عندما انتهى إلى فندق بريطانيا بشارع الأمير فاروق بطنطا، كانت الساعة حوالي الخامسة مساء، وقاده غلام إلى حجرة أخيه فنقر على الباب، ووقف مبتسما انتظارا للمفاجأة السارة وفتح الباب وظهر حسين في جلبابه، وسرعان ما اتسعت عيناه دهشة فأقبل على القادم وهو يهتف: حسنين! لا أصدق عيني!
وتعانقا عناقا حارا، ثم دخلا الحجرة الصغيرة وحسين يلقي عليه نظرة متفحصة في حب وإعجاب، ثم قال بصوت متهدج من التأثر والسرور: يا لها من مفاجأة سعيدة! أهكذا يهجم العسكريون بلا إنذار؟ مبارك! لقد أرسلت برقية تهنئة. - وصلتني ورأيت أن أجيئك بنفسي شاكرا! - وكيف حال نينة ونفيسة؟ - على خير حال، وجدت لدي بضعة أيام إجازة قبل بدء العمل فضلت أن أمضيها معك. - أحسنت صنعا، وحسن؟ أما من جديد عنه؟
وغاض البشر من وجه حسنين، ولكنه أبى أن يخلط باللقاء كدرا فقال: دعنا منه الآن على الأقل.
وحدس حسين ما أحزنه، ولكنه لم يكن أقل رغبة منه في تأجيل النكد إلى وقت آخر، فدعاه إلى الجلوس على الكرسي الوحيد ووثب هو إلى الفراش، وتبادلا نظرات مشوقة متفحصة فلمس كل منهما ما طرأ على الآخر من أمارات الصحة والعافية، وإن كان وزن حسين قد زاد أكثر مما يتصور أخوه، كذلك وجده قد ربى شاربه بطول شفتيه وعرضها؛ مما أكسبه مظهر رجولة وقورا، وجعله يبدو أكبر من سنه، وقد داعبه قائلا: لقد خلقت لتكون أبا بارا.
فابتسم حسين على ما أثار قوله في نفسه من ذكريات محزنة، ولكنه لم يعلق عليها بكلمة وقال مشيرا إلى نجمة الضابط: إني فخور بك.
وقال حسنين بتأثر: إني مدين بها لنبل تضحيتك.
وهبط قوله على قلبه بردا وسلاما، وتمتم: لا تبالغ! أنت رجل جدير بكل خير.
وقال حسين لنفسه «هذا شقيق لا يشين، ولولا ماضي نفيسة وحاضر حسن وماضيه ما وجد إنسان على الأرض أسعد مني!» ثم قال لأخيه بسرور: أبشر، لقد رجوت أحمد بك يسري أن يسعى لنقلك إلى القاهرة، فوعدني خيرا. - عفارم! وبهذه المناسبة أخبرك أنني سأعود معك إلى القاهرة قائما بإجازتي السنوية.
ثم غادر الفراش وهو يقول: اغسل وجهك ونفض بدلتك من وعثاء السفر، وهلم ننطلق إلى المدينة؛ فلا خير في البقاء في هذه الحجرة الضيقة.
وارتدى بدلته ثم خرجا معا يتمشيان في طرقات المدينة، ثم مضى به إلى قهوة السمر، وجلسا معا يواصلان حديثهما، وتكلم حسين عن حياته في طنطا كثيرا، وشكا إلى أخيه وحدته وكيف عودته على غشيان المقهى كل مساء فيمضي ساعتين على الأقل مع نفر من الموظفين يلعبون النرد حينا ويسمرون حينا آخر، ثم يعود إلى الفندق؛ فيطالع ساعة أو أكثر قبل النوم، وحدثه عن آخر كتاب ابتاعه وهو «الاشتراكية» لمكدونالد المترجم عن الإنجليزية، وكيف أن النظام الاشتراكي لا يتعارض مع الدين ولا الأسرة ولا الأخلاق، كان في وحدته وضيقه يسعد بأحلام الإصلاح، ويتخيل مجتمعا خيرا من المجتمع الذي يعيش بين أحضانه، وحالا خيرا من الحال المقدورة له، وأسعده الأمل في إمكان تحقيق خياله دون الاعتداء على العقائد التي أشرب حبها، والإيمان بها منذ طفولته.
ناپیژندل شوی مخ