والسبب في دقة إدارة هذه المستشفيات والوحدات بسيط جدا، فاللواء عبد الفتاح فؤاد منذ عامين ضرب عرض الحائط بكل القوانين المالية السخيفة، وأعطى المستشفيات والوحدات استقلالا ماليا ذاتيا، وحين سألته عن نتيجة التجربة وعن عدد الاختلاسات أو السرقات التي حدثت بعد إطلاق الحرية في التصرف، قال لي: إنها خدعة، لقد أفقدنا الاستعمار وأفقدتنا العقليات الرجعية الثقة في أنفسنا، حتى ظننا أننا مجموعة من اللصوص، في حين أن العكس هو الصحيح تماما، فنحن مجموعة من المواطنين الشرفاء، وإنساننا لديه كل مؤهلات الثقة، ولم يحدث إطلاقا منذ أن منحت المستشفيات حرية التصرف في ميزانيتها حادثة مخلة واحدة، في حين أن النتيجة كانت أن الروح ردت إلى هذه المؤسسات، فأصبحت بدلا من الخوف تعمل، ومن التهرب من المسئولية تتحمل المسئولية، ومن الشكل المظهري تؤدي للمواطنين خدمة حقيقية، إنه عمل شجاع ذلك الذي قام به عبد الفتاح فؤاد، وهو ليس الوحيد في أكثر الأعمال الشجاعة التي وجدتها هناك، وآخرها ذلك الذي قام به المحافظ لمقاومة البلهارسيا.
حقائق رهيبة
والمواطنون لديهم حساسية من ذكر الأمراض، وخاصة ذلك المرض اللعين البلهارسيا. إن القراء في المدن لا يهمهم ذلك المرض كثيرا؛ إذ ما دام الواحد منهم يعتقد أنه سليم فما معنى أن يقرأ عن مرض لا يهمه أمره؟ ولكن الحقيقة عكس هذا، فالبلهارسيا تهمنا جميعا كمصريين، ويكفي أن نذكر حقيقة بسيطة عنها لكي ندرك أهميتها، فالبلهارسيا مثلا تجعلنا نخسر كل عام ما قيمته ثمانون مليونا من الجنيهات، والمواطنون المصابون بها في ريفنا ينزفون كل عام ما مقداره حوالي اثنين وعشرين مليون لتر من الدم كل عام، وكأنها دماء أربعة ملايين مواطن نفقدهم كل عام، بمعنى آخر، نحن لا يمكن مهما صنعنا وأممنا أن نبني الاشتراكية وأن نضاعف الدخل القومي، ونحن نخسر سنويا 80 مليون جنيه، وشعبنا ينزف اثنين وعشرين مليون لتر من دمائه كل عام. والمشكلة الأكبر أننا بعد تحويل ري الحياض إلى الري الدائم - ذلك الذي سيبدأ منذ هذا العام - ستدخل ديدان البلهارسيا إلى الصعيد الجواني، وسيصاب نتيجة لهذا أقوى عمال لدينا، أولئك الذين بنوا عماراتنا ومدننا، وأولئك الذين يبنون سدنا العالي، ولقد ذكر لي صديق أن السد العالي لو كان يبنى في وجه بحري بعمال من بحري مصابين بالبلهارسيا حتما، لما أمكن بناؤه؛ فالبلهارسيا تفقد الإنسان نصف طاقته وقدرته على الإنتاج، بحيث لا يمكن لعامل حتى لو كان صعيديا من سوهاج أن يحمل نفس القدر من المونة الذي يحمله كل يوم، وأن يصعد به كل تلك السقالات والسلالم.
لهذا فالبلهارسيا ليست مشكلة طبية وليست مشكلة اجتماعية أو إنسانية فقط، ولكنها أساسا مشكلة سياسية اقتصادية من الدرجة الأولى، أهم بكثير في رأيي من المعادلة الصعبة، وأهم من الحديث عن الإسراف، مشكلة وطنية قومية لا بد لها من حل حاسم وجاد وسريع.
