وحين حدثت النتيجة الثانوية لذلك الهدف وأصبح هيمنجواي كاتبا شهيرا مرموقا، كانت النفس الكامنة فيه أكبر من أن تشغلها متعة الجلوس على عرش المجد والشهرة، وآثر أن يظل لدى نفسه الرجل المقتحم للحياة والمشكلة، ونبذ العرش وحمل البندقية ومضى يحارب بجانب الحق. وحين أدرك أن الحرب بجوار الحق لها نفس بشاعة الحرب بجوار الباطل، سئم حرب الرجال جميعا. وباستطاعتي أن أضيف أنه سئم أيضا عالمهم، ومضى يقتحم عوالم الكائنات الأخرى في أحراشها وحلقات مصارعتها. في أدغالها وبحورها، يؤدي دور الصائد، دور الرجل من قديم الزمان، ويؤديه بكل ما يملك من قدرة وكمال مثلما كان يكتب، فكتابته لم تكن تنبع عن نقص، كانت تصدر عن كمال، وإحساس بالكمال، إن قصصا مشهورة كثيرة لكتاب مشهورين تقرؤها فلا تجد فارقا بين أن يكون كاتبها رجلا أو سيدة أو شابا أو شيخا؛ إذ من الممكن أن يكون أحدهم أو كلهم كتابها. هيمنجواي هو الوحيد الذي تحس إذا قرأت له أنك تقرأ لرجل ناجح خبير، جملته جملة رجل، وحواره حوار رجل، وحبه حب رجال.
وأمثال هيمنجواي، ذلك النوع الذي لا يوجد فاصل بين حياته ومؤلفاته، بين أفعاله وتصرفات أبطاله، أمثال ذلك الرجل تصبح حياتهم في الحقيقة أروع وأعظم أعمالهم الفنية على وجه الإطلاق، فهم لا يحيونها كيفما اتفق، إنهم يؤلفونها قبل أي شيء. وإذا تتبعنا تاريخ حياة هيمنجواي لأدركنا على الفور أنه لم يعش الحياة كما تطفو الخشبة على سطح البحر تحركها الأمواج كيفما تريد، أبدا، لقد كان مزودا بموتور إرادي هائل استطاع به أن يشق البحر، ويخضع ما هو موجود لما يريد ويخطط لحياته وكأنه يخطط أعظم حياة لأعظم بطل. لوجدناه في كل ثانية من عمره الأول يقف، ويصر على أن يقف، لا حيث توجد مصلحته، وإنما كما يقول البطل الآخر كاسترو «حيث يوجد واجبه»، حيث القتال على أشده في إيطاليا، وحيث المعركة من أجل الحرية دائرة في إسبانيا، دائما حيث يقف الرجال.
وكل أعمال هيمنجواي لم تكن إلا المذكرات الشخصية للبطل الذي بإرادته خطط له ورسمه. وكل ما فيها من أمجاد، أمجاد خلقها هيمنجواي الرجل قبل أن يخلقها هيمنجواي الكاتب، أو على وجه أصح نقلها الكاتب عن تجربة الرجل .
أليس من المضحك بعد هذا أن نتساءل: هل انتحر هيمنجواي أم مات قضاء وقدرا؟
أرأينا في حياتنا قصة انتهت قضاء وقدرا؟
أرأينا قصة تنتهي دون أن يتولى كاتبها إنهاءها بنفسه وبإرادته، دون أن يضع لها، وبكل دقة، الخاتمة التي ترتفع بها إلى أقصى درجات الإتقان؟
وهل هناك شك؟ لقد انتحر هيمنجواي، أقصد بيده أنهى حياته، بإرادته وضع خاتمة أعظم أبطاله، نفسه! وإني لأنحني له احتراما، فما أروع الخاتمة وما أليقها بالبطل! وهل كان معقولا أن يظل رجل مثله حتى يهمد ويشيخ ويصيبه الشلل ويصبح نفاية تتولى الشيخوخة والموت وضع النهاية لها؟
هل كان معقولا أن الرجل الذي ظل حياته كلها يحارب الموت والضعف، ينتظر حتى ينهيه الضعف والموت؟ إني لأكاد أحس به في أعظم لحظات حياته. اللحظة التي وقف فيها يتأمل ما سبق من حياته وما سيجيء. اللحظة التي تأمل فيها جسدا جاوز الستين، وروحا بدأت تشيخ، وإرادة دب فيها الوهن وبدأت ترضخ للواقع والموجود، اللحظة التي تأمل فيها ما فعله فوجد أنه حارب إلى جوار الحق حتى يئس من نصرة الحق فبدأ يحيا لنفسه، وببطولة الرجل أيضا حتى أشبع نهمه إلى حياة الصائد، اللحظة التي تأمل فيها العالم من حوله وأحس بمشكلاته أكبر وأسخف وأعقد من أن تحلها جهوده وحده، أو جهود أي إنسان بمفرده، أو حتى باستطاعة أي فرد مهما عظم أن يشارك في حلها، تأمل عالما غير عالم 14و36 و39، عالما جديدا مربكا مخيفا، الرأي فيه يختبئ وراء الصاروخ، والمعارك بين دول جبارة القوة. عالم دول لا رأي فيه لأفراد حتى لو كانوا أفرادا عظاما كهيمنجواي، عالما حين خرج أخيرا للبحث عن الحق فيه تاه في البحر ووجد القارب مثقوبا واصطاد السمكة، ولكن التهمتها منه وحوش «القرش» وعاد متعبا، شيخا، ضعيفا، حزينا. إني لأكاد أحس بهيمنجواي وهو في أعظم لحظات حياته وهو يدرك وهنه الشخصي ويستبشعه ويستنكر أن يعيش مهزوما كجسد، ويدرك كنه العالم من حوله فيجد ألا بقاء فيه إلا أن يرضى من يريد البقاء بنصيب المغلوب، المغلوب على رأيه. فهل يرضى البطل بنصيب المغلوب؟ هل يقبل أن تستمر الحياة لا كانتصار للحياة وإنما كهزيمة لها وضعف؟ وهل يقبل هذا بأي ثمن، ولو كان الغلب على الأمر والرأي؟ هل يقبل الرضوخ للزمن ويقنع من الحياة الماثلة بشيخوخة هادئة، ساذجة لا تحمل الهم؟ أم ينهي القصة هنا، وبالضبط هنا؟ وحسنا وما أروع وأعظم ما فعلت يا هيمنجواي!
وا أسفي عليك أيها العالم، عالمنا، حين يصبح خير ما يفعله الرجل الفرد الواعي بك وبمشاكلك أن يفضل الموت على البقاء حيا فيك. وأسفي أعظم حين تصبح ميتته غير مستنكرة أو ممجوجة، بالعكس شريفة رائعة، ميتة أعظم بكثير من حياة الكثيرين.
إن شجاعة هيمنجواي في إنهاء حياته لا يعادلها في رأيي إلا شجاعته في مزاولتها، أجل، أخيرا، في عالم مطحون بالعدد والمكن والتوتر والحيوانية، ها هو صوت يتصاعد، من أمريكا، وينطق قائلا: أنا بشر، أنا رجل، فقد كان بوسعي أن أظل أعيش ولكني فضلت أن أموت حين رأيت أن حياتي لن تليق بي كبشر وكسيد هذا العالم، كرجل.
ناپیژندل شوی مخ