الجزء الأول
كلمة لا بد منها
كتاب من السيد بوجولا إلى السيد هنري غيز قنصل فرنسا في حلب
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
ملحق
الجزء الثاني
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
ملحق
الجزء الأول
كلمة لا بد منها
كتاب من السيد بوجولا إلى السيد هنري غيز قنصل فرنسا في حلب
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
ملحق
الجزء الثاني
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
ملحق
بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن
بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن
تأليف
هنري غيز
ترجمة
مارون عبود
الجزء الأول
كلمة لا بد منها
هذا كتاب ضخم، يصور لنا بيروت ولبنان يوم كان مؤلفه قنصلا فرنسيا في الربوع اللبنانية؛ فالمسيو هنري غيز قنصل ابن قنصل، ولد في ديارنا، ونشأ على هذا الساحل اللازوردي، وتعلم الفرنسية كما نتعلمها نحن؛ لأنه ربيب أسرة عتيقة المقام بهذه الأرض.
في كتاب هذا القنصل آراء، منها المختمر ومنها الفطير، وفيه أوهام وحقائق، وفيه جد وثرثرة. ترجمته ترجمة لا تخرج عن الأصل، ولم أسقط منه إلا ما لا يحتمل ذكره ولا يطاق، وهذا قليل. لم أرد على المؤلف عند كل رأي لا نقره نحن؛ لئلا يضيع القارئ في أودية الحواشي. فمن يقرأه يعلم ما أعرف ويرى ما أرى؛ فأنا لم أعربه ليقرأه الأجانب.
كلنا نعلم أن السائحين - كالشعراء - في كل واد يهيمون، فكيف بهم وقد جاءوا لبنان الذي هامت فيه وبه أمم المسكونة؟! فكلهم امتدحوا وذموا، وهذا شأن كتاب الرحلات، وأكثرهم يعمل من الحبة قبة.
أما نحن - الشرقيين - فقد كفانا كاتبنا العظيم - شيخنا أحمد فارس الشدياق - شر هؤلاء جميعا، كما استقل بأعباء عرفان الفضل في كتابه «كشف المخبا عن فنون أوروبا»، فأعطى الحق صاحبه.
واحدة بواحدة، والبادئ أظلم.
وبعد، فأشهد الله وملائكته أنني ذقت الأمرين قبل أن جعلت بعض كلام المؤلف آخذا برقاب بعض؛ فصاحبنا يقطع من كل واد عصا، ويفر من موضوع إلى موضوع فرا عجيبا غريبا؛ فهنري غيز هو مكر مفر، لا جواد امرئ القيس السعيد الذكر ...
أجاد المسيو بوجولا في المقدمة - وهي أول ما تقرأ - حين عرض لإنشاء المسيو غيز وأسلوبه، فقال: «سوف لا نفتش في كتابكم عن أناقة الإنشاء، وفخامة الوصف، فمن يكونون في بيروت وحلب لا يهتمون بجمال الأسلوب؛ لأنهم بعيدون جدا عن شئون المجمع العلمي وشجونه ...»
ففي سبيلك وذمتك - أيها القارئ الكريم - ما قاسيت، وحسبي رضاك، وأنت نعم الوكيل لمن يعيش بين الحبر والورق والأقلام.
مارون عبود
عين كفاع (لبنان)، صيف 1949
كتاب من السيد بوجولا إلى السيد هنري غيز قنصل فرنسا في حلب
قرأت - يا سيدي - مخطوطة «مشاهداتكم» التي شئتم أن تطلعوني عليها طالبين رأيي فيها. إن مؤلفكم - وهذا ما كان يمكنكم أن تتوقعوه - قد أعجبني جدا، قرأته قراءة عابرة، ثم قراءة من يحاول أن يستنير ويستفيد. لقد رددتم إلي شبابي؛ إذ وضعتم أمام عيني تلك البقعة: بيروت ولبنان، التي زرتها منذ خمسة عشر عاما، فأعدتم إلى ذهني صورة مدينة بيروت الغريبة غير المنسقة، والحقول المغروسة أشجارا من التوت الجميل، وغابة الصنوبر القائمة مكان الغابة القديمة التي زارتها فئوس فرساننا الصليبيين، وقمة القديس ديمتري الحلوة؛ حيث طافت أحلامي عشرين عاما، وأخيرا بدا لعيني لبنان بأوديته المدهشة، وأرزه الأثري، وديورته وأمرائه، وشعبه، وتاريخه المفجع. •••
إن «مشاهداتكم» - سيدي - لتفيض بوصف العادات والتفاصيل الطريفة والآراء اللاذعة والوثائق على اختلاف أنواعها؛ وصفتم الشعوب التي عشتم طويلا بين ظهرانيها، فأوضحتم لنا عاداتها وأخلاقها وتفكيرها ونفسيتها. إنكم تقصون وتحكمون حكم رجل البلاد المجرب، ولكن بتفوق الأوروبي الذي ينظر من أعالي المدنية المسيحية. فالسائح الذي يريد أن يطوف سوريا، ببساطة واستفادة، يجد - ولا شك - في كتابكم دليلا له. والتاجر الذي يريد أن يعقد صفقاته يستوحي نصائحكم ويهتدي بمعلوماتكم. وقناصلنا في سوريا يتعلمون منه حقوقهم وواجباتهم. وأخيرا إن مؤلفي كتب الرحلات في سوريا - الذين يهمهم إصلاح خطئهم وإكمال دروسهم - سيرجعون إلى كتابكم فيجدون أجل الفوائد.
ليس كتابكم بنظرة عابر سبيل، ولكنه نتيجة ملاحظات أربعين سنة صرفت في درس العادات والسياسة وعلم الآثار القديمة. إنكم لم توجهوا كلامكم إلى الشعراء، بل إلى رجال العمل؛ فخيالكم هو الحقيقة بعينها.
سوف لا نفتش في كتابكم عن إناقة الإنشاء وفخامة الوصف، فمن يكونون في بيروت وحلب لا يهتمون بجمال الأسلوب؛ لأنهم بعيدون جدا عن شئون المجمع العلمي وشجونه ...
سوف نجد في هذه «المشاهدات» طابعا خاصا له لذته، كما نجد فيها الكثير من الصراحة وعدم التصنع. إن كتابكم هذا لشرف لكم، وسيكون أثرا خالدا لإقامتكم في سوريا، ولاسمكم الذي تجلله خدمات مشرفة للدولة، وستكسبون بذلك شهرة عظيمة.
ثقوا - سيدي - بالغبطة التي أشعر بها وأنا أكتب إليكم هذه الأسطر، وبالذكرى الجميلة التي أحفظها لضيافتكم لي في سفوح لبنان.
بوجولا
أكوان، قرب باريس، 25 آب 1846
مقدمة
لقد عزمت أن أدون ملاحظات يعود أولها إلى بدء إقامتي في بيروت. وإني لأشعر بتأخري قليلا؛ لأن بيروت ولبنان لم يعودا يسترعيان الانتباه العام الذي كانا يسترعيانه في أثناء الحوادث الهامة التي جرت فيهما، بيد أنه لما كانت مشاهداتي هذه تصويرية وتاريخية وإحصائية وأخلاقية أكثر منها سياسية، فقد ظننت أنها تلائم القارئين في كل زمان، وهي - فيما عدا ذلك - متنوعة بالمواضيع المطروقة التي إخال أني خصصتها بجميع فئات القراء، حتى الفئة التي تلتمس في كتاب جديد سبيلا للتلهي بدلا من موضوع يهذب ويفيد. وعلى كل حال، فقد كان غرضي الأساسي تنوير أذهان من يدفعهم حب الرحلة إلى سوريا؛ فإلى رحالة المستقبل أسدي هنا بعض النصائح.
إن المسافر الذي يرغب أن يزور سوريا بلهفة وشوق - وإذا تحرينا الصدق قلنا: بأقل ما يستطيع من كراهية - يجب عليه أن يتزود بكل ما هو ضروري، وأن لا يعتمد في شيء على ما يمكن أن تقدمه له هذه البلاد من أسباب الراحة.
ليس في تلك الربوع سوى مطايا تحمل عليها الأشخاص من مكان إلى مكان، وغالبا ما تكون هذه المطايا هزيلة غير نشيطة. ولما كانت البراذع التركية غير صالحة البتة، فعلى المسافر أن يأخذ سرجا إفرنجيا، ويتزود بثفر وحزام وقرابيس شكت فيها الغدارات القوية.
إن الأسلحة لا تستعمل إلا نادرا، غير أنها هي التي تضمن لك السلام والأمان.
إن حقائب الثياب والقبعات والمظلات والأخراج وجميع حوائج المسافر يجب أن تكون مغلفة بمشمع، أو مطلاة بمادة دسمة تمنع الخدوش التي يحدثها العوسج والصخور ذات الشناخيب حين تعلق بها الحمولة لدى اجتياز المعابر الضيقة، كما أنها تحول دون البلل في الوقت نفسه.
ولا بد للرحالة من سرير نقال كي لا يضطر إلى النوم على التراب، وليتلافى الغبار والرطوبة والقمل والحشرات الأخرى التي يوجد بينها ما يؤذي، لا بل ما هو خطر ومخيف، والأخيرة من هذه الحشرات موجودة في الخرائب والقلاع القديمة، إن ناموسية محكمة على السرير ليست بالشيء الكافي بالنظر لكثرة البرغش الذي يرى في بعض الأمكنة.
إن الرداء ذا القلنسوة، والطماقات المصنوعة من نسيج لا تخرقه المياه والوحول؛ هي ضرورية.
وكذلك بعض معدات المطبخ، وأدوات سفرة كاملة، وإبريق صالح لطبخ القهوة على الكحول (السبيرتو) وشمعدان، وعدد لا يحصى من الحاجيات التي تصطحب حسب ذوق الأشخاص.
أما أنا، فلم أجد وسيلة للسفر خيرا من أن يصطحب السائح كل ما هو ضروري من الخيمة فنازلا؛ وعند ذاك لا يضطر إلى التعريج على القرى، بل يحل بأحسن مكان، وذلك يكون عادة في حديقة قرب نبع أو جدول؛ فهناك لا نتعرض لأمراض المساكن القذرة، ونستريح بعض الشيء من تطلعات الفضوليين المتعبة، كما أننا لا ندفع لأحد شيئا من المال، ولا نتقيد بأي موجبات، وهكذا يمكننا أن نعيش على هوانا؛ لأن الخادم لا يقوم إلا بما يؤمر به.
ليس في لبنان مطاعم ولا منازل معدة للسياح ولا فنادق، أما الحوانيت التي يسميها أصحابها مقاهي، وهي تحتوي كل شيء - كما يزعم من يديرها - فلا يمكن أن يجد فيها المسافر إلا الزيتون والخبز، والجبن الأبيض أحيانا. أما المشروبات فيقدم منها العرق، وقلما نجد النبيذ.
وليس لطريقة السياحة في هذه البلدان سعة الطريقة الأوروبية وأساليبها السهلة، مع أنها ضرورية. غير أن الرحلات هنا يقام بها بأكثر لذة، وعلى الأخص خلال ثمانية أشهر في السنة أو تسعة. إنها تذكرنا بالأزمنة البدائية يوم كانت تكثر سعادة البشر وتزداد بقدر ما هم قريبون من الطبيعة؛ فالسعادة أمست تطلب اليوم من رفيق أنيس، فالرفيق هو أولى العدد التي يحتاج إليها السائح في الشرق ولا يمكنه الاستغناء عنها.
إنني أذكر هذه الأبيات من الشعر لدي ليل:
1 ... إن الأشجار تتحدث قليلا، هذا ما قاله لافونتين
فأود لو أجد واحدا إلى جانبي لأنقل له ما يوحيه إلي الغاب.
إن الفصل
الحادي والثلاثين (من هذا الكتاب) ينير طريقنا؛ إذ يصف لنا البيوت العربية والرفاهية التي يمكننا أن نعتمد عليها فيها.
وإني أنصح دائما المسافر الذي لا يملك خيمة (شادر)، أو ليس في عبه كتاب توصية، أن يتوجه إلى كاهن المحلة؛ لأن منزله أكثر نظافة من غيره، بل أقل قذارة إذا أردنا الصدق. أما المنفعة من هذا الانتقاء، فهي توخي دفع المصارفات دائما؛ لأن الكاهن لا يمكنه أن يرفض ما يقدم له (كحسنة قداس). أما إذا كان غير هذا فالمضايقة واقعة لا محالة.
نصبت خيمتي على سطح منزل الكاهن، وهو قائم في الضواحي التي لا يتمتع فيها بأمان كبير.
يجب أن يحذر المسافر آراء أبناء هذا البلد وبعض الفرنجة؛ فهم يحشون - إذا ما استشيروا - مخيلة السائحين بالمبالغات التي يروونها عن الآثار التي أدهشتهم، وذلك يعود إلى غباوتهم لأنهم لا يشبهون القلاع التي يخلب ألبابهم منظرها الرائع إلا بما نراه اليوم من بنيات، وهي أكثر سماجة من التي نسميها نحن بربرية. إن العرب تدهشهم - بوجه عام - رؤية الأنقاض، وكل قلعة مبنية بحجارة ضخمة تعد بمجرد هذه الضخامة أعجوبة في نظرهم. إنهم يؤكدون أن الناس يعجزون عن إشادة مثلها، ويعزون ذلك العمل إلى الجن.
ويجب علي أن أحيط القارئ علما بأني أمتنع عن التدليل على الأخطاء العديدة المنتشرة هنا وهناك في مؤلفات السياح. إن مهمة الناقد لا تغريني البتة، فضلا عن أني إن فعلت فقد أعرض نفسي إلى أن أكون متعبا ومملا دون أن يكون لي أقل نصيب في أن ألذ قارئي؛ فالكثيرون من الذين سبقوني قد نظروا إلى الأشياء التي وصفوها نظرة عجلى، أو إنهم وثقوا ثقة عمياء بالأشخاص الذي استقوا منهم معلوماتهم؛ وهذان السببان يخلقان لهم عذرا. ولما كنت أعتبر - ولا شك - أنهم تحدثوا صادقين عن نقاط أخرى، فقد كنت جد مسرور بذكر ما أذاعوا، وقد اهتممت بنقل أقوالهم كما وردت في كتبهم، بدلا من إيرادها بتعابير أخرى؛ وفي ذلك فخر لي أني تركتها لهم، وضحيت بأنانيتي لأؤيد بالشواهد آرائي التي تضمنها كتابي هذا. إن هذه الآراء وإن بدت ضعيفة، فهي لا تقل قيمة عن آرائي أنا الذي عرف البلاد ولابس أهلها. إني أعدها نوعا من التأكيد الذي يضاف إلى المزاعم المنقولة، ودعامة للفكرة التي سبقني إليها غيري.
وأرى لزاما علي أن أنبه القارئ إلى أن ما يلمسه من فرق بين قيم النقد ينتج عن تقلبات الأسعار في مختلف الأوقات، وهذه التقلبات يحدثها التقلب المتواصل في العملة التركية فتؤدي إلى ارتفاع أسواق النقد الأوروبي؛ ومن ثم إلى قيمة الأوراق النقدية التي تدفع بهذه العملة.
كان بوسعي أن أقدم للقراء رسوما ومخطوطات اهتممت بجمعها لأنه توفر لدي مستندات جديدة وكاملة، وهي كافية للقيام بتنظيم خريطة لبنان، فعسى أن يتاح لي فيما بعد أن أبرز إلى الوجود هذه التتمات المختلفة المكملة لمشاهداتي.
هوامش
الفصل الأول
خطة الكتاب - ملخص تاريخ بيروت. ***
يطلب عادة من الرحالة أن يصف - ببعض التفصيل - البلد الذي يتناول الحديث عنه، لكي يعرف النقاط المهمة في تاريخه. وهذه الطريقة يتوجب عليه اتباعها، ولا سيما حين يضطر - لأنه لا يريد، أو لا يستطيع أن يطوف كثيرا - أن يقيم في مكان معلوم ليراقب من محل مشرف جميع الأشياء التي يدور عليها موضوعه، فيعطي كلا منها على حدة لونه الخاص.
وأعتقد أنه يجب الإكثار من الإلمام ببعض المعلومات المختلفة؛ لأنها تحتوي كل ما هو ضروري لمعرفة مكان أو ناحية في مختلف الوجوه التي تعود أن ينظر إليها من خلالها.
وإذا اقتفي أثري، فإن معرفة البلدان النائية تصبح سهلة، والذين يرودون البلدان - وعندهم هذه الصورة التي تتكون من مجموعة هذه الإلمامات الجزئية - يستطيعون أن يقوموا برحلة مجدية، فينتقلوا إلى المكان الذي يريدون أن يروا فيه شيئا معينا، كل حسب ذوقه وهدفه الذي يحدوه إلى السفر.
أفلا يصنع هكذا عندما يراد تنظيم خريطة بلاد ما؟ لا بد من رسم الخطوط الأولية أولا لتصلح فيما بعد أن تكون صورة كاملة؛ وبهذه الطريقة تكون - على قدر الإمكان - صحيحة كاملة.
شاهدت علماء وهواة يطوفون جميع أنحاء سوريا؛ لأنهم يريدون رؤيتها في خمسة عشر يوما، ثم ينشرون «مشاهداتهم» حسب آرائهم المستقاة من المكاتب، أو مأخوذة من محادثات أهل البلاد الذين صادفوهم في طريقهم. تلك هي الخطة التي سلكها من تقدمهم، بعد أن مروا عن يمين وشمال بالآثار والأمكنة والمدن التي كان لهم بعض اللذة في مشاهدتها.
وهذا هو السبب الذي حملني - في أثناء إقامتي عدة سنوات في سوريا - على أن أسدد في مناحي شتى خطوات السائح العادي. لقد نبهتهم إلى أشياء طريفة كان وجودها عندهم مجهولا، إلا أنهم لم يحاولوا معرفة الذي دللتهم عليه، بل إن كثيرين منهم تحدثوا عن أشياء لم يعرفوها إلا بالسماع.
كان يمكنني أن أسجل لهم عدة أخطاء؛ لأني رأيت سوريا بعيني، وقرأت الكتب التي نشرت عن هذا البلد، إلا أني لما كنت لا أكتب إلا لأرضي رغبة أصدقائي الملحة، طامعا بإمتاع الجمهور وتفكهته، فسوف لا أدل على أخطاء غيري؛ لأن ذلك يقتضيني الكثير من اللباقة.
وسوف يلاحظ القارئ أنني على طرفي نقيض وبعض الرحالة الذين حكموا - على ذمة غيرهم - على أشياء كثيرة حكما سطحيا.
أما أنا فسوف لا أذكر شيئا لم أره بأم عيني، أو أنه لم يكن من قبل قيد ملاحظة دقيقة ناضجة.
اندثر تاريخ بيروت، كما اندثرت عدة حوادث تاريخية في ظلمات الأزمنة،
1
ولولا بضع مقتطفات كتبت وانتهت إلينا، لتوجب علينا إرجاع العصور إلى النقطة الأولى التي ابتدأت بها.
وما دمنا نفتقر إلى معلومات مفصلة، فلنكتف إذن بالقول - مع المصنفين المسيحيين - إن بيروت أسسها جرسي
Gersé
المعروف باسم جريس
Géris
2
ابن كنعان الخامس. أما إذا اتبعنا أقوال المصنفين الوثنيين فتكون بروه
Beroé
زوجة أوجيكس
Ogygès
هي التي سمتها بيروتوس
Béroutos ، وهذه المدينة - التي زاحمت في الأهمية صور وصيدون - قد أتى على ذكرها استرابون
Strabon
وبلين
وبطليموس
.
يقول الأب بيسون
Besson :
3
إن أهل هذه المدينة كانوا من الطبقة البرجوازية، وإن هيرود هو الذي قام بتجميلها، ثم شيد فيها الملك أغريبا الأروقة والمسارح والمدرجات وعدة بنايات فخمة، وإنها لذيذة بثمارها، وجميلة بسهولها المستلقية على شط البحر.
أصبحت بيروت - التي سميت على عهد الإمبراطرة الرومان فيليكس جوليا
Félix Julia - أكبر مدرسة للشرع في الشرق، حتى إن يوستنيانوس أطلق عليها اسم أم الشرائع ومرضعتها.
4
أنجبت بيروت - حين تصنيف مجموعة القوانين والاجتهادات الشهيرة - أشهر مشترعي العصر: دوروتي
Dorothée ، وأناتول
Anatole
اللذين اشتغلا في تنسيقها، وهي نواة القوانين الحديثة.
يقول مؤلف رسائل فلسطين
5
إن لديه بينات كافية تعيد تاريخ إنشاء هذه المدرسة إلى ما قبل حكم ديوكلثيانوس، أي إلى حوالي القرن الثاني.
وبعد انقضاء ثلاثمائة سنة على ذلك اكتسبت أهمية كبرى، حتى إن أسقف بيروت الذي حضر المجمع الخلكيدوني نصب مطرانا عليها، وأصبحت هذه المدينة كرسيا له.
6
وعام 448 دعي إلى عقد مجمع ثان فيها.
وفي 1110 احتلها المحاربون الصليبيون.
بيد أنها عادت فسقطت في أيدي المسلمين، وهدمت بكاملها. ولقد حدث مؤرخ الحروب الصليبية عنهم أنهم قوضوا وقلبوا كل شيء، حتى الأرض التي وطئها المسيحيون؛ هدموا بيوتهم ومعابدهم ومآثر صناعتهم وتقواهم وقيمهم، أبادوا كل شيء بالحديد والنار، مع أن مسجد بيروت الهام هو من صنع المجاهدين الصليبيين. والسيد بوجولا - رفيق السيد ميشو في سفره وزميله - قد أكد أن هذا المسجد هو الكنيسة عينها التي كرسها الصليبيون على اسم القديس يوحنا.
7
إن الأبراج التي كانت لا تزال قائمة بحالة حسنة، قبل هجوم الإنكليز والنمساويين، هي أيضا - ولا شك - مأثرة من مآثر الصليبيين.
كانت البلدان الإسلامية تعتبر - وهذا ما يزعمه السيد ميشو
8 - بيروت عاصمة لها، ثم إن الملوك والأمراء الذين تنازعوا - فيما بينهم - السيطرة على مدن الجوار، كانوا يدخلون هذه المدينة ليبسطوا فيها عظمة تتويجهم.
9
إن تاريخ بيروت الحديث معلوم ومعروف؛ ولهذا أرى أن ذكر الحوادث التي قام بها الأمير فخر الدين، وضاهر العمر، والجزار هي عديمة المنفعة.
فلنكتف إذن بالقول إن هذا الباشا الأخير - ذا التاريخ الدامي (الجزار) - هو الذي انتزعها إلى الأبد من الأمراء الدروز، وحين لم تبق مقرا لأمراء لبنان وإقطاعة لهم، أمست ذات أهمية ضئيلة جدا.
ثم حدث أن احتمى أحمد الجزار عند الأمير يوسف شهاب لما هرب من مصر. وعلى الرغم من أن الأمير يوسف قد استقبله استقبالا حفيا وجعله - فيما بعد - «متسلما» في بيروت، فقد نوى على أن يحتل المدينة، وشرع يحصنها.
وعندما أصبح الجزار باشا عكا - وهذا ما نراه فيما بعد - دعا المحسن إليه الأمير يوسف، حتى إذا ما أصبح في قبضة يده أمر بذبحه.
نظر الباب العالي - بعين الحسد - إلى المركز الهام الذي حازته بيروت بفضل موانئها ومنتجاتها ورفاهية شعوبها، فأبى أن يعفيها من رسوم الجمارك؛ وهكذا اضطرت السفن إلى أن ترسو أكثر الأحيان في مرافئ صيدا وطرابلس التي كانت قاعدة أهم المؤسسات التجارية على الشاطئ، ولكن لما كانت أعمال التجارة حرة، كانت بيروت تتمتع بأفضلية على الأساكل الأخرى، ويجب أن نعتبر أن هذه المدينة هي أكثر أهمية من غيرها بالنسبة للمراكز الدبلوماسية، ومكاتب سوريا التجارية.
أما إخضاعها ثانية لسلطة السلطان مباشرة، فكان عام 1787.
هوامش
الفصل الثاني
أهمية بيروت التجارية - أسبابها. ***
لم يبد لبيروت شأن - كمدينة تجارية - إلا منذ ثلاثين سنة تقريبا. وأستطيع أن أؤكد - لأني زرتها عامي 1808، 1810 - أنه لم يكن يعقد فيها إلا صفقات تجارية قليلة. وبما أني لم أبارحها إلا عام 1828 بعد أن عدت إليها عام 1824، فقد استطعت أن أتتبع ازدهارها خلال فترة أربعة عشر عاما، في إبان نهضة صناعتها الحقيقية وتضخم ثروة سكانها.
وهذه المدينة - بالنسبة لعدد سكانها - تعد رابعة مدن سوريا؛ فهي دون طرابلس التي تأتي في الرتبة بعد الشام وحلب. ومن المؤكد أن عدد سكانها لا يتجاوز الخمسة عشر ألفا وخمسماية شخص، منهم سبعة آلاف مسلم، وأربعة آلاف من الروم الأرثوذكس، وألف وخمسماية ماروني، وألف ومائتان من الروم الكاثوليك، وثمانمائة درزي، وأربعمائة أرمني وسرياني كاثوليكي، ومائتا يهودي، وأربعماية أوروبي.
تضافرت عدة عوامل على جعل بيروت المركز الأكثر أهمية على الشاطئ؛ منها موقعها المتوسط، وقربها من الشام، وجودة حرائرها، وهدوء خليجها. وأقول مع هذا أن العامل الأشد تأثيرا هو مجاورتها للجبل الذي حافظ أمراؤه - حاكموه القدماء - على سلطانهم فيه.
إنه لم يكن - لعشرين سنة خلت - بإمكان تجار البلاد - سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين - أن يمارسوا أعمالهم التجارية إلا خفية؛ إذ لم يكن في استطاعتهم أن يستقروا في مكان ما بصورة نهائية؛ كانوا يعيشون عيشة موقتة، وفي خمول وانتظار الحوادث التي قد تدهمهم.
ففي ظل الحكم الدستوري تستطيع الطبقة المتوسطة أن تعيش مترفة وتنفق عن سعة. أما في ظل الحكم المطلق الظالم فالسعة لا تقضي على أصحابها بالحرمان فحسب، بل تعرضهم أيضا للخطر الذي تجره عليهم.
يجد الرجل في بيروت فوائد جمة لا يستطيع أن يجدها في أية إسكلة أخرى على عهد اضطهاد الجزار وظلمه وبلصه؛ هذه الأعمال التي جددها عبد الله باشا بضرائبه الفادحة فقط، فاستمطر عليه غضب السلطنة العلية. كان عبد الله باشا ينقاد كثيرا لمطامعه وإرشادات مستشاريه السيئة، بيد أنه لم يكن سفاكا ولا سفاحا، وقد لوحظ أنه كان يرجع - في بعض الأحيان - عن الإجراءات الظالمة التي عمد إليها. وأستطيع أن أقول - بعد دراستي أخلاق عبد الله: إنه لو كان في بطانته صديق واحد لجعل الناس يبكون أيام حكمه.
كلفه حكمه ستة عشر ألف كيس؛ أي ما يقارب الخمسة ملايين فرنك، وهذه القيمة الفادحة يجب أن تضاف إليها الهدايا النفيسة المهداة إلى محمد علي بناء على توسطه.
إن اضطرار عبد الله باشا إلى تأييد مركزه بالمال كان وسيلة لاختراع أساليب جمعه. وهكذا وفر السلب والاغتصاب والظلم - بعد أن نهبت المدن - مبالغ باهظة لتدفع إلى صندوق خزينة عكا.
أثرى سكان سوريا على عهد سليمان باشا الأبوي - خلف الجزار - الذي دام حكمه من سنة 1806 إلى سنة 1820. كان هذا الحكم نعمة طويلة العمر تحتاج إليها الشعوب لإصلاح حالة بؤسها المؤلم، وتضميد جراحها الثخينة.
وبفضل الحياة التي كانوا يقضونها في البرية؛ أي في البساتين القائمة في الضواحي حول المدينة، كان باستطاعة كل من يسكن بيروت - من المقيمين الموقتين، الذين تدل أمتعتهم الخفيفة النقل عن استقرار غير ثابت وموقت - أن يبدلوا محل إقامتهم بالفرار والالتجاء إلى الجبل.
لم يستطع الباشوات حتى الآن أن ينتزعوا من لبنان امتيازه القديم، ألا وهو حماية المظلومين والمنكوبين.
وهذا الأمر كان أكثر الأمور بساطة لأن سلطة متسلم بيروت لم تكن تمتد إلى ما وراء غابة الصنوبر، وعبر نهر بيروت. وهذه المسافة يمكن اجتيازها بأقل من نصف ساعة مشيا على الأقدام.
فأكثر السكان الأغنياء كانوا يلجئون إلى القرى الواقعة في سفح الجبل عند أقل بادرة تنبئ بالظلم، أو أقل خبر يسبق هذه النكبات المحزنة. كانوا يمكثون هنالك حتى تهدأ العاصفة، ولا يعودون إلا بعد دفعهم مبلغا من القيمة المفروضة عليهم، أو بحصولهم على كفالة تضمن لهم راحتهم. وقد كان نزوح السكان يحدث جمودا في الأعمال إلى حد أن توشك الصناعة أن تشل وتقف حركتها، ويأخذ البؤس بالانتشار بين سواد الشعب؛ لذلك كانت السلطات تتسابق حينذاك على نيل «صفو خاطر» الباشا ورحمته، فيمنحهما بناء على التوسلات التي تعيده إلى فطرته الخيرة.
وهكذا أثرت بيروت على الرغم من تعنت السلطة وبؤس أساكل سوريا الأخرى، ولا سيما إسكلة عكا.
أما الحروب التي خاضتها الشعوب فيما بينها - في حلب والشام - فسببت عدة مهاجرات إلى بيروت. وجميع الذين اضطرهم الاضطهاد إلى مغادرة منازلهم كانوا يجذبون بالطمأنينة والمنافع التي يوفرها لهم لبنان. كان بوسعهم أن يجنوا نفعا دون أن يضطروا إلى الانقطاع عن مدينة بيروت ومزاولة تجارتهم.
وفي تلك الأيام؛ ونظرا لهذه العوامل نفسها، أثرت ضواحي هذه المدينة، وازداد عدد سكانها، حتى إنه لم ير في جميع البلدان - الخاضعة لسيطرة أمير الجبل - بلد مأهول هانئ العيش أكثر مما هي عليه الضاحية المجاورة لبيروت، والممتدة من نهر المعاملتين حتى الشويفات.
