برتراند راسل: مقدمه کوتاه
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
ژانرونه
في محاولة لإبعاده عن أليس، اتخذت عائلة راسل ترتيبات لتعيينه ملحقا شرفيا في السفارة البريطانية في باريس. ومما لا شك فيه أنهم كانوا يأملون أن تلبي المغريات التي كانت تعج بها باريس في تسعينيات ذلك القرن الدوافع التي كانت تدفعه نحو الزواج. ولكن التربية البيوريتانية المتزمتة التي فرضتها عليه جدته كانت مؤثرة فيه إلى أقصى حد؛ وأحبطت تلك التربية الخطة، وذلك كما يتضح من الرسائل - وهي نماذج للتزمت - التي كان راسل يرسلها إلى عائلته ويشكو فيها من الحياة الباريسية؛ فجاء في رسالة كتبها: «في باريس وجدت الجميع يسلكون مسلكا بذيئا، وكلما تلفت المرء حوله يرى نماذج لتدنيس الحب، إنهم يجعلونني أرتجف اشمئزازا.» وما إن أصبح راسل يتحكم في أحواله المالية (كان يتلقى ميراثا طيبا قدره 600 جنيه إسترليني سنويا، وكانت عروسه ميسورة الحال أيضا) حتى تزوج من أليس، وفي البداية كانا سعيدين.
نال راسل بفضل أطروحته زمالة بحثية بمدة ثابتة في كلية ترينيتي دون أي واجبات مفروضة عليه؛ مما ترتب عليه أنه لم يكن مضطرا للتدريس في جامعة كامبريدج أو الإقامة فيها؛ ومن ثم سافر راسل مع أليس إلى برلين حيث درس الديمقراطية الاجتماعية الألمانية وألف كتابا عنها. كان هذا أول كتاب يؤلفه، وهو الأول بين كتبه وكتيباته الكثيرة إلى حد استثنائي؛ إذ بلغ عددها 71 كتابا وكتيبا (دون احتساب المقالات التي لا تحصى) نشرت إبان حياته. وأثناء وجوده في برلين، خطرت له فكرة إنشاء مشروع بحثي كبير، يضم خطين للبحث - أحدهما يتناول العلوم الطبيعية، والآخر يتناول المسائل الاجتماعية والسياسية - كان من المزمع أن يتضافرا في نهاية المطاف ليكونا «عملا موسوعيا هائلا». كان راسل لا يزال متأثرا آنذاك بالفلسفة الهيجلية، والتي كان مشروع كهذا يتوافق معها؛ ولكن الخطة صمدت أمام التغير الجذري الذي اعترى رأي راسل الفلسفي - وإن لم تتخذ شكلا منهجيا - إذ كتب راسل الكثير فعلا عن المسائل النظرية والتطبيقية من بين أعماله الكثيرة.
وبعد نشر كتاب «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» بعام، ظهرت النسخة المنشورة من أطروحة الزمالة التي أعدها، وعنوانها «مقال عن أسس الهندسة». ثم نشر راسل في عام 1900 كتاب «عرض نقدي لفلسفة لايبنتس». جاء تأليفه لهذا الكتاب بدافع صدفة، ولكنها كانت صدفة مهمة له؛ إذ كان لراسل زميل من كامبريدج ألقى عدة محاضرات عن لايبنتس، وطلب منه ذلك الزميل أن يحل محله لمدة عام واحد، فرحب راسل بالفكرة، مع أنه لم يحظ بفرصة لدراسة أعمال لايبنتس بالتفصيل. ونشأ الكتاب من المحاضرات التي كان يلقيها. كان راسل يختلف مع العقائد الأساسية لفلسفة لايبنتس، ومع ذلك ظلت جوانب منها مؤثرة في فكره.
إبان الفترة التي كان راسل يلقي خلالها محاضرات عن لايبنتس، أقنعه مور بالتخلي عن مذهب المثالية. وبعدئذ بمدة وجيزة اكتسب اهتمامه بفلسفة الرياضيات - وخصوصا بمسألة ما إذا كان من الممكن إضافة أسس منطقية للرياضيات - قوة دفع كبيرة بفضل لقائه مع عالم المنطق الإيطالي جيوسيبي بيانو في المؤتمر العالمي للفلسفة في باريس في يوليو عام 1900. كان بيانو قد أنجز تطورات فنية معينة في المنطق، وهو ما أوحى لراسل بطرق لتنفيذ الخطوة المرجوة، وهي إخضاع الرياضيات للمنطق. وأخذ يقرأ أعمال بيانو بنهم، ثم بدأ يحسن المناهج الواردة فيها ويوسعها ويطبقها. وفي فورة اهتمامه، وفي غضون بضعة أشهر فحسب، كتب مسودة كاملة للنقاط التي من المقرر أن تبرهن على أولى أطروحاته الكبرى؛ كتاب «مبادئ الرياضيات». وانشغل بالمراجعات والتحسينات لمدة عام آخر، ثم نشر الكتاب في عام 1903. وحين كتب راسل تمهيدا لطبعة جديدة في عام 1937، ذكر أنه ظل مقتنعا بصحة الفرضية الأساسية للكتاب؛ وهي «أن الرياضيات والمنطق متطابقان».
