وانقضت الأيام في البحث عن مسكن جديد حتى اهتدوا إلى بيت بشارع الزقازيق بمصر الجديدة، ذي موقع ساحر وإيجار مستطاع على حد قول حسنين، وفي اليوم المحدد للانتقال اجتمعت كلمتهم على حمل الأثاث مساء على غير المألوف لإخفائه عن أعين المستطلعين، ونفذ ذلك، ولبث حسنين في الشقة مع الأثاث المكوم، على حين عاد حسين إلى عطفة نصر الله ليصحب أمه وأخته إلى المقام الجديد. وودعوا حيهم ليلا غير آسفين، بل مستبشرين خيرا، ولما بلغوا الحي الجديد تولتهم دهشة ممزوجة بإكبار؛ لما شاهدوا من اتساعه وصمته ، ومناظر العمارات والفيلات المقامة على جانبيه، وهوائه الجاف النقي فلم تتمالك نفيسة نفسها من أن تقول باسمة على رغم أن الموقف لم يخل من ذكريات حزينة: «لقد صرنا من الطبقة العالية حقا.»
وكانت الشقة الجديدة في بيت مكون من دورين تحيط به حديقة بسيطة، فارتقوا إليها سلما ذا سبع درجات، وهنالك وجدوا حسنين في انتظارهم وقد أشعل المصباح الغازي، ونشطت المرأتان إلى فرش الحجرات الثلاث الصغيرة وعاونهما الشابان، فلم يستغرق تجهيز الشقة الجديدة بالأثاث البسيط أكثر من ساعة تخللتها فترة راحة. وبدت الكراسي والكنبتان والفراش غريبة نافرة وسط الحجرات الأنيقة، ولم يفت حسنين التعليق على هذا بتذمر كالعادة، ولكنه وجد بعض العزاء في حجرة الاستقبال التي كانت تفتح على الخارج، فلا يضطر القادم إلى عبور الصالة الداخلية إليها. وتحدثوا غير قليل عن الوسط الجديد والعمارات والشوارع، وما يتخيلونه عن الجيران، وتحدث حسنين عن ضرورات الحياة الجديدة كما يراها حتى قال: أمران لا يمكن تأجيلهما، وهما النور الكهربائي، وخادم صغير؛ فبغير هذين لا يصح أن نبقى هنا يوما واحدا.
ولم يعترض على قوله أحد؛ إذ كان مفهوما أنه هو الذي سيدخل النور الكهربائي، ويستحضر الخادم، ثم فكر في الوسط الجديد من زاوية جديدة، فتساءل في نفسه ترى هل تصلح أمه وأخته لمخالطة هؤلاء القوم؟ وخيل إليه أنه يسمع تعليقات السيدات والهوانم عقب زيارة لبيته، فتصاعد دمه إلى رأسه، وقال مخاطبا أمه في لهجة تنم عن التحذير: لا ينبغي أن نعرف أحدا في حينا الجديد ولا يعرفنا أحد؛ فلا نزور ولا نزار.
فقالت أمه بعدم اكتراث: لا رغبة لي في معرفة أحد.
وقالت نفيسة: لا صديق لنا هنا نأسف على قطعه!
فقال لها الشاب بقلق: يا حبذا لو أهملت صديقاتك الأخريات أيضا!
فاضطربت نفس الفتاة، ومع أن الانقطاع عن العالم «الخارجي» كان من أمانيها إلا أنه كان أمنية تعجز عن تحقيقها دائما، ولا تفتأ تساق إليه بقوة بغيضة آسرة، فتساءلت في إشفاق: وهل أبقى حياتي سجينة؟!
وتدخل حسين للدفاع عن أخته فقال : لا تغال يا أخي في طلباتك.
فقال الشاب في حدة: لا أريد أن يزورنا أحد من حينا القديم. - لن يتجشم أحد زيارتنا، فيما عدا فريد أفندي وأسرته.
وصمت حسنين طاويا سخطه، وذكر زيارة التوديع التي قامت بها أسرة فريد أفندي أمس، وكيف عرفوا العنوان الجديد، وكيف تمنى وقتذاك لو يغمض عينيه ثم يفتحهما فلا يجد أثرا للماضي كله، خيره وشره! .. ترى هل أفضت الفتاة لوالديها بما تجد من فتوره؟ .. ترى هل يفلت من هذه العلاقة بيسر أم تنشب به متاعب لا يحلم بها؟! ليصمدن مهما كان الأمر، الحرية والمجد فوق المتاعب جميعا، أجل لو تغلب على الماضي، فسيتمتع بأشرف ما في الحياة من طمأنينة وسلام.
ناپیژندل شوی مخ