أوحى اضطرار التجار إلى استرداد أموالهم التي سلبت ظلما - أو هدرت في تنقلاتهم - كثيرا من الأساليب البارعة؛ لقد أصبحوا جريئين بقدر ما تسمح لهم الضمانات التي يوفرها لهم مستقرهم الجديد. لم يكن يعوقهم عن التبسط في أعمالهم التجارية إلى مدى بعيد إلا عدم الحماية. غير أن الأوروبيين الذين استقروا في بيروت أخذوا على عاتقهم حماية أملاك هؤلاء من القراصنة اليونان الذين كانوا يغزون البحار آنذاك، ثم قبلوا فيما بعد أن يودعوا في مخازنهم البضائع التي يجد تجار البلاد بعض المنفعة في تسليمهم إياها:
أولا:
لأنهم يجنون بعض الربح من الفروقات العائدة إليهم من رسوم الجمارك، فالأجانب يفضلون من هذا القبيل على أبناء البلاد.
ثانيا:
كي لا تعرض أموالهم للخطر إذا ما افتضح أمرهم، وفهم أن هذه البضائع هي لهم.
والمنفعة الأخيرة التي كانوا يجنونها هي سحب ما يشاءون من هذه البضائع بصورة تدريجية لأنهم مضطرون حسب الظروف إلى سكنى المدينة أو الجبل.
وقرائي الذين لا يعرفون تركيا إلا معرفة مشوهة ناقصة يدهشهم هذان العاملان؛ الأول: وهو أن السلطات كانت تصطنع أساليب تسبب نزوح الأهلين، وتشل كل صناعة؛ وبالتالي خراب البلاد. والثاني: أن الأوروبيين كانوا ينعمون - فيما يتعلق برسوم الجمارك - بامتيازات خاصة على حساب الرعايا العثمانيين.
ومهما قيل؛ فأساليب الحكم في تركيا تناقض تماما الأساليب المتبعة عندنا، السلطة في أوروبا تحمي أبناء البلاد، وتسهر على رفاهيتهم، وتدرس الأسباب التي تؤدي إلى زيادة عددهم، وأخيرا فإنها تفضل المواطنين على الأجانب. أما في سوريا فالعكس بالعكس. إن الإجراءات التي اتخذت لم يكن ينتظر أن تحدث غير هذه النتائج، إن المظالم قد ألغيت؛ إذ لم يعد باستطاعة الباشوات أن يفرضوا على المدن ضرائب باهظة، أو يكلفوا الأشخاص فوق طاقتهم. ومع ذلك فقد كان الأفراد في مناسبات شتى يضطرون إلى أن يدفعوا مبالغ كبيرة توصلا لممارسة حقوقهم، أو دفعا لما يخشى أن يحكم به عليهم إذا ما رأوا أنفسهم متهمين.
أما الآن فإن رسوم الجمارك أصبحت تستوفى على قدم المساواة؛ فالمواطنون يعاملون كالفرنسيين.
إن بلص الباشوات العادي أحدث ضجة كبرى، وإن كانت المبالغ المفروضة غير ضخمة إلا على الطبقات والأشخاص الذين هم في بحبوحة. ولما جاء المصريون فرضوا ضريبة جديدة تفوق الأولى أربعة أضعاف، ولكنها اعتبرت من المنافع العامة، وأكره جميع السكان على دفعها. كانت تجبى هذه الضرائب من الجميع، فلا يستثنى منها أحد حتى ذوو الفاقة والعجزة، أما المسيحيون - بوجه خاص - فلم يكن لهم ثمة عذر يعفيهم من دفعها.
الفصل الثالث
وصف بيروت
لا توحي مدينة بيروت - لأول وهلة - شيئا يثير الفضول؛ يلاحظ أنها حديثة العهد بتعاطي التجارة دون أن يدلنا شيء ما على أنها استطاعت جمع ثروات ضخمة.
إن مظهر المنازل الخارجي هو من أكثر المناظر بشاعة، والفكرة الأولى التي تتبادر إلى الذهن - إذا ما نظرنا بعين الاعتبار إلى الذين يقيمون فيها لأنها تنبئ عن حالتهم - هي أنه لا يمكن أن يكون في هذه المدينة سوى صناعيين غير ميسورين.
إن واجهات البيوت مبنية - على الغالب - بحجر غير منحوت، وقد أخذت الأيام على عاتقها مهمة تلوينها، يعاونها في ذلك الدخان والمطر والغبار. ولما كانت الأخشاب تستعمل أيضا كما أوجدتها الطبيعة؛ أي بلا صقل، فالأبواب والنوافذ تكون في أغلب الأحيان من لون الجدران.
أما ما يتعلق بتنسيق البيوت وترتيبها، فيجب أن لا نحسن الظن به. فعلى من يريد أن يلجها أن يحني رأسه قليلا أو كثيرا تبعا لقامته، وإذا أراد أن يطل من النافذة فعليه أن يزج جسمه بانحراف إذا كانت بدانته تفوق المعدل قليلا؛ فعلو الشبابيك هو على الأكثر متر واحد، وعرضها خمسة وسبعون سنتيمترا، يفصل بينها حاجز صغير. وهذا التدبير الذي يلجئون إليه ضروري لحماية الصغار؛ إذ إن هذه الشبابيك تقوم على ارتفاع عشرة سنتيمترات أو خمسة عشر سنتيمترا من أرض البيت.
كل ذلك يرجع إلى العادة المتبعة في الجلوس على الأرض، حتى إن الدواوين التي تصنع من فرش رقيقة جدا توضع على حصر. أما الذين أصيبوا قليلا بعدوى البذخ فإنهم يضعونها على مقاعد لا يتجاوز علوها السنتيمترات الثمانية أو العشرة.
ومنذ مدة ليست بالبعيدة كان الزجاج يكاد يكون غير معروف في مدينة بيروت. أما الآن فإننا صرنا نجده في منازل الأغنياء ...
إن الحواجز والمصاريع التي نجدها في الشرق لم نشاهدها إلا عند الأوروبيين. لقد اضطروا - ليستطيعوا أن يعيشوا في هذه المنازل - إلى ترتيبها وتوسيع أبوابها ونوافذها بقدر ما يسمح لهم المكان والعرف المتبع.
ومع ذلك فقد لاحظت مثل هذه النوافذ عند الأتراك، ثم إني وجدت - طبقا للقاعدة التي تكلمت عنها في سياق مشاهداتي - أن كل شيء هنا يناقض كل التناقض الأشياء التي تصنع في أوروبا؛ وجدت أن صفائحها كانت مقلوبة رأسا على عقب، فأعلاها في الخارج وأسفلها في الداخل، بنوع أنها تفسح في المجال لدخول حرارة الشمس والهواء، وتمنع الناظر من أن يرى شيئا في الشارع أو أن يرى. إن ذلك هو بالحقيقة شبه حاجز وليس «أباجور».
لا يجهل معظم قرائي أن حسن تنسيق المنازل ومحلات اللهو مجهول تماما في تركيا؛ نظرا للإدارة الحكيمة التي اهتمت بتشييدها ...
إنه يستحيل على أي كان أن يتصور الفوضى التي تسود الشوارع والمساكن في بيروت. وفي هذا يقول السيد بوجولا: «إنني لم أر غرابة وشذوذا أكثر مما رأيت في مدينة بيروت العربية؛ إن منازلها المبنية بالحجارة عالية أكثر منها في أي مدينة من مدن سوريا؛ فقبابها وسراديبها السرية وممراتها المظلمة وشوارعها الضيقة الملتوية تبعث - لأول وهلة - نوعا من الهلع في نفس السائح الذي يريد أن يطوف في أنحائها. إن كل بيت يؤلف مخبأ لا يقتحم، والحي الإسلامي بنوع خاص يبدو كأنه مأهول بطبقة من المساجين. إني لم أجد صعوبة تضاهي الصعوبة التي أشعر بها حين دخولي بيتا من بيوت بيروت. إن الظلم الذي لا يضل طريقه ليزعج أحيانا عند القيام بزياراته الرعائية لهذه البيوت ... ويمكن القول إن كل واحد منها يصلح أن يكون مركز دفاع.»
1
إن مدينة بيروت هي مضنية حقا، بالنظر إلى بيوتها التي تفصل بينها ممرات معوجة، وتربطها قناطر قامت عليها غرف تضعف من نورها الذي لم يكن قويا بسبب تلاز شوارعها الضيقة.
فاضطرار المرء إلى أن يسمر نظراته برجليه - وهذه إحدى محاسن المتاعس - يحول دون رؤية بنايات بيروت الكريهة. ولما كان المسافرون يشعرون ببعض الغبطة عندما ينجون من خطر ما، فإنهم يهنئ بعضهم بعضا في نهاية كل مرحلة في هذه المآزق الحرجة.
إن استهتار الأتراك بكل ما يمت إلى السلامة العامة بصلة هو شيء لا يغتفر لهم، ولا سيما إذا ما نظرنا إلى الوسائل المتوفرة لديهم للاهتمام بها دون أن يكلفهم ذلك أقل نفقة؛ لقد كان بوسعهم أن يسخروا أناسا لسد ثغرة في حائط، إلا أنهم لا يفعلون ذلك إلا بعد وقوع عدة حوادث مفجعة وإزهاق عدة أنفس.
والذين لا يعرفون بيروت قبل حكم محمود بك يظنون أني أتعمد هذه المبالغات. ودفعا لهذا الظن أقول: ما علينا إلا أن نبتعد قليلا عن الشارعين اللذين يتفرعان عن البحر، حتى نلاحظ أنه يجب على المارة أن يدرسوا طبيعة البلاط درسا مدققا ليسلموا من الانزلاقات العديدة التي قد تنتج عنها وتكسر عظامهم.
وصف سائحون كثيرون الحوانيت التركية، أما أنا فحسبي القول إنها تشبه تماما شوارع البلاد وبيوتها ومنازلها وحوانيتها.
إننا نعلم أن أصحاب الدكاكين يقعدون القرفصاء؛ فالدكاكين لا تعلو عن الأرض إلا بمقدار متر واحد، أما داخلها فمجهز برفوف تبسط عليها البضائع، وأوسع حركة يستطيع أن يأتيها صاحب الدكان هي أن يميل يمينا أو شمالا، أو يقف على رجليه عندما يريد الوصول إلى الرفوف العليا، أما المشترون فيقفون أمام الواجهة التي توازي الدكان عرضا وارتفاعا.
والصديق أو زبون المحل الذي يأتي بقصد التلهي لا الشراء يقبع في الزاوية الأخرى قبالة صاحب الدكان. وبما أن القهوة موجودة في جميع الأسواق فتصب القهوة المرة
2
للضيف بناء على إشارة صاحب الدكانة ويقدم له الغليون؛ لأنه - كما يقول الهواة: ما من لذة تضاهي لذة تناول جرعات من القهوة والتدخين عليها، فتتمازج وتطيب آنا بعد آن، إنها أفخم مأدبة يمكن أن يدعى إليها شرقي.
فالقهوة في الشرق تصب للضيوف - كما نعلم - في جميع المناسبات؛ تصب عند الباشوات وعند الفقير المعدم. وقد اضطر الأوروبيون الذين يسكنون تركيا إلى اتباع هذه العادة، حتى إنه إذا لم تقدم القهوة لابن البلد فلا يعزو هذا الأخير المنسي ذلك الإهمال إلى عدم التهذيب، بل يعتبر أن كرامته قد جرحت. وهذه العادة تفشت كثيرا حتى تسربت إلى جاليتنا، فأصبح النزق الفرنسي يدفع الكثيرين منا إلى التذمر من عدم تقديم القهوة لهم في بيوت أوروبية، عازين ذلك إلى قلة الاعتبار والاحترام.
إن عظمة الدارات وجمال الينابيع لم تعرفها بيروت أيضا. وإذا كان هنالك فسحة دبرتها يد القدر في هذه المدينة، فإنها تصبح محلا تكدس فيه البضائع.
أما المقاهي - وما أكثرها هنا - فهي عبارة عن غرفة مظلمة رديئة البلاط تنتصب حولها مقاعد من الحجارة، مفروشة بحصير، تنتشر فيها عدة كراسي علو الواحدة منها خمسة وعشرون سنتيمترا، يجلس عليها المتفرجون في داخل القهوة وعلى الطريق العام. أما في المدخل فيقوم موقد عليه إبريقان أو ثلاثة أباريق للقهوة، واثنا عشر فنجانا مغلفة بظروف
3
من النحاس الأصفر. وإلى جانب الموقد تصفف النارجيلات وهي عجمية الأصل يدخن بها التنباك، وهو نوع من التبغ ذو طعم حاد جدا، وهذا ما يحدو إلى تدخينه من خلال الماء؛ إذ لا يمكن احتماله بغير هذه الطريقة.
أما في المساء فتكون المقاهي مطروقة جدا، وقلما تمتد السهرة إلى ما بعد العشاء؛ إذ تقام الصلاة بعد انقضاء ساعة ونصف من غياب الشمس؛ إنها الفترة القصيرة التي يقوم بها القصاصون العرب ولاعبو الكركوز بتحريك مواهبهم وإلهاب قرائحهم.
إن الشرقيين بعيدون جدا عن التجديد، حتى إن المواضيع التي قلدوا بها المشاهد الصينية لم تتغير؛ فهي هي منذ أربعين سنة لا تزال كما عرفتها فيها. لقد حضرت هذا المشهد نفسه في أفريقيا واليونان وسوريا. إن لاعبي الكركوز يقدمون بعض الأحيان على الهزء بالشخصيات المحترمة والحوادث الحديثة العهد. وقد بدا لي أن عواقب هذا العمل تحمل على السخط والتقزز؛ إنه يئول إلى إفساد أخلاق الممثلين والمتفرجين الذين يضمون بينهم العدد الكبير من الصغار فتفسد أخلاقهم. ومن حسن الحظ أن هذا المشهد القذر قد ألغي في الجزائر؛ حيث كان يقام بتمثيل ملذات من يتعودون أن يرتادوا المقاهي المغربية.
إني لا أرمي إلى إظهار أخطاء من كتبوا قبلي أخبار مشاهداتهم - كما صرحت سابقا - ومع ذلك فلا بد لي من أن أشير إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه «فولني»
Volney
عندما تحدث عن الراقصات اللواتي زعم أنهن يظهرن
4
بعض الأحيان في المقاهي ليهجن غلمة الجماهير الهادئة. وأستطيع أن أقول - وليس هذا نتيجة اختباري الطويل، ولكنه يستند إلى رأي كثير من الأوروبيين الذين طافوا في سوريا أو أقاموا فيها: إن امرأة واحدة، ولو كانت أشد النساء فجورا وإباحية لا تجرؤ على الظهور في هذا المحل العمومي.
إن القهوة وتدخين النارجيلة وحضور ذينك المشهدين لا تكلف أكثر من عشرين بارة (عشرة سنتيمات).
وفي بيروت عدة خانات ينزل فيها الدلالون والسياح والمواطنون. إنهم يحلون في غرف صغيرة، وهذا كل ما يرغبون فيه؛ إذ إن من المصيبة أن يجدوا غرفا مؤثثة!
ولما كان كل شخص يصطحب معه الأمتعة التي يحتاج إليها في سفره، فإنه يتمركز حالا دون أن يلجأ إلى بائع المفروشات والسجادات.
يبسط المسافر سجادته على الأرض، ثم يرتب أمتعته، ويبدل ثيابه بسرعة وجرأة لأنه تعود ذلك، ثم ينزع من أجربته الحوائج التي تزود بها، فإذا به قد استقر على أحسن ما يرام.
إن السجادة والعباءة والأجربة هي أشد ما يحتاج إليه المسافر؛ فالأولى تقوم مقام السرير، والثانية يجعلها لحافا، والثالثة تحشى بثياب التبديل فتقوم مقام المخدة. أما الخرج فينوب عن الصندوق أو الحقيبة، فتجعل فيه أدوات المطبخ والمؤن البسيطة. وهذه الأمتعة التي يصطحبها المسافر توفر الكثير من النفقة، فلا يدفع المسافر إلا بدل الزرابة.
إن المسجد الكبير لا يتميز إلا بطراز بنيانه المسيحي. يعود بدء عهده إلى زمن الصليبيين؛ إذ كان كنيسة على عهد القديس يوحنا، كما تكلمت عن ذلك في فصل سابق، وأقول الآن: إن هندسته تشبه هندسة تلك الأبنية التي هي من نوعه، ولا تزال بعض بقاياها قائمة على الشاطئ الواقع بين يافا والكرمل.
ويزعم أبناء البلاد أن كنزا كبيرا مدفون هناك. ومصدر هذا الزعم ضعف عقلية الشرقيين بوجه عام؛ فجميع الأبنية القديمة تخفي - حسب زعمهم - كنوزا تقدر بمبالغ ضخمة.
أما المساجد الأخرى فلم توح إليهم زعما خاصا؛ لأنها - كما يظهر - قليلة الدوطة ... ولا يمكننا أن نقارن بينها وبين مساجد المدن التركية الأخرى التي تملك بعض المدخول المخصص للنفقات الدينية.
تدخل الكتب أيضا في عداد الهبات التي تقدم للمساجد بغية تثقيف الشعب الإسلامي القليل المطالعة بطبيعته. وهذه الكتب تكون عادة مصاحف وشروحا وكتب عبادة أخرى.
وفي هذه المساجد يفتش الدراويش عن أسباب الارتزاق، وعن ملجأ يأوون إليه عندما يهبطون المدينة، وقد تكون أيضا ملجأ للذين لا يرتحلون، أو للمعتوهين. إنها تستخدم كبيمارستان للذين فقدوا عقولهم أو خلقوا مجاذيب.
يطوف هؤلاء الدراويش في الشوارع بألبسة غريبة، وعلى رءوسهم طرابيش طويلة، وقد يتسلح بعضهم بحراب، ويحملون في أيديهم صحيفة ضخمة تشبه شكلا نصف جوزة أو لوزة. أما الذين يفتقرون إلى قليل من الذوق فإنهم يستغنون عن ارتداء الثياب، ويكتفون بصلب أيديهم على صدورهم أو تركها مدلاة كرقاص الساعة.
إن رحالة لبيبا شاء أن يعتنق الدين الإسلامي عندما رأى الاحترام الذي يحاط به المعتوهون في تركيا فيخفف من بؤسهم وتعاستهم؛ فهم يحترمون ويجلونهم لأنهم - في نظرهم - أشخاص منحوا امتيازا دون غيرهم، فالله لم ينتزع عقلهم إلا لأنه كان راضيا عنهم. غير أنه يمكنني أن أضيف أن هذا الشعور لا يرد الموت عن هؤلاء الأولياء المساكين الذين يقضون في كثير من الأحيان لعدم الاهتمام بهم. إنه جسد ينطفئ، هكذا يقولون. أما القسم الجوهري - يعني الروح - فقد أصبح منذ زمن طويل عند أقدام خالقه.
تخيل أحد هؤلاء الدراويش - وقد أصيب بمرض جنون السلطة - وسيلة فيها بعض شفاء لجنونه هذا، وهي سهلة التنفيذ؛ اشترى من الأباريق الصغيرة مقدارا سمحت به ميزانيته، ولكي يملك منها أكثر عدد ممكن انتقاها مثلومة ومشققة ومصدعة، وبعد أن ملأها ماء صفها على منضدة صغيرة لعوام المسلمين، ليتناول كل منهم واحدا منها يستعمله عند الوضوء، ثم قعد قربها يلقي على المصلين أوامره، فكان يقول لمن يمد يده إلى الإبريق الأصفر: خذ الأحمر. وإلى الآخر: دع هذا وخذ ذاك. وإلى الثالث: دونك المستدير أو المشعث، أو الذي ليس له رقبة ... إلخ. وكان الحاضرون يتأملون ويتساءلون عما حدا هذا الرجل على القعود منهم هذا المقعد، دون أن يفهموا لأول وهلة ما هو الباعث على ذلك، وأخيرا عرفوا أنه كان موظفا وعزل ...
إن منائر بيروت تشبه كل الشبه منارات البلدان الأخرى، وهي قائمة كالشمعدان. أما السراي - أو مركز الحاكم - فليست سوى خربة مقوضة، ومع ذلك فمن يتأملها يمكنه أن يحكم على ما كان عليه سابقا قصر فخر الدين؛ لقد اقتبس هذا الأمير الكثير عن الأوروبيين في بناء قصر مدسيس، فأضفى على قصره تجميلات كثيرة دلت بحق على أنه أحسن الاقتباس.
أما المحكمة فهي في الواقع بيت سكن القاضي، وهو قصر العدل في تلك البلاد، وهنالك تعرض المظالم على اختلاف أنواعها.
والبوليس يتلقى الأمر من «المتسلم» المكلف توزيع العدالة. وإذا جاز لي أن أتلاعب في الكلام قلت: إنها الوظيفة الوحيدة التي يحسنون القيام بها على حقها، لأننا نجد أنفسنا دائما معرضين لضربات العصي المتعددة ...
وفي السراي سجنان، يطلق على أحدها اسم «الزندان» وهو عبارة عن محل رطب تعشش فيه البراغيث. إن خشية تطبيق هذه العقوبات القاسية - بل الظالمة في أكثر الأحيان - تقلل كثيرا من الجرائم وتحمل على التحفظ الشديد.
ويظهر أن البوليس لم يغير أساليب المحافظة على الأمن؛ فهو لا يزال يحافظ على عقيدته القديمة وأسلوبه البالي. وهاكم على الأقل دليلا يثبت أن الطريقة المتبعة في القرن السابع عشر لا تزال تطبق اليوم:
إنهم يركبون المحكوم عليه حمارا ويديرون وجهه صوب ذنب هذا الحيوان، وبعد أن يسودوا وجهه ويضعوا على رأسه جلد خروف مليء بأوساخه، يقودونه في المدينة على هذه الصورة، طائفين به في شوارعها بين الهتافات الصارخة والبلبلة العظيمة.
5
وكما هي الحالة في جميع أنحاء الشرق، ترى أسواق مدينة بيروت تزخر بالكلاب. إن المشاجرات التي تقع في الأحياء لا يحس بعقباها إلا المارة المحايدون الذين يخرجون من مأزق هذا النزاع المحلي ملطخين أو ممزقي الثياب. وما أسعد المتقاتلين المدفوعين بحماستهم الشديدة إذا لم يسمحوا لأنفسهم أن يعض بعضهم بعضا!
كان أمراء الجبل يترددون - بوجه خاص - إلى مدن الشاطئ في أثناء الاحتلال المصري؛ لأن إبراهيم باشا كان قد وكل إليهم مهمة القيام بحمايتها؛ وعليه فإنه لم يكن يرى سوى مسيحيين مسلحين. وهذا ما كان يؤلم أهالي المدينة أعداء أبناء لبنان؛ فقد كانوا يتمنون لو يوليهم الباشا عناية السهر على مدينتهم.
وفي ذات يوم كان أحد هؤلاء الأمراء مارا بالأسواق ممتطيا جواده، فإذا به يصادف على الجانبين - وفي كل لحظة - كلابا ممددة على البلاط، ولما أعيته الحيلة في اجتنابها قال في ساعة فقد فيها صبره: ما أكثر الكلاب في هذه المدينة! فأجابه حانوتي جرحته هذه الملاحظة؛ إذ ظن أنه يعنيه: لقد نطقتم بالحق يا صاحب السعادة، ولكن تأملوا قليلا تعلموا أن أكثرها غريب ...
إن المدارس العامة قليلة جدا، ولا يعلم فيها إلا القراءة والكتابة بدون اتباع قاعدة، والأولاد الذين يراد أن يتلقوا دروسهم يتعلمون قراءة القرآن. ولما كان هذا التعليم يتعب الأطفال الذين قلما يقدرون جمال الأسلوب، فإنهم يعدونهم بأجمل الأماني التي تحقق - بدون مطل أو خلف - يوم يصرح المعلم بأن تلميذه ختم الكتاب الكريم؛ عند ذاك يعطي الأب الشيخ بخشيشا ويدعوه إلى حفلة الغد.
إن جميع الأقارب والأصدقاء يدعون إليها أيضا، كما أن جماهير من الفضوليين لا تتأخر عن الانضمام إليهم. والصبي الذي يلبس بفخامة ثيابا كلها جديدة ويحلى بمجوهرات أمه، يركب حصانا مجللا بالكوبان، ويتبعه رفقاؤه وعلى رأسهم الشيخ يتمتم مقاطعه الأثيرة إليه. أما المصحف الشريف فيوضع على طبق، وحواليه الجميع يصعدون ترانيم الشكر، حتى إن النساء يساهمن في هذا الاحتفال مع الرجال بزغردتهن المشهورة: لو لو لو.
6
إنهن لا يفتحن أفواههن المخبأة وراء الحجاب السميك إلا ليفلتن تلك الصرخات الحادة التي يمططنها ما استطعن، ويتمتعن برحابة هذا الامتياز الضئيل.
إن الشيوخ أو سدنة المساجد هم أيضا مدعوون إلى هذا الاحتفال، فيقومون في أثناء هذا الطواف الاحتفالي بتمثيل روايتهم الدينية، بعد أن ينضم إليهم المتعصبون الذين يوهمون الناس أنهم وقعوا في غيبوبة، ولكي يفيقوهم فإنهم يهزونهم بعنف على نغم الطنبور الذي اصطحبه تلاميذ الشيخ وهم يغنون، وذلك ما يؤلف مع الموسيقى الأخرى وصراخ النساء وضجيج الجمهور أخوف ضجة يمكن أن يتصورها العقل.
نجد أحيانا - وهذا ليس بالغريب - شبانا من المسلمين يدرسون النحو على علماء مسيحيين؛ نظرا لتفوق الأصول الحديثة التي اتبعها هؤلاء بعد أن وضع أصولها مطران ماروني في حلب. إن فائدة هذه الطريقة ظاهرة لأنها تعلم بسنتين ما لا تستطيع أن تعلمه الكتب الأخرى في عشر سنوات.
إن الينابيع التي لم تكن تنضب قط جفت الآن. أما قديما فكان يدفعهم حب الإحسان إلى تخصيص مبالغ للحصول على الثلوج في أثناء الصيف؛ فيتمكن عابرو السبيل من أن يشربوا ماء نقيا ويتبردوا بسهولة.
7
وفي بيروت حمامان، يقع الكبير منهما قرب السراي وهو قديم العهد، ظهر أن الإسماعيليين ضربوا صفحا عنه كما ضربوا صفحا عن المسجد الكبير. إن الحمامات لم تخصص فقط لتطهير المسلمين، بل لها أيضا أهمية كبرى في حقل الطب العربي ... فهناك يتعرض المرء إلى التقاط الأمراض الجلدية، وغالبا ما تكون هذه الأمراض معدية، وأولها وأسرعها عدوى الجرب، الكثير الانتشار في البلاد.
أما من يريد الاستحمام فلا يتكلف إلا انتزاع ثيابه فوق أحد المقاعد الخشبية الكبيرة القائمة حول الغرفة الأولى، ثم يستعيض من ثيابه بمنشفة يشد بها وسطه. الغرف مشتركة بين الجميع، إلا أنه يمكن الاختلاء في إحدى المقاصير القائمة في الزوايا الأربع. وما من شك في أن المستحم يكون مرتاح البال وفي حرز حريز متى علق منشفة على الباب كأنها ستار له.
حاول ساذج ذات يوم أن يختبر صحة الزعم بأنه لا بد من أن يجن من يستحم بعد أن يأكل سمكا ولبنا، ولما وجد أن عقله لا يزال في رأسه رغم قيامه بإنفاذ هذه الشروط الثلاثة، دفعته لذة هذا الاكتشاف التي استولت عليه إلى وسط الشارع، ليعلن ذلك بسرعة؛ فخرج عاريا وهو يصيح: انظروني، لقد استحممت بعد أن أكلت سمكا ولبنا، ومع هذا فإني لم أجن.
إلا أن عريه الكامل كان ينقض زعمه بأنه لا يزال يملك عقله ...
إن لمسيحيي بيروت ثلاث كنائس، وأكثر هذه الكنائس رحابة وجلالا هي كنيسة الروم. لقد شيدت وكنيسة الموارنة في وقت واحد، على عهد أمراء الجبل الذين كانوا - رغم تظاهرهم بالإسلامية والدرزية - أكثر تسامحا من سواهم. إن كنيسة الروم في بيروت هي أجمل كنيسة مسيحية في أنحاء المملكة العثمانية.
انتقلت عدوى الأوروبيين - في الإكثار من تشييد الكنائس - إلى الكبوشيين، حتى إننا لا نجد نسبة بين عدد هؤلاء ووفرة كنائسهم، وهذه الخطة ابتدعها كبوشيو بريطانيا لتكون الصلوات والقداسات سهلة المتناول للمسيحيين الذين كانوا يقطنون - وحدهم آنذاك - بيروت وضواحيها في مستهل القرن السابع عشر. كان آباء الأرض المقدسة يملكون فيها قديما مأوى للفقراء، وكنيسة على اسم المخلص، وقد حازت هذه الكنيسة شهرة واسعة، حتى إن القديس أثاناثيوس جعلها موضوع إحدى مواعظه التبشيرية.
8
وعام 1455 حدثت على يد المتعبدين الذين يخدمون الكنيسة أعجوبة تمت بها شهرة قداسة هذا المأوى.
إن مؤلف كتاب «سوريا المقدسة» يجعل من مدينة بيروت قدسا صغيرة بسبب الصليب العجيب الذي كانت تملكه. إنه صنيع يدي نيكوميد، وقد اتصل بالإرث - كما يقول المؤلف - إلى جاماليل، ثم أرسل إلى بيروت قبل سقوط القدس بسنتين بين يدي تيت وفاسباسيان. ويقولون إنه لا يزال موجودا اليوم في مكان ما تحت الأرض في كنيسة المخلص التي أصبحت اليوم مسجدا.
9
ويضيف المؤلف قائلا: إن القديس أثاناثيوس اتخذ من هذا الصليب موضوع موعظة جميلة ألقاها في مجمع نيقية.
10
أوهل يعقل أن يكون المؤلفون قد خلطوا بين هاتين الأعجوبتين؟!
إن بيروت تتقدم باطراد وتوشك أن تعد بعد الإسكندرية وأزمير؛ لقد أنشئت فيها قنصليات لجميع الدول تقريبا، ومؤسسات تجارية، وفنادق، ومحلات مجهزة على أكمل وجه، وأخيرا ملاه فخمة لا مثيل لها إلا في الأساكل الخطيرة.
حاولت أن أقوم بمشروع تأسيس خان إفرنسي يضم بين جنباته دار القنصلية، ومحلات التجارة، والمكاتب، ومخازن تجارنا حتى معبد بلادنا أيضا. وحكومة الملك التي كانت تشجع دائما مؤسساتنا في تركيا أرصدت لي - بعد تأييدها هذا المشروع - مبلغا كافيا للشروع فيه، إلا أن السلطة المصرية التي كانت تستخدم جانبا من هذا الخان لاستيداع الملح - وكان يمكنها أن تودعه محلا آخر - قد أصرت على رفضها منحنا هذا المركز رغم المفاوضات المتعددة التي قمت بها حتى لدى نائب الملك.
