أتريدون أن تعرفوا رأيي؟ إنه نفس رأيه، فاغفروا لي ما كتبته، إني متأكد أنكم ستفعلون، ولكن الكارثة الكبرى أنه هو لن يصفح أو يغفر أو ينسى، سيظل يؤرقني بتأنيبه أياما، وربما سنين، إنه لا يزال إلى الآن يؤنبني على أخطاء ارتكبتها وأنا طفل! (5) وزن الحرية
لم أكن أعرف أن للحرية وزنا، ليس وزنا معنويا، ولكنه وزن مادي ممكن قياسه وحسابه، كنت أقرأ في كتاب ضخم للعالم الروسي الشهير بافلوف، وإذا بي أجد هذه الفقرة الصغيرة البالغة الأهمية، أنقلها هنا كما قرأتها: «مرة خلال سلسلة التجارب التي كنت أقوم بها على فسيولوجية الجهاز الهضمي، حيرني سلوك الكلب الذي كنت أقوم بإجراء التجارب عليه، كنت أنا ومساعدي قد وضعناه في جهاز الإطعام، وربطنا أطرافه الأربعة بطريقة تحد من حركته فقط ولكنها لا تقيده، ولم يقاوم الكلب ونحن نربطه ولا أظهر أي علامة من علامات الضيق بالوضع، ولم نفعل شيئا آخر أكثر من تقديم وجبات الطعام له مرة كل بضع دقائق، وفي مبدأ الأمر ظل الكلب هادئا يأكل برغبة، وإفرازاته طبيعية، ولكنه بمضي الوقت بدأت سلسلة غريبة من الأعراض تظهر عليه، فبدأ ينبح وينفعل لأقل شيء، ويثور ويخربش قاعدة الحامل وبعض قوائمه، وصحب هذا المجهود العضلي المستمر ضيق في التنفس، وخفقان في القلب، وإفراز غزير من الغدد اللعابية، واستمر هذا أسابيع كثيرة حتى أصيب الكلب بالسقم، وأصبح غير صالح لإجراء تجاربنا عليه، ومع أننا كنا نعتقد أننا على معرفة وثيقة بطبائع الكلاب من كثرة ما أجرينا عليها من تجارب، إلا أن سلوك هذا الحيوان بتلك الطريقة حيرنا تماما ولم نجد له تفسيرا، فلم يكن هناك أي سبب يفسر تصرف الحيوان بتلك الطريقة الشاذة.
وأخيرا خطر لنا أن السبب قد يكون هو السبب البسيط الذي كان من الممكن ألا نفطن إليه لفرط بساطته؛ أي يكون السبب هو الأربطة التي تحد من حركة الحيوان، وبالتالي من حريته، وسمينا هذه الظاهرة انعكاس الحرية (Freedom Reflex) ، التي تدل على وجود غريزة الحرية (Freedom Instinct) . ومن الغريب أننا وجدنا كبار العلماء الذين كتبوا عن الغرائز لم يشيروا إلى غريزة الحرية هذه من قريب أو بعيد، فالعلامة «جيمس» مثلا لا يشير إليها ضمن الانعكاسات الخاصة للإنسان «أي ضمن غرائزه».
وبموالاة الدراسة في هذا الاتجاه أمكننا أن ندرس بعض آثار غريزة الحرية هذه، ونعرف أنها من الدقة بحيث إذا وضعنا أي شيء ولو كان بالغ التفاهة في طريق الحيوان - حتى ولو لم تقيد أطرافه - لانعكس هذا على حياة الحيوان نفسه، ولأثر بشكل خطير على وظائفه الحيوية وبقية غرائزه، وأعتقد أننا كلنا نعلم أن هذا الانعكاس الخاص - أو تلك الغريزة - تبلغ عند بعض الحيوانات حد أنه لو قيدت حرية الحيوان بأي طريقة فإنه يمتنع فورا عن الطعام، ولا يلبث أن يذوي ويموت.
الحرية إذن ليست مجرد شعار أو اعتقاد، إنها حقيقة علمية، غريزة مثل التزاوج والبقاء. الكائن الحي حي؛ لأنه يملك حرية حركته، وأي قيد على حريته أو حركته سوف يناضل ضده ويكافح ويضرب بالرصاص حتى يزول أو يهلك دونه، حقيقة علمية ما أجدر أن يتأملها أعداء الحرية وأعداء حركة الشعوب! وما أجدرنا أن نتأملها نحن أيضا، نحن الذين ننادي بالحرية ونؤمن بها!» (6) الحياة
أول أمس
لعلكم قرأتم خبر الحادث الذي وقع على الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية، والذي مات فيه أربعة وجرح أربعة عشر. قدر لي أن أرى الحادث رأي العين، بالصدفة كنا قادمين بالعربة على نفس الطريق، وفي منتصف المسافة بين طنطا وكفر الدوار وجدنا جمعا هائلا من الفلاحين يحيط بعربتين مدشدشتين مقلوبتين، وما كدنا نتوقف لنرى ما هنالك حتى تطوع فلاح شاب من تلقاء نفسه، وقال: أربعة ماتوا والباقيين اتعوروا.
وهبطت تدفعني الرغبة والرهبة والفاجعة وحب الاستطلاع، عربة مقلوبة مكسورة، وعربة مقلوبة مفعوصة، والزجاج مبدور يملأ الطرقات كحبات الأرز الأبيض المبعثرة، وجثث، أربع جثث مغطاة بقش الأرز يبصرك بها الناس الطيبون الواقفون مخافة أن تخطئ وتدهسها، وضابط النقطة يتم محضرا لا أدري لماذا ولا متى بدأه؟ وبرنيطة طفل صغير راقدة على التراب البعيد لا يجرؤ أحد على أخذها أو لمسها، وعربة إسعاف، وسواري، وعربات كثيرة واقفة هبط سائقوها يتأملون المشهد واجمين وكأنهم يتأملون المصير، وتحت الأرجل والعربات دم، دم كثير غزير داكن لونه يأخذ لون أسفلت الطريق، والواقفون جميعا يهمسون لبعضهم البعض، وكأن شيئا كبيرا هائلا لا يزال محلقا في الجو له مخالب وعلى استعداد للانقضاض.
قال أحد الواقفين: سائق هذه العربة مات، وسائق هذه في حالة خطرة، والجرحى نقلوا إلى المستشفى، والقتلى ستحملهم عربة الإسعاف.
جرحى وقتلى ودم وارتباطات وصدقات ومئات الأقارب والعائلات والعمات والخالات، تضيع كلها في ثانية، زمان كان الفارق بين الحياة والموت فارقا شاسعا وكبيرا: مرض مزمن يعجز الأطباء عن علاجه، نزال يستمر أياما طويلة وليالي، أما اليوم فالفارق بين أن تحيا وأن تموت بسيط جدا، مجرد سهو يحدث، طوبة في الطريق، أن يأخذ السائق باله أو لا يأخذه، أن يضغط على البنزين بخفة أو بثقل، ولست أبالغ، فالحادث الذي رأيته - بضحاياه وقتلاه وجرحاه وخسائره - سببه أن كلا السائقين لم ير أحدهما الآخر لثانية واحدة! ولو كان أحدهما قد فعل لما وقع الحادث. التفاتة، سرحة صغيرة ممكن أن تكون قد استغرقت لمحة خاطفة من الوقت، نقلت أربعة - وممكن أن تنقل أكثر - من عالم حي هم فيه أحياء لهم ما لكل الأحياء من قوة وحيوية وآمال وأولاد ومشاريع، إلى جثث تحتها التراب وفوقها قش الأرز.
ناپیژندل شوی مخ