فلعلي قد أصبت شيئا من التوفيق في تقديم هذا الفيلسوف المعاصر إلى القارئ العربي، تقديما يحصر إنتاجه الضخم في هذه الصفحات القلائل.
زكي نجيب محمود
حياته
الفيلسوف يروي عن نفسه
1
ماتت أمي وأنا في الثانية من عمري، وكنت في الثالثة حين مات أبي، فنشأت في دار جدي، لورد جون رسل، الذي أصبح فيما بعد «إيرل رسل»، ولم يكد يجيئني أحد بنبأ عن والدي، وهما لورد وليدي أمبرلي، حتى لقد شاع في نفسي إحساس بأن يكون في الأمر لغز غامض لقلة ما عرفته عنهما، فلما بلغت الحادية بعد العشرين أخذت في العلم بشيء من الخطوط الرئيسية في حياة أبي وأمي، وما كان لهما من رأي، فكم دهشت حين رأيتني قد اجتزت المراحل بعينها تقريبا، التي اجتازها أبي في تطور عقله وشعوره.
كان المنتظر لأبي أن يخوض الحياة السياسية جريا على تقليد في عائلة «رسل»، وكانت له في ذلك رغبة، فدخل البرلمان لفترة قصيرة (1867-1868م)، لكنه لم يكن له من المزاج، ولا من الرأي ما قد كان لا بد له منهما إذا أراد لنفسه في السياسة نجاحا، فما إن بلغ من عمره الحادية بعد العشرين، حتى أحس في نفسه كفرا بالمسيحية، وأبى أن يذهب إلى الكنيسة يوم عيد الميلاد، وقد جعل من نفسه تلميذا فصديقا ل «جون ستيوارت مل» الذي علمت منذ أعوام قليلة أنه كان لي أبا في العماد، وكان أبي وأمي قد تبعا «مل» في آرائه، ولم يقتصرا في ذلك على الآراء التي صادفت عند الناس قبولا نسبيا، بل جاوزاها إلى الآراء التي كانت عندئذ تصدم الناس في شعورهم؛ كحق المرأة في الانتخاب، وضبط النسل ، وما إلى ذلك.
أراد لي أبي أن أنشأ في الفكر حرا من القيود، وكذلك أراد لأخي، فأقام علينا وصيين عرفا بحرية التفكير، لكن جدي وجدتي معا سعيا لدى المحكمة المختصة أن تغض نظرها عن وصية أبي، فكان نصيبي أن أنشأ على العقيدة المسيحية؛ ذلك أني انتقلت بعد موت أبي إلى منزل جدي، وكان ذلك عام 1876م، وكان الجد عندئذ في الثالثة بعد الثمانين من عمره، وقد نال منه الضعف الشديد، فشملني بعطف متصل، ولم تبد منه علامة واحدة تدل على ضيقه بزياط الأطفال، لكنه كان أشد ضعفا من أن يكون له في تكويني أثر مباشر، ثم مات جدي عام 1878م، فتولتني بالتعليم جدتي التي ما فتئت تقدس ذكرى زوجها، فكانت أقوى أثرا في توجيهي من أي شخص آخر، غير أني منذ بلغت رشدي جعلت أختلف معها في كثير من آرائها.
كانت جدتي متزمتة العقيدة، صارمة الأخلاق، تزدري الترف ولا تأبه لطعام، تمقت الخمر، وتعد التدخين خطيئة، وعلى الرغم من أنها قد عاشت حياتها ضاربة في مناكب الأرض، حتى استكن جدي في مأواه، إلا أنها لم تكن بطبعها مقبلة على الدنيا، فكانت تقف من المال موقف من لا يكترث به، وهو موقف لا يستطيعه إلا الذين رزقوا منه ما يكفيهم.
أرادت جدتي هذه لأولادها ولأحفادها أن يحيوا حياة نافعة فاضلة، ولم يكن بها ميل أن ينصرف أولئك الأولاد والأحفاد في حياتهم إلى ما تواضع سائر الناس على تسميته بالنجاح، كلا، ولم ترد لهم أن يتزوجوا على أساس الكسب من زواجهم، وكانت بحكم عقيدتها البروتستانتية تؤمن بضرورة أن يكون للأفراد أنفسهم حق الحكم على الأشياء، بحيث يكون لضمير الفرد سلطة عليا، ولما بلغت الثانية عشرة من عمري، أهدت إلي جدتي إنجيلا (وما زلت محتفظا به إلى اليوم)، وكتبت على الورقة التالية لغلافه بعض ما أحبت من آياته، فمنها هذه الآية: «لا يجوز لك أن تتبع كثرة الناس في فعل الشر.» وهذه الآية: «كن قويا شجاعا فاضلا، لا تخف ولا يأخذنك اليأس؛ فربك المولى في رعايتك أينما ذهبت.» فكان لهاتين الآيتين أثر عميق في حياتي، ولا أحسب ذلك الأثر قد أصابه الوهن، حتى بعد أن أمسكت عن الاعتقاد في الله.
ناپیژندل شوی مخ