ولقد اتخذت من هذا الرفض مقياسا لأقدر العواطف التي يكنها لنا المصريون، وإني لم أخطئ قط في الأحكام المختلفة التي أصدرتها على أصدقائنا المزعومين على ضفاف النيل.
هوامش
الفصل الرابع
ضواحي بيروت
المدافن هي أول ما يقع عليه النظر عند الخروج من باب السراي. ففي جميع المدن التركية لا يفصل بين مقر الأحياء ومقر الأموات سوى حائط السور الكثيف وعرض الطرقات.
إن سبب هذا القرب الذي لا يجهل العرب مساوئه لأنهم ملمون بعلم الفيزياء والصحة؛ عائد - بلا ريب - إلى الاعتقاد الذي يوجب الإسراع بدفن المؤمن؛ لأن ملاك الموت ينتظره في اللحد لاستماع استجوابه الأول.
وهنا يجب أن نذكر بالمثل السائر الذي وضعه موليير شعرا:
من يدفن الميت باكرا فكأنه قتله؛ فرب من ظن ميتا لا يكون موته إلا ظاهرا.
عرفت في أماكن شتى من سوريا أشخاصا يطلق عليهم اسم ابن الميت أو الميتة؛ لأن أباهم أو أمهم قد انتشلا حيين من المقبرة.
تزار القبور عندهم كثيرا، والنساء أكثر زيارة لها من الرجال، كما أن في جعلها حول المدن، وعلى مرأى من الجمهور، تسهيلا لمهمة الزائرين، ومحافظة على الحشمة التي قد تهتك في الأماكن المنزوية.
لم يكن منظر المدافن يضعف شجاعة الأحياء عند الرومان، كانوا يهدفون من تشييدها على الطريق العام إلى خلق المنافسة والطموح؛ إذ تدعو رؤيتها الشباب إلى التشبه بالرجال العظام الذين خلدت ذكراهم هذه المقابر، فيقتفون آثارهم.
1
ويقوم بين مدافن بيروت قبر لإحدى الحاكمات في عهد السلطان محمود، ماتت منذ حوالي ثلاثين سنة، على أثر سقوطها من تخت روام
2
لدى رجوعها من الحج إلى مكة.
وإلى أول جمعية صحية تألفت في بيروت، يعود الفضل في منع دفن المسيحيين في دهاليز كنائس المدينة.
في الساحة الواقعة عن يمين باب السراي كان يقوم - فيما مضى - بستان فخر الدين. وأظن أن كاتبا قديما سبقني إلى وصفه. إن كل منتوجات أوروبا وآسيا كانت تتكردس في هذا المكان.
ومن جملة الزخارف التي ابتدعها الذوق، كان يرى في ذلك المكان عدد كبير من التماثيل. إنه لشيء غريب حقا! فهذا الأمير كان درزيا أو مسلما، وكلتا الديانتين تقضي تعاليمهما الدينية بالابتعاد عن هذا الجمال المثالي.
وبعد، فمن يدري؛ فقد تكون تلك التماثيل غير كاملة؛ أي نصفية، وقد لا يكون هنالك منها إلا التماثيل النصفية. وهذا ما يغير عند ذاك وجهة النظر.
وإذ كنت رأيت في الجزائر بعض المسلمين الذين لا تردعهم وساوسهم من اقتناء علب تبغ نقشت عليها تصاوير جميلة جدا، بحثت عن الأسباب التي تحرم عند البعض ما يحلله البعض الآخر، فأنبأني أحد الأفندية أن التماثيل الكاملة التي تمثل الأشخاص كما لو كانت في حالتها الطبيعية هي وحدها الممنوعة؛ ومن ثم فلا حرج عليهم - عند الضرورة - اقتناء تصاوير رجال ونساء شرط أن تكون نصفية. وهذه الصور إذا ما أوقفت عند هذا الحد لا تمثل أجسادا يمكنها الحياة، وأما التماثيل الكاملة فاقتناؤها جسارة تتنافى والحشمة، وهي مشجوبة على الغالب.
وهكذا فإن فخر الدين الدرزي - المتظاهر بالإسلام - قد استطاع أن يوفق بين أمياله وأوهام بلاده التي لم يشأ أن يصطدم بها.
ويقال إن هذا الأمير أفرط في البذخ؛ فكانت له جنينة تجمع غرائب الحيوان، وإن الأقبية المعقودة، الموازية للقصر، التي لم تمس واجهتها حتى عام 1838 كانت تستخدم لإيوائها. إلا أنه يرجح أيضا أنها كانت إصطبلا.
اقتضى - بسبب انحدار الأرض وميلها - أن تكنون جنائن الأمير متعددة الأشكال؛ كان يحدها من الجهة الجنوبية الشرقية برج الكشاف وسلالمه الجميلة التي شوهدت بقاياها عام 1808، والتي تدل على أن الأمير غالبا ما كان يزور البرج. أما المنظر من أعالي هذا البرج فهو بديع جدا.
إن سهول بيروت مغروسة كلها أشجار توت أبيض. وهذه هي الشجرة الوحيدة التي تنمو في التربة الرملية الجافة. وهذا ما دعا إلى الاعتناء بها بصورة خاصة؛ إذ إن أغصانها تنمو خلال سنة واحدة.
ولهذه الغاية يقطعون جميع أغصانها في شهر أيار، حتى إذا ما نبتت أغصانها مجددا في إبان الصيف انتزعت في الخريف أوراقها وكانت علفا للمواشي، تم تتفتق براعمها في مطلع الربيع ويبلغ نموها في أيار أشده، فتكون طعاما لدود القز الذي ترتكز الصناعة الأساسية عند البيروتيين على ما ينتجه من الحرير.
بنيت - بادئ ذي بدء - بضعة أكواخ في ضواحي المدينة لتربية دود الحرير. وعندما ابتدأ ساكنوها يمنون أنفسهم بقليل من الاطمئنان دفعتهم ثقتهم بالسلام إلى تشييد بنايات أكثر رحابة، وقد أصبحت البيوت التي تشاهد اليوم هناك أجمل بيوت الضاحية، أما تلك الأخصاص فلا يرجع عهدها إلى أكثر من ثلاثين سنة.
ثم أخذ المسلمون ينافسون المسيحيين حتى لم يعد يرى سوى القليلين من السكان الذين لم يشتروا ولو بضعة أمتار من الأرض لتشييد برج «كذا» عليها.
يجب أن نبتلى بحرارة المدينة لنقدر الطراوة القليلة التي ينشدها البيروتيون في هذه البساتين، هذه البرودة التي تهب عليها تارة من البحر، وحينا من جبال لبنان فتدفعها جدران محمومة ملتهبة. إن هذه الجدران مبنية بحجارة رملية، وهي بطبيعتها تنقل بوقت واحد الحرارة والرطوبة؛ وهذا ما يجعل بيوت المدينة غير ملائمة في الفصلين القاسيين. إنها أتاتين حقيقية في الصيف.
قلما نجد في بساتين بيروت أشجارا مثمرة. لم يحل جفاف التربة وحده دون ذلك، بل هنالك سبب أهم وهو تقسيم الأرض فيما بينهم. إنهم يضيقون بهذه القسمة على بيوتهم؛ فلا يكون لكل شخص طريق تؤدي به إلى منزله، ومن لا يملك طريقا كيف يملك جنينة؟!
وأشجار ضواحي بيروت قليلة الأنواع، نجد منها شجر الأزدرخت الذي يوافقه مناخ بيروت كل الموافقة، وشجر الخروب والسنديان والزعرور والبطم، أما الصبار فموجود بكثرة، والشعب بكامله يقتات بثماره طوال ثلاثة أشهر كاملة.
وفي الناحية الغربية بساتين كبيرة من التين لا يقل نوعها جودة عن تين بروفانس وكالابره الممتاز. وجميع هذه الأشجار يؤثر فيها جفاف التربة، فلا ترتفع إلى أكثر من ثلاثة أمتار أو أربعة.
إن الجميزة التي تهزأ بحرارة الشمس تنبت أيضا في حقول بيروت، ونجد منها أشجارا ضخمة الجذع غير متطاولة الفروع؛ لأن الأغصان التي نراها لا يزيد عمرها على خمس عشرة سنة.
عرفت البستان الذي تزينه شجرة الجميزة الجميلة، ثم تأثرت جدا عندما رأيتها تهوي بناء على طلب محمد علي الذي شاء عبد الله باشا أن يرضيه آنذاك. إنه كان بحاجة إلى كمية كثيرة من هذا الخشب ليصنع آلات جديدة يخبط بها الأرز؛ فقدم له باشا عكا جميع ما كان في البلاد من هذه الأشجار، فكان يوم قطعها مأتما في ضواحي بيروت؛ فالنظر الذي تعود رؤية هذه القباب الجميلة الخضراء لم يرتح إلا بصعوبة إلى ذلك الفراغ الذي حدث عندما فقدت.
وهذه الجميزة الواجب غرسها لا قطعها لم تكن ضرورية لتجميل الضاحية فحسب، بل كانت تتفيأ الجماهير في ظلال أغصانها الوارقة، بعد أن يدفعها قيظ المدينة، فتلتمس عند المساء هواء البرية العليل.
كثيرة هي الأشجار التي استحالت مقاهي وفنادق في الهواء الطلق. إن السائحين ذوي الفاقة، أو أصدقاء الطبيعة الجميلة، كانوا يتألبون عليها زرافات زرافات، ويجدون في جلوسهم تحت قبتها الخضراء ملجأ يقيهم حرارة شمس النهار وندى الليل.
كم كان جميلا لو ظلت هذه الأشجار على ما كانت عليه قديما؛ أي مكرسة للآلهة! وهنالك في الشرق - حيث تنتشر الأوهام عند الجميع
3 - من يدعو إلى احترام هذه الأشجار لأنها ضرورية لتنقية الهواء.
إن الجميزة الوحيدة التي صمدت أمام فأس عبد الله باشا الهدام هي الجميزة التي نجدها في باب السماطية إلى الغرب، والفضل في بقائها وسلامتها يرجع إلى واقعة دلت على أنه بقليل من الحزم يمكن أن يبلغ صوتنا مسامع الظلم.
وجدوا مسلما - حين هموا بالقطع - يمسك بجميزته وهو يقبلها، وعندما أبلغوه وجوب انسحابه وإفساح الطريق للذين يقومون بأعمال القطع، أجاب: «إنكم لا تستطيعون أن تقطعوها قبل أن تقطعوا رقبتي؛ لقد كلفتني جميع ثروتي!»
إن هنالك بعض المسلمين الأتقياء الذين يهتمون بترك مآثر خلفهم تقدس ذكراهم وتستمطر لهم نعم العزة الإلهية؛ فالشرقيون اعتادوا أن يسألوا الله الرحمة لفاعل الخير الذي يقدرونه حق قدره.
وغارس هذه الجميزة كان من عدد أولئك الأتقياء؛ فقد رأى هذا الرجل الصالح أن الشيء النادر - لدى الخروج من هذه المدينة - هو الظل، فغرس شجرة توفر الكثير منه لعابري السبيل فيترحمون عليه.
غير أنه بعد انقضاء قليل من الوقت صحت عزيمته على القيام بفرض الحج إلى مكة، فكلف أحد أصدقائه - بعد أن استحلفه - الاعتناء بالشجرة.
وعندما عادت القافلة ولم يرجع معها صاحب الجميزة، بردت همة متعهد هذه الشجرة، وكاد أن يقف مواصلة نفقاته التي ظن أنه لا يستردها، إلا أن شخصا قادما من الحج حمل إليه توصيات جديدة من صاحب الجميزة ، وأكد له عودته بعد قليل من الزمن؛ لقد اضطر أن يقوم برحلة إلى خليج فارس، وسيعود قريبا عن طريق بغداد والشام.
ثم طالت الغيبة أكثر من المنتظر، ولكن الرجل رجع أخيرا، ودنت ساعة الحساب ودفع المصارفات فتخاصما وانتهيا إلى التقاضي.
كان ما يطلبه الصديق من صاحب الجميزة مبلغا لا يستهان به؛ لأن تقلبات الطبيعة والجفاف جعلا الماء عزيزا، والشجرة كانت تسقى منذ زمن طويل.
وأخيرا قضت المحكمة على الحاج الجديد،
4
فاضطر إلى بيع عقار صغير كان لا يزال يملكه، وسدد بثمنه الدين الذي أورثته إياه تلك الشجرة.
أما الضابط الموفد من قبل عبد الله باشا، فقد أدهشته هذه الحكاية، فعفا عن الشجرة التي خالها مرصودة؛ فسلمت، ولم يحاول أحد اقتلاعها حتى بعد موت حاميها المدافع عنها.
وتجاه هذه الجميزة يجري ينبوع قام بدفع نفقاته مسلم آخر. ذلك بأن صاحبها الأول وهب هذه القطعة للفقراء عند موته، ناذرا أن تحول إلى أرض تسقى، وإنفاذا لوصية هذا المحب للإنسانية اشتروا سهما من مياه المدينة وأجروه ينبوعا في ذلك المحل المطروق الذي لم يكن فيه سوى آبار ماؤها أجاج.
أما في تركيا، فالخاصة وحدهم يقومون اليوم بقليل من عمل الإحسان.
وبين المساكن القائمة في ضواحي بيروت مسكن موظفي جمعية التوراة اللندنية الذين ينشرون كتب التوراة المنقولة إلى اللغات الشرقية، إما هبة، أو وبيعا. وهؤلاء السادة يؤلفون فرعا من مؤسسة مالطة التي تمدهم بالكتب والمال. إنهم لا يكتفون بالتبشير بكلام الله ليلتف حولهم المشايعون والأنصار، بل يحسنون استغلال ضعف البشر؛ يعرفون أن التوفيق يحالفهم أكثر إذا ما التجئوا إلى دفع المال؛ فيبذلونه في سبيل نشر دعوتهم. إنهم يشركون نساءهم في التبشير والوعظ، فيوحي جمالهن إلى الموعوظين محبة الأرض أكثر من محبة السماء ...
ولو كان أصحاب التوراة يبشرون بدعوتهم بين المسلمين والنصيرية والدروز؛ لكنا شكرنا لهم هذه النخوة بإرشاد غير المسيحيين وهديهم، إلا أنهم لا يهتمون إلا بالمسيحيين، حتى إذا ما وفقوا إلى انتزاع واحد منهم، خلقوا البلبلة في العائلة والشقاق والفتن الكبيرة.
اقترح أحد مبشري التوراة على مسلم تربطه به علاقات وثيقة أن يعتنق الدين المسيحي، ولما كان هذا الأخير فطنا، أجابه: «نعم، إني أوافق على ذلك عندما تثبتون لي أي المذاهب المسيحية: من الأرمنية، والروم، والسريانية، والكلدانية، والقبطية، والإنكليكانية، واللوترية، والكلفينية؛ هو الأفضل.»
إن «بوسيه» لا يشعر بحرج موقفه في إجابة هذا المسلم على سؤاله هذا، ولكن مبشري التوراة في سوريا ليسوا من الملافنة العظام.
هوامش
الفصل الخامس
ضواحي بيروت أيضا - غابة الصنوبر - مار جرجس - الكرنتينا - هضبة مار متر. ***
في الجهة الغربية فسحة كبيرة من الرمال يتقاذفها البحر من مصر
1
ليلفظها على ضفاف اليابسة التي يسمونها رأس بيروت.
كانت هذه البقعة مكسوة قديما بالأغراس والأبنية، وربما بالمدافن أيضا. وهنالك سببان يحملانني على هذا الاعتقاد؛ الأول: أن الأقدمين كانوا يدفنون - دائما - موتاهم على المرتفعات العالية لجهة البحر، والثاني: وفرة بقايا الخزفيات والزجاج وقطع المعادن والمسكوكات التي كانت تظهر على أثر هبوب العاصفة. فالماء والهواء كانا يكنسان هذا المكان ويتركان في العراء هذه البقايا الأثرية.
إن الصخور التي لم تغطها الرمال محفورة - أينما كانت - بشكل دياميس ونواويس. وقد نجد كثيرا من النواويس المصنوعة من التراب الفخاري أو الرصاص.
طمست عدة أماكن خلال أربعة عشر عاما قضيتها في بيروت. ويمكننا القول - منذ الآن - إذا ما حكمنا بالنظر إلى تدافع الرمال السنوي: إنه في أقل من قرنين ستصبح جهة رأس بيروت المعرضة لهذه الحملات الرملية مطمورة كلها.
2
ناهيك بأن الشاطئ معرض بكليته لمثل هذا الهجوم العدواني. بيد أن النتائج التي يحدثها قليلا ما تؤثر فيه بسبب نتوء رأس بيروت الذي يكسر شوكة حدته.
وإذا نظرنا بعين التأمل إلى طبيعة الأرض التي تحيط ببيروت، فقد يخامرنا الريب - ولو هنيهة - بأن هذه المدينة كانت قائمة - في زمن قديم جدا - على جزيرة، ومنفصلة عن لبنان؛ لأن تربة السهل المحدق بها مؤلفة من الرمل.
أما إذا توجهنا صوب الجنوب فنجد بعض أشجار من الصنوبر تسترعي الانتباه نظرا لعلوها وضخامتها، ونرى على مقربة منها بقعا من الأرض مكسوة بهذه الأشجار التي يدل اختلافها في الغرس والعتق على عصور مختلفة.
إن أشجار الصنوبر الضخمة التي تلقى بدون رحمة في الأتاتين لعمل الكلس (والبيروتيون يظنون أنها خلقت لذلك)، فقد أصبحت على وشك الاضمحلال، وهنا مقام القول الفصل بقضية أثارها سائحان حول أصل هذه الأشجار وعمرها.
قال السيد بوجولا: طفت في أثناء ثلاثة أرباع الساعة غابة الصنوبر التي صنع منها رفقاء البدو سلالمهم وحصونهم المتحركة، ومعدات الحرب الأخرى التي كانوا يستخدمونها في حصار المدينة.
3
ولكن لماذا يقول فولني: إن الأمير فخر الدين هو الذي غرس هذه البقعة صنوبرا ابتغاء تنقية «الهواء ما دام التاريخ يقول إن فأس المجاهدين الصليبيين القدماء تعرفت إلى صنوبر بيروت»؟
إن الجواب على ذلك - حسبما أرى - سهل جدا؛ لأنه يستنتج من السؤال نفسه؛ فالأمير فخر الدين اضطر إلى إعادة تشجير الغابة التي عزوا إليها تنقية هواء بيروت لأن المحاربين الصلبيين كانوا قد أبادوا قسما كبيرا منها.
وهتف السيد بوجولا وهو يتحدث عن الأشجار الأخرى في ساعة وحي حقيقية: «آه! هل باستطاعة المدينة - التي يهددون بها الشرق - أن تنتقي غير الأرز المسن هدفا لفتوحاتها؟ أيمكن العبقرية الصناعية المتعسفة، الهدامة، الشاعرية، أن لا تجتاح هذه الأشجار النفيسة لتباع أخشابها الثمينة في أسواق الغرب؟»
4
وإذا ما عدنا من الصنوبر إلى مصب النهر الذي تتألف منه تخوم حكومة بيروت، نجد جامعا صغيرا هو جامع الخضر الذي يزعم المسيحيون أنه بني في المكان الذي صرع فيه مار جرجس التنين.
5
وروى المؤرخون الأقدمون أن قد قامت هنالك - في المحل نفسه - كنيسة كانوا يشاهدون أعمدتها المنحنية قبل أن واراها الثرى. وإذا تجاوزنا شاطئ البحر من الجهة الشمالية وابتعدنا قرابة نصف ميل عن بيروت، نجد مغارة تتسع لإيواء أكثر من أربعماية شخص. وهذه المغارة جعلها التنين مأواه. وإذا تقدمنا نصف ميل آخر إلى الأمام، نجد كنيسة مار جرجس التي يجلها المسلمون والمسيحيون إجلالا كبيرا. إن كل تلك الآثار قد اندثرت بكاملها؛ فالكنيسة دكت أساساتها، والمغارة سد بابها بسبب بعض الانهيارات.
ولن أختم وصفي لضواحي بيروت دون أن أذكر المحجر الصحي «الكرنتينا» الذي لا يبعد إلا قليلا عن جامع الخضر؛ فهذا المحجر قد قام بإنشائه القناصل - عام 1834 - بما تيسر لهم؛ فاستطاع أن يقي سوريا طوال خمسة عشر شهرا من الطاعون الذي كان متفشيا في القسطنطينية، وأزمير، وقبرص، ومصر؛ هذه البلدان التي كانت تفد منها دائما سفن مشحونة بضائع وركابا.
وإبراهيم باشا هو الذي كلفني إنشاء النظام الصحي في سوريا، على أن يساعدني فيه قناصل بيروت الذين شاءوا أن يظهروا غيرتهم في عمل يهمنا جميعا. إلا أن هذا العمل لم يكن مجديا بوجه خاص إلا للذين ألفوه، أو الذين حكم عليهم أن لا ينزووا في نقطة معينة. وفيما عدا ذلك فالقيام بمثل هذا التدبير لم يكن عملا يسيرا.
كان علينا أن نذلل جميع العقبات التي خلفتها قضية المحاجر الصحية في بلاد يناهضها فيها الرأي العام. والقائد العام الذي كان يهمه أمر المحافظة على سلامة جيشه منحنا سلطة مطلقة، غير أن أعمال النظارة المصرية كانت صعبة جدا، حتى إنه كان يتوجب علينا - لأجل الحصول على مساعدتها - أن نمر في شبكة من التقاليد أهم نتائجها إضاعة الوقت.
والقناصل - بفضل جهودهم الجبارة التي لم تعرف الملل - توصلوا إلى حماية البلاد من الأوبئة رغم تسرب المصابين إليها بلاد انقطاع.
اضطر القناصل أن يقوموا بدفع تلك النفقات من جيبهم الخاص؛ فسرعة الحوادث والإصابات لم تكن تمكننا من انتظار وصول المال الذي طلبناه من السلطة.
كان علينا أن نشيد أكواخا كبيرة لإيواء القادمين وإيداع البضائع. ولما كانت البضائع ترد في أوقات تكاد تكون متصلة، كنا مجبرين على إيجاد أمكنة لها تتفق وأصنافها. وخلال المدة التي زاولت فيها الجمعية الصحية أعمالها، لم يستطع الطاعون أن يجتاز التخوم التي أقمناها بوجهه؛ فلم يمت غير مائة وستة وعشرين مصابا في الكرنتينا، ولم تضطر السلطة إلى دفع أقل مبلغ للإدارة الصحية؛ لأن الجمعية وفرت للصندوق آلاف القروش ما عدا قيمة البنايات التي تجاوزت الأربعين ألف قرش. أما هذه الجمعية فكانت مؤلفة من قناصل فرنسا والنمسا والدانمارك وإسبانيا واليونان.
إني لاحظت آنذاك - وفي هذه المناسبة على الأخص - أن الإجراءات البسيطة التي تفهم وتدار بحكمة كانت كافية - وحدها - للوقاية من وباء الطاعون رغم طبيعته المعدية.
وفي مكان غير بعيد من الكرنتينا، تقوم هضبة مار متر التي تغنى بها لامرتين ومجدها. إنها جميلة حقا بمناظرها الحلوة، والموقع الفخم الذي يتمتع به الناظر. وهاكم ما يقوله فيها:
كثيرا ما تخيلت في طفولتي هذه الجنة الأرضية، لا بل هذه العدن التي تقوم في مخيلة جميع المخلوقات، إما بصورة حلم جميل، وإما كأنها أسطورة تحكى عن زمن وإقامة أكثر كمالا وجمالا. لقد تتبعت «ملتون» في أوصافه الجميلة التي وصف بها موطن أجدادنا الأولين المسحور. غير أن الطبيعة هنا - كما هي في جميع الأشياء - أسمى من الخيال. إن الله لم يمن على المرء أن يحلم بكل ما خلق من جمال. لقد حلمت بعدن، لا بل أقول إني قد رأيتها.
6
إنه لمن المؤلم أن يشرف مثل هذا المكان على بلاد ينشر فيها الفساد كل يوم فواجعه.
إن بساتين بيروت مليئة بالحانات وأشباه الفنادق التي تجري فيها مساومات رخيصة يندى لها وجه الأخلاق.
هوامش
الفصل السادس
حاصلات البلاد - الدخل العام - أسعار الحبوب. ***
إن رحالة لا يكتب لفئة خاصة، أو طبقة معينة من القراء، يجب عليه أن يتناول جميع النقاط التي تقع عليها عيناه. ولكي أرضي هواة تقويم إمكانيات البلاد، ها إنني أقدم بيانا صغيرا ومقتضبا جدا عن حاصلات بيروت ودخلها؛ نظرا لضئولتها وطريقة حكم هذه البلاد التي لا تشجع الإنتاج، بل تعرض القسم الأكبر للتهريب، وتجعله في متناول السلطات ومأموري الخزينة؛ فيستطيع الحاكم أن يجني منه نفعا كبيرا.
وإني أقول دائما إلى الذين أحسنوا الظن بسكان سوريا، أو الذين يحسبون أن المدنية قد وصلت إليهم: إن هذا العلم - علم الإحصاء - غريب تماما عن هؤلاء. إنهم لم يحاولوا الإحصاء مطلقا، فالأحوال الشخصية غريبة عنهم، والدولة لا تعرف عن واردات البلاد سوى أرقام غير صحيحة؛ لأنها تؤجر كلها.
إن الشعب التركي هو أكثر الشعوب لامبالاة، وهو يرى أن جميع المعلومات التي وصلنا إليها تافهة. وعلينا أن نعلمه نحن بدورنا أن الطلاسم والعلوم والتاريخ هي بالحقيقة محاولة شرب البحر،
1
وسأعود في فصل مقبل إلى الأخلاق التركية فأتكلم عليها.
إن محصول بيروت المهم هو الحرير، ويمكننا الجزم بأنه يبلغ في السنة العادية الأربعماية والخمسين قنطارا؛ أي 101250 كيلوغراما. إن هذه الكمية قد عرف وزنها بصورة رسمية؛ لأنها تصدر بعد أن تحول إلى ألف وثمانماية بالة.
800 بالة إلى مصر عن طريق البر.
120 بالة إلى مصر عن طريق البحر.
130 بالة إلى أفريقيا الشمالية.
350 بالة إلى مرسيليا.
100 بالة إلى دمشق.
100 بالة إلى حلب.
200 بالة للاستهلاك.
وهاكم الآن - فيما عدا ذلك - بيانا مقتضبا عن حرير سوريا:
إنتاج
استهلاك
بيروت
450 قنطارا
دمشق
500 قنطار
دير القمر
200 قنطار
حلب
320 قنطارا
الزوق
200 قنطار
طرابلس
50 قنطارا
طرابلس
150 قنطارا
دير القمر
80 قنطارا
صيدا
100 قنطار
الزوق
30 قنطارا
اللاذقية
30 قنطارا
بيروت والجبل
200 قنطار
أنطاكية وسائر الشمال
500 قنطار
صيدا
100 قنطار
الداخلية حما وحمص
100 قنطار
حما وحمص وسواها
20 قنطارا
دمشق وملحقاتها والجنوب
70 قنطارا
الصادرات
500
المجموع
1800 قنطار
المجموع
1800 قنطار
فالقناطير الخمسماية المصدرة إلى الخارج، والمحولة إلى ألفي بالة تصبح عنصرا هاما للتصدير، إلا أنه يجب الاعتقاد هنا بأن الكميات التي وزعت في البلدان المتقدم ذكرها لا تستخدم جميعها في مصانعها؛ فقد تبين من التدهور الذي صارت إليه أن القسم الأكبر منها كان يصدر إلى أسواق أوروبا.
وقد تأكدت أن صناعة دمشق قصرت استهلاكها على مائتين وخمسين قنطارا، وصناعة حلب أنقصت الكمية التي كانت تستهلكها حتى الثلثين، فأكثر الأقمشة كان ينسج من القطن الخالص.
إن منتوجات بيروت ودخلها ارتفعت على التوالي إلى مبلغ 800000 فرنك.
وهاكم بيانا عن أربع سنوات:
بيان بالمكوس والضرائب الملتزمة (المضمنة) في بيروت:
1830
1833
1835
1842
أصباغ
5000
13500
20500
دباغة ومسالخ
9000
36500
100000
70000
كيالة
20000
38000
50000
10500
8850
2550
ساحة السمك
9500
34700
33000
45000
5000
حمامات
10000
14600
16000
56000
دخولية
7000
20500
27500
رسم الخضار
0000
2100
3250
العقارات والمسقفات والبساتين
9000
31450
32500
58448
بن (المبيعات العامة)
44500
41700
61700
68000
حمالة
17250
فحم
3500
5250
7000
4050
الحياكة
5000
6600
6300
خزفيات
1500
2050
2050
650
خان الأمير يوسف
2000
1450
1450
9600
الوقود
12300
3000
650
مسالخ
14500
29500
تبغ وتنباك
10000
19000
20000
أتونات
7500
8800
حانات
16000
10500
أرض الصيد
250
350
300
المكس
45000
535500
760000
3185000
حرير
120000
250000
325000
ملح
17500
65000
120000
183333
قفف
3000
الجعالة
15000
12000
20000
14317
الفردة المصرية
000000
170000
111390
المسيحيون
180000
المسلمون
120000
مال أميري
250000
92000
92000
رسوم على الحبوب
المجموع
608500
1588720
1882000
3850888
إن حاصلات بيروت يبلغ حدها الأعلى حتى 11908800 قرش، وهي تنحصر في:
الحرير 450 قنطارا
9000000 قرش
الزيت 2000 قنطار
1600000 قرش
الخمور 1000 قنطار
300000 قرش
التبغ 200 قنطار
300000 قرش
الفحم الحجري (الذي لم يعد يستخرج اليوم)
الثمار المجففة: تين، عنب، جوز ... إلخ
300000 قرش
الحديد الذي يستعمل في لبنان لنعال الخيل (2200 تقريبا)
8800 قرش
خشب البناء
200000 قرش
القمح وسائر الحبوب
200000 قرش
أسعار الحاجيات المختلفة في بيروت:
1834
1842
سانتيم
قرش *
الخبز، الأقة †
30-40
0
لحم البقر
20
2
لحم الغنم
7
عشر بيضات
30
0
فروج
10
2
دجاجة
5
سمك طازج
4
سمك مقدد
4
حليب
24
0
زبدة
7
شحم الخنزير
6
زيت
20
3
خمر
1
فريك (الكيلو)
40
0
الشعير (الكيلو)
20
0
ملح (الكيلو)
4
0
تبغ للتدخين
8
سعوط
34
شموع
7
صابون
20
4
شمع عسلي
18
حديد
2
نحاس مصنوع
36
فحم الخشب
12-40
سكر
7
بن
20
9
نيل
80
0
قرمز
140
بهار
20
6
كتان
8
صوف غير منظف
5
صوف مغسول
7
حرير
125
أرز
20
2
خنزير واحد (خنوص)
100
حصان عادي (مسمار خيل)
500
زوج بقر
800
بقرة
300
عنزة
25
خروف
100
جلد بقرة
80
جلد خروف
20
3
جلد عنزة
20
4
جلد قرقور
2
قطن صوفي
7 *
كان القرش يساوي عام 1834 خمسة وعشرين سنتيما، ثم تدهور عام 1842 إلى عشرين سنتيما. †
إن الأقة توازي كيلوغراما واحدا و24 غراما.
