وخرقت أذنه الكلمة غير المنطوقة. وشعر بيأس كالموت. أما الآخر فقال: رأيت أن أرجع إلى سيادتك قبل أن أكتب مذكرة عن الموضوع لمدير المستخدمين.
على أي حال يجب ألا ينهار أمام خصمه. لقد قضى عليه ولكنه يجب أن يتماسك وأن يتجلد فمن يدري؟ واكتظ قلبه بالكراهية، ولكن ما الحيلة؟ واليوم موعد اجتماع لجنة الميزانية، ويجب أن يبدو كل شيء طبيعيا. وسأله: هل دققت النظر؟ - نعم، كان يمكن أن أكتفي بمراجعة صحيفة الأحوال، ولكني إخلاصا مني لعملي أراجع الوثائق الأصلية، ولا أدري كيف وقع بصري على ...
آه، إنه لا يدري كيف! وفاض قلبه باليأس والكراهية، لولا الترقية المنتظرة لرقدت الشهادة في أمان حتى نهاية الرحلة الوشيكة، على أي حال لا يجوز أن ينهار أمام عيني خصمه.
وسأله: وبعد؟ - قلت أرجع أولا إلى سيادة المراقب العام. - إني أشكر لك تصرفك، ولو أن ...
ودق جرس التليفون فإذا بوكيل الوزارة يطلبه؛ فنهض منزعجا خشية أن يخونه صفاء الذهن الضروري للمقابلة. وقال من خلال عالم مقوض الأركان: اسمع يا بني، أنا الآن مشغول جدا فلنؤجل الحديث. وعندي لجنة ميزانية بعد الظهر فموعدنا الغد، إن أقوالك غريبة وغير مفهومة لي ألبتة فلنؤجل مناقشتها إلى غد.
وفي الطريق إلى مكتب الوكيل غاب تماما عما حوله. وتطلع إلى الأمام بنظرة ذاهلة منقبا عن القوة المدمرة الساخرة. متى يغمض له جفن؟ وتمنى أن يتغيب عن لجنة الميزانية ليصفي حسابه مع معذبه، ولكنه جفل من مجرد التفكير في ذلك. إنه اعتراف خطير سيعجل بالقضاء عليه. ولكن هل انتهى حقا؟
وغادر الوزارة عقب مقابلة الوكيل. استقل سيارته الأوبل التي يسوقها بنفسه، وعند خروجه من باب الوزارة لمح عبد الفتاح حمام واقفا أمام محل صغير لبيع الفول يتناول سندويتش. التقت عيناهما لحظة ريثما انعطف إلى الطريق، وقد خفق قلبه في رعب حقيقي، ثم اشتعل بالكراهية، لعله ينتظره! لعله مجرم محترف! لقد انتهى حقا.
وفي البيت كان حديث الأفراح يتردد في أكثر الأوقات. عن العريس والحفل يتكلمون، عن الحلي والملابس والجهاز لا ينقطع الحديث. ومنى سعيدة جدا ومثلها أمها ، وسرعان ما ينخرط في همومهم الممتعة ويدلي برأيه في كل شيء. ولكنه حصن نفسه هذه المرة بقوله: الظاهر أني متوعك اليوم، أعفوني من الكلام ومن الطعام.
بذلك حصن نفسه ضد الأعين المتفحصة، وشرب كوبا من البرتقال ثم آوى إلى فراشه. وسعادة منى المتجلية لم تبرح مخيلته فعذبته عذابا أليما. وقال لنفسه بأنه لن يسمح لقوة بالغدر بهذه السعادة. واستعرض في لحظات حياة طويلة، طابعها الجد والأمانة والاستقامة.
علام يسري مثال طيب حقا في وسط ملعون. وذلك الخطأ الذي ارتكبه منذ خمسة وثلاثين عاما ينفجر على غير انتظار كلغم منسي. وقد ارتكبه ليقبل في المعهد، وحتى لا تضيع آماله هباء. لم يكن مغامرا ولا مستهترا بالمبادئ، ولكن اغتاله الضعف والأمل. كان موقفا رهيبا عندما قدم أوراقه. فنظرة مدققة من عين المسجل كانت كفيلة بنبذه من المجتمع. وآمن بأن جريمته قد دفنت في الملف إلى الأبد، ولكنه لم ينس أنه سيغتال الحكومة في عامين من مدة خدمته. ولم يرحه ما قدم من عمل مجد واستقامة، فعزم على طلب الإحالة على المعاش عندما يحل موعده الحقيقي الذي لا يعلم به أحد سواه. أجل طالما ذكر نفسه بذلك، ولعل مرض القلب الذي انتابه منذ أعوام كان نتيجة لحدة شعوره بالشوكة الخفية المنغرزة في ضميره، وقد تسلل عبد الفتاح حمام إلى حجرته ليقوض بنيانه بلطمة واحدة، وجعل يتطلع إلى فراغ الغرفة منقبا في ذهول عن القوة المدمرة الساخرة!
ناپیژندل شوی مخ