القهوة الخالية
قال محمد الرشيدي بنبرة أرعشها الحزن والانفعال: إلى رحمة الله الرحيم، إلى جوار ربك الكريم يا زاهية يا رفيقة عمري، إلى رحمة الله.
وانتحب باكيا، وهو ينحني فوق الجثة المسجاة على الفراش، معتمدا بيمناه على الوسادة من شدة الإعياء، حتى رحمته الخادم العجوز، فربتت على يده برقة، ثم أخذته منها إلى حجرة الجلوس، فأسلم نفسه إلى مقعد كبير وهو يتنهد بصوت مسموع. ومد ساقيه وهو يتأوه ثم غمغم: أنا الآن وحدي، بلا رفيق، لم تركتني يا زاهية؟ وبعد عشرة أربعين عاما! لم سبقتني يا زاهية؟
وعزته الخادم بعبارات محفوظة غير أن منظر شيخ في التسعين، وهو يبكي منظر محزن حقا، وقد التمعت أخاديد خديه وحفر أنفه بالدموع، فغادرت الخادم الحجرة وهي تجهش في البكاء. وأغمض عينيه اللتين لم يبق في أشفارهما إلا آحاد من الرموش، وراح يقول: منذ أربعين عاما تزوجتك وأنت في العشرين، ربيتك على يدي، وكنا سعداء جدا برغم فارق العمر، وكنت خير رفيق، يا طيبة، يا إنسانة، فإلى رحمة الله.
وكان ذا صحة جيدة إذا قيس بعمره، طويلا نحيلا، واختفى أديم وجهه تماما تحت التجاعيد والأخاديد، وبرزت عظامه وتحددت كأنها جمجمة، وفي عينيه غارت نظرة تحت غشاوة باهتة لا تنعكس عليها مرئيات هذا العالم. وأم الجنازة خلق كثيرون لم يكن فيهم واحد من أصحابه أو معارفه. جاءوا يعزون ابنه أو إكراما لزوج ابنته الموظف بإحدى السفارات في الخارج. أما هو فلم يبق من أصحابه على قيد الحياة أحد. وجعل يستقبل الوجوه التي لا يعرفها، ويتساءل أين رعيل المربين الأول، أين الساسة الحقيقيون على عهد مصطفى وفريد؟
وعندما انفض المأتم حوالي منتصف الليل، سأله ابنه صابر: ماذا نويت أن تفعل يا أبي؟
وقالت له زوجة ابنه: ولا يجوز أن تبقى هنا وحدك.
أدرك الشيخ ما يقصدان فتشكى قائلا: كانت زاهية كل شيء لي، كانت عقلي ويدي.
فقال صابر: بيتي هو بيتك، وستحل بحلولك بنا البركة. وستجيء خادمتك مباركة لخدمتك.
أجل لا يمكن أن يقيم في هذا المسكن وحده. ورغم ما يبدي ابنه وزوجته من شعور طيب، فهو يؤمن بأنه - بانتقاله - سيفقد الكثير من حريته وسيادته، ولكن ما الحيلة؟ وكان في شبابه ورجولته وكهولته شخصا صلبا، وما زال يحتفظ بوقاره ومهابته، وكم خرج من أجيال من المربين والشخصيات الفذة، ولكن ما الحيلة؟ وبطرف واجم شهد الرجل تصفية مسكنه. رأى أركانه وهي تتقوض كما رأى احتضار زوجته من قبل فلم يبقوا إلا على ملابسه وفراشه وصوان كتبه التي لم يعد يمد لها يدا، وبعض التحف، وصور لأعضاء الأسرة، ولبعض الرجال كمصطفى كامل، ومحمد فريد، والمويلحي، وحافظ إبراهيم، وعبد الحي حلمي. وغادر بيته إلى مصر الجديدة في سيارة ابنه، وهنالك أعدت حجرة لنومه وتأهبت مباركة العجوز لخدمته. وقال له ابنه: نحن جميعا رهن إشارتك.
ناپیژندل شوی مخ