هوامش
الفصل السابع
أخلاق السكان وعاداتهم
تحدث قبلي كثيرون عن مدنية الأتراك، فإذا لم يتفق ما سأدونه وما كتبوه عنها، فذلك لأننا نثق ثقة عمياء بصحة أقوال الكتاب المغرضين،
1
أو الذين لم يتمكنوا من الحكم على الأتراك كما هم لأنهم لم يخالطوهم، بل مروا في ديارهم مرا.
إني أعرف سوريا منذ سنة 1803، فأقمت فيها عدة مرات، وأطول إقامة كانت مدتها عشر سنوات؛ وبناء على ذلك يمكنني التأكيد بأن سكانها لا يزالون في مختلف شئونهم وأحوالهم على ما كانوا عليه قديما، لم يغيروا شيئا من عاداتهم وتصرفاتهم وأخلاقهم. وكيف كان يمكنهم أن يتغيروا؟
2
إنهم لا يستطيعون - كما يريد «لامارتين» لمواطنينا في فرنسا - أن يفهموا معنى الحياة ويتحركوا للأعمال التي يأتي بها العلم كل يوم؛ فالثقافة صعب تعميمها بينهم وجعلها في متناول جميع الناس؛ فالبلدان هنا محرومة من الجرائد، لا يذاع ولا ينشر فيها شيء. لا تجد شخصا واحدا يتعاطى الكتابة ولو على سبيل التسلية، والقصاصون الذين يتولون كل مساء - خلال ساعة - تسلية عاطلي المقاهي يستقون معلوماتهم القصصية من مخطوطات بالية مبتذلة.
فإذا كان لا بد للشرقي من أن يفكر، فإنما يكون تفكيره في مشاغله البيتية أو التجارية، ولا يشغله شيء آخر في هذا العالم غير هذه. إن تسليمه لمشيئة القضاء والقدر يعيده بسرعة - في كل الأحوال - إلى هدوئه المعتاد الذي هو مزيته الغالبة على طبعه.
أعرف تركيا كان يكن لي كثيرا من الثقة، ويستشيرني في الأعمال التي تهمه، وفي ذات يوم اضطرته مصالحه التجارية إلى إيفاد ابنه الوحيد إلى قبرص، فسألني أن أحمله وصاة إلى أحد أصدقائي فيها ليعنى بأمره، وما مضى يوم على سفر ابنه حتى جاءني مستطلعا أنباء هذا الولد الذي كان متزوجا وأبا لأولاد. ولسوء طالعه كان هواء لارناكا الموبوء شؤما عليه؛ فجاءنا - ويا للأسف - خبر وفاته. ارتبكت جدا ولم أدر كيف أواجه صديقي بهذا النبأ الأليم خوفا من تفجعه العظيم. وأخيرا، نزلت على اقتراح أحد تراجمتي، فتوجه إليه وأعرب له عن مشاركتي إياه ألم هذا المصاب، ودعاه إلى احتماله بجلد. إلا أنه عندما رأى موفدي تقدم منه وقال: لقد آلم صديقي القنصل هذا الحادث المفجع الذي حل بي، أوليس كذلك؟ هذا مؤكد عندي. إنا لله وإنا إليه راجعون. أبلغوه تمنياتي القلبية، لا ابتلاه الله بمثل هذا المكروه. قولوا له أن يتعزى لمصيبتي.
وهكذا استغنى الترجمان عما أعد من الجمل الطنانة، واضطر إلى الانسحاب دون أن ينبس ببنت شفة؛ لأن موقف هذا الشخص الهادئ المستسلم قد ضعضعه تماما.
قلت سابقا: إنه لم يكن عند المسلمين مجتمعات حقيقية؛ فالأشخاص الأشد حبا للاجتماعات والمجالس ينسحبون إلى منازلهم عند غروب الشمس ليتعشوا فيها، ثم لا يبرحونها. قلما يسمحون لأنفسهم بالقيام بنزهة صغيرة على الأقدام، وإن فعلوا فتلك النزهة لا تتعدى المدافن أو إحدى الروابي غير البعيدة عن المدينة. إنهم كانوا يخشون - إذا ابتعدوا - أن يقلقوا بال الحكومة لأن السلطة كانت حذرة جدا.
3
أما خروجهم إلى المتنزهات راكبين خيولهم فهو نادر؛ فالأتراك يعدوننا مجانين حين يرون ما نبديه من الحركة النشيطة الفرهة عندما نفتش عن أسباب اللهو؛ فهم لا يدركون أننا ننشد المسرة في المشقة التي نعانيها. أما هم فيؤثرون المسرات التي هيأتها لهم متاعب غيرهم.
4
أما المتعبدون منهم فيفضلون الذهاب إلى الجامع في مواقيت صلوات الليل بدلا من أن يصلوا في منازلهم، وقد تحظر عليهم الصلاة بالمنزل في بعض الحالات؛ لأن الوضوء الجزئي الذي تؤمنه الدار غير كاف، فيذهبون إلى الجامع فور خروجهم من الحمام. ومع ذلك فهناك بعض أشخاص يرون أن من أسباب الراحة أن يستطيعوا القيام بالتطهر الكامل في دورهم.
أما المسيحيون، فباقتباسهم بعض العادات الأوروبية قد تذوقوا لذة الاجتماعات الليلية، وقد سهلت لهم سبلها وحشة الشوارع؛ فبعد هبوط الليل بساعتين تمتنع ملاحظة ذهابهم وإيابهم، ناهيك بأن السلطة لم تكن ترتاب فيهم لتبث عليهم العيون والأرصاد.
في هذه السهرات الشرقية يصطخب بحث قضايا الساعة، ولكن ضمن إطار محدود وضيق في النظر تبعا لثقافة المجتمعين السطحية؛ فالقضايا السياسية التي تشغل بالهم هي قضايا تركيا، وليتك تدري كيف يحكمون عليها!
وعلى كل ما في آرائهم من ضعف، فإننا نراها دائما أكثر صوابا من آراء سواهم.
فالسلطان هو دائما في نظر الأتراك موزع العروش. وإذا لم يكن للأميركيين ملك (الولايات المتحدة)، فذلك لأن جلالته لم يشأ أن يعترف باستقلالهم.
5
أكد أحدهم - في جدال وقع بينه وبين أحد الأوروبيين - أن الإفرنسيين لن يتمكنوا أبدا من إخضاع بلادهم. أما الأوروبي فكان يحاول إقناعه بأن أتراك اليوم ليسوا أولئك العثمانيين القدماء الذين يفتخر بهم.
فأجاب التركي: إنني أسلم بهذا، ولكن السلطان العظيم أسد مخيف.
فقال له الأوروبي: نعم، إنه كما يبدو لك مروع جدا، ولكن تصور كلبين قويين يتنازعانه أذنيه، وكل منهما يشد صوب صدره، ثم قل لي بعدئذ ما يصيب أسدكم؟ وهكذا اضطر التركي المشدوه إلى التسليم بصوب رأي مجادله. إن نفسه لم تحدثه بهذا المؤتمر الكلابي.
فبمثل هذه التشابيه يمكننا حمل الأتراك على الاقتناع؛ لأن تعصبهم الأعمى وجهالتهم يجعلان منهم أناسا لا يستطاع إقناعهم إلا بهذه الصورة.
وعندما نذكر لهم تفوق عدد الإفرنسيين، يجيبون بأن مؤمنا حقيقيا يمكنه - بضربة سيف واحدة - إسقاط 12000 كافر. أما فيما يختص بالأعمال الحربية وخططها، فقد أصبحوا أندادا لنا منذ غيروا طريقتهم. أولم يجهز كل شيء عندهم مثلنا؟
إن السوريين يبالغون جدا بالامتداح، وهم جد أسخياء بالهبات والعطايا الممتعة التي يحوزونها إلى حد أن تراودنا فكرة الاعتقاد بأنهم صادقون أوفياء. •••
إن المسلم - إذا لم يكن له أولاد ذكور - يأكل منفردا في خدره، أما النساء والبنات فيجب أن ينتظرن ريثما ينتهي سيدهن، وبعض الأحيان تكتفي الحريم بأكل ما هيأنه من مأكولات للعامة.
ومن تقاليدهم وعاداتهم أن يأكل الزوج وحده الثمار عند أول نضجها أو عندما تكون مرتفعة الثمن.
إن روح الألفة في العائلات الشرقية مفقودة تماما؛ ذلك لأنه يتوجب على الرجال أن يظلوا متجهمين دائما في خدورهم ليحافظوا على هيبتهم ويوحوا إلى النساء والأطفال شعور الامتثال الذي يكفل لهم سيادتهم.
إن الشرقيين يشغلون بسهولة، وعندما يعجز تدخين الغليون عن إعفائهم من الكلام، فأتفه حادث يصلح موضوعا لقضاء السهرة التي لا تتجاوز حدا معقولا. والمسيحيون - بصورة خاصة - لا يتمادون في إطالة سهراتهم؛ إذ إن الحكمة - التي تتوج جميع تصرفاتهم - تقضي عليهم بأن لا يظهروا على الطرقات العامة في ساعة لا يجيز القانون التجول فيها.
إن سكينة الليل لا يقلقها سوى صراخ بائعي التمرية، ملذة الذين يضطرهم تعطشهم الشديد للمال أو حاجتهم الحقيقية إلى أن يعملوا قسما كبيرا من الليل. وإذا حكمنا بالاستناد إلى قطع الحلوى التي تباع كل مساء، يمكننا الاستنتاج أن في بيروت عددا كبيرا من الأشخاص العاملين الذين لا يرغبون في النوم فارغي الأمعاء.
إن المسلم - في حياته الخاصة - صالح وخير وأمين (إلا تجاه امرأته). إنه يأخذ حذره حينما يغادر منزله ويصبح رجلا مشككا.
وسكان بيروت مشهورون ببخلهم؛ فالأكثرون حديثو النعمة؛ ولذلك يرجعون إلى طبيعتهم الأولى كلما هموا بالتنعم بالأموال التي وفرتها لهم ثرواتهم. إنهم يعتبرون ثروتهم وديعة بين أيديهم؛ هذا شيء فلسفي، إلا أنه ناتج حقيقة عن تقتيرهم الذي طبعوا عليه؛ فهم لا يفقهون معنى الترف سواء أكان في لباسهم أو على موائدهم، أو في مفروشاتهم التي تكلمت عنها آنفا.
يرتدي السوري الميسور - عادة - أكثر ما تحتويه خزانته، وعليه أن يتحلى دائما بكل ما يملك من أشياء ثمينة ليظهر للناس غناه.
إننا نعجب إذ نرى الفنون الجميلة حديثة الميلاد في الشرق، ولكن أية حاجة لهم بها؟ فالعرب يعيشون غير محتاجين إلى شيء، وكل صناعة في بلادهم تكون معرضة للموت.
وماذا نرى في أسواقهم غير منسوجات الصوف، والحرائر، والقطن، والطرابيش، والبوابيج، والغلايين، وبعض الزجاج الغليظ، وأخيرا الحبوب التي تأتيهم من المستعمرات؟ وماذا عند صيادلتهم غير المواد الطبية البسيطة، وبعض خلاصات كيماوية يعرفها الجميع ويطلبونها لصبغة الأقمشة؟!
حاول بعض الأوروبيين أن يمدونا - بعد أن فتشوا في فهارسنا - بما نحن في حاجة إليه. وهب أنهم باعوا بعض المواد من غير الفرنسيين، فتشترى على سبيل الفضول، وليس لأنهم محتاجون إليها. إن طريقة استعمالها لا تزال مجهولة عندهم.
إن مسلمي مدن سوريا الداخلية هم دائما ثائرون مهتاجون، وأقل بادرة تمس دياناتهم تحملهم على انفعال متجاوز الحد. إن علاقاتهم الحسنة مع التجار الغربيين قد درت عليهم كثيرا، إلا أنها لم تعمل - ولو قليلا - في تحوير عاداتهم.
ومع ذلك، فللبعض منهم علاقات وثيقة مستمرة بالمسيحيين، وخصوصا إذا كانوا ممن يحبون الشرب ... إن للأتراك ميلا خاصا لتقليد الإفرنسيين في تذوقهم المشروبات. وإذا كان الشرب يسمى مدنية فإنني أستطيع التأكيد بأنهم جروا شوطا بعيدا في هذا المضمار؛ ذلك لأن رؤية أشخاص يطوفون الشوارع بين خمرتين في تركيا ليست نادرة؛ فالكحول تباع فيها اليوم جهرا لأن السلطة اقتنعت بأنها تجني ربحا باهظا من سماحها بما ليس في الإمكان تحريمه. إن الخمارات قد اكتريت كلها.
وفي زمن كانت الخمرة فيه محرمة حظر أحد الباشوات - الذي شاء أن يكون متنطسا - بيع المشروبات المسكرة من المؤمنين. إلا أن أحدهم لم يكن يستطيع الاستغناء عنها فاتفق له - وهو يملأ زجاجته - أن مر الحاكم الذي كان يقوم بدورته التفتيشية ليتأكد من تنفيذ أوامره؛ فخبأ المولع بالعصير الإلهي يديه الثنتين وزجاجته وراء ظهره، ثم انتصب مستندا إلى الحائط ليقوم بمراسم الاحترام والإجلال، وكان الباشا لبيبا من الإشارة يفهم، فرابه وجود الرجل في هذا المكان، فسأله - بعد أن سلم
6
عليه - عن سبب إخفاء يديه، فأراه الرجل يده اليمنى، فقال الباشا: واليسرى؟ فأراه إياها أيضا بعد أن أمسك الزجاجة باليمنى، إلا أن ذلك أكد له أن في القضية سرا؛ فطلب إليه أن يريه كلتا يديه معا، ففعل الرجل بعد أن حصر الزجاجة بين ظهره والحائط. إلا أن الباشا صرخ قائلا بعد أن نفد صبره: تقدم إلي!
وعندما وجد صديق الخمرة أنه لم يعد بإمكانه التستر، تناول الزجاجة وقدمها وهو يقول: إنها مملوءة زيتا. فصاح الباشا: زيت! وهذا اللون؟
فأجاب الرجل الظريف: لقد احمر خجلا من دولتكم.
إن المؤمنين لم يحجموا عن تعاطي المشروبات بعد التطور الذي حدث في تركيا؛ فهم لم يتقيدوا بتحريم النبي للمشروبات المسكرة، ولكنهم يشربون بتحفظ واحتشام.
والسكر آفة قديمة عند العرب، وقد أنبأنا أحد الكتاب - وهو مطلع على تاريخهم: «إنهم على الرغم من زهدهم في أسباب ترف المعيشة كانوا مولعين بالخمرة والسكر، وكثيرون منهم ذهبوا ضحية باخوس كالزبير مثلا، وروي أيضا أن أحدهم تنازل لقاء حصوله على زق من الخمر عن مقاليد مهمته المرموقة في حراسة الكعبة في العهد القريشي.»
وبعد، فلم أجد في القرآن إلا آيات قليلة أتي فيها على ذكر الخمرة. وهذه الآيات - كما يلاحظ القارئ - لم تحرمها تحريما مطلقا، وسأوردها طبقا لترجمة السيد بيربستان كاسميرسكي البارعة:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما (سورة البقرة: 219).
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (سورة النحل: 67).
يسقون من رحيق مختوم (سورة المطففين: 25).
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (المائدة: 90).
وهناك اعتقاد خاطئ آخر انتشر بين الأوروبيين؛ فهم يحسبون أن محمدا حرم على النساء الجنة؛ ولهذا أدون هنا الآيات التي تدل على أن النبي لم يهمل مصيرهن، وقد أراد لهن النعيم كالرجال أنفسهم :
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (سورة النساء: 124).
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (التوبة: 72).
جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (الرعد: 23).
ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما (سورة الفتح: 5).
هوامش
الفصل الثامن
أخلاق المسلمات وعاداتهن
أنصف النبي محمد النساء أكثر مما أنصفهن الرجال الذين اتبعوا شريعته؛ فلسن في نظر هؤلاء أكثر قيمة من متاع نافع. وإذا شئت أن أوضح بجلاء فكرة أزواج الشرق، وجب علي أن أقول إنهم ينظرون إليهن نظرة الأطفال إلى الدمى، وهل إن هنالك ظروفا أكثر إيلاما من الظروف التي ترافق دخولهن إلى هذا العالم؟
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب (سورة النحل: 58-59).
وفي أيامنا هذه يفهم الناس في الشرق من الضجيج أو السكون الذي يخيم على غرفة النفساء، إذا كان المولود الجديد صبيا أو بنتا.
فإذا كان أنثى خيم الذعر على البيت ومن فيه. إن القابلة هي التي تحمل النبأ، وشعور البهجة الذي يثيره فيها ميلاد الصبي ينقل بسرعة الكهرباء، فما إن تسري البشرى في الداخل حتى تعلن في الخارج بالزغردات: لو لو لو،
1
تقذفها أفواه النساء في المنزل أكثر من مائة مرة، وعندئذ يهنئ الجميع الأب، وتكون سعادة العائلة على أتمها.
إن الفتاة لا تحظى عندهم إلا بالثقافة المنزلية؛ فهي تكنس عندما تستطيع حمل المكنسة التي لا تتجاوز طولا نصف متر. وإذ يشتد ساعدها، تستخدم في الغسل والطهي وأشغال البيت الأخرى؛ فالولائم العربية تستدعي عدة تجهيزات، سواء أكان ذلك لدق اللحم في جرن لتحويله إلى معجون ناعم (الكبة)، أو لقطع اللحم يمزج بالأرز ويحشى به ورق العنب ، والملفوف، والكوسا، والباذنجان. إن مآكلهم الطيبة تقتضيهم وقتا كثيرا ومجهودا كبيرا.
أما الشئون الأخرى فلا تتعلم الفتيات التركيات منها إلا قليلا من الخياطة والتطريز على الطراز الشرقي الغليظ؛ هذه هي الأعمال التي يشغلون البنت بها. أظن أنه لا يوجد بين نساء المسلمين من يعرفن القراءة، ويزعم الرجال أنهم يقللون بذلك من خبثهن ومكرهن.
إن العادات الشرقية تشجب المخالطات الأجنبية حتى بين النساء. والمسلمات لا يبحن لأنفسهن سوى التمتع بالمسرات التي يمكن منها المنزل الذي لا يخرجن منه إلا لزيارة نسيباتهن القريبات.
ومع ذلك فعندهن الاستحمام، فإذا ما فقدنه فقدن أهم أسباب ملذاتهن. إن أزواجهن لا يمنعونهن منه؛ لأنهم على يقين أنه المكان الوحيد الذي لا يتعرض فيه شرفهم لأي خطر.
والنساء يذهبن إلى الحمامات عملا بتعاليم ديانتهن التي تقضي عليهن بالوضوء الكامل.
إنهن يهيئن - يوم ذهابهن إلى الحمام - كل حوائجهن منذ الصباح الباكر؛ فيجعلن من المناديل رزما مختلفة تصلح لعدة شئون، إنها متعددة جدا، فمنها ما يكون من الحرير أو القطن، ومنها ما يكون مربع الحجم ذا لون أبيض. إن النساء يتلثمن بأربعة مناديل في وقت واحد: على أكتافهن وعلى رءوسهن. وإذا شئن أن يكن ظريفات - ولو قليلا - فعليهن تبديلها مرة ومرتين بعد مغادرتهن المنزل.
والوقت الذي يقضينه في الحمام لا يمكن أن ينقص عن ثلاث ساعات أو أربع، وهن يأكلن ويشربن في أثناء ذلك، حتى إن تدخين الغليون والنارجيلة يملأ فراغا كبيرا من فترات الاستراحة.
إن مشاغل النساء في الحمام عديدة؛ فهناك يجتمعن لينظفن أجسادهن بكيس من الشعر الناعم، ويضعن على رءوسهن الحناء لتصبح شعورهن ملساء، ثم يدلكن أجسادهن بمادة لزجة ممزوجة بماء الورد، وأخيرا يتمشطن ويصففن شعورهن ذوائب ذوائب. ولما كن يعتبرن أنفسهن عائلة واحدة على الرغم من تعدد الأشخاص، فإن هذه العمليات - لكل منهن على حدة - تستغرق الوقت الطويل.
وفي الحمام يشتد هذر النساء ولغوهن؛ فهناك يلقن بعضهن بعضا ما حفظنه من حاضناتهن اللواتي كن يدلكن أجسادهن ويغسلنها.
تتألف حمامات الشرق من ردهات واسعة معقودة بالحجر ، تعلوها قباب تطل منها كوى صغيرة مدورة لتستقبل ضوء النهار. إن هذه الحمامات لا تعرف الهواء مطلقا؛ لأن كل نافذة منها مجهزة بعدسة من الزجاج.
ومن نزه النساء أيضا زيارة المدافن؛ فهي موضوع تسليتهن، بل الطريقة الوحيدة التي تسهل لهن مغادرة المدينة واستنشاق هواء الجبل. وهن لا يحجمن عن استغلال هذا الظرف جهدن، عندما تسمح لهن الحال بذلك؛ يجتمعن حلقات حلقات حول أضرحة عائلاتهن يتحدثن أو يصلين، بينما يقوم أحد الشيوخ - وهو عادة أعمى - بتلاوة آيات القرآن عن نفس المرحوم.
يؤكد البعض أن النساء يقمن في أثناء هذا الطواف بين القبور بالتقاءات لا تكون في أكثر الأحيان بريئة. وإذا لم يجدن الأشخاص الذين يرغبن في رؤيتهم أو لم يتمكن من مخاطبتهم، فإنهن يعبرن عن عواطفهن وأفكارهن بترك باقة زهر ذات رمز على ضريح الراحل العزيز.
إن طريقة التفاهم بالحركات تؤدي إلى خلق مثل هذه البدعة، وهي ضرورية نظرا للافتقار إلى معرفة الكتابة؛ فبها يستطاع التعبير عن كل قصد ورغبة في أصغر حجم ممكن. إن الأزهار والثمار هي دعامة هذا التفاهم بلا كلام.
يقول السيد روبنسون: إن الحب عند الشعب الإسلامي هو شعور مجهول
2
تقريبا؛ لأن الجنسين لا يختلطان أبدا.
إن السائحين القدماء لا يؤيدون هذا الزعم الذي يشاركهم فيه السياح المحدثون؛ نظرا لفساد وانحطاط العادات والعرف الناتجين عن ضعف الحاكم العثماني الظالم.
ولقد نقل مسرح تركيا أقصوصة يصح القول عنها إنها مستقاة من تاريخنا الأوروبي. وهذه هي:
أحب شاب تركي، مرموق النسب، وافر الثراء، فتاة غربية بائسة جميلة العينين على الرغم من اسمرار لونها، وبذل أهله كل ما في وسعهم ليحولوا دون هذا الزواج المخزي لعائلتهم، الشائن لأسرتهم، فلم يفلحوا، وبقدر ما كانوا يغالون في تصوير انحطاط أصل الفتاة وضعتها وفقرها، كان فتاهم يزداد لها اشتعالا بدلا من أن يخمد. وأصروا وأصر، وهدد أخيرا بالانتحار إذا لم يوافقوا على هذا الزواج. كان يقول إنه لا يستطيع الحياة إلا في قرب هذه الفتاة التي توحي الخوف والكراهية لأهله وذويه. صحيح أنه حب بشع، ولكن هذا الحب كان أعمى؛ فاضطروا أخيرا - تداركا للكارثة المنتظرة - إلى النزول على مشيئته.
3
يقول السيد دي بايسونيل في رسالة حول مذكرات السيد دي توت:
يزعمون أن الخادمات المستعبدات هن اللواتي يمهدن الطرق لمكائد سيداتهن، مع أن هؤلاء لا يستطعن أكثر من العمل على إخفائها. إن مثل هذه الأعمال غالبا ما تقوم بها بائعات مواد الزينة التركيات، أو المسيحيات، أو اليهوديات المفتوحة بوجههن أبواب الحريم، وهن في كثير من الأحيان يجعلن بيوتهن ملتقى للعشاق لقاء أجر ما.
والرجل المثري التركي تعرفه من سمته. لقد وجدت هنالك شبابا وأساتذة صغارا، وضربا من الناس يسمونهم بالتركية «زنبر شلبي». إن في حوزة هؤلاء لائحة بأسماء النساء الجميلات اللواتي يتمتعن ببعض الشهرة؛ فهم يفتشون بلا ملل عن طرق التعرف إليهن وتذوق حبهن وامتصاص ثروتهن وما يملكنه، وكثيرا ما يتباهون بظفرهم بهن، مع أن شيئا من هذا لم يحدث. «إن مصارحات الحب المتبادلة تتم عادة ب «المعاني». وهذه الكلمة المأخوذة من العربية تعني التأويل - المجاز - وهي تطلق في لغة العشاق والمتظرفين على الأشياء التي تعني لفظتها رمزا اتفق عليه المحبون.»
4
وفوق ذلك، أوهل يظن أن النساء يتعبن أو يمللن من انزوائهن المتواصل؟ لقد جعلتهن العادة الطويلة الأمد صالحات لهذه الحياة حتى بتن لا يرغبن في استبدالها. إن ثقافتهن لا تجعلهن صالحات لأي عمل آخر.
وعندما تطلب فتاة ما للزواج، تكون عادة في عمر الأربع عشرة سنة أو الخمس عشرة. والأب لا يستشير امرأته ولا ابنته، بل يكتفي بإعلامهما أنه قال كلمته (وعد)، وأن حفلة العرس ستكون في اليوم الذي عينه.
إن العروس تجهل غالبا اسم خطيبها، وإذا أرادت أن تراه فلا يكون ذلك إلا من ثقب النافذة، أو خصاص الباب، أو بصورة خفية في الشارع من خلال منديلها الشاشي الذي تضعه النساء على وجوههن، والملاءة التي تغطي القسم الباقي من جسدهن عندما يخرجن.
وفي عشية الزفاف ينقل الجهاز الذي يهبه الأب لابنته في موكب فخم. يكثر هذا الجهاز أو يقل بالنظر لثروة الأشخاص ، وهو يتألف من الملبوس وأدوات الطبخ ومتاع البيت كالمسرجة والمقعد، وحزمة فتائل، والأشياء الأخرى التافهة الثمن. إن كل قطعة من هذه الأمتعة تحمل على حدة ليقال إن جهاز بنت فلان قد نقله كذا وكذا من الرجال.
ولدى وصول هذا الجهاز تستسلم قريبات العريس إلى ذوقهن وتتعالى الزغردة: لو لو لو، ويتنعمن بذلك الصياح ساعات طوالا. إن هذا الصراخ - كما سبق لي أن قلت - هو ملذة توحي حب المنافسة عند النساء، وهذا ما يحملهن على اغتنام كل مناسبة يظهرن فيها هذه البراعة والتفوق.
أما عقد الزواج فينظمه القاضي بناء على شهادة أنسباء العريسين.
5
وهو - إذا ما استثنينا هذه النقطة - لا يقوم بأية مهمة في النكاح المنوي عقده؛ أي لا يكسبه أية صيغة رسمية؛ لأن الزواج عند المسلمين مدني بحت، وافتقاره لشكل ديني ما لا يفقده الطابع المقدس الذي تغدقه الطقوس الدينية عند غير المسلمين.
والعروس لا ترى عريسها إلا يوم زفافها، وفي البرهات التي تتمكن من اختلاس النظر إليه؛ فكل فتاة تحترم نفسها مضطرة إلى إغماض عينيها خلال سبعة أيام كاملة؛ ففي هذا الوقت «تصمد» على وسادة بعد أن تقلد كل حلاها، وتخضع للزينة الخاصة بالمتزوجات الفتيات. وهذا التبرج يؤدي إلى مسخ الوجه، فيصبح كأنه وجه مستعار حقا، ثم تدهن اليدان والرجلان العارية دائما.
ومن يمكنه عند ذاك معرفة وجه إنساني من خلال الصفائح المذهبة، وشتى ضروب الألوان الحمراء والزرقاء والبيضاء، والبراقع المتعددة، وتكحيل الجفون، وتزجيج الحواجب التي تقوس بتأن، ثم يعنى بأن تتلاقى عند أول الأنف ...! وهنا يجب أن نعترف أن العلم لم يساهم في إصلاح مقابح العصر، ولكنه ساعد في إنماء مفاعيلها وتقويتها.
6
إن ذوق هؤلاء الناس غريب جدا إلى حد أنهم كانوا يعتقدون أن العروس التي تظهر بمظهر الفتوة الجذابة وبلباس بسيط يخشى أن تنبذ.
هوامش
الفصل التاسع
عادات إسلامية - شعر - موسيقى - علوم. ***
توجب الحشمة على الشرقيين أن لا يتحدثوا مطلقا عن نسائهم. وعندما يضطرون إلى الإتيان على ذكرهن - وذلك يكون في ظروف نادرة جدا - يتوجب عليهم أن يطلقوا عليهن اللقب المصطلح عليه في المنزل. والذين يعتقدون أنهم من أقرانك وأمثالك يسمون زوجتهم شقيقتك عند اقتضاء ذكرها، وإذا كانوا أقل طبقة فهي عبدتك، أو أم علي مثلا، إذا كان هذا اسم ابنها البكر. إن النساء لا يكنين أبدا بأسماء بناتهن.
وأسماء النساء لا تحذف من لغة التخاطب فحسب، بل لا تذكر أبدا في الشعر العربي؛ فإذا أراد عاشق أن يتغنى بحبيبته فعليه أن يطلق عليها اسما غير اسمها، وأن يشبهها بما اعتيد التشبيه به من الكائنات التي ترمز إلى الرشاقة أو النعومة أو المرونة أو اللطف.
وفي الأغاني العامية، نفهم عند سماعنا هذه الكلمات: سمراء، عيون سود، قامة هيفاء، أن المعني بهذه الألفاظ هو امرأة؛ فهذه التعابير التي تردد غالبا يقصدون بها في الوقت نفسه رشأ من الغزلان أو غير ذلك.
إن أجمل مقاطع الشعر هي تلك التي تجيش فيها العاطفة بحرارة وتسمى «نبوية»، وإن كانت غزلا؛ لأنها موجهة إلى النبي محمد، الخليق وحده بهذا البيان الشعري الذي لا يستحقه أي هوى آخر.