ولست أعرف ما السبب، ولكننا تعودنا أن نظل نترك المشاكل تعالج نفسها، لا نحاول أن نبذل لها من تلقاء أنفسنا حلا حتى تلتفت إليها الدولة بكل ثقلها، وصحيح أن الحل النهائي لمشكلة البلهارسيا والأمراض المتوطنة بشكل عام مسألة تحد حضاري وانتقال المجتمع من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى، ولكن هذا الانتقال نفسه لن يتم إلا بالقضاء الجزئي على عدونا، المرض الأول، البلهارسيا. ولهذا فمن واجبنا كدولة وشعب - وأساسا كما قال مرة الرئيس جمال عبد الناصر كاتحاد اشتراكي - أن نعلن الحرب على البلهارسيا. إن الصين استطاعت بواسطة حزبها أن تقضي ليس على البلهارسيا، وإنما على الذباب تماما، وفي أكبر دولة في آسيا، فمسألة القضاء على الذباب أو محو الأمية ليست عملا إصلاحيا أو اجتماعيا، إنه عمل سياسي وحضاري من الدرجة الأولى، ولهذا فلو حشد الاتحاد الاشتراكي قوى لجانه حول مشكلة متبلورة - كمشكلة البلهارسيا - لأمكن حتى للوحدة «العقائدية» أن تتم، ربما من خلال مزاولة تجربة حشد المواطنين وتوعيتهم لمنعهم من تلويث الترع والمجاري المائية، فالإنسان كما يقول الدكتور أحمد الجارم، سكرتير جمعية مقاومة البلهارسيا، هو الذي يعدي القواقع؛ أي هو الذي يتولى بنفسه عدوى نفسه وإصابتها، والقضاء على البلهارسيا معناه ببساطة أن نمنع إنساننا من القضاء على نفسه وعلى غيره من المواطنين.
أغرب مؤتمر
في الساعة السابعة مساء والجحيم المضيء بالنهار قد تحول إلى جحيم مظلم، أو بسبيله إلى الإظلام، انعقد في قرية بني عبيد - إحدى قرى محافظة المنيا - مؤتمر شعبي بحضور وزير الصحة ومحافظ المنيا ونقيب الأطباء والدكتور أحمد حافظ موسى أستاذ طب الأمراض المتوطنة ووكيل جمعية مكافحة البلهارسيا، لمناقشة أخطر مشروع تبنته المحافظة والمنطقة الطبية لتطبيقه في خمس قرى لاستئصال البلهارسيا منه، صحيح كانت هناك الهتافات التقليدية مثل أي مؤتمر سياسي، ولكني فرحت أن يحتشد لمناقشة البلهارسيا كل هذا العدد من المواطنين الفلاحين أبناء القرية والقرى المجاورة، وليس هذا غريبا، فقد ذكر لي الدكتور إبراهيم يس عوض أن عدد المترددين على وحدات البلاد بلغ 90 في المائة من المواطنين، وهي نسبة عالية جدا لا يمكن أن تخطر على البال، فالتردد على الوحدات أو المستشفيات من تلقاء النفس ودون قسر أو إرغام مسألة ليست سهلة في ريفنا، ولكن الفلاح يدرك بغريزته أن الدم الذي ينزفه كل يوم مسألة خطيرة لا بد من إيقافها، وهو يرحب بكل جهد يبذل في سبيل علاجه والمحافظة على صحته. إن المشروع يتلخص في علاج المرضى ومنع العدوى، وصحيح أن أحد تلك الإجراءات هو إقامة حمامات سباحة ليعوم فيها أطفال القرية، ولكني أرى أن هذا الإجراء مضحك إلى حد ما؛ إذ لم أستطع أن أمنع نفسي من الابتسام وأنا أرى حماما تكلف ألفين من الجنيهات في قرية، ولكنها كما ذكر لي الدكتور أحمد حافظ موسى مجرد تجربة، أعتقد شخصيا أنها لن تنجح؛ فالحمام صغير «10 × 4 أمتار»، والأولاد يفضلون الترعة حيث يمكنهم السباحة دون عائق، ثم إننا