبني، كأنه يحدس ما يرصدني من شقاء. اضحكي؛ ما أحب ضحكتك إلى نفسي! هكذا كان يقول لي كلما تعالت ضحكتي الرنانة، وكان يقول لي أيضا الخفة أنفس من الجمال، كأنه يعزيني على دمامتي. لله ما ألطفه وما أعذبه! لم يكن مثله أحد في الرجال. مات، مات! لن أنسى ما حييت إيماءته إلى صدره، وهو ملقى على الكنبة: أبي يستغيث ولا مغيث. لتندك الجبال على الأرض. حياة بغيضة مفجعة لا خير فيها. أبي ميت وأنا خياطة، عما قليل تجيء صاحبة البيت لا ضيفة كما كانت ولكن زبونة. كيف ألقاها؟ بأي عين تنظر إلي؟ حسبي، حسبي، داخ رأسي.» وسمعت أمها تخاطب شخصا في الصالة فكفت يدها عن الماكينة وأرهفت السمع، فقرع أذنيها صوت تاجر الأثاث وهو آخذ في مساوماته التي لا تنتهي، وأمها تحاوره بصوت ملؤه الإشفاق واللوم. «ليست أمي بلهاء، وما كانت لتغلب في مثل هذا الموقف، ولكنها الحاجة القاسية التي تركبها، متى يصرف لنا المعاش؟ لا أدري، ولا أحمد يسري يدري. هيهات أن يكفينا المعاش، خمسة جنيهات؟! كارثة. جاء الرجل ليحمل المرآة الكبيرة بحجرة الاستقبال ولما يمض أسبوعان على بيع الفراش العزيز. وسيأتي غدا وبعد غد حتى يترك الشقة أرضا عارية. لماذا خلقنا أسرى أذلاء للغذاء والكساء والمسكن؟ هذا سر متاعبنا.» وخفت إلى باب الحجرة، ففتحته ورأت التاجر ومعاونيه يحملون المرآة الطويلة إلى الخارج وقد فتح باب حجرة الاستقبال على مصراعيه، ووقفت أمها على عتبتها. وكان الرجل الذي يحمل مؤخرة المرآة قصيرا فحملت المرآة في وضع مائل ورأت سطحها ينعكس عليه ركن سقف الصالة متأرجحا بحركة الرجلين، كأنما سرى بأوصال البيت زلزال. وذكرت وهي لا تدري نعش أبيها. واشتد انقباض صدرها وهي تلقي نظرة الوداع على المرآة التي عاشرتها منذ رأت النور. وعادت إلى مجلسها ، «ينبغي أن تكون المرآة آخر ما أحزن عليه. لن تعكس لي وجها أسر به. الخفة أنفس من الجمال! هذا قولك يا أبي وحدك، ولولاي ما قلته أبدا. لا جمال ولا مال ولا أب. كان يوجد قلبان يساورهما القلق على مستقبلي، مات أحدهما، وشغلت الهموم الآخر. وحيدة، وحيدة، وحيدة، في يأسي وألمي، ثلاثة وعشرون عاما! ما أبشع هذا، لم يأت الزوج بالأمس والدنيا دنيا، فكيف يأتي اليوم أو غدا؟! وهبه جاء راضيا بالزواج من خياطة فما عسى أن يقوم بنفقات الزواج؟ لماذا أفكر في هذا؟ لا فائدة، لا فائدة. سوف أظل هكذا ما حييت.»
ودق الباب، ثم جاءت صاحبة البيت متهللة كعادتها، واحتضنتها وقبلتها. ثم جلستا جنبا إلى جنب، وتحدثت المرأة برقة ومودة، ولعلها حرصت على الرقة والمودة أكثر من ذي قبل. وتظاهرت نفيسة بالرضا والارتياح تداري بهما ارتباكها وخجلها، ولكن من المؤكد أن مبالغة المرأة في إظهار مودتها آلمها وآذاها، وضاعف من ارتباكها وخجلها. وقد جربت المرأة الفستان الذي انتهت نفيسة من خيطه، وقاست الثياب الداخلية، ثم جلست لصقها وغمرت يدها بنقود فضية وهي تقول: هيهات أن نوفي دينك السابق.
ومكثت معها ردحا من الزمن ثم ودعتها وانصرفت. وبسطت نفيسة يدها فرأت قطعتين من ذوات العشرة القروش. وثبتت عيناها عليهما وصدرها جياش وقلبها خافق. ثم قهرها الحياء والهوان «شيء مؤلم، ولكن لا ينبغي أن أفكر في هذا، ما جدوى وجع الدماغ؟ روضي نفسك على قبول ما لا بد منه. هذه حياتي ولا حياة لي غيرها ...» وجاءت الأم وهي لا تزال تنظر إلى النقود، فأخذتها من يدها وسألتها: أجرة الثياب كلها أم الفستان وحده؟
فغمغمت الفتاة: لا أدري.
فقالت الأم وهي تزدرد ريقها بصعوبة: أجرة حسنة على أية حال.
وتحاشت الأم أن ينم وجهها على شيء مما يقوم في نفسها.
14
ومضت أسابيع، وكان الليل قد أرخى سدوله وشملت الشقة كآبة وما يشبه الصمت. وكان الشقيقان يجلسان إلى المكتب متقابلين، منهمكين في المذاكرة، على حين جلست الأم ونفسية في الصالة في شبه ظلام قانعتين من النور - على سبيل الاقتصاد - بما ينبعث من حجرة الأبناء، وتناجتا في صوت منخفض شأنهما كل مساء، وكانت هموم العيش أكثر ما يستأثر بحديثهما. لم تزل الحاجة همهما الأكبر، وما انفك الخوف يقض مضجع الأم، ويجعلها ترمق المستقبل بقلق وحزن عميقين. بيد أن العادة كانت تحدث أثرها الملطف في تهوين الخطب وإساغته، فلم يعد التقشف في الغذاء مزعجا كما كان بادئ الأمر، وأخذت نفسية تألف مهنتها الجديدة، وتتطلع إلى زبائن جدد، في شيء من الانكسار وكثير من الرجاء. حتى الشقيقان، تعودا أن يجعلا من غذاء المدرسة وجبتهما الرئيسية، وأن يبيتا بلا عشاء في صبر وجلد. كانت العادة تحدث أثرها، وكان حزم الأم يسيطر على ضبط أعصاب الأسرة المنكوبة. وفي ذاك المساء جاء فريد أفندي محمد وزوجه يزوران الأسرة، فاستقبلتهما الأم ونفسية بترحاب وقاداهما إلى حجرة الاستقبال.
وكان فريد أفندي يرتدي جلبابا ومعطفا، أما حرمه فقد التفت بالروب، وكأنهما في شقتهما بغير ما كلفة. وجلس الرجل على الكنبة ليفسح المجال لجسمه المكتنز، وراح يحدث حديثه الودود في لطف وإيناس. وكانت زوجه - ست أم بهية - بدينة مثله مع ميل إلى القصر، إلا أنها كانت تعد أجمل امرأة في العمارة؛ لبياض بشرتها وزرقة عينيها، وقد قالت تخاطب أم حسن متسائلة في لهجة تنم عن العتاب: لماذا تلزمان البيت هكذا؟ لماذا لا تروحان عن نفسكما بزيارتنا كما كنتما تفعلان؟
ناپیژندل شوی مخ