وهنالك أولاد الفن في سوريا الذين يسلون الجماهير بأقاصيصهم التي تدخر منها ذاكرتهم الشيء الكثير، فتشيع - حين تروى إنشادا - لذة عنيفة في القلوب؛ فهؤلاء المهرجون يغنون أحيانا إذا كانوا من ذوي الصوت الرخيم. ومن ميزة عبقريتهم الخاصة استنباط العبر حتى إنهم يقومون بشبه محاورة لا يستعملون فيها إلا الأمثال والحكم.
وعندما يضيق ذرع أولاد الفن، تعرض ألعاب الصغار فيشترك فيها الحاضرون جميعهم دونما تمييز بين العمر والمقام. وهذه هي صورة أستطيع أن أؤيد فيها الفكرة التي سأتناولها فيما بعد عن أخلاق الأتراك المتناقضة؛ لأنهم ينتقلون بسرعة فائقة من وقارهم الطبيعي إلى الألاعيب الصبيانية ...
الموسيقيون نادرون جدا في بيروت، ومن وقت إلى آخر نرى بعضهم يقومون بجولة في الجبل ليمتعوا الأهالي بفنهم.
أني لا أستطيع أن أشبع نهم القارئ حين أتحدث إليه عن حالة الموسيقى في هذا البلد إلا إذا نقلت له ما كتبه رحالة مثقف توافرت لديه عدة عناصر مكنته من إصدار حكم صحيح عليها ؛ فكلامه - في اعتقادي وبدون أي مبالغة - يصورها لنا تصويرا صادقا؛ فالموسيقى في الشرق مرت في أطوار تختلف كل الاختلاف عن أحوالها في أيامنا هذه؛ فعلينا إذن أن نعتقد أن هذا الفن قد عانى من البلايا ما عانته جميع الفنون الأخرى، فقوضت أسسها ومسخت أنواعها، قال:
إن الموسيقى التركية - على الرغم من أنها شبيهة بالموسيقى العربية - لهي أحسن تنسيقا منها؛ لأننا نجد فيها على الأقل بعض الإيقاعات الموفقة الختام. فأحد الباشوات - وهو قائد عثماني مركزه الإسكندرية - كان يتكرم علي بإيفاد جوقته الموسيقية كل ستة أيام أو ثمانية، وهذا ما يمكنني من الحكم على الموسيقى عندهم لأنني عرفتها بنفسي.
إن جوقة صاحب الدولة تتألف من خمسة موسيقيين ومدير يرافقها دائما. أما آلات العزف فأربع فقط، وهي: السنطير الذي ينقف ويضرب بقضبان صغيرة، وقد نظمت أوتاره الوسطى بطريقة تؤدي بها أوتار الجهة الشمالية النغم الثامن موافقة لما تخرجه الجهة اليمنى.
والكمنجة، وهي مجهزة بستة أوتار تؤدي أربع درجات من السلم الموسيقي المعروف عندنا. ثم نوع من المزمار ذو نغم حلو يشبه البوق الإنكليزي. وأخيرا: دفان صغيران يخرجان - كما هي الحالة في أوروبا - النغم الخامس عوضا عن النغم الرابع، وهما ينقران برفق بأطراف الأصابع. أما الموسيقي الخامس فإنه يغني فقط ولا ينقر أية آلة.
1
كلما أتتني هذه الفرقة كان يبدأ مديرها بعبارات المجاملات من قبل مولاه. أما الموسيقيون فكانوا يجلسون بشكل نصف دائرة على الأرض وعلى رأسهم المدير.
إن آلات الطرب كانت مصلحة من قبل، ولدى إشارتي كانوا يبدءون بعزف مقطوعة متزنة الإيقاع، فتتبع إحدى آلاتهم اللحن المطلوب. أما الاثنتان الأخريان فكانتا في هبوط متواصل، تعزفان لحنا آخر. أما الدفان فكانا يتوقفان. وإذا اغتفرنا لهم بعض الخلل، قلنا إن عزفهم كان جميلا في بعض أقسامه. وبعد ذلك كانوا يبدءون بعزف لحن آخر فيشترك فيه الدفان الصغيران. وهنا كانت الأصوات وأنغام الآلات الموسيقية تقوم بجهود خائبة المسعى، فلا يطابق بعضها بعضا؛ فتدفع إذ ذاك أذناي المسكينتان اللتان تعودتا سماع موسيقى صحيحة ثمن المسرات التي تنعمت بها في أوروبا. وبعد مرور ربع ساعة على هذه الضوضاء المشوشة كان يتوقف الغناء وتظل الآلات تصدح، ثم يتوقف الدفان ليعودا إلى نغم مماثل للأول، وعند انتهاء هذه المعزوفة كان الموسيقيون يؤدون لي تحيتهم، وهكذا ينتهي المشهد الأول.
2
عند حدوث بعض الظواهر الجوية ترى الشعب بأسره يضج ويصخب، فإذا ما خسف القمر أو كسفت الشمس ترى سكان البلاد جميعا يصعدون إلى سطوح منازلهم يقرعون أوانيهم النحاسية، ويدقون الأجراس، ويطلقون عياراتهم النارية ليفزعوا الحوت الذي يهدد الكوكب بالابتلاع.
إن الموسيقى الأكثر انتشارا والأشد صخبا هي الموسيقى المؤلفة من مزامير وطبول ضخمة؛ فهذه تسمع في الأفراح العامة، والأعراس، ومولد الصبيان، وفي كل مناسبة يراد فيها إظهار الفرح. أشار أحد السائحين إلى أن المسلمين لا يلجئون إلى مثل هذه الموسيقى الصاخبة في جوامعهم، ثم علق على ذلك بقوله: لعلهم كانوا يخافون إزعاج الأب الأزلي.
3
والفنون الجميلة - ولا سيما الشعر - لم تعر اهتماما أكثر مما أعير الجنس اللطيف في هذه البلاد؛ فهنالك بعض نظامين يعملون من وقت إلى آخر قطعا من الشعر يصفق لها الجهلة لأن قوافيها واتساقاتها تستفزهم. وقد علمت أن هذه القصائد الأكثر تداولا هي في الغالب ركيكة العبارة، غير معربة، لا تستطاع ترجمتها، مع أن اللغة العربية لغة شعرية يستطاع النظم فيها بأسلوب يسحر الألباب نظرا لفخامة تعابيرها وموسيقى ألفاظها.
إن «المواويل» التي تغنى تجري جميعها على سياق واحد، وكل مقطع منها يشبه الأغاني التي يرجع فيها إلى اللازمة، وهي مفككة المعاني ولا ارتباط بينها.
قد نجد بعض الكتب العربية القديمة عند العلماء المعاصرين، ولكنهم لم يقتنوها إلا ليتمتعوا بمظاهر العلم ليس أكثر. وأعتقد أننا لا نجد في بيروت أكثر من شخصين يتمتعان بذوق علمي، أو كفاءة ثقافية؛ ومن هنا نشأ جهل الحوادث التاريخية الأكثر تداولا وبساطة.
إن الشيء الأكثر غرابة وطرافة هو الحدث الغريب في نظر الرجل العادي؛ ولهذا تراهم لا يدونون - إذ يؤرخون - إلا الحوادث التي رافقتها بعض الخوارق؛ فهي - وحدها - تستحق أن تخلد للأجيال الآتية؛ ولذلك لا يجوز في نظر السوريين الحصفاء أن يكون الحادث البسيط - الذي لا يوحي شيئا غريبا - موضوعا للمباحث الحاضرة والمقبلة.
هوامش
الفصل العاشر
أخلاق المسلمين - معجزات الروم - قدر - تعاليم دينية - تسول. ***
كتب قنصل فرنسي
1
في مؤلف غفل: إن الأتراك شعب يجتمع فيه النقيضان. وصورهم ترجمان
2
احترف مهنتنا تصويرا لم يترك مجالا للرغبة في الاستزادة، قال:
إن أخلاق الأتراك في تناقض مستمر. إنهم كلفون باللذات، ومظهرهم عسكري فظ. قساة على أنفسهم، جفاة، يعيشون عيشة رخوة ترفة، يرتجفون لأقل بادرة مشئومة، ويستصغرون الطوارئ الجلى التي قد تحدث في الحياة. شجعان حتى التهور، وجبناء حتى الضعف، فخورون بأنفسهم ومتغطرسون، يزدرون كل شيء، ووضعاء وسفلة أذلاء، بخلاء ومسرفون في وقت معا، رحماء وطغاة، غالبا ما يزدرون حياة الإنسان، ثم يرون في إغاثة أبشع الحيوانات فضيلة دينية.
3
أجل، إننا لا نزال نرى - كما كان الأمر في زمن كاتب هذا المقال - بعض المتعبدين الذين يوزعون الخبز والأكباد على الكلاب والهررة.
ويعزو إليوس عباسي
Elios Abesci
4
كراهية بعض المسلمين لمبدأ إفناء الحيوانات إلى فلسفة فيثاغور، مع أن ذلك هو أحد تعاليم القرآن.
إننا نجد عند شعوب الشرق عددا كبيرا من المتناقضات الأخرى نلمسها عندما نقابل بين عرفنا وعاداتنا، وعرفهم وعاداتهم.
على أن القارئ لا يلاحظ منها إلا ما تلفت غرابته النظر. ولكن، فليعلم أن هذه القاعدة يمكن تطبيقها بصورة عامة. وسأقدم عددا لا يحصى من الأدلة في سياق مشاهداتي، وإليكم منها الآن ما يتعلق بالرسميات.
عندما يريد شخص منهم ذو مكانة مرموقة القيام بزيارة، عليه أن يتناول جبته، التي يحملها خادمه تحت إبطه، ليتسربل بها فوق ملابسه حين يدخل فيبدو أكثر ضخامة وتسترا، بينما نحن نضع - في مثل هذا المقام - الرداء أو البردوسة في الإيوان.
إنه يقوم - عند دخوله - بتحريك رجله ليخلع حذاءه ويتركه على الباب. أما نحن فنستعين بيدنا لنرفع قبعتنا ونحني رأسنا علامة الاحترام.
والشرقيون يستعملون عند الالتقاء الأول عبارات تبجيل وتعظيم مبتذلة لا طعم لها، ثم لا يأتي ذكر الغرض من الزيارة إلا بعد القهوة. أما عند الأوروبيين فإنه يبدأ توا بموضوع الزيارة، والاستعلامات الخاصة أو العائلية لا تكون إلا بالنسبة للعلاقات القائمة بين الزائر والمزور.
لا يوقع الأتراك رسائلهم وسنداتهم وإن كانوا يحسنون الكتابة؛ فالاسم يطبع على الرقعة، وذاك شأنهم في الألقاب إذا توافرت لديهم. أما ما يثبت
5
صحة وثائقهم فهو الخاتم.
6
والسلطات هي التي تستعمل الخاتم بوجه خاص، وبه تكتسب كتاباتها الصفة الرسمية. إن بعض الخاصة من الأتراك يكتفون بوضع أسمائهم وأسماء عائلتهم؛ إذ يرون في استعمال الخاتم مظهرا من مظاهر الادعاء.
وبما أن الشرق لا يحسن إلا قليلا استعمال أسماء العلم، فقد نتجت عن ذلك عدة أخطاء واختلاطات؛ فالأسماء المتشابهة كثيرة جدا؛ وهذا ما حملهم على استعمال أسماء عديدة تكاد تكون أسماء ذرية بكاملها.
يتميز الكثير من الشرقيين بأسماء مهنتهم، وكثيرا ما تكون تلك الأسماء سمجة؛ لا يستقبح في الشرق - مثلا - أن ينتسب أحدهم إلى أعور أو كسيح أو أحدب أو مقطوع اليد. وفي أكثر الأحيان يضيفون اسم الأب إلى اسمهم الخاص، وهذا ما يطبق في كثير من البلدان حتى الأوروبية منها؛ وعندئذ يكون علي هو ابن حسن ...
أوهل يقال: إن الشعب المتأخر هو وحده ذو الاعتقادات الباطلة؟ إن الرجال الذين حرموا الثقافة لا هم لهم إلا اقتفاء آثار غيرهم؛ فليس الذنب - إذن - ذنب هؤلاء، ولكن المسئولين عنهم - أي كبارهم - هم المذنبون؛ فهم الذين يرسخون في أذهانهم هذه الأوهام والنقائص.
ترى، هل الشعب الساذج هو الذي يؤلف تلك الحلقات التي يردد فيها الرجال - وهم وقوف بشكل دائرة - كلمة: الله! الله! ويظلون يفعلون ذلك حتى تتلاشى قواهم وتختنق أصواتهم، ثم يستأنفون العمل بأنغام موقعة على انحناءات الجسم، ذات اليمين وذات الشمال، والخلف والأمام، مرددين غناء الشيخ الواقف خارج الحلقة؟ وعندما يغادر المدينة درويش، اشتهر بالتقوى، ليقوم بزيارة أحد المزارات في الضواحي - وعند المسلمين أماكن عبادة في أكثر النواحي - نرى الشعب يسارع إلى لقياه ليرتمي تحت نعال فرسه حائلا بينه وبين وطء الأرض، فيمر على أجساد هؤلاء المؤمنين الذين يتقبلون البركة من أطراف قوائم الحيوان الأربع.
إن أشراف المسلمين يدعون أيضا صغارهم للتهافت على هؤلاء الشيوخ؛ لأنهم يرغبون هم أيضا في الاستفادة من المناسبات المؤاتية.
إني لم أحاول معرفة المقدار الذي تحتله الشعوذة في هذه الأنواع من المعجزات، ولكن يجب ألا نعزو كل شيء إلى التعصب. ومع ذلك فلم تكن تهمني معرفة الأساليب التي تتبع في تمثيل هذه المهزلة.
رغبت في أن أشاهد معجزة كانت تحدث كل عام في دير للروم قرب طرابلس، إلا أني عندما علمت أنها ناتجة عن تفاعل أشعة الشمس، التي كانت تنفذ من ثقب طاقة مغلقة إلى الكنيسة الشديدة الظلام، أحببت أن أبين ذلك للذين كانوا يعتقدون بأني سأرجع عن ضلالي وأهتدي إلى دينهم القويم فور رؤيتها. إلا أن ذلك كله لم يجدني نفعا؛ فكل ما قلته لهم قد جعلني في أعينهم أشد إلحادا وكفرا.
إن القسم النفساني في الديانة المحمدية المتعلق بالرضوخ لأحكام العناية هو جدير حقا بإعجاب الفيلسوف؛ فتسليمهم لمشيئة الله يبدو بوجه خاص في أجلى مظاهره حين انتشار وباء الطاعون؛ فهم لا يتزحزحون، بل يثبتون في وجه الخطر الذي يهددهم مهما يكن عدد ضحايا هذه الكارثة.
أنبأني مسلم أعرفه أن عائلته كلها أصيبت بهذا الوباء. وعندما طلبت إليه أن يحتاط للأمر، أجاب: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ثم عاد إلى منزله ولم يبرحه بعد ذلك، كأن هذا الانقطاع هو اتقاء الخطر.
أوليس بإمكاننا أن نعزو هذا الانقياد الأعمى أو هذه اللامبالاة إلى الجهل أكثر منها للتقوى؟ إنه يجب علينا أيضا أن نتهم المخيلة التي تعمل عملها الخطير في هذا المضمار؛ فإننا لا نخشى خطرا نجهله.
إن الشواهد المتعددة على الأشخاص الذين ينجون من الطاعون رغم توافر عناصر العدوى التي تعرضهم له، والشواهد الأخرى على عدد كبير من الرجال لم يموتوا بعد أن أصيبوا به، هي التي مكنت في مخيلتهم الاعتقاد بالقدر؛ هذا الاعتقاد الذي جعل الجهل جذوره راسخة في النفوس، ثم عمل باستمرار في تقويتها. ولا تنس ما في طبيعة الرجل العامي من الميل إلى تجسيم ما يكون صغيرا بحد ذاته وتكبيره.
قال دوسون: «إن فكرة القدر ترتكز عند المسلمين على ثلاث دعائم: (1) أن الاصطفاء لا يتناول إلا الحالة الروحية. (2) أنه لا ينطبق على جميع الجنس البشري، بل على فئة خاصة من القانتين المصطفين - حتى من قبل ولادتهم - ليكونوا في طبقة المختارين أو المرذولين. (3) أنه لا علاقة له بالطبقة الأخلاقية والمدنية والسياسية؛ فالرجل - وفقا لمبادئ هذه الديانة - لا يحرم في أي تصرف من تصرفاته من إرادته المطلقة.»
7
ليس مسلمو سوريا ملحدين كالأتراك؛ فهؤلاء لم تتوافر لهم أساليب التنوير نفسها؛ لأن جميع المؤلفات الدينية مكتوبة بالعربية. ومن الجائز أن يكون الأتراك مفتقرين إلى قوة الإرادة أيضا؛ فعدم مبالاة الأتراك باعتقاد عرفوه مستحيلا، واعتناقهم مذهبا لم تتضخم فيه الاعتقادات الباطلة جعلهم يمشون أولى خطواتهم نحو الحضارة. لم يبالوا بتحريم الخمرة فشربوها وأكثروا من شربها، وها هم يفرقون بين الشرب على الطريقة التركية والطريقة الفرنسية المعتدلة.
حكي عن شخصين كانا يتحدثان في مقهى عن تفوق الأوروبيين على الشرقيين، ولما كانا يحاولان اكتشاف ذلك، قال أحدهما للآخر: أوتعلم كيف يتلقن الفرنسيون العلم؟ بأن يشربوا كثيرا.
فأجاب الثاني: ها، ها! إذن ما علينا إلا أن نقتفي آثارهم. اشرب. ثكلتك أمك! لنكن علماء.
وحاول شريف نيل قسط وافر من الثقافة، فشرب حتى سكر، ولما رآه أحد أصدقائه على تلك الحال قال له: إنه لمن قلة الأدب والحشمة أن تظهر بهذا المظهر بين الناس. - إني أسير على الطريقة الإفرنسية! نعم، الطريقة الإفرنسية! وليس لأحد أن يقول لي شيئا.
إن أوهاما كثيرة عند العرب قد خلقتها عقلية الشيوخ المحشوة بالمغالطات؛ ومن هذه الأوهام الزعم بتأدية الحساب في الآخرة. وقد فتشت عن أساس لها في الدين فلم أجد. قال لي مسلم غني إنه يرجو خيرا كثيرا في العالم الآخر؛ لأنه لاقى كثيرا من الأذى في هذا العالم؛ ولذلك يترجى أن يعتاض عنها بملذات سماوية في العالم الثاني.
وبناء على هذا المعتقد، لا يتردد المسلمون في خدع إدارات الحكومة التي يعتبرون أنها أسست بصورة غير شرعية، كما أنهم يرون دواوين الجمارك - على الأخص - مؤسسة بربرية. فكأنهم يتفقون في هذا مع بعض مؤلفي علم الأخلاق والاقتصاد في أوروبا المتنورة، الذين لا يشجبون أعمال التهريب وحسب، بل يرون في المهربين أشخاصا يعملون للعمران العام،
8
ولا يرون معاقبتهم عدلا لأنهم يعملون عملا بريئا بحد ذاته.
وعلى رغم المشقات التي يكابدها السوريون للحصول على القوت الضروري، فإنهم يعدون العدة لصوم رمضان، والقيام بالحج، ناهيك بالصلاة التي يقومون بها على أكمل وجه.
صحيح أن ذوي الغنى واليسار يوزعون صدقات جمة خلال هذا الشهر الذي يتقشفون فيه، إلا أنه يجب أن أعيد القول إن أعطيات سكان بيروت - المفرطين في التقتير - لا تتناسب والحاجة التي يشعر بها الناس في هذا الشهر المكرم.
أما فيما يتعلق بالحج إلى مكة، فالذين لا يمكنهم الحج ركوبا يحجون مشيا على الأقدام. إنهم لا يحرمون وسيلة لتأدية هذا الفرض، فإما أن يعملوا في تمهيد الطرقات، أو في سياسة مطايا الحجاج وخيولهم، أو في نوع آخر من العمل كخدمة الحجاج مثلا.
والسوريون - نظرا لجهالتهم وقصر نظرهم - يقومون بالحج دون أي هاجس أو صعوبة، حتى إذا لم يحل حادث بينهم وبين العودة، وهذا قليلا ما يحدث، فإنه يخيل إليهم أنهم رجعوا من بلد غير بعيد، وهذا كل شيء.
وعلى الرغم من أن كتاب «جيل بلاس» لم يترجم إلى العربية، فإن متسولي هذه البلدان يحسنون كل ضروب حيل التسول.
9
فهؤلاء الشياطين المساكين يتركون غالبا بعد موتهم أكثر مما يتركه بعض الأشخاص الذين يعدون من طبقة الأغنياء. أما كيفية ظهور هؤلاء الشحاذين فهي فن قائم برأسه.
حكي عن أحد هؤلاء المتسولين - وقد كان ضريرا تدل مظاهره على فقر مدقع - أنه حفظ طائفة من العبارات المؤثرة، فكان يلقيها دائما في آذان المارة لترق قلوبهم ويتحننوا عليه.
كان يقف للناس في أماكن معلومة - في أحسن مواقع المدينة - حتى إذا ما هدأت الرجل أخذ يتمشى في الشوارع وفي يده سبحته. وحامت حوله الشكوك فبحث عنه، فعلم عنه أنه في غنى عن التسول، ولكن هي العادة تحتل عند مثل هؤلاء مكانة كبيرة فيجعلون منها طبيعة خامسة. وهم يشبهون الشحاذة بالكيمياء.
10
وكان هنالك شخص يراقب هذا الشحاذ الطاعن في السن، فعرف أنه يضع كنزه في عمامته، فتحين فرصة يكون فيها وحده في منعطف الشارع لينتزع عن رأسه تلك العمامة. وكم كانت دهشته عظيمة عندما وجد فيها زهاء خمسة آلاف قرش.
بكى الشحاذ الضرير وظل يعوي حتى يئس من معرفة مغتصبه؛ لأن أحدا لم يره. ورأى السارق تفجع المتسول بعد مضي وقت قليل، فرق لحالته واشترى له قطعا من الحلوى الرخيصة، وقدمها إليه قائلا له: كل يا صاحبي؛ فإنها تعينك وتقويك.
وأدرك الضرير من الرائحة التي تصاعدت إلى منخريه أن هنالك أكلا شهيا، فذاب شكرا وامتنانا لمن أحسن إليه.
وشرع يأكل، ولكنه انتفض بعد مضغات قليلة، وأمسك بالرجل صارخا: «إلى السارق! ليوقف السارق! هذا هو الذي سلبني مقتناي.»
فتراكضت الجماهير على الصراخ، وسألوا الضرير: كيف عرف هذا الشخص؟ فأجابهم: لم يخامرني أقل ريب في أنه هو الذي سرقني؛ لأني وجدت صعوبة في ابتلاع هذه الحلوى التي اشتريت بمالي ...
يحتج المسلمون للبخل والبخلاء بالكلمة القائلة: إن النعمة التي يمن الله بها عليهم ليست لهم، فما هم سوى مؤتمنين عليها.
هوامش
الفصل الحادي عشر
عادات المسيحيين
قلت في الفصل
السابع : إن المسيحيين اتبعوا عادة الأوروبيين في إحياء السهرات، كما اقتبسوا منهم عادة القيام بالزيارات دون أن تشرك النساء بهذه الأعمال المؤنسة إلا إذا كن من أقارب الزائرين أو بين أزواجهن إلفة شديدة. إن هذه الضروب من اللياقة ترتكز على المبادلة فحسب.
أما المسلمون فيخبئون نساءهم؛ لأن القرآن جعل لهم من ذلك سنة، والمسيحيون قد يأتون ذلك تقليدا لهم؛ لأن عاداتهم هي بالواقع شبيهة بعادات المسلمين. إن للنصارى أوهامهم وتعصبهم، وإن كانوا ذوي كفاءة في العلوم التي يظهرون فيها تفوقا. وقد لمست هذا التفوق في الأعمال الفكرية، ولا سيما الحسابية منها، بوجه خاص. ويظهر لي أن المسلمين لم يخلقوا لهذه العلوم؛ ولهذا نرى المسيحيين يشغلون مراكز أمناء السر، والمفوضين، وأمناء الصناديق.
إن الإسرائيليين دللوا على الأسبقية في علم الاقتصاد، وقليل هم الباشوات الذين لم ينتقوا صيارفتهم من الطائفة الموسوية.
وعلى الرغم من أن الكتب هي نادرة الوجود في الشرق، فالمسيحيون يملكون الكثير منها، فيتعلمون دروسا نافعة، فتسمو أخلاقهم.
والمسيحيون مدينون بثقافتهم إلى مخالطة الأوروبيين، ولا سيما المرسلين الذين يقيمون بينهم، ويزورونهم بصورة منظمة.
وتواريخ سوريا تنبئنا أن مسيحيين كثيرين مثلوا دورا هاما في الحقل السياس. وهذا يجب أن لا يدهش في بلاد كل شيء فيها متأثر بالرشوة. ولكن التاريخ يعلمنا أيضا أن هؤلاء الرجالات لم يكن لهم من العمر إلا ما يكون للشهاب، تاركين لعائلاتهم الذكريات المؤلمة.
إن موقف المسيحيين هو من أتعس المواقف في تركيا على الرغم من التحسينات التي شعروا بها بعد أعمال الإصلاح التي قام بها السلطان محمود، والتي أكملها السلطان الحالي؛ وذلك لأنهم يفتقرون إلى زعيم يلجئون إليه ويحتمون به.
إن افتقار الناس إلى ظهير ونصير في هذه البلاد قد حملهم على السعي الحثيث وراء نيل الحمايات الأوروبية. وهكذا، فإن أجمل حلم يمكن أن يتصوره عربي هو الاحتماء في ظل أحد القناصل.
ولكن قليلون هم من يرغبون في ذلك، رغم الرغبة المتبادلة التي تظهر عن ملتمسي الحماية والسلطات الحامية الراغبة في تنمية عدد هؤلاء؛ فالسلطة التركية - التي لا تتنازل إلا مكرهة عما لها من حقوق على رعاياها - تخلق ما تستطيع من العراقيل لتحول دون منح الحماية الأجنبية.
فأول امتياز يحصل عليه الجباة المشمولون بالحماية هو أن يعفوا من دفع الضرائب، مع أنه يجب ألا يستفيدوا إلا من الإجراءات التي تكفل لهم حرمتهم دون أن تلحق ضررا بالخزينة. إن الحماية لازمة إذا كان القصد منها دفع الظلم والجور.
إننا لا نفهم الدافع الذي حمل على اعتبار من هم في خدمة القناصل والتجار الأوروبيين غير خاضعين لمحاكم سلطتهم، ما لم نعرف أولا هذه البلاد معرفة دقيقة. كان ينبغي تجريد هذه السلطة من كل حق في ملاحقة من تعودت أن تعاملهم بقسوة بربرية. وهذه الأمور كان يمكن تغييرها لو عدلت الدول عن الامتيازات المكتسبة بقوة المعاهدات والعرف، وأعلنت وجوب تمتع تركيا بالحقوق التي تتمتع بها بقية الشعوب في البلدان الأخرى. ولكن هذا يؤدي إلى تقوض التجارة الأوروبية في سوريا؛ فهي لا يسعها الاستغناء عن العمال المسيحيين - أبناء البلاد - كما أنها لا تجني منهم نفعا مجديا إذا لم ينعموا بالعصمة القديمة نفسها. وهكذا يصح قول المثل: السلطة تصيب التاجر إذا ما ضربت السمسار.
الفصل الثاني عشر
عادات المسيحيين أيضا - إنها تختلف قليلا عن عادات المسلمين - ملابس النساء - اتباع العادات الشرقية - أوهام - تقتير - حيل أثناء الأكل - غنى عام - الولع بالبناء - الأعراس. ***
يدهش الأجنبي الذي يزور سوريا أشد الدهشة عندما يلاحظ أن المسيحيين (الرجال منهم) لا يختلفون عن الأتراك إلا بملابسهم الأشد سوادا من ملابس أولئك؛ ذلك بأن النساء عند كلا الجانبين يرتدين ثيابا لا أثر للتأنق فيها أو الهندام. إن جسدهن يلفه نوع من الملاءة ووجههن يغطيه منديل، عملا بالآية:
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين (سورة الأحزاب: آية 59).
ثم إن الكشف عن قدم جميلة محرم على نساء الشرق، فعليهن أن ينتعلن جزمات عريضة أو بوابيج مستديرة الشكل. وهذا ما يضطرهن إلى الاستعانة بخرق عتيقة يلففنها حول القدم ليستطعن بها سد فم اللستيك (خف بدون نعل) وإحكام البوابيج (سندال) في أقدامهن.
ويلاحظ أن النساء يتجهزن بما هن في حاجة إليه دون أن يلجأن إلى الإسكافي ليأخذ القياسات المختصة بأرجلهن. وأظن أن الاتساعات المختلفة التي تفرضها مراحل العمر - في أطواره المتعددة - غير موجودة أيضا؛ إنها بعد أن تنمو نموا كاملا، تخضع للقياس عينه، سواء أكانت سمينة أم رقيقة، طويلة أم قصيرة. إن الدين الإسلامي يعفيهن - كما نرى - من سجن أحذية الإسكافي.
أما المسيحيون، فيبدو أنهم اقتبسوا عاداتهم عن كتبنا المقدسة أيضا، وهي العادات التي ترجع عندنا وعند المسلمين إلى أصل عبراني: حجر النساء، فصلهن عن الرجال في المعابد، إجبارهن على البقاء محجبات.
أصبحت هذه العادات فرضا على جميع النساء اللواتي يسكن هذا البلد، حتى إن الإفرنسيات اللواتي ولدن في سوريا - وكن مجبرات على التقيد بهذا العرف - اضطررن إلى اتباعه، ولكن ضمن نطاق محدود، وفي علاقاتهن مع أبناء هذه البلاد الذين يعدون كل مخالفة لعاداتهم خزيا وعارا؛ فكل من يظهر أمامهم بغير المظهر الذي أوجبته عاداتهم يرتكب جريمة بخروجه على قواعد الآداب واللياقة.
أفلا نشمئز نحن في أوروبا ممن يخرج على دائرة تقاليدنا؟ إننا نترك هذا الأثر نفسه في نفوس المسلمين، بل أشد منه كثيرا؛ لأن الشريعة الدينية هي التي نظمت كل شيء عندهم، فكل أذاة تلحق بأحد أحكامها تصبح جرما فظيعا ومدنسا لقدسياتها.
وبناء على هذا؛ أراني لا أستنكر أبدا أعمال نسائنا اللواتي يجدن أنه من اللياقة أن يرتدين ملابسهن على الطريقة الشرقية، أو يتبعن بعض العادات المحلية، ولكني لا أرتضي أبدا أن تتشرب نساؤنا المتمشرقات هذه الأوهام التي لا تحصى؛ إذ يستحيل عليهن أن يحافظن - بعد ذاك - على تقاليد حضارتنا الأوروبية.