إن النشوة الفكرية التي شعر بها راسل في عام 1900 لم تعاوده بعدها قط؛ وذلك لأن الأحداث التي وقعت في حياته الشخصية أثناء السنوات اللاحقة ألقت بسحب سوداء على عمله؛ إذ اكتشف أنه فقد حبه لزوجته، وأخبرها بذلك. كتب فيما بعد: «كنت أرى في تلك الفترة (لست واثقا من ماهية التجربة التي علمتني أن أفكر بهذه الطريقة) أن المرء يجب أن يصرح بالحقيقة في العلاقات العاطفية.» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص151). وتسبب ذلك في بؤس جارف لكل منهما في غضون السنوات التسع اللاحقة التي عاشا فيها تحت سقف واحد. وفي الوقت نفسه تقريبا كانت تعتمل ثورة في حياته العاطفية حين شهد معاناة المرض التي تعرضت لها إيفيلين وايتهيد زوجة معلمه السابق ألفريد نورث وايتهيد؛ فحين رآها في العزلة الشديدة التي يكابدها من يعاني الجزع، تغيرت نظرته للعالم فجأة؛ وكانت تلك هي اللحظة التي أخذ يؤرخ منها لاحقا بدء مناهضته للحروب وتوقه للأطفال، وبدايات ارتفاع إحساس مرهف من حيث تذوق الجمال، وظهور إحساس عميق بأن كلا منا قدره أن يكون وحيدا في نهاية المطاف . وقد أورد في سيرته الذاتية وصفا مؤثرا لتلك التجربة.
وعلى صعيد عمله في مجال الرياضيات - الذي كان من الممكن أن يمنحه السلوى - حدث تغير جذري خطير مشابه، وهو أن راسل اكتشف تناقضا في صلب المشروع الذي كان يحاول تنفيذه. يأتي وصف للتناقض وأهميته في المكان المناسب في الفصل
الثاني
أدناه. وبسبب تأثير ذلك التغير توقف عمل راسل لمدة تزيد على عامين، كان يحدق خلالها في صفحة بيضاء وهو لا يدري كيف يبدأ. وفي هذه الفترة كان منشغلا بكتاب «أصول الرياضيات»، وهو كتاب ألفه بقصد أن يكون جزءا ثانيا لكتاب «مبادئ الرياضيات». وكان من المقرر أن يحتوي هذا الجزء الثاني المفترض على التفاصيل الفنية للأفكار الواردة باختصار في كتاب «مبادئ الرياضيات»، إضافة إلى معالجة أشمل لعدد من الصعوبات التي لم يتناولها الكتاب الأول؛ ولكن سرعان ما اتضح أن راسل يحتاج لما هو أكثر من ذلك لإنجاز هدف المشروع، وهو «إثبات أن كل الرياضيات البحتة تنبع من مقدمات منطقية بحتة ولا تستخدم إلا المفاهيم القابلة للشرح بالحدود المنطقية» (تطوري الفلسفي، ص57). ولذلك طلب راسل تعاون وايتهيد معه في الكتاب، ومنذ ذلك الحين وحتى عام 1910 كرس راسل جل طاقاته الذهنية لإنتاج هذا العمل البارز. كان راسل مسئولا عن الجوانب الفلسفية للكتاب وصياغته الفعلية انطلاقا من المادة الفنية؛ وقدم وايتهيد إسهامات مهمة من حيث استخدام مجموعات الرموز، وأسهم بقدر كبير في استنباط البراهين، وذلك من بين نواح أخرى.
يروي راسل أنه كان يعمل في كتاب «أصول الرياضيات» لمدة ثمانية أشهر كل عام، بمعدل يتراوح بين عشر ساعات واثنتي عشرة ساعة يوميا. وعند تسليم المخطوطة أخيرا لمطبعة جامعة كامبريدج كانت هائلة الحجم، حتى إنه كان لا بد من نقلها إلى هناك على عربة حصان بأربع عجلات. واحتسب موظفو المطبعة أن الكتاب سينزل بهم خسارة قدرها 600 جنيه إسترليني، وقالوا إنهم مستعدون لتحمل نصف ذلك المبلغ فقط. فأقنع راسل ووايتهيد الجمعية الملكية بمساعدتهما بالتصويت لصالح منحة مقدارها 200 جنيه إسترليني، ولكن كان لا بد من دفع المبلغ المتبقي من جيبيهما. وهكذا، كانت المكافأة المالية التي عادت عليهما بعد سنوات من العمل في هذا المشروع الهائل هي تكبد خسارة قدرها 50 جنيها إسترلينيا لكل منهما.
ولكن المكافآت الحقيقية كانت عظيمة؛ ففي أثناء إنجاز هذا الكتاب، وانطلاقا منه، نشر راسل بعض الأبحاث الفلسفية المهمة للغاية. وانتخب زميلا للجمعية الملكية وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، وكان ذلك أمرا استثنائيا. ورسخ مكانته في تاريخ المنطق والفلسفة. وتحقق الكثير مما باشره وأنجزه راسل فيما بعد في مجالات أنشطته الكثيرة بفضل نيله للمنزلة الرفيعة التي منحه إياها تأليفه لكتاب «أصول الرياضيات».
ناپیژندل شوی مخ