فقال حسنين باستهانة: أوه، البنات في البلد أكثر من الهواء وأرخص من التراب!
وعل من الجعة في ظمأ، وشغل الصديق بقدحه أيضا، فعاد الصمت؛ «آه لو كان في وسع الإنسان أن يخلق حياته من جديد، فيولد في أسرة جديدة، وينشئ ماضيا جديدا! ولكن ما بالي أعذب نفسي بالأماني الكاذبة! هذا أنا، وهذه حياتي، ولن أسمح بأن أتحطم. لم تنته المعركة بعد!»
85
ولما غادر الكازينو مودعا من صديقه كانت الصدمة والجعة تكادان تذهبان بعقله. وكان يبغي أن ينفس عن صدره قبل كل شيء ومهما كلفه الأمر، بيد أنه استسخف فكرة مواجهة الضابط أحمد رأفت وأغراه شعوره المنطوي على التحدي والغضب بما هو أجل وأخطر «إن غضبي على هذا الشاب المغرور غير عادل؛ لقد سمع قولا بذيئا فردده، ليس لي عليه حق ولا أستطيع الزعم بأننا كنا أصدقاء. إذا سنحت فرصة للتحرش به في المستقبل فلن أدعها تفلت بسلام، ولكن لندع تأديبه حتى سنوح هذه الفرصة، هدفي الحقيقي هو البك نفسه ذو الشارب المصبوغ، سأقول له إن أقل ما يستحقه رجل تقدم لطلب كريمتك هو أن تحافظ على كرامته، خصوصا إذا كان ابن صديق قديم، إذا تنصل من التهمة قذفته بالدليل القاطع وقلت له إن الفقر ليس بعيب، بخلاف التشنيع على الناس؛ فهو عيب حقير. إذا غضب، ولا بد أن يغضب كما يحتم مركزه الكبير، فلن أقتصد في إظهار غضبي حتى أفرغ بخار صدري المكتوم.» وبهذا العشور المتفجر وما ينبثق حوله من إشعاعات الجعة ألقى بنفسه في أول ترام صادفه، فحمله إلى ميدان المحطة، ثم استقل الترام إلى شارع طاهر، وعندما تراءت له فيلا أحمد بك يسري تثاقلت قدماه كأنه يمهل نفسه لمعاودة التفكير، وترددت في أعماقه هواتف تهيب به إلى التراجع، ولكنها ذابت في تيار الحمى المستعر في رأسه، فدفع إلى الفيلا دفعا حتى وجد نفسه حيال البواب الذي وقف له احتراما، وشق طريقه إلى الداخل دون استئذان وهو يشعر بغرابة سلوكه وسخافته، ولكن دون أن ينثني. كانت الشمس قد مالت نحو الأفق فلاحت شجيرات الورد والشيح الناعسة في ظل المغيب، وارتسمت على أرض الممشى الوسيط آثار عجلات في السيارة في هيئة خطين عريضين منحنيين، فاتجه نحو السلاملك، تشي نظرة الحيرة والتردد التي تنتاب تصميمه من حين إلى حين بأنه لم يقتنع كل الاقتناع بوجاهة البواعث التي تدفعه إلى هذا التحدي. ومع هذا ارتقى السلم بسرعة غير متوقعة، وما كاد يبلغ الفرندا حتى وقف متسمرا تحت صدمة دهشة مفاجئة لم تدر له بخاطر في هذيانه الطويل المتصل. رأى الفتاة - نفسها - جالسة على كرسي كبير، وقد رفعت رأسها عن كتاب أو نحوه وتطلعت إلى القادم بعينين متسائلتين، وثبتت عيناه عليها في جمود ذاهل، وقد صدع صدره من الأعماق إحساس بالخزي أذابه ذوبانا. ثم أدرك أنه حيال موقف لو استسلم فيه لضعفه لباء بخزي جديد فاق ما تعرض له من ألوان الإهانة؛ فاستمد قوة جديدة من خوفه، مصمما على الخروج من ورطته بكرامة واستهانة. وأفاده التصميم فتمالك نفسه، وحنى رأسه باحترام وقال مبتسما في لطف: مساء الخير يا آنسة، معذرة عن إزعاجي غير المقصود لك، هل أستطيع أن أقابل البك؟
فقالت برقة - وكان يسمع صوتها لأول مرة - دون أن يعتورها أدنى ارتباك: والدي معتكف اليوم لوعكة خفيفة.
وحنى رأسه مرة أخرى، ولعله وجد ارتياحا إلى هذا الخلاص الذي جاء من حيث لا ينتظر، وقال وهو يهم بالذهاب: أستودعك الله.
ودار على عقبيه وسار خطوة، وخطوة أخرى، ثم توقف في صميم مباغت، اختفى منطق السلام وحل محله غضب واستهتار وتلبسته الحال الغريبة التي دفعته من مصر الجديدة إلى شبرا.
ودار حول نفسه مرة أخرى وواجه الفتاة في جرأة غير مبال بنظرتها المترفعة المتسائلة، ثم قال بصوت أعلى مما يستدعي الموقف: معذرة، يعز علي أن أودع هذا البيت الوداع الأخير دون أن أعرب عن أفكاري.
فظلت على تساؤلها الصامت دون أن تنبس بكلمة، فاستطرد متسائلا: أظن بلغك أنني طلبت يدك؟
فقالت وهي تغض بصرها: لم تجر العادة بأن يحدثني أحد من زوار أبي.
ناپیژندل شوی مخ