إن الأوهام كثيرة الانتشار في سوريا، وبما أن البيروتيين ليسوا بالشعب الأشد ذكاء من غيره في هذه الولاية، فقد تأصلت هذه الأوهام في عقولهم بسهولة فائقة؛ فمن أوهامهم وخرافاتهم مثلا: إذا أردنا أن تصل رسائلنا إلى أصحابها يجب علينا أن نرميها على الأرض، لا أن نسلمها يدا بيد إلى ساعي البريد أو الرسول. وإذا قطعنا جزءا من طرف ورقة السند فهذا يعني أننا ننوي الإيفاء كاملا. وإذا شئنا أن نسر شخصا بأن نهدي إليه منديلا فلا بد من أن نمزق - ولو قليلا جدا - أحد أطرافه؛ ولكن هذه الخرافة لفظت أنفاسها الأخيرة لما صار تطريز حواشي المنديل علامة التكريم والترف.
أما إذا أراد شخص أن يكتب إليك وينبئك بحرج موقفه، أو الخطر الذي يحدق به، فإنه يحرق أحد أطراف الرسالة قبل إرسالها.
والبيروتيون يحتلون المكانة الأولى بالتقتير على أنفسهم في جميع ضروب المعيشة. إلا أني بعد أن تعرفت بأهالي حلب أقول - اعترافا بالحقيقة - إن سكان بيروت يتخلون لهؤلاء عن الأولية ...
إن سكان بيروت يضيفون - بصورة متصلة - أبناء الجبل ورجالات الأساكل الذين تجتذبهم أعمالهم التجارية إلى مدينتهم؛ لأن الأهلين في الشرق هم الذين يهتمون بإيواء من يأتي راكبا أو على الأقدام بناء على كتاب توصية يقدمه. وهذا ما يتعب ويدعو إلى النفقات مهما تكن منزلة الشخص؛ وهكذا نجد في كل بيت تقريبا عدة أسرة معدة للنزلاء.
أما ما يلام عليه البيروتيون فهو أنهم يحاولون أن يجعلوا من البخل فضيلة؛ فأطيب الأحاديث على موائدهم هو التحدث عن منافع الإقلال في الأكل، وهم ينتهزون فرصة الجلوس حول المائدة ليفيضوا في التكلم عنها مع ضيوفهم، حتى إذا كان هؤلاء من ذوي القابلية العنيفة يشعرون في الحال أن الإقلال من الطعام واجب ونافع، وقد يتحدث صاحب الدار عن الضائقة الآخذة بالخناق، ويأخذ بالتشكي والتأوه، ثم يبالغ في شكواه ليدل على قيمة كل لون من ألوان الطعام، لا بل ثمن كل لقمة، وكأنه يقول لمؤاكله: «إن اللقمة التي تضعها في فمك تعود علي بكذا بارات!»
وعندما لا تسفر هذه الطرق عن النتائج الطيبة، فصاحب الدار - الذي يمكنه أن يعتمد أساليب أخرى - يسأل ضيفه عن نوع العلة التي مات بها أبوه أو أمه. إنه يعلم أن الذكرى المؤلمة، والانقباض الذي يشعر به وهو يروي الحوادث التي استبقت هذه الخسارة القاسية، يحدان غالبا من نشاط قابليته إذا كان نهما، وقد أحس أحد الظرفاء بهذه الشراك المنصوبة له فأجاب بسرعة: «بالموت الفجائي!»
ويروى أن أحد هؤلاء البخلاء الفطاحل دعا سائحا أجنبيا إلى تناول الغداء على مائدته، وبحجة تأخر إعداد المائدة لسبب طارئ غير منتظر، سأله الخروج إلى الحديقة حيث يستنشق الهواء النقي، وهنالك أغراه منظر الثمر على الشجر، فدعاه إلى أكل التين الأخضر الشهي.
وبسرعة الشهب استيقظت قابلية الضيف الذي كان لا يزال صائما على الرغم من أنها الساعة الثانية بعد الظهر، فلبى الدعوة فورا. ولما كان نهمه يتطلب إشباعا سريعا، فقد ابتدأ يستثمر شجرة التين دون أن تستوقفه قشور ثمارها، غير مميز بين الناضج والفج. وكان ذاك البخيل يلاحظ ذلك متهللا، شاعرا بسرور عظيم وهو يفكر بكمية الطعام التي يوفرها، ومع ذلك فإنه لم يشأ أن يستعجل الأمور، فترك الرجل على هواه، وغمز ابنه ليظل مرافقا له، ولا يدعوه إلى المائدة إلا عندما يبدا بتقشير الأثمار لأنه يكون قد شبع؛ فتأمن السفرة شره ...
لست أدري إذا كان مسيحيو بيروت يميلون إلى الاعتقاد القائل بوجود «تعويض» في العالم الآخر. إلا أني أعرف رأي الكثيرين منهم في ضروب المكر والغش والخداع، وهم يسمون هذا دهاء ولباقة.
والعرب يرون أن إلمامهم من كل فن بطرف يدل على وفرة معارفهم وسعة اطلاعهم، أما ما عرفوه حقا ونبغوا فيه فهو انصرافهم إلى صيانة ثرواتهم التي لم تتعرض لخطر ما منذ عشرات السنين؛ فمدينة بيروت كانت مسرحا لبعض الحوادث التي ألحقت ضررا كبيرا بالأهالي. بيد أنها أدت خدمات جلى إلى التجار الذين أحسنوا الاستفادة من الظروف في الأمكنة التي يبيعون فيها ويشترون.
وأستطيع القول بعد أن رأيت ما رأيت من السعة التي ظهرت في إسكلة بيروت، عندما ازدهرت فيها الأعمال التجارية: إنها - بوجه نسبي - أكثر ثراء من دمشق وحلب. إننا لا نجد اليوم شخصا بيروتيا مرموقا لا يملك - على الأقل - بيتا في الجبل. وفي هذه الأبنية التي تغمرها غالبا روح الفخفخة أكثر من الذوق السليم، تدفن معظم الثروات. إن حب البناء هو بصورة عامة داء معد عند الشرقيين. إنهم يحرمون بذلك أنفسهم من رأس مال يدر عليهم أرباحا وافرة لو بقي في صناديقهم، ويساعدهم على توسيع دائرة أعمالهم دون أن يضطروا في الساعات الحرجة - وهم معرضون لذلك كثيرا - إلى الاستدانة المهلكة بفائدة أربعة أو خمسة بالمائة عن كل شهر.
إن البيروتيين شعب مسالم هادئ، ومع ذلك لا يستنكرون الاغتياب والنميمة، وإذا حصلت منازعات ما بسبب هذه الوشايات فإن الأصدقاء المخلصين أو الكهنة يتدخلون حالا؛ وهكذا يسود الأمن وتعود السلامة إلى مستقرها. والعرب في كل حال ليسوا بحقودين، وإننا نستطيع القول إن أخلاقهم لا تزال تحافظ على شيء من بساطتهم وطهارتهم الفطرية.
إن حفلات الزواج المسيحية تختلف في بعض الأمور عن الاحتفال به عند المسلمين؛ فعند تحرك الموكب الذي جاء لأخذ العروس،
1
تأخذ هذه تظهر الإحجام عن الذهاب، ويأخذون هم في استعطافها لتمشي وتسرع، أما هي فتصر على الإبطاء، فيتدخل الأقارب والأصدقاء، والإشبين والإشبينة (شاهدا الزواج) بنوع خاص، فتستجيب لطلباتهم الملحة، وتتقدم خطوات، ولكن لتعود إلى ذلك بعد هنيهة، وهكذا تتجدد وتتكرر هذه الخطة الحربية مرارا ... ومتى بلغت بيت العريس وأدخلت إليه، تجلس على منصة - صندوق أو ما يوازيه علوا - غاضة طرفها. إنها تجمد كالصنم لا تتحرك، وعلى الزوج أن يطعمها، فيملأ الملعقة ويقدمها لها. أما هي فلا تفتح فمها إلا بعد ألف رجاء. إن التوسلات الحادة تتصاعد من أفواه جميع الحاضرين، ولما كان لا يليق بالعروس أن تتكلم، فإنها تقابل هذه الأحاديث اللطيفة التي تدور حولها بصمت ثابت الجأش، وإذا اضطرت للجواب فإنها تميل برأسها إلى الوراء لتقول لا، وترجعه إلى الأمام لتقول نعم.
إن مشغلة الزوجة العظمى هي أن تقبل أيدي جميع الذين يدخلون البيت الذي تكون فيه مع المدعوين، وإذا خرج أحد هؤلاء وعاد بعد قليل فتقبيل يده واجب أيضا. أما إذا كان الداخل زوجها فإن القبلات تكون أوسع نطاقا.
أما عند الأرمن، فالزوج عندما يقدم إلى امرأته - بعد أن يقتبل بركة الزواج - فإنه يرفع الحجاب الأحمر الذي يغطيها بحد السيف الذي يسلمه إياه الكاهن، بعد أن يكون قد وضعه بين العروسين خلال الاحتفال الديني لمباركة عقد زواجهما.
إن العروس لا تلبس ثيابها ولا تتزين إلا في بيت عريسها، وذلك قبل أن تتقدم إلى الكاهن، وقد نسيت أن أقول إنه من الشائن أن يحضر الشاب العريس الاستعدادات التي يقام بها لحفلة عرسه، بل عليه أن يختبئ برصانة ودهاء فلا يعثر عليه إلا بعد مشقة وعناء.
هوامش
الفصل الثالث عشر
السلطات التركية - مبادئها وأنظمة العدالة - مساوئ الإدارة. ***
إن قوام سلطات بيروت المتسلم، والقاضي، والمفتي، هذا إذا لم تدغم هاتان الوظيفتان الأخيرتان، ثم مأمور جمارك، وهو غالبا مسيحي ومن العوام. أما الرسوم المترتبة على دخول البضائع وخروجها، وعائدات الدولة الأخرى، فتضمن كلها - كما سبق القول عنها - في الفصل
السادس .
وهنالك أيضا إدارة صحية يرأسها مدير مسلم. إن كل هذه المؤسسات العامة التي يديرها مأمورو الحكومة أو الخاصة من الناس تتبع في منهاج أعمالها مبدأ واحدا؛ إنها تتبع الطريقة القديمة التي حررت بعض وجوهها، ولكنها لا تزال تطبق ولو بصورة خفية على الأقل؛ فالرشوة والظلم هما دائما دعامتها. وإذا كانوا لا يحاولون إلا مراعاة الظواهر فلأن السلطات العليا تبدي رغبتها في التمسك بالإصلاحات التي أقرتها البلاد. إن الباشوات هم أيضا محافظون من الطراز الأول؛ فلا يأبهون للشريعة، بل يتجاوزون حدودها على أوسع نطاق ممكن.
إنه يصح القول هنا إن مصير أهالي سوريا قد تحسن قليلا في بعض الأماكن وعند بعض الأشخاص. لقد كان ذاك المصير مشئوما في ظل النظام القديم، ثم أصبح أشد شؤما أيام المصريين، إلا أن عودة العثمانيين خففت قليلا من حدته.
وفي الزمن الذي كان يحكم فيه باسم محمد علي، كان يصح الاستشهاد بهذا المقطع من «الأطلال»
1
الذي يصور ذلك العصر:
لقد نهب الآغا الفلاح، وهكذا تضاءلت المزروعات. إن الزارع لم يستطع أن يلقي البذار لأنه حرم التسليف؛ داهمته الضريبة ولم يتمكن من دفعها، فاستدان لأنه هدد بالعصا، والمال كان مخفيا نظرا لفقد الثقة. كانت الفائدة فاحشة؛ وهكذا زادت مراباة الأغنياء في بؤس العامل.
تضاف إلى ذلك تقلبات الفصول والجفاف البالغ الحد، فحالت دون نضوج الأغلال. إن الحكومة لم تمنح أية مهلة لدفع الضريبة أو الإعفاء منها. وهكذا فإن قسما من الأهلين فروا إلى المدن عندما أناخت الفاقة على القرية؛ فالتكاليف التي ألقيت على عاتق الذين لا يزالون يقطنونها زادت في طينة بؤسهم بلة، فأقفرت البلاد.
وحدث أن تآمرت القرى عندما أشبعت ظلما وهوانا، فسر الباشا بذلك، فحاربهم: هاجم منازلهم ونهب منقولاتهم ومواشيهم، أما الأرض فظلت مقفرة، فأتي بأناس يفلحونها على حسابه الخاص؛ لأنه لا يشاء مغادرة سوريا.
لقد عرف السيد ميشو - عندما زار مصر - حقوق التملك في هذه البلاد معرفة صحيحة، فكان يقول:
ما قيمة الملكية العقارية في ظل الحكومات المستبدة التي تستطيع - عندما تشاء وكيفما تشاء - أن تغتصب الأراضي؟! إن الأرض لهي ملك من يستطيع أن يسألها عما تنتج، وأكثر مما تنتج.
2
قيل: إن المصريين قاموا كثيرا بحراثة الأراضي البور وغرسها في سوريا، ولكن لحسابهم الخاص، بعد أن انتزعوها من مالكيها الحقيقيين. كانوا يدمرون القرى الخاصة ليبنوا أخرى تكون بكاملها لهم؛ فطريقة تعديهم المتجاوزة الحد كانت ترمي إلى أن تجعل من سوريا مصر ثانية لها، ولا يمكن تأويل تلك القساوة وهذه الأساليب التي اتبعت إلا بالرغبة في الوصول حالا إلى هذه النتيجة: امتلاك سوريا امتلاكا تاما.
والذين كانوا يقطنون سوريا، يوم كانت تحكم بصورة تعارض مصالح محمد علي ورغباته وأمانيه، يعلمون أن هذا الكلام غير مبالغ فيه. ويمكننا هنا أن نضيف بعض خطوط تزيد هذا المشهد تعاسة؛ فقد كلفوا المقيمين أن يدفعوا ضرائب المهاجرين، فأحرجوا موقف الكثيرين من الفلاحين المسلمين والنصيريين، فاضطروا أخيرا إلى بيع بناتهم ليخرجوا من هذا المأزق الحرج، وقام المصريون بهذه الأعمال وفقا للمبدأ السياسي التركي القائل بوجوب إرهاق الشعب؛ لأنهم على يقين بأنه لم يجرؤ على الاستغاثة بصوت عال، أو - على الأقل - لأنه من الصعب أو من المستحيل أن تبلغ صرخاته آذان السلطان.
3
كانت الحكومة تلاحق - بشدة وعنف - مبذري أموالها الخاصة، أما المختلسون فكانت تحيلهم إلى الديوان.
4
وهذا الديوان كان يغير طريقته إذا ما رأى نفسه تجاه قضية واقعة بين الموظفين الرسميين والشعب؛ فالشعب دائما هو المذنب، وخلاف ذلك لا يكون أبدا.
وهذه القاعدة كان يعرفها السواد الأعظم من الناس، حتى إن أصحاب الدعاوى أو الذين يحق لهم أن يرفعوا صوتهم بوجه الظالمين القساة كانوا يحجمون عن ادعاءاتهم لأنهم على يقين تام بأن التجاءهم إلى المحاكم لا يعود عليهم إلا برؤية أشباح ممثلي الحقيقة، وأنه يمكنهم عند التلفظ بالحكم أن يقدروا المحاباة.
لم تكن السلطات تعطي الحق صاحبه إلا إذا كانت «واسطته» قوية، أو تعضده إحدى القنصليات. والالتجاء إلى البرطيل يزيد الخير خيرا؛ إنه مركبة لا يستغنى عنها وهي - بصورة خاصة - ضرورية «للرؤساء» الذين لا يتمتعون بحماية ما، ولا يستطيعون - نظرا لضعف نفوذهم - أن يديروا دفة هذه الدسائس لتجري الرياح بما يشتهون. وإن لم يفعلوا فقضاياهم لا تنتهي، وإذا انتهت فإنما يكون ذلك ببطء، فيصح حينذاك تطبيق المثل الشرقي: يصطاد الأرنب من أعالي المركبة.
إنه لا يستطاع في البلدان التي يسود فيها الظلم أن يطرق الموضوع بصراحة دون أن يفسد كل شيء ... ومن هنا جاء تحفظ القناصل، الشاق بحد نفسه، وإن أكسبهم مظهر اللباقة والكياسة، مع أنهم لم يفطروا عليهما.
إن الإصلاحات
5 - كما سبق لي فقلت - كانت تلمس في سير أعمال المؤسسات الحكومية، ولكن طرق العدالة الحقيقية ظلت على ما كانت عليه في الماضي ملطخة ببعض المساوئ، حتى إنه لا يمكن الحصول على الحق إلا باللجوء إلى أساليب كثيرة اللف والدوران تسهل المماحكات والنتائج للذين يستفيدون منها.
وهنالك ظاهرة أخرى يجب أن تضاف إلى سابقاتها، تأييدا للفكرة القائلة: إن الأتراك هم شعب مناقضات. تلك هي وساوس المحكمين والقضاة والأئمة؛ إنهم بعد أن يساوموك في حل قضية أو استيداع ملف، يرفضون قبض المبلغ مباشرة، بل يطلبون منك أن تضعه على الأرض ليستطيعوا الحلف - فيما بعد - أنهم لم يقبضوا شيئا: لقد وجدوا المال المذكور على الأرض فالتقطوه، وهذا لا يمت إلى الإثم بصلة ما.
وبعد، فأظن أن هذه التدابير والاحتياطات الغريبة لا تؤخذ إلا تجاهنا، وفي نية خداعنا؛ لأن شعار هذه المحاكم هو أن من يدفع أكثر من سواه يربح قضيته إلى حين، وأن الدعاوى لا نهاية لها.
لا ندري كيف نفسر امتداح لافونتين لهذه المبادئ عندما يقول: «عسى أن يبت بجميع الدعاوى على الطريقة التي يتبعها الأتراك. إن الشعور العام البسيط يكون عند ذاك شريعتنا.»
صحيح أن مونتسكيو قال بعد ذلك: «لو كان الحكم المستبد عادلا لكان أحسن الأحكام.»
والسيد «توت» كان يعني - ولا شك - أحد تلك الآراء في هذا المقطع من مذكراته:
وأنت يا من تألمت بحق من كثرة هيئاتنا القضائية ومضارها، وتجرأت على القول - دون أن تتأكد - إن العدالة عند الأتراك هي أفضل من عدالتنا، تفحص بانتباه هذا المشهد الذي سأقدمه لك، وإذا كنت لبيبا فصف لنا بعض الأدوية اللازمة لهذا الفيضان الذي يضر بنا، أصلح عدم اعتدالنا، ولكن لا تنسب إلينا الضعف والعوز.
6
أريت قاضيا - قام بزيارتي - غرف مسكني التي تختلف اختلافا تاما عن غرفه، فوجد سكينا على مكتبي كثيرة الشفار، وعندما لاحظت أنها أعجبته قدمتها إليه، إلا أنه أجابني أنه لا يستطيع قبولها دون أن يدفع ثمنها، فاعتقدت أن ذلك ناشئ عن مقت هؤلاء الأشخاص للهدايا. غير أن تمنعه كان يرتكز على سبب لا يقل عن ذلك دقة؛ فمن تقاليدهم أن لا يتهادى الأصدقاء أشياء جارحة؛ فقبلت عند ذاك وأخذت ثمن سكيني أصغر قطعة من النقود التي شاء أن يعطيني إياها: عشرة سنتيمات.
إن مثل هذا الوهم هو عام عند كل السوريين، فالنساء لا يناول بعضهن بعضا الإبر، أو الدبابيس، أو المقصات.
إن شيوع الرشوة عند السلطات التركية - في بلاد يثير فيها التعصب ضروبا من المشاكل بصورة مطردة - لأمر يمكن الاعتماد عليه. ولقد حملت على الاقتناع بأن ذلك تدبير إلهي، وهو نافع - في الغالب - للمغلوبين على أمرهم. إنها أنبوب يقي من التسمم؛ فبدون هذه الطريقة التي هي خشبة النجاة لا يستطيع مسيحي أن يعيش في ظل السلطنة العثمانية.
لنتصور الحظوظ التي قد نمر بها في بلاد لا قيمة فيها للمستندات والتواقيع والأختام، إن مصير كل شيء فيها منوط بالشهود المسلمين.
وقع خلاف بين مسيحي وتركي فصفعه المسيحي على خذه عندما استفزه بسبابه وشتائمه، فرفع التركي دعواه إلى القاضي، فاستدعى إلى حضرته الأشخاص الذين حضروا المناوشة ليعاقب الوقح. ولو لم يبادر أقرباء المسيحي المهان ويراجعوا القاضي لحكم عليه.
فقد أقنعته حججهم الصفراء والبيضاء، فأجل إحضار المدعي إلى الغد، حتى إذا حضر إليه المدعي ثانية أوفد من يفتش عن المتهم، ولكنهم لم يعثروا عليه لأنه كان قد هرب ... فاغتنم القاضي هذه الفرصة ليهدئ من هياج المدعي، فقال له: إن الجزاء الحق من جنس العمل، وهو ينحصر في رد الصفعة لفاعلها؛ ولذلك يقتضى إحضار المسيحي إلى المحكمة.
ولما أدرك المدعي تحيز القاضي تقدم منه ولطمه بعنف على خده قائلا له: إن أشغالي لا تسمح لي بالتأخر، أرجوكم عندما يأتي المدعى عليه أن تحولوا له هذه الصفعة.
إن شريعة العين بالعين والسن بالسن تطبق دونما تمييز بين الأشخاص. إلا أن القضاة يصدرون أحكامهم تبعا لمذهب المذنب ... فلو لم يرش القاضي لما حكم إلا بالسجن الطويل الأمد عقوبة لهذه الجريمة، ولا تكون القضية على هذه الخطورة لو أن تركيا لطم مسيحيا.
إنهم يحكمون بناء على ادعاء شفوي. يحضر القاضي المتهم حالا، فيحاول هذا الأخير تبرئة نفسه جهده عندما يبلغ الجرم المنسوب إليه، وعلى الفريق الذي يريد إثبات مدعاه أن يسمي عند ذاك شهوده، وبعد استماع أقوال الشهود يلفظ القاضي الحكم فيكون مبرما، والذي يحكم عليه يدفع النفقات.
إن الذين عرفوا أساليب المحاكمة في أفريقيا يسهل عليهم أن يتخيلوها في سوريا:
يستمع القائد إلى أقوال الفريقين الجالسين القرفصاء قرب باب القاعة، بينما يكون هو ممددا على سجادة وبضع وسائد، ثم يحمي وطيس النقاش. وفي بعض الأحيان يتكلم القائد والمتداعون معا، ويتعالى الكلام - وعلى الأصح الصراخ - دون أن يسمع أحدهما الآخر، فينهال الجنود على المتداعيين بضرب قاس ليلزما الحشمة والأدب، وعند ذاك يلفظ القائد حكمه، فيخرج المتداعيان تحت ضرب الجنود ورفسهم لينفذ الحكم بلا هوادة.
7
إن الوساطات التي تستخدم للتأثير على السلطات هي بلا مراء تشجيع للإجرام؛ فالحالات التي يعفى بها عن المجرم بعد الحكم عليه تخلق - كما يستدل - عددا كبيرا من الجرائم.
إن القوانين رغم صراحتها لا تخيف في تركيا إلا السارقين الضعفاء، أما الأقوياء منهم فإنهم يخرقون حرمتها دائما ولا يعاقبون في أكثر الأحيان.
إن التفكير بالمثول أمام محكمة من هذا الطراز، ولا سيما في بلاد لا محامين فيها، والقضاء يقول كلمته دونما تنظيم محضر أو تدوين كلمة؛ لمروع رهيب. إنني أستطيع أن أستشهد هنا بأقوال عدة سائحين حول كيفية إحقاق الحق في ظل السلطنة العثمانية، غير أني أكتفي الآن بما قاله أحد هؤلاء وهو السيد ديجون بعد أن عرف الدولة العلية حق المعرفة، وشغل فيها خلال ثلاثين سنة منصب ضابط ارتباط قبل نشر كتابه، قال:
تنظم الأحكام عادة بسرعة كلية، فلا تعوق إعدادها صعوبة فهم النزاع؛ وهكذا فإذا كانت القضية تدرك بعض الشيء فمحاكم الأتراك أسرع إلى حلها من محاكم جميع الشعوب. بيد أن الطريقة التي تتبع في إحقاق الحق عاجلا، كثيرا ما تؤدي إلى أخطاء مخيفة؛ فهنالك أشخاص - في القسطنطينية على الأخص، وفي مدن تركيا الكبرى عموما - لا عمل لهم إلا الشهادة بالزور، وقد جمعوا من جراء هذا العمل الدنيء السافل ثروة لا يستهان بها. إن طالبي حلف اليمين ليسوا أكثر وساوس منهم؛ وهكذا فإن العدالة تسير مغمضة العينين، ولا تنطق غالبا إلا بالأباطيل.
8
والعثمانيون لديهم مجموعات من القوانين ألفها مشترعوهم الشهيرون، وهي مستقاة من قوانين يوستنيانوس. إلا أنهم لا يرجعون إليها إلا ليسبغوا صباغ الحق على حكم حملتهم الشفاعة والوساطات على النطق به.
هوامش
الفصل الرابع عشر
لغة وآداب عربية
يزعمون أن مصير لغة الأمة مرتبط بحالة البلد الذي يتكلمها، وأنها تخضع لما يحدث فيه من انقلابات وتقلبات؛ وعليه فإذا كانت لغة العرب قد فقدت روعتها بسبب الاضطرابات حتى أصبح شأن من ينطق بها شأن رعايا دولة أجنبية، فإن مدينة بيروت - التي هجرت مدة طويلة لأنها إقطاعة من الجبل، ولأن الحكومة كانت تحاول توجيه أعمال التجارة إلى صيدا - قد شعرت بابتعاد الأشخاص الذين كان يمكنهم أن يحافظوا على اللغة. إن الاحتكاك بالرجال المثقفين ومذاكرتهم، في هذا البلد، هما السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى معرفة صحة الألفاظ أو خطئها؛ لأن المعاجم نادرة جدا، وطريقة التفتيش فيها عن الألفاظ شاقة وصعبة جدا.
فالثقافة في الشرق تؤخذ من أفواه الرجال لا من بطون الكتب، فبقليل من هذه المعلومات السماعية السطحية التي يقتبسها وجهاء الرجال يتوصلون - إذا ما استعانوا بدراهمهم ومفعول الحماية - إلى أشغال المراكز الهامة.
إن السلطات هنا تهتم بتنسيق أعمال دوائرها محاولة أن يصلح موظفوها لغايتين: تطلب من واحد أن يعرف جغرافية تركيا، ومن الثاني أن يعرف تاريخ البلاد، ومن الثالث أن يفصل في الدعاوى، ومن الرابع أن يكون قد درس أصول الحكم، ومن الخامس أن يلم - ولو قليلا - ببعض المعلومات الأوروبية.
ومتى وجدت هذه المكتبة الحية يعتقد باشواتنا أن مواقفهم لن تحرج أبدا. فإذا دعت الحاجة إلى حل قضية عرضت في مباحثة ولم يوضحها المحدثون، فعوضا من أن يفتش عن حل لها في هذا المؤلف الخاص مثلا، أو ذلك المعجم، فإنهم يدعون تلك المكتبة الحية فتجيب حالا؛ وهكذا تنتهي المشكلة.
فهمت من قنصل عام أن محمد علي كان يلجأ إلى هذه الطريقة حين يضطر إلى الاستيضاح عن معلومات يجهلها، وكان يزعم، كلما احتاج إلى رجل يستشيره، أن ذلك الرجل كان في خدمته منذ سنوات عديدة، وهو يعرف صحراء سوريا أدق معرفة، في حين أنه لم يعرف الرجل إلا منذ أشهر، وهذا ما يدل على أن نائب السلطان وهب ذاكرة وقادة، وبهذه الميزة السامية يتحلى ولده إبراهيم باشا.
إن فولني الذي أقام مدة طويلة في سوريا، ودرس اللغة العربية، قد تحقق أن لهجة سكان بيروت تعد بحق أسوأ اللهجات، اجتمعت فيها وحدها عيوب البيان الاثنا عشر التي ذكرها النحاة العرب.
1
ويصف عثماني نطق أهالي حلب بالميوعة والرخاوة، ونطق الدروز بالقساوة والفجاجة، ويقول إن نطق أهل الشام قوي متساو واضح، وإن نطق الموارنة مضموم، وإن نطق سكان القدس وطبريا والقرى المجاورة مفتوح.
إن الإنشاء - أسلوب الكتابة - هو رمزي دائما في سوريا، حتى إن لغتها العامية حافلة بالتشابيه والاستعارات والمجاز.
وفي المراسلات - بوجه خاص - يدفع هذا الفن إلى أعلى قممه؛ إذ يصعب هنا أن يرسل الكلام عفو الطبع؛ فالأشخاص تشبه بكائنات خيالية أو وهمية، وقد تمسخ لأن الصور التي تشبه بها لا تنطبق عليها، وكثيرا ما يأخذون تشابيههم من أشياء لا تألفها عامة البشر، فيعبرون عن أفكارهم بالعطور والأزهار والصبا والدرر والأشياء الأخرى من نسيج وغيره.
إن عبارات المجاملة التي قولها موليير لكلايانت كانت مستوحاة من عادات الأتراك، وإحدى هذه المجاملات كانت ترمز إلى الآية: كونوا حكماء كالحيات، وودعاء كالحمام.
2
ويجب أن نعترف مع ذلك بأن أبرز خاصيات اللغة العربية تنحصر بموافقتها التامة للخيال، وأن تبني هذه اللغة الأسلوب الرمزي هو نتيجة حب الناطقين بها للاستعارات.
كتب السيد ف. ج. ماريال - العالم الشهير باللغات الشرقية: «إن لغة المديح نشأت عند الدول الشرقية؛ ففي هذه البلدان، حيث يعتاد الأمراء منذ طفولتهم الإطراء السمج، لم يرتقوا عروشهم إلا ليمارسوا أعمال الظلم المستبد. لم يكن يجرؤ أي امرئ أن يسدي نصائحه بلا تزلف ومحاباة، فسيف الأمير كان مصلتا فوق الرءوس بلا تمييز، وهو يستطيع في كل ساعة أن يقتل مستشاره اللبق إذا جرحت آراؤه كبرياء مولاه. «فهذه الخشية هي التي اضطرت حكماء الشرق وفلاسفته إلى لف أمثالهم بستار من الرموز، وهي التي حدت بهم إلى خلق الأساطير والخرافات.»
وهنا يصدق قول بيفون: إن الأسلوب هو الشخص نفسه. فموقف العربي يقضي عليه أن يكون دقيقا، متحفظا، لبقا؛ ومن هنا جاءته طريقته المتبعة في الإفصاح عن أفكاره.