لن نستطيع خلال العشر أو العشرين سنة القادمة أن نوفر ألفين من الجنيهات لكل قرية لنقيم فيها حماما للسباحة، وأولى بنا أن ننفق نصف هذا المبلغ أو ربعه على عملية توعية المواطنين أنفسهم وجعلهم يتولون بالوعي حراسة مائهم أن يلوثه طفل أو مريض، ولكنها تجربة أعتقد أنه أولى ألا ننتظر نتائجها، وقد آن الأوان لنلتفت بكليتنا إلى دمائنا التي تنزف، وأكبادنا التي تتلف، وبطون مواطنينا التي تنتفخ وأورام السرطان التي تصيبهم. إنني أضع أمامنا كشعب وكاتحاد اشتراكي هدفا محددا وسريعا، أن نقوم بحملة واسعة النطاق ضد البلهارسيا، وأن نتولى القضاء عليها في عام أو عامين، وقد يبدو هذا إسرافا في الخيال، ولكن الحقيقة المذهلة أن البلهارسيا وغيرها من الأمراض الطفيلية هي الأمراض الوحيدة التي يمكننا القضاء عليها تماما بإرادتنا. فقط بمجرد إرادتنا أن نقضي عليها، فكيف نتردد في هذا؟ كيف تعتبر كارثة القطن التي خسرنا فيه 70 مليونا من الجنيهات كارثة ما زلنا نندبها، في حين أننا نخسر كل عام وبتهاوننا أكثر من ثمانين مليون جنيه؟ كل الفرق أننا لا نشعر بها ولا نحزن من أجلها. (17) تعلموا كيف تصبحون عربا
سمعت وقرأت أن كبار مطربينا وملحنينا بدءوا يفكرون في الخروج من النطاق المحلي الضيق - أي النطاق العربي - إلى النطاق العالمي الواسع، وذلك بترجمة أغانيهم العربية وأدائها بلغات أوروبية.
والغريب أن تصدر فكرة كهذه عن أناس مفروض أنهم أكثرنا معرفة بالغناء والموسيقى؛ إذ فاتهم أن الغناء ليس كالأدب أو الأبحاث العلمية أو الحديث اليومي، معان ممكن ترجمتها إلى لغة أخرى. الغناء لغة في حد ذاته، لغة مثلها مثل اللغة المكتوبة مستمدة من تاريخ كل شعب وملايين العوامل التي أثرت في تكوينه، كل الفرق أن اللغة المكتوبة ترسم على الورق، واللغة المغناة تؤدي بالآلات والحناجر، وكما أن من المستحيل ترجمة حرف الضاد إلى لغة أخرى، فكذلك من المستحيل أن نترجم أي حرف من حروفنا الصوتية إلى أي لغة أخرى، مستحيل كاستحالة ترجمة الجبة والقفطان مثلا إلى ملابس أوروبية، واستحالة أن نترجم اسما ك «بهية» إلى الفرنسية. إذ حتى لو فرضنا جدلا أننا وجدنا الكلمات التي نترجمه بها، فهل الأثر الذي يحدث للفرنسيين لدى سماعه ممكن أن يشبه من قريب أو بعيد الأثر الذي يحدث فينا لدى سماعنا «يا بهية وخبريني ع اللي قتل يس»؟ •••
نحن عرب، والإنجليز إنجليز؛ لأن لنا خصائصنا ولهم خصائصهم، وغناؤنا أحد خصائصنا، ولا يمكن أن نصبح عالميين بترجمة خصائصنا العربية إلى خصائص إنجليزية؛ لأننا بهذه الترجمة نلغي خصائصنا، نلغي كياننا. ولا يمكن أن نصبح عالميين ونحن بلا كيان، تماما كالزنجي الذي يسلخ جلده ويركب لنفسه جلدا أبيض ليصبح عالميا فتكون النتيجة أن يصبح مسلوخا مشوها. الأغنية الهندية لم تصبح عالمية لأنها ترجمت؛ ولكن لأنها ظلت عريقة في هنديتها، والعالم كله يحبها لأنها هندية، ولأنها مؤداة باللغة الأردية، بل الإعجاب يبلغ بها أحيانا حد أن يحفظ الناس كلماتها ويرددوها وهم لا يفهمون معناها.
ناپیژندل شوی مخ