أما اليوم فالأدب لا يزال حيث تركه الكتاب السابقون. وإذا عد هنا وهنالك بعض مفكرين، فإن هؤلاء جميعهم من الشعراء الصغار. إننا نجد من هؤلاء مسيحيين في الجبل - هما ناصيف اليازجي وبطرس كرامة - وفي حمص الشيخ حسين الجندي الذي لاقت أزجاله وأناشيده رواجا كبيرا.
3
سأل السيد ميشو أحد أصحاب المكتبات في القاهرة عما إذا كانت ظهرت مؤلفات جديدة، فأجابه: «ظهرت بعض الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية، ولا شيء غير ذلك.» ثم قال لي السيد ميشو: «وسألته عما إذا كان هنالك اليوم شعراء في عاصمة مصر؛ فأجابني: ليس في مصر اليوم غير ناظمي الأغاني الذين ينظمون مواويلهم للمناسبات
4
وبلغة العوام.»
وإذا كانت مصر التي تنعم بحكومة منظمة ترأف بشعبها - كما يقولون - لا تمد الكتاب والشعراء، فلا يمكن أن يطلب ذلك بحق من سوريا.
وقال السيد ميشو، في إحدى رسائله، عندما درى أن الطباعة المصرية لم تهتم إلا بإعادة طبع المؤلفات التي نشرت سابقا في باريس: «إن الشرق يتلقى كل شيء من وراء البحار حتى التآليف التي صنفها أسلافه، وهذه الخاصة من مميزاته . إنه لفي أشد الحاجة إلى هذه المؤلفات التي تأتيه من الغرب؛ فهي التي تشحذ مطالعتها قرائح شعرائه.»
أما في حقل الأدب فالعرب لا يكتبون في أيامنا هذه إلا أناشيد خفيفة، وما أقل ما يكتب منها بأسلوب رفيع! حاول صاحب مطبعة على الحجر أن يعيد طبع ديوان الفارض على نفقته، فلم ينفق شيئا من تلك الطبعة على الرغم من تدني أسعار النسخ.
وبعد، فليست الكتب وحدها هي ما يفتقر إليه العرب ليوسعوا ثقافتهم. إنهم مفتقرون أيضا إلى الذوق والهدوء والثقة، تعودوا أن يكونوا أبناء الساعة التي هم فيها، وهذه العادة أصبحت فيهم سجية وخلقا حتى صاروا لا يخجلون من جهالتهم. إنهم يعرفون ما عرفه آباؤهم، وهم يعتقدون أنه ليس من الضرورة أن يعرف أبناؤهم أكثر مما يعرفون. فلا يجب أن نعزو عدم اطلاعهم على العلوم وابتعادهم عن المدارس التي يعتبرونها عديمة الفائدة، إلا إلى افتقارهم للثقافة. كانوا يقولون: إننا نحن - أي الأجانب - الذين نخلق المشاغل لأنفسنا. ولما كان لا يعوزهم شيء فيجب أن نعيش مثلهم. لقد أحسنوا صنعا، ومن ذلك نستنتج أنهم كانوا سعداء. ولئن حرم العرب الثقافة فإنه لا ينقصهم ذكاء الفطرة الطبيعية؛ ولهذا نجد عند من يحسنون التفكير منهم خواطر وأمثلة ومنطقا صحيحا.
شغل التلاعب بالكلام والتعابير الرمزية علماء المشرق في كل عصر، حتى لجأ الحكام والفلاسفة إلى أسلوب الكهان، فكان أسلوبهم العادي.
ويروى أنه في الأزمنة التي كانت فيها بلاد المشرق مقسمة بين عدة ملوك، تدخل بعض الحكماء في نزاع حصل بين ملكين منهم ليحقنوا الدماء ويتجنبوا المتاعب التي تحدثها الحرب؛ ولذلك اقترحوا أن يفض الخلاف بحرب قلمية عوضا من أن يفض بالسلاح. ثم تقرر أن يوفد إلى معسكر العدو رجل من أهل الأدب والفكر، فيطرح ثلاثة أسئلة تحل بالإيماء، حتى إذا ما فهمت أو حلت فللدولة الغالبة أن تملي شروطها، وإذا لم تهتد إلى الحل فهي التي تخضع لما يملى عليها من شروط.
ولدى وصول السفير حامل الأسئلة الثلاثة دعا الملك مجلس شوراه إلى الانعقاد. وبعد مناقشات طويلة احتكت فيها الآراء، أقروا بالإجماع شجب الأساليب البربرية التي يلجأ إليها الناس ليصونوا حقوقهم ويحافظوا عليها. ووافق المجلس على أن هذا الحل الأدبي أفضل جدا من الالتجاء إلى النار والحديد. وكان قبول الاقتراح، وكانت هدنة دعي على أثرها جميع العلماء إلى القصر في اليوم الذي وصل فيه السفير.
وأدرك الشعب خطورة القضية التي كان ينذر بها هذا الحادث الجلل، فتصاعدت صلوات وابتهالات الرعية إلى الله لينصر مليكها، أما البلاط فكان في قلق عنيف.
لم يكن المكان المعد لاستقبال السفير يمتاز بشيء من سواه؛ لأن الشرق لم يكن يفقه أهمية المدرجات. كان ذلك المكان يحوي عرشا للملك، ودواوين يتربع عليها الوزراء، وسجادات ينتصب فوقها العلماء. أما الأعيان والمدعوون فكانوا وقوفا، وهنالك مقعد وحيد وضع في الوسط خصوصا لطارح الأسئلة.
ولدى دخول الموفد المدينة، استقبل بتلك الجلبة التي تحدث عادة عندما ينتصب الشعب مترقبا وصول شخص ما، أو على أثر وقوع حادث جلل.
ومثل الرجل أمام الملك فعبر عن تمنياته الخاصة، ولكن دون أن ينبس ببنت شفة. وبعد الاحتفاء التأم المجلس الأعلى وشرع السفير يطرح أسئلته:
السؤال الأول:
رفع يده اليمنى مطبقة الأصابع ما عدا المشير، وقدمها وهو يرخي ذراعه كما لو كان يفعل عندما يريد الإشارة إلى مكان ما.
السؤال الثاني:
رفع يده اليمني مفتوحة، بصورة تدريجية حتى بلغت علو الرأس.
السؤال الثالث:
انتزع الرسول بيضة من زناره وأراهم إياها.
وبعد هنيهة أشار بحركة ما معلنا انتهاء رسالته، وأنه مستعد أن يعيد طرح الأسئلة إذا أمر بذلك.
كانت دهشة المجلس على أشدها، واعترفت الرءوس الضخمة المجتمعة فيه بعجزها عن فهم تلك الرموز؛ أي فهم معناها الحقيقي الذي يعنيه السفير، لا سيما بعد أن رفض عدة تأويلات وتفاسير!
وهكذا انقضى اليوم الأول ولم ينجل الموقف إلا عن محاولات عقيمة من قبل مجمع العلماء العربي. غير أن الملك شاء في اليوم الثاني أن يدعو العلماء الباقين والأشخاص الحائزين على بعض الموهبة أو المقدرة على البديهة في الجواب.
وكانت الجلسة التالية فازدحم الناس أكثر من ذي قبل، وتفتحت العيون، وأعاروا المشكلة انتباها دقيقا، وفكروا طويلا، فأجمعوا أخيرا على أنهم لم يجدوا في حركات الموفد معنى يدل على فكرة متناسقة، أو موضوعا يمكن أن يظن أنه هو الذي انتقاه.
وذعر البلاط من النتيجة الثانية، وانتشر هذا الشعور حالا بين جميع الشعب؛ فضجت الرعية.
وبقي يوم واحد. نسيت أن أذكر أن الميثاق جعل المهلة ثلاثة أيام فقط. ولكن بأي أمل يمكن تعليل النفس بعد استشارة العلماء والمثقفين ونخبة رجال الأمة وعجزهم عن حل اللغز؟
ومع ذلك، فقد أراد الملك أن يفتح قصره في اليوم الأخير للجميع؛ فنودي في الشوارع بأن الأهلين جميعا مدعوون ليحاولوا حل هذا الطلسم، وأن جائزة ضخمة تمنح لمن يجيب على الأسئلة الثلاثة الشهيرة.
وانتصب الرسول الذي لم يعد يخامره أي ريب في فوزه، وأخذ يعيد ببشاشة كبيرة حركاته الأولى، رغم حرج موقف الذين حضروا ليجيبوا عليها. واستمرت الحالة هكذا حتى الظهر، وإذا بأحد كناسي الشوارع يقف على باب السراي يتأمل الجماهير التي تسده، سأل عن سبب هذا الاجتماع، وما شأن هؤلاء القادمين والذاهبين، فقال له واحد: ألم تعلم بعد؟ إن هنالك رسولا مكلفا طرح بعض أسئلة صعب الفهم، وأن الملك دعا رعيته كلها، فعليك أن تستفيد من هذه الفرصة وتجرب. فقال الكناس: وماذا يجدي علي ذلك؟ - جائزة ضخمة مثلك. - أدخل إذن.
ودخل الكناس. ولما صار أمام الموفد وجها لوجه، رأى نفسه مجبرا على الجواب، فقام بحركات مماثلة، ولكن بلباقة متناهية ونزق، ولو طال التمثيل قليلا لكان انتهى الأمر إلى المشاجرة.
في تلك الدقيقة نطق الموفد بعد صمته أياما، وأعلن انهزامه.
وعند هذه البادرة غير المنتظرة ضجت القاعة، وتجمهر الحاضرون حول الكناس الفرح. ورأى الكناس نفسه بين عدة ضباط، وقد أذهلته الضوضاء والغضب الصاخب. وشاء الملك أن يرى هذا الشخص الرث الثياب، فأخذه الضباط ليصلحوا من هندامه، وعندما استقروا في إحدى الغرف وأصبحوا على انفراد، قال لهم الكناس: هل رأيتم في حياتكم رجلا وقحا كهذا الرجل؟
فأجابوه: عمن تتكلم؟
قال: عن الشخص الذي طلب إلي أن أذهب إليه ... فحالما وقفت قبالته لم يرد علي السلام، بل هددني باقتلاع عيني، فأجبته بدوري أني أقتلع له عينيه الثنتين، وتمادى في قحته فقال لي: إنه يشنقني. فأجبته: وأنا أقطع رأسك. وأراد أخيرا أن يزيد في تحقيري، وكأنه ظنني جائعا، فأراني بيضة، ولكي أثبت له - والحمد لله - شبعي، أريته قطعة من الجبن وكسرة من الخبز بقيت من فطوري.
5
وبينا كان الكناس يدلي بهذا التفسير الغريب تناول الملك حل السفير الذي هدمت قصور آماله بعدما كان قد ضمن الظفر، فإذا فيه: يجاب على السؤال الأول بحركة الذراع نفسها، فترخى ويمر بها أمام الجسم بصورة أفقية، مع إبقاء السبابة والإصبع الوسطى ممتدتين.
ويجاب على الثاني باليد اليمنى المنبسطة تماما، مشارا بها بحركة قطرية أفقية من اليمين إلى اليسار.
ويجاب عن الثالث بتقديم قطعة من الجبن.
ثم قال السفير: إن هذه الأسئلة المقررة مأخوذة عن الكتاب الشريف:
السؤال الأول:
لا إله إلا الله.
الجواب الأول:
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون (سورة النحل: 51).
السؤال الثاني:
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها (سورة الرعد: 2).
الجواب الثاني
وهو الذي مد الأرض (سورة الرعد: 3).
السؤال الثالث:
يخرج الحي من الميت (سورة الروم: 19).
الجواب الثالث:
ويخرج الميت من الحي (سورة الروم: 19).
إن للشرقيين ميلا قويا جدا إلى ضروب الأحاجي، وذلك ما يلاحظ في أساليبهم، وربما كنا - نحن الفرنج - قد اقتبسناه منهم لأنه كان سائدا عندنا في القرون الوسطى. إن في مقامات الحريري عددا لا يحصى من الأحاجي والألغاز على اختلاف أنواعها، وقد أحب العرب كثيرا أن يفهمهم الناس بالتلميح، فتراهم يستشهدون بأبيات من الشعر، أو مقتطفات من الكلام الجامع، والأقوال التي يجب أن يكون المخاطب ملما بها فيدرك معناها مستعينا بذاكرته وسعة اطلاعه.
هوامش
الفصل الخامس عشر
صناعة أهالي بيروت - غباوتهم - عدم تشجيعهم تربية التوت للحرير. ***
إن حالة الصناعة في بيروت تتلاءم وعقلية أهليها وحكامها. ويمكنني القول إن الفنون فيها في غاية السذاجة؛ فالأنوال والدواليب والأدوات الأخرى تصنع جميعها في البلاد وبأسمج شكل يمكن تصوره. ولما كان العرب يجهلون فن تقسية الحديد (سقايته) فإنهم يضطرون إلى الاستعانة بالمبارد الأوروبية عندما يريدون الحصول على آلات حادة قاطعة.
إنهم بوجه عام غير لبقين، وإذا استخدموا المقاييس والزوايا والزئبق فإنما يكون ذلك الاستعمال سطحيا، ولكي يظهروا للملأ أنهم يحسنون استعمالها. تدلنا على ذلك أعمالهم غير الدقيقة لأنهم لم يتوصلوا - حتى الآن - إلى عمل زوايا مستقيمة، وخطوط عمودية، وسطوح متساوية، واتساعات متعادلة دقيقة الصنع، فقلما تجد في بيروت بابا أو نافذة يقومان قياما مستقيما على قاعدتهما.
وعندما يلام العرب على تقصيرهم في أصول فنونهم يجيبون: «وما تأثير ذلك؟ إنا لسنا مثلكم عبيد هذه الاعتبارات، ولا نعلق أي أهمية على هذا التناسب الهندسي. أفلا تكون النتيجة هي إياها؟ سواء أكان الشيء يميل إلى الشمال أكثر منه إلى اليمين، أو أنه أكثر علوا أو أقل وطوا؟»
إن حفا الأرجل ينفع العمال كثيرا، ويساعدهم جدا، فبالإبهام يوقفون خيوط الفتيلة (الشلة) التي يبرمونها، وبها يستعينون على حل الحرير، ويلتقطون ما يسقط من أيديهم على الأرض دون أن ينحنوا. وطاولات النجارين ومقاعدهم هي أقدامهم وليس غيرها.
وهنا بوجه خاص يصح قول مثلنا: يصير الرجل حدادا بممارسة الحدادة؛ لأن الحرف تتعلم هنا بالتقليد والممارسة؛ فكل عامل منهم لا يعرف أصولا لعمله، ولكنه تعلمها بصورة تقليدية، وهو يعلمها سواه بالصورة نفسها. فأصحاب المهن الذين نجدهم في هذه البلاد قد خصوا بمواهب ممتازة لفتت أنظار الإفرنسيين ففضلوهم على غيرهم واستخدموهم.
إننا نجد في المشرق عددا من العمال الذين برزوا إلى هذا العالم حائزين على أهلية فريدة، لا بل على عبقرية غريبة، فبرزوا في فن من الفنون كما يبرز ويتفوق رجال السياسة العظام في أوروبا،
1
إلا أنهم لا يخلفون أثرا بعدهم، أو يبنون شيئا؛ وهكذا يطويهم الموت ويطوي معهم التقدم الذي أحدثوه في مهنهم. إن ظهور هؤلاء العمال الموهوبين لهو أشبه بوميض البرق، ووجودهم في الأساكل يعد حدثا خطيرا، فيشعر الناس عند موتهم أن فراغا حدث، وهيهات أن يسد غيرهم ما سدوا!
والبون الذي يرى بين الرجال الذين وهبوا بعض النبوغ، وبين زملائهم الآخرين في الفنون نفسها، هو في الواقع شاسع جدا. إلا أن العلوم هنا نادرة الوجود، وهي لا تعضد ولا تشجع؛ فالسلطات الأوروبية التي تشجع الاكتشافات وتحمي المخترعين لا تحرك ساكنا في هذه البلدان، مع أن عمالا أذكياء يبدعون أشياء جديرة بالانتباه. إنهم يكتفون باستخدامهم، وفي أكثر الأحيان يسخرونهم ولا يدفعون لهم أجرا. والعامل الماهر المتفوق في سوريا نكرة فقير لا يترك شيئا بعده.
نجد في بيروت عددا وافرا من حاكة الزنانير الحريرية التي تلف حول الخصر أو يعصب بها الرأس (يريد الكوفية)، وعددا آخر لا يقل عنه من صانعي الصناديق. إن صناديق هذه المدينة ذات اللون الأحمر والأخضر قد حازت شهرة واسعة في جميع أنحاء سوريا ومصر حتى استوردت منها كميات ضخمة؛ إذ لا بد لكل عروس في هذه الديار من أن تتزود بصندوق مرصع بمسامير مذهبة الرأس.
وهنالك صنف آخر ثمين تخرجه مصانع بيروت يسمى «الكلفا»
kalva ، وهذا أيضا يعد من الجهاز الذي تصطحبه العروس، وهو عبارة عن عجين يصنع من عصارة مسحوق جذور الكلفا (؟) والخروب الممزوج بالسيرج.
أنشئ في بيروت - يوم كنت فيها - فرع لمصانع مناديل حلب التي اشتهرت بجودتها وجمالها في جميع أنحاء سوريا؛ فكل ما كانت تخرجه هذه المعامل لم يكن يوازي الكمية المستهلكة. والفضل في هذا الاختراع المشهور يعود إلى أحد أولئك العباقرة الذين يظهرون في الأمة العربية من وقت إلى آخر. لقد عرف الشرق قديما هذا الضرب من الصناعة. إلا أنه جدد فيه بعد أن أدخل عليه تحسينات ذات شأن، فهذه المناديل كانت تصنع فيما مضى بإنكلترا وحدها، وكانت من شاش غليظ جدا، أما علامتها الفارقة اليوم فطابع مستدير، أحمر اللون، يمثل كف أسد، وهذا الرمز وحده يثير خيال العرب السريع الانفعال؛ ولهذا أقبل الناس على هذه المناديل رجالا ونساء، تصنع هذه الدمغة من الشمع، وبالطريقة نفسها تحول إلى لون أزرق دون أن يفسد اللون الأصلي؛ ومن ثم يأتي الكشكش الغليظ - وهو أحمر أيضا - فيحيط بهذه القطعة المربعة الحجم. في هذا وحده ينحصر فن هذه المناديل (الحطة) التي يفضلها عرب الصحراء وأبناء الجبل على كل المنتوجات من بنات جنسها. إنهم يريدون جميعا التلثم بكف الأسد، فكأنهم يتفاءلون بأنها تولد فيهم بعض صفات الأسد الذي هو أكثر الحيوانات عتوا وشجاعة وقوة.
ومدينة بيروت مشهورة أيضا بأباريقها. أما المنزلة الأولى في عمل الأباريق فهي لبغداد، ثم لمصر. ولكن لأباريق بيروت المصنوعة من الفخار خاصة تبريد المياه لأنها كثيرة المسام التي ينفذ منها الهواء.
إن أهم عمل يتعاطاه أهالي بيروت ولبنان هو زراعة شجر التوت الأبيض الذي يربى على ورقه دود الحرير. إن تربية دود الحرير هي العمل الذي يتعاطاه جميع الأهالي؛ لأنها تهم بوقت واحد الرأسماليين وأصحاب الصناعة؛ فالذين لا يستعينون بغيرهم على حراثة التوت وتربية دودة القز يتعهدونهما هم بأنفسهم، ولا تقتضيانهم الانقطاع عن أعمالهم ومهنهم إلا شهرين ثلاثة.
يظهر أن تربة بيروت الرملية توافق شجر التوت، وهذا لا يعني أن هذه الأرض الأقل جفافا تلائم هذه الأشجار لأننا نجدها أكبر حجما وأنضر ورقا في الأماكن التي تسقى فيها.
إن العرب لم يستطيعوا حتى اليوم - نظرا لافتقارهم إلى الأدوات - أن يخترعوا دواليب (فراش) تستطيع سحب المياه إلى علو مترين أو خمسة أمتار؛ ولذلك نراهم مضطرين دائما إلى غرس هذه الأشجار في أماكن منحدرة كي يحفظوا لها بعض المناعة؛ لأن المنحدرات تكون دائما أكثر طراوة ورطوبة. إن أغضان هذه الأشجار تجم في نهاية كل ربيع لتنبت من جديد، والدفعة الثانية من أوراق التوت تنتزع في فصل الخريف فتكون علفا للبقر والمعزى، ولا سيما الخروف صاحب الألية الضخمة (المور) الذي تعلف كل عائلة رأسا منه ليكون مئونتها في أثناء الشتاء، فيذوب الشحم ثم يقلى به اللحم؛ وهكذا يحفظ عدة شهور.
وشجرة التوت تعيش أكثر من مائة عام إذا حرثت وسمدت. وإذا لم يعتن بها فإن عمرها لا يتحاوز خمسة وعشرين عاما. إن دودة بيضاء يبلغ طولها الستة أو السبعة سنتيمترات مسلحة بثنيتين تفتك بأشجار التوت وتنخر جذوعها. إن الشجرة تهلك إذا لم تساعد على الإفلات من عدوها. وبعد القضاء على هذه الدودة يجب أن تغطى جذور الشجر ببعر المعزى.
إن خشب التوت الذي تنتشر فيه عروق عريضة حلوة الاصفرار مرغوب فيه من النجارين، وكثيرا ما يلتمسونه ليجعلوا منه مصنوعاتهم كأقفال الأبواب والمسارج وقضبان النوافذ وغيرها. وطمعا بريع هذه الشجرة الكثير يقتلع الفلاح جميع الأشجار حتى المثمرة التي تنبت على مقربة منها؛ إذ يخشى أن تقاسمها عصارة التربة المغذية، فهو يريد أن تكون لها وحدها.
إن أوقية البزر - وهي عبارة عن ثلاثة عشر درهما - تغل عادة أربع أو خمس ربطات حرير يراوح وزنها بين عشرة كيلوغرامات واثني عشر كيلوغراما. واستغلال مثل هذه الكمية يتطلب عمل شخصين واعتناءهما. وقد أنتجت خمس أوقيات بزر - عام 1828 - ثلاثا وثلاثين ربطة؛ أي اثنين وثمانين كيلوغراما من الحرير. وهذا إقبال نادر.
إن أجمل الحرير الأبيض هو حرير الضواحي التي تبعد فرسخين عن المدينة، ويسمى بالحرير البلدي. وهذا يصدر كله إلى الخارج.
أما الحرير الأصفر الذي يعتبر من أحسن الأجناس، فهو حرير كسروان والدامور. وهذه الأخيرة تقع في منتصف الطريق بين بيروت وصيدا. يستعمل هذا الحرير في مصانع أنسجة مدن سوريا التي توليه الأسبقية نظرا لجمال لونه. إنه يكسب النسيج لمعانا وتموجات حين ينعكس عليه النور؛ وهذا ما يقدره ويرغب فيه ذوو الذوق السليم.
وهنالك اختلاف بعيد بين الطريقة السورية والطريقة الأوروبية في استخراج الحرير، وهذا ما يحرم السوريين من المنفعة التي كانوا يستطيعون اجتناءها.
إن الفيالج (الشرانق) تلقى بلا نظام في مرجل (خلقين)؛ أي إنها لا تنقى قبل ذلك. والخيوط التي توضع بدون تمييز على دواليب الحلالة، تسحب بعد أن يقطعها، على التوالي؛ دولاب تقارب دائرة إطاره ثلاثة أمتار، وبعد أن يلقي الناظر قضيبه ثانية في الخلقين - على أثر تحريكه الشرانق - ينتزعه، فإذا به قد علق عليه مقدار كبير من القش جمعته يد القدر؛ وهذا ما يجعل الخيوط ضخمة وغير متساوية الطول.
أتيحت لأرباب هذه الصناعة عدة ظروف أدركوا فيها أنه يمكنهم أن يحسنوا عملهم؛ رأوا بأعينهم - بادئ ذي بدء - نماذج من شرانقهم المحلولة في فرنسا، ثم أجريت هذه التجارب وأكملت على مرأى منهم في مصنعين فرنسيين أسسا في بيروت والضواحي. إلا أن تأثير العادة كان مستحكما في نفوس هذه الشعوب، حتى إنها كانت تفضل مساوئ ما اعتادته على اتباع طريقة مضمون نجاحها. أما أسباب ذلك فتعود إلى عدم مبالاتهم، وقلة تفكيرهم، وكرههم للتجديد.
هوامش
الفصل السادس عشر
تجارة الفرنسيين الأولى في سوريا - تعيين القناصل - قناصل بيروت يحمون المصالح الوطنية من المصريين - الكراهية التي توحيها مهمة القناصل. ***
يعتقد أنه - حوالي القرن الثامن - كانت الجولة الأولى التي قام بها أبناء بروفانسيا، أبطال فرنسا - إلى شاطئ سوريا - حيث التقوا الفينيقيين الذين تبين أنهم تفوقوا في آسيا على جميع الشعوب التجارية الأوروبية، والحوادث التاريخية التي تناقلتها عدة كتب؛ تنبئنا بأن القناصل الأول الذين عرفوا في سوريا كانوا أيضا فينيقيين.
إن أصحاب المراكب وربابنتها كانوا هم الذين ينتقون في البدء القناصل، وكانوا يختارونهم - دونما تمييز - من بين التجار المنتشرين في كل مكان لتعاطي أعمالهم التجارية، شرط أن يساعدوهم بإرشاداتهم ومكانتهم، ويسهلوا لهم بيع بضائعهم، وشراء ما هم بحاجة إليه عند عودتهم، وأن يحموهم على الأخص من المخاطر التي يتعرضون لها في البلاد. وبكلمة أدق، أن يقوموا بحمايتهم من كل تعد صادر عن الأجانب أو المواطنين، وذلك كله في مقابل جعل ما.
1
وعندما تبين أنهم كانوا يضرون أكثر مما ينفعون مواطنيهم وتجارتهم، أصدرت عدة قوانين لم تمنح بموجبها المراكز الهامة إلا للأشخاص الذين هم من أصل شريف، وعريقي النسب، ومن رعية الملك، وذوي نفوذ واقتدار.
كانت زيارة الأماكن المقدسة - بادئ ذي بدء - الباعث الذي اجتذب الأوروبيين إلى هذه البلاد. إلا أن حافز الطمع أخذ يمثل دوره فيما بعد، فهب أسلافنا، الذين لا يقلون مقدرة عن أهل البلاد، إلى مزاحمتهم في التجارة التي تفردوا بها في ذلك الزمان. «وحينذاك - وهذا ما نقله السيد دي بوكافيل - شوهد حشد غفير من زائري الأماكن المقدسة ينزلون إلى شواطئ فلسطين ، وقد أتوا مدفوعين بحبهم للتجارة أكثر منهم بالتقوى؛ لأن الفينيقيين وتجار فردان كانوا يتاجرون بالرقيق الأبيض، فيبيعون مواطنيهم من المغاربة ليستخدموهم في حراسة حريمهم.»
2
ومهما تكن الأسباب والدواعي، فإن العلاقات التجارية لم تستقر بصورة منظمة إلا في أثناء الحروب الصليبية حينما أنشئت لها مؤسسات خاصة؛ عند ذاك تدخل الباباوات ليعاضدوا بسلطتهم الحقوق الممنوحة للتجار. ويروي السيد دي بوكافيل أن غريغوريوس التاسع أيد ببراءة الامتيازات التي منحها جان دي بلين لأهالي مرسيليا، وكان يومذاك سيد بيروت أيضا.
إننا لا نزال نجد اليوم في مجموعة نظم مدينة مرسيليا قانونا خاصا يتعلق بالقناصل، صدر عام 1253. وتشير إحدى مواد هذا القانون إلى العهد الذي كان يقطعه القناصل على أنفسهم، حالفين اليمين بأنهم لا يصحبون معهم ولا يدخلون إحدى بنات الهوى إلى البلاد الخاضعة لسلطانهم. وهذا - طبعا - يمت بصلة إلى الاتجار بالرقيق الأبيض الذي استمر بطريقة سرية.
وكان يلحق بالقناصل - الذين كان يقتضى إبدالهم كل سنة - كاتب رسمي يقوم بوظيفة محرر.
على أن مغادرة الصليبيين سوريا كانت ضربة قاضية على المؤسسات التجارية التي لم يفكر في إنعاشها إلا بعد انقضاء زمن ما؛ فكنا كأنما نبتدئ من جديد. ويظهر أنه - بهذه المناسبة نفسها - قد تمكنا من تعاطي التجارة مجددا في الشرق بواسطة الفينيقيين أيضا؛ وهكذا وجه الإفرنسيون خطاهم الأولى نحو مصر، وشعر لويس الحادي عشر بضرورة دعم هذه الأعمال التجارية الحديثة العهد، فمنع بضائع الشرق من دخول المملكة إلا إذا كانت محمولة على مراكب وطنية.
والمظنون أن تاريخ إعادة قنصليات فرنسا إلى طرابلس وسوريا وبيروت وقبرص يرقى إلى مطلع القرن السادس عشر. قال صاحب المذكرات التاريخية الديبلوماسية: «إن القناصل لم يكونوا يخرجون حتى إلى رد الزيارة إلا تحت مظلات ترفع بالأبهة نفسها التي نشاهدها في احتفالاتنا الدينية. وهذا التقليد - الذي يبدو لنا اليوم مستهجنا - كان يراعى يومذاك بدقة، وقد يكون ذلك حقا لأن الشرقيين عبيد يجب أن يبهرهم بهاء جهاز مهيب.»
3
وهذه العادة هي - فيما عدا ذلك - ذات صلة وثيقة بالزمان. إن موظفي السلطات التركية كانوا أنصاف آلهة؛ ولهذا وجب أن يحاط القناصل بكل ما يستطاع من الإجلال.
تمتع الإفرنسيون الذين أقاموا في سوريا بسلطان الامتيازات التي أقرتها المعاهدات المختلفة المعقودة مع الباب العالي، وإنهم مدينون بهذا لنشاط القناصل الذين حافظوا عليها ولمقدرتهم، فلم تمس في أثناء الاحتلال المصري. أراد الذين كانوا يحكمون باسم محمد علي أن يزعموا أن سوريا ستحكم طبقا للشرائع المتبعة في مصر، وهي الشرائع التي تلغي الضرائب وغيرها من التقاليد البالية. بيد أنها لم تكن غير محاولات جربت فباءت أخيرا بالفشل.
إن هذا الإجراءات الهامة التي رأوها في أوروبا ضرورية، وهي في الحقيقة نافعة، لا تنتج إلا المساوئ متى كانت في أيدي سلطات تشبه السلطات السورية، هذه السلطات التي يقف منها الأوروبيون موقفا شريفا، في حين أن السوريين لا يتعاطون معهم إلا بكراهية ظاهرة ناتجة عن قلة الثقة.
أما فيما يتعلق بالإفرنسيين فإن جميع المؤسسات يعهد بها - في الأساكل - إلى الضباط الذين يوفدهم الملك ليقوموا بإدارتها، وكان السلطان قد منحهم السلطة المطلقة في تولي شئون مواطنيهم؛ فكانوا يمارسونها بحرا وبرا.
4
وهكذا نتج عن هذا القرار الملكي أن الفرنسيين أمسوا خاضعين لشرائعنا في تعاملهم مع بعضهم. وهذا القرار مبني على المبدأ القائل بوجوب اعتبار المواطنين الفرنسيين الذين يقيمون في الشرق كأنما هم في مستعمرة، بقطع النظر عن شرائع البلد التي لم يشعرهم بها قنصلهم.
وقد أثبتت التجارب الطويلة أن الضمانة التي يستطيع إفرنسيو أساكل المشرق الاعتماد عليها، والمنافع التي يجنونها من اتجارهم فيها، كانت ترتكز على حماية نشيطة وسياسة موالية لمبادئ دولة السلطان، والمعاهدة المعقودة مع هذه الدولة، وعرف رعاياها وعاداتهم.
5
أما المؤسسات الإفرنسية فهي - بلا شك - أحسن تنظيما في الشرق من مؤسسات الدول الأخرى، إلا أنه بعد الانقلابات التي حصلت في فرنسا لم تعد الأنظمة المطبقة في مؤسساتنا تتناسب وأنظمة وطننا الأم؛ ومن هنا نشأ الميل إلى العصيان، فذهب بعض المواطنين إلى أنه لا يجب الخضوع لقوانين تقتضينا أكثر مما تنص عليه شرائعنا. وقد ساعد على ذلك تردد القناصل المتواصل في تطبيق القوانين التي اعتبروها تتجاوز حدود سلطتهم بعد وضع نظامنا الجديد.
إن مخالفة الأنظمة تعود إلى عامل سياسي هو الخطأ في الرأي؛ فهو يلعب دوره في بعض الأحيان حتى في هذه البلدان البعيدة. لقد خلق لي مواطني عدة متاعب، إلا أني لم أشاهد بينهم دعاة سيئي النية يبشرون بمذهب التسامح السامي، ثم يخوفون الموظف المتقلقل فيحجم عن استخدام مواهبه ونشاطه لخدمة الأمة؛ لأنهم يصورون له صفاته القيمة كأنها منن الطبيعة الماكرة، وواجباته كأنها مشاكل معقدة؛ وهكذا تعجز السلطة - التي تعاكس في سيرها - عن ممارسة حقوقها؛ فتنحصر في نطاق ضيق ولا تعمل إلا عند الحاجة الملحة. وما هكذا يجب أن يخدم جلالته. إن أوامره مهما تكن تافهة، يجب أن تكون لها قوة القانون، ولكي تحترم يجب العمل بها وتنفيذها بلا هوادة.
كانت وزارة الخارجية قد باشرت تحوير أنظمتنا عبر البحار وتصحيحها. إلا أنها توقفت عام 1834 بعدما نقحت بضعة فصول من أحكام قانون عام 1781. ثم إنها في سنة 1836 نشرت القانون الجديد المتعلق بقمع الجرائم وعقوبتها. وهذا العمل الأخير يرغب فيه كثيرا من يميلون إلى التقيد بنظام، ويشعرون أن التقيد بالأنظمة المحكمة التنسيق تقيدا دقيقا، توطيد لاتحاد الفرنسيين القاطنين في الشرق. وهذا الاتحاد هو الزاوية التي يبنى عليها كيانهم، وفيه كل قوتهم؛ فالفوضى التي تسود اليوم أعمالنا في تركيا إنما هي دعوة إلى نهج مثل ذلك النهج للتملص من عنف قوانيننا. وبما أنه لم ينظم شيء في هذه البلدان - ولو بصورة تقريبية - فمن الضروري إذن أن يكون لعلاقات مواطنينا برؤسائهم استقرار شرعي لا يمكن الانحراف عنه مطلقا.
إنني بناء على هذا الأساس أرى مهمة القنصل توحي ارتياحا تاما. إنها عادلة جازمة وصلبة، وهذا ما يجعلها مفيدة ومحترمة.
إن قانون عام 1781 والأنظمة الملحقة به قد أدت إلى إحاطة قناصل الملك بكثير من الاعتبار، فاحتفظوا دائما بحق التقدم على جميع قناصل الدول. أما اليوم فأخذ وزراء السلطنة العثمانية يعاملونهم على قدم المساواة. إن عدم الاستقرار على حال - في هذه البلاد - يجعل المهمات القنصلية شاقة جدا؛ فتارة يتوجب على القناصل أن يقاوموا السلطة العليا للحصول على أوامر تعيد إلينا ما انتقص من معاهدتنا، وطورا يقتضي عليهم أن يداعوا المرءوسين الذين يحرفون مضمون هذه الأوامر. إن الأوامر الأكثر وضوحا تنسى في بحر شهر واحد في أغلب الأحوال، وهنا الطامة الكبرى، ولا سيما إذا استوجبت المطالبة بها مقاضاة الرئيس.
6
غير أن العمل في هذه البلدان لا يشبه العمل في أوروبا، وهو ينقلب رأسا على عقب بين ساعة وأخرى. إن الصداقات الخاصة تسهل العمل أكثر من الأوامر الصادرة عن العاصمة؛ ففي هذه الصداقات تمهيد عظيم لطرق القناصل، ويمكنني أن أكرر هنا بأن ارتشاء رجال السلطات أو لين جانبهم أمام الصداقات هو الذي يقينا شر تعصبهم وظلمهم. فالخدمات التي التمسها القناصل من ذوي السلطة قد حصلوا عليها في مناسبات شتى، إن رجال الدولة يحتاجون في حل مشاكلهم إلى وسطاء غير قابلي الرشوة. ولما كانوا جد حذرين فإنهم يتلمسونهم عندنا؛ ولهذا يتوسط الجهاز القنصلي - في حالات الثورة على الحكام - ليعيد الأمن إلى نصابه.
كانوا يعتبرون القناصل - فيما مضى - رهائن في الأساكل. بيد أنهم رهائن لطيفة يجب أن تعامل بلين؛ فما من عمل أجدى من مطالبة الدولة بحماية التجارة، والمحافظة على أمن صحيح في البلدان الخاضعة لأعمال القناصل، على أن تزورها غالبا سفن جلالة الملك، فيرى الناس بدهشة هيئتها الفخمة.
كنت على ظهر الباخرة «إيفجيني» التي تقل صاحب السمو الأمير ده جوانفيل، فأعلنوا وصول حاكم بيروت، فتقدمت إلى جسر السفينة لأقوم بالترجمة، فرأيت عليه الاستغراب الذي فوجئ به عند وصوله إلى الشاطئ. ومع أنه شاهد منذ أيام قليلة أجمل بارجة أميركية، ومثل هذه البارجة لا تنزل إلى البحار إلا بعد أن تستكمل زينتها الخاصة، قال لي: لا وجه للمقابلة؛ فهنا الروعة والأناقة بأسمى معانيهما.
إن أكبر مرارة يشعر بها القنصل - في أثناء قيامه بمهمته - هي أن يرى نفسه مضطرا إلى الابتعاد عن وطنه، وأن يعيش شبه منسي. ففي فرنسا - سواء أكان ذلك في الجيش أو في البحرية - تقدر أعمال كل امرئ دون أن يكون للوساطة يد في الدلالة على أعماله المشرفة. إن عدل الرؤساء يأبى أن يبقى واحد منهم منسيا؛ فالوزراء هم الذين يقترحون على الملك ترقية الموظفين ومكافأتهم، والحق يقضي أن يكافأ كل من أحسن العمل. إلا أنه في بعض الأمكنة التي تزاول فيها وظيفتنا القنصلية، قد يبدي القنصل المتفرد باستحقاقه دهاء عجيبا فلا يعود عليه ذلك بأقل شهرة. لقد رموه في فم المهالك كخفير مخاطر به، ثم نسوه، فأمسى ولا عزاء له سوى راحة ضميره وتهاني مواطنيه المحيطين به في دار غربته. إن هذا كثير بلا ريب، وهو كاف للإفرنسي الذي خلق أقل حبا للفخفخة. إننا نود أن نحب عندما نخدم، فكيف نثبت أننا نلنا رضى رؤسائنا وحققنا آمالهم إذا لم يبدوا لنا سرورهم على سمع الناس وبصرهم؟
هوامش
الفصل السابع عشر
تفريق بين القناصل ونواب القناصل والوكلاء - المساوئ التي نتجت في سوريا من جراء تعيين - بعض «الرؤساء» في هذه المراكز. ***
اعتاد الناس ألا يميزوا بين الدرجات القنصلية؛ فيطلقون اسم القنصل على نائبه وعلى وكيله. فالملاك القنصلي الفرنسي مؤلف من درجتين؛ أولى وثانية، ومن نواب قناصل ووكلاء. وهؤلاء كلهم يعينون من المواطنين، ولا يكونون من «الرؤساء» الأجانب إلا عند الافتقار إلى فرنسيين، ولدواع هامة. والملك هو الذي ينتقي جميع قناصلنا ويصرف لهم رواتبهم. أما النواب والوكلاء فقد ترك حق اختيارهم للقناصل ليستطيعوا توجيههم في الطريق الأمثل والأجدى نفعا، ويكسبوا احترامهم. ولما كان هؤلاء القناصل يعرفون ما عليهم وما لهم نحو رعايا الدولة التي يخدمونها والبلاد التي يقيمون فيها، فإنه يسهل عليهم أن يسدوا إلى نوابهم ووكلائهم النصائح الملائمة عندما يتجاوزون حدود النظام، أو يخالفون التقاليد المتبعة في البلاد.
ليس بين الدول الأجنبية دولة تعين حكومتها القناصل سوى إنكلترا وسردينيا، أما الدول الأخرى فتكل هذه المهمة إلى السفراء الذين قلما يجدون بين رعاياهم أكفاء لهذه المناصب.
إن أنظمتنا تحظر على الإفرنسيين قبول أية مهمة قنصلية من حاكم أجنبي أو من ممثليه. وهذا المنع هو في منتهى الحكمة، وبه يسود الامتثال التام بين مواطنينا ، ولكن هذا المنع لا يتعارض مع حماية رعايا الدول التي لا قنصل لها عند الضرورة. إن نظامنا يوصي بهذه الحماية التي اشتهرت بها فرنسا، وكان لها دائما فضل حماية الأشخاص الذين التجئوا إلى موظفيها أينما وجدوا. قد تكلف هذه الحماية كثيرا من يقوم بها، وهي دائما بلا عوض بالنظر للمحمي، ولكنها مجد وطني لا يقدر شرفه إلا من يذهب إلى الشرق ويقف بنفسه تجاه الشدائد وجها لوجه. ولو كانت الثقة متبادلة بين الدول لألغت عددا ضخما من المراكز القنصلية التي تحط من كرامة دولة أنشأتها لتعزيز مركزها، وتضر بها أكثر مما تنفعها. إن ذلك يكون متى أيدت جميع الدول طريقتنا الحازمة في تنظيم مهامها القنصلية.
وعندئذ لا نبقي في جميع الأساكل إلا قناصل مواطنين. وحيث لا يمكن إيفاد أحد منهم، فالذين يقيمون هناك يحصلون على مساعدة التجار والربابنة والسائحين الأجانب؛ وهكذا تصبح الخدمات متبادلة. فهنا - مثلا - يوكل أمر الحماية إلى قناصل فرنسا والنمسا، وهناك تتعهده قناصل إنكلترا وروسيا وسردينيا وبروسيا ... إلخ.
إن محمد علي - بعد أن أجاز إسناد هذه المهمة إلى «الرؤساء» - لم يعد يرى شيء في الأساكل أكثر ابتذالا من مراكز الوكلاء. إنه لم تبق إسكلة معروفة بعض الشيء، لا تزينها على الأقل نصف دزينة من الصواري المرفوعة عليها الأعلام؛ وهكذا كثر عدد الذين لا يصلحون لهذه الوظيفة؛ فأصبح بعض القناصل ينظرون إلى ما تدر لهم الإجازات الممنوحة من أرباح، أكثر مما ينظرون إلى أهلية ملتمسيها وأخلاقهم.
إن أجمل أحلام العربي هو أن يكون قنصلا؛ فليس غريبا أن نراه يحشد جميع ما يملك من قوى ووسائل للحصول على هذا المركز؛ ولذلك يعذر المصريون على جعلهم «الرؤساء» قناصل. والسلطنة العثمانية التي أبت دائما أن تعترف برعاياها المتخذين صفة أجنبية، أخذت تميل إلى التغاضي عن هذه البدعة لتثبت أنها أصبحت تعطف على «الرؤساء».
لا مشاحة في أن هنالك أناسا من العرب الألباء لم ينشدوا في مراكز وكلاء القناصل إلا ملجأ منيعا يحتمون به من تعسفات السلطات المحلية. إلا أن كثيرا منهم - ويا للأسف! - يعدون إجازتهم هذه براءة تقيهم العقوبة؛ فلا يخشون شيئا بعدما يحصلون عليها. والقناصل الذين منحوهم هذه الوظيفة مرتشون يحمون ظهورهم حين يسيئون العمل. إن أمثال هؤلاء يبصقون في حوض الجهاز القنصلي كلما لاحت لهم منفعة حقيقية أو وهمية يجنونها عن طريق الوساطة أو الرشوة. ومثل هذا الاتجار يؤدي إلى أسوأ العواقب التي تحط من كرامتنا ومصالحنا العامة.
ويجدر بنا أن نقرر هنا بأنه لا يليق ب «الرئيس» مطلقا أن يقف من السلطة التركية موقف أوروبي بسيط، فإذا كان أمثال هؤلاء الموظفين المفتقرين إلى مواهب لا يغني عنها النفوذ الشخصي، لا يستطيعون إثبات وجودهم؛ لأنه ليس بإمكانهم المحافظة على الكرامة أو القيام بالتكاليف الثقيلة التي تتطلبها صفات القنصل الممنوحة لهم منحا، فكيف يمكنهم التوفيق بينها وبين انغماسهم في تجارتهم أو تعاطيهم مهنة ليعيشوا منها؟
ولسنا نزعم فيما قلنا أنهم لم يأبهوا للصفة القنصلية التي اكتسبوها؛ فالحق يقال، إنهم أفرطوا في تقدير قيمتها حتى تجاوزوا حدود الخيلاء والعظمة، وأحبوا كثيرا الفخفخة التي لا قيمة لها.
فالأنانية المفرطة التي يتصف بها هؤلاء القناصل الذين عينهم قناصل آخرون استمد الأكثرون منهم سلطتهم من سفراء القسطنطينية؛ تذكرني - ولا شك - بالفكرة التي ختمت بها فصلي السابق. فبينما يجعل هؤلاء الموظفون أكبر أهمية لأنفسهم نرى أنفسنا - نحن الذين نمثل حكومتنا لا سفراءها - خفراء دفع بهم إلى مكان قصي خطر، ثم لا نستغرب هذا الضرب من النسيان الذي تقابلنا به دولتنا.
فهل يظن أني أحقر مهمتي ولا أتعمد إلا المبالغات؟ إني لم أكتب سطرا واحدا في هذا الكتاب إلا بعدما أشبعت موضوعه درسا ليكون صحيحا كل الصحة.
لا أنكر أن بين قناصلنا في تركيا رجالا أكفاء يملئون كراسيهم وينعمون باحترام فائق. وقد يكون مقام هؤلاء هو الذي جعل السائحين الجدد منا يتخيلون قنصليات المشرق أسرة حرير أو مناصب كهنوتية.
فأنا الذي يقلقني مصير أبناء وطني أرى لزاما علي أن أقول للذين يفتشون عن مركز يشغلونه في تركيا، على أمل أن ينعموا بالمسرات التي وعدهم بها المؤلفون الذين قرءوهم، أن لا يتسنموا مراكزهم إلا إذا كان لهم حام يستطيع دعمهم إذا ما تزعزع منصبهم الصعب وظهر إخفاقهم.
إن الإكثار - دون اتباع قاعدة أو اجتناء نفع ملموس - من القناصل والموظفين الذين يلتمسون هذه المناصب طمعا بالمنفعة الخاصة؛ كان السبب في وقوع مشاكل متواصلة، ودعاوى مريبة، سببها الحسد وغيرة بعضهم من بعض، وشد ما تضايق قناصل فرنسا من هذه الحالة؛ لأن مفوضيهم انغمسوا بعض الأحيان في هذه المشاكل، فاضطروهم إلى اتخاذ أقسى التدابير كي لا تسوء سمعتهم؛ إذ يصعب التوصل إلى نيل حق من محاكم القناصل الأجنبية.
وإذا كان لقب قنصل أسمى ما يطمح إليه الشرقيون في الشهرة، فكثيرون من الأوروبيين ينشدونه أملا بالاستفادة والمنفعة الخاصة؛ إلا أن هذه الوظيفة ليست عند الجميع ستارا للدسائس الدنيئة والاتجار البشع. وقد عرفت عددا كبيرا من القناصل ووكلاء القناصل الإفرنسيين جد شرفاء، سواء أكان ذلك بالنظر إلى صفاتهم الشخصية أم بالنظر إلى ممارستهم عملهم الرسمي.
وهنالك أيضا فئة من الناس لم يطمحوا إلى هذا المنصب إلا تهربا من متاعب قنصلهم، وأول فائدة يجنونها تكون في وضع الوكيل تحت تصرفهم المطلق، ومنحه صلاحية تسهيل أعمالهم وقضاء حاجاتهم مع السلطات المحلية.
طلب مني - في أثناء قيامي الطويل بالمهمة الموكولة إلي في الشرق - قضاء حاجات من هذا النوع لقاء قبضي مبلغا كبيرا من المال، بحجة أن وكالة إحدى الدول الأكثر نفوذا في هذا البلد، هي تقبض بدورها أيضا. ولما كان التلميح من خصائصنا، فقد أحببت أن أجيب أن قوانيننا تحظر علينا تعيين «الرؤساء» وتحرم على الإفرنسيين قبول مناصب أجنبية.
إلا أن بعض الإجراءات المخالفة للأنظمة شجع فريقا من المواطنين على تجديد محاولاتهم. ولما أحببت أن أعرف لأي سبب يحاولون اكتساب صفة تمنعها قوانيننا، كما أن الدولة التي يراد تمثيلها ليس لديها في الإسكلة المذكورة بيوت تجارية ولا ملاحة، أجبت إذ ذاك بأنها مفخرة فقط، فاكتفيت بالقول: «إن الصفة الإفرنسية هي مشرفة في نظري أكثر من جميع الألقاب الأجنبية التي يمكن منحها، وإني لأحمر خجلا إذا فكرت في نقيض ذلك.»
الفصل الثامن عشر
تراجمة - مستشارون (مهردار) - مساعدو الترجمة - سماسرة - موظفون آخرون. ***
في المشرق فئة أخرى من الموظفين ليست بأقل نفعا. إن التراجمة الذين يقومون بمهمة مستشارين أيضا يجب أن يقسموا طبقتين ليس إلا؛ فليست آفتهم أنهم لا يقومون بالخدمات المجدية وحسب، بل إنهم يسببون أضرارا. كانوا يطرون في عاصمة السلطنة العثمانية مواهب الترجمان الذي هو من الطراز الأول، حتى قالوا: الدولة هي الترجمان. وإذا استعملنا التعبير نفسه أمكننا أن نقول: الترجمان - في بعض الأماكن - هو القنصل.
أما اليوم بعدما أخذ السفراء يزورون السلطان ووزراء الدولة بدون وسيط فيتفاهمون، وابتدأ القناصل يراجعون بأنفسهم الباشوات في شئونهم الهامة؛ فإن أهمية الترجمان - وإن لم تصبح عديمة الفائدة نظرا للمناسبات التي يعتاض فيها عن الحق بالخديعة - قد فقدت كثيرا من أهميتها. بيد أنه لا يمكن الاستغناء عنها لاضطرار القناصل إلى اتباع أساليب غير شرعية لكيما يتغلبوا على المصاعب التي يلاقونها في الشريعة الإسلامية. إن تلك الأساليب تستغرق بحثا طويلا، وهنا عمل الترجمان. ولكيلا يظن أننا تعلمنا أن نعوي مع الذئاب فإني أسأل القارئ: أيفضل أن يرجع عن ادعائه بسند قديم مات الذين شهدوا بصحته، أم أن يشتري شهودا جددا يصرحون - لدى مثولهم أمام القاضي - بأنهم كانوا حاضرين لدى توقيع العقد، على الرغم من أن اسمهم لم يذكر فيه؟ وإذا عولنا على شراء هؤلاء الشهود فلا بد لنا من تلقين هؤلاء الأشخاص درسا كافيا ليحسنوا الإجابة عن الأسئلة التي يمكن أن يطرحها القاضي عليهم؛ وهنا عمل الترجمان ومقدرته.
قتل خادم أحد الإفرنسيين شابا. كانوا ثلاثة فتيان يقلبون بندقية بعد أن أفلتت منهم الطريدة، فقتل الشاب قضاء وقدرا، غير أن العدالة لا تسلم مطلقا بهذه الأسباب التخفيفية؛ فالقاتل يجب أن يعدم. اهتممت بتمهيد سبيل الفرار للخادم، وسعيت لحمل عائلة القتيل على القبول بالدية، إلا أني لم أوفق إلى تهدئة روعها؛ فصار حضور الإفرنسي الشاب أمام المحكمة المحمدية واجبا، فعمدت إلى القيام برشوة القاضي لأربح القضية. وكان لي ما أردت، فبردت همة القاضي ، مع أن أوامر الباشا لا تفسح في مجال التأجيل والتأخير.
عرفت تراجمة لا يرون شيئا مستحيلا. ولما كانت الأمور لا تعالج كلها على نمط واحد، لأن الأساليب الأكثر لفا ودورانا هي التي تؤدي - بلا ريب - إلى النتائج الطيبة. كان على التراجمة - متى كلفوا بحل قضية صعبة - أن يقوموا بمجهود كبير، ويدبروا حيلا ناضجة، ويبذلوا نشاطا عظيما. إنها هنا تظهر مقدرة الترجمان والحاجة إليه.
كنت جد سعيد بمعاوني في أثناء إقامتي الطويلة في بيروت؛ لأني بعد أن فقدت السيد فليكس دابون الذين لم يكن ينقصه إلا عدم معرفته التركية، حظيت بالسيد ف. جوريل المستشار في الإسكندرية اليوم. أظهر هذا في مواقف كثيرة أنه من خير تراجمتنا الألباء؛ وإني أود أن أحيي فيه ذكاءه وعرفانه للجميل وأخلاقه الطيبة. وها أنا أعد لهذا العمل السيد حبيب برباره معاون ترجمان، وهو على جانب كبير من الذكاء. كانت تعوزه أولا معرفة أن الحجة الصغيرة هي عادة أجدى نفعا من الدسائس والأدلة التي ليس لها سوى الظاهر.
إن الشرقيين صحيحو التفكير على قلة محصولهم من الثقافة، وإذا خدعتهم البراهين فإنهم لا يصرون على ما اعتقدوا صحته إذا ما بدت لهم الحقيقة ولمسوها.
ومنذ مدة ليست ببعيدة شرع التراجمة ينزوون في دواوينهم مستسلمين للكراهية التي يشعرون بها، هذه الكراهية الناتجة عن عدم استطاعتهم القيام بمهمتهم بصورة يحصلون فيها على تعويضات كافية؛ لأن معرفة لغات الشرق لا تكفي؛ فهناك عادات وطرق وأساليب تختلف كل الاختلاف عن عاداتنا وطرقنا وأساليبنا؛ ولهذا تكون الخدمة ناقصة إذا أحسنا هذه ولم نعرف تلك معرفة كافية. وهذا ما يولد المقت والكره في نفوس تراجمتنا، فيهلعون لدى مجيئهم فتيانا إلى الأساكل؛ إذ تتراءى لهم الصعوبات الواجب تذليلها ليستطيعوا خدمة وطنهم. أما فيما عدا ذلك فالمناصب على اختلاف درجاتها شريفة كلها، يشعر المرء عند ممارستها بلذة أداء الواجب وإسداء المنفعة في كل المناسبات.
أجل، ليس بإمكان هؤلاء أن يحتلوا جميعا المقام الأول في مختلف الحالات. بيد أن الكفاءة هي هي، سواء أكان ذلك عند القيام بأعباء المناصب الوضيعة أو المناصب الأشد رفعة وخطورة. كان التراجمة الأول من الأرمن الشباب الذين أوفدوا إلى الأساكل - وعلى الأخص إلى القسطنطينية - بعد أن تلقنوا دروسهم في باريس؛ ومن هنا جاء اسم مدرسة الأرمن.
أمسى معاونو التراجمة حاجة لا يستغنى عنها، بقطع النظر عما ينتج عن تصرفاتهم من عواقب وخيمة؛ نظرا لميل الشرقيين القوي إلى الاحتيال والدسائس؛ ولهذا يتوجب السهر عليهم.
إننا نجد بينهم - ولا شك - موظفين يمتازون بصفاتهم الطيبة ونبل أخلاقهم على الأخص. غير أن عددا كبيرا منهم يرتكبون أخطاء كبرى، حتى إنهم يحققون كلمة قالها أحد سفرائنا المشهورين:
1
إن التراجمة هم طاعون ثان.
لا يعني سفيرنا بقوله هذا إلا التراجمة الشرقيين الذين عرفهم يومذاك، ثم تراجمة بقية الدول بوجه عام، وأنا أستثني من كلامي التراجمة الفرنسيين الذين أحترمهم كثيرا. إني أقدر مساعداتهم المجدية، وملاحظتي هذه لا تطبق على العرب الذين هم في خدمتنا فحسب، بل على تراجمة القنصليات الأخرى؛ إذ إن لدى كل واحدة منها ثلاثة منهم أو أربعة.
إن مساوئ التراجمة - ومساوئ التجار والسماسرة والكتبة والمستخدمين الذين حماهم هؤلاء التراجمة - قد سببت عدة شكاوى وملاحقات أمام السلطات، وهذا ما كان يرهق خزينة القناصل ويلحق الضرر برعاياهم، حتى إذا ما مست الحاجة إلى المال وجدوا الخزينة فارغة نظرا للخسائر التي تحملها القناصل في المصالح الأجنبية، إن قانون 1781 المعترف بحكمته شاء أن تكون الحصانة على الوظائف وليس على الأشخاص. وطبقا لهذا المبدأ فإن قناصل فرنسا أبوا دائما أن يستعينوا برجال يرتشون.
إن الهدف الذي كان يرمي إليه الشرقيون - إذ يرغبون في حماية إفرنسية - لم يكن ينحصر فقط في التفتيش عن عضد يحميهم من التعديات، ولكنهم كانوا يرمون أيضا إلى التخلص من جميع التكاليف؛ لأنهم إذا لم يعتبروا من رعايا الذات الشاهانية سقطت عنهم الكلفة، ونعموا بالامتيازات التي يظفر بها الأوروبي؛ ولهذا كانت السلطة تعارض الحماية وكل ما يشبهها مما يعصم من التكاليف، ولم تكن تسلم بها إلا بشروط معينة، ولكن هنالك قناصل لم يكونوا يقفون عند هذه التخوم ، فيتاجرون على حساب مكانتهم بالسلطة الممنوحة لهم، فيوزعون المناصب الوهمية.
إن المحميين ينغمسون - كموظفي دور القنصليات - في تعاطي الأعمال الخطيرة دون أن يعوقهم عائق عن الحصول على المنافع التي تكسبهم إياها الحماية التي نالوها.
أما اليوم فقد عدلت السلطنة العثمانية عن إعطاء الإجازات التي كانت تجعل «الرؤساء» الموظفين في متاجرنا من ذوي الامتيازات، وحجتها أن الظروف قد تغيرت، وأنهم أصبحوا في مأمن من التعديات التي كانت تقع قديما، أما ما ترمي إليه من وراء هذه الحجة فهو إلزام الموظفين الرؤساء بدفع الضرائب المترتبة عليهم شخصيا، وإذا رضخنا لما تدعيه السلطنة العثمانية فسوف نندم؛ لأنه يستحيل علينا بعد ذلك أن نداعي بحقنا القديم.
هوامش
الفصل التاسع عشر
تجارة بيروت - أهميتها - الأساليب التي يجب أن تتبعها فرنسا في سبيل ازدهارها. ***
تتمتع مدينة بيروت في الخارج بشهرة تجارية حازتها بحق؛ فهي اليوم أكثر المدن السورية إنتاجا للمنتوجات الصالحة للأعمال التجارية. حبتها الطبيعة مرفأ أمينا، فأصبحت ملتقى سفن أقطار العالم الأربعة. ورثت هذه المدينة الأهمية التي أدركتها عكا ويافا وصيدا وطرابلس واللاذقية في مختلف العصور، ولم تعقها عن ذلك معارضة الباب العالي الذي ناهض دائما، لا بل منع ازدهار التجارة عن طريق بيروت؛ لأنها كانت إقطاعة من الجبل.
وعندما أصبحت هذه المدينة تحت حكم السلطان المباشر، لم يجرؤ الأوروبيون قط على الإقامة فيها؛ لأنها كانت خاضعة للجزار المشهور بكرهه للإفرنسيين الذين أخرجهم من ولايته.
أنشئت أولى مؤسسات بيروت في أثناء الحرب البحرية، على عهد سليمان باشا الذي أنسى الناس ظلم سلفه، وأعاد الاطمئنان إلى سوريا.
فأخلاق هذا الوزير المتناهية في الحلم والوداعة شجعت «الرؤساء» كثيرا؛ فلم يجدوا أية صعوبة في الاستقرار بهذه المدينة؛ إذ رأوا فيها حصنا أمينا نظرا لقربها من الجبل.
كان هذا الباشا يتعاطى التجارة، وكان التجار يومذاك لا يستطيعون شراء جميع المنتوجات التي كانت في حوزته نظرا لقلة رأس مالهم؛ ولهذا كانت تعقد صفقات مقايضة بينه وبين شاحني المراكب الذين كانوا يترددون على سوريا في أثناء الحرب.
كنت في بيروت عام 1809 عندما وصلت باخرة إفرنسية «بطلة جنوى» مدججة بالبضائع، تنشد الثروة. وكان في إدارة الجمرك مأمور مكلف - من قبل سيده - مفاوضة من ينزلون إلى الشاطئ، فأرسل يستقدم القبطان إليه. وإذ كانا محتاجين إلى ترجمان؛ دعيت أنا للاهتمام بقضية تختص بسليمان باشا صديق الإفرنسيين، فعقدت الصفقة على حمولة الباخرة كلها دون أقل عناء؛ وهذا ما يحدث حيث تكون الصراحة متوافرة والنية الحسنة؛ فمدير الجمرك لا يستطيع أن يكون سمسارا لأنه ممثل سليمان باشا، والمثل في هذه البلاد يقول: الناس على دين ملوكهم.
وقبل أن أنتقل من هذا الموضوع لا بد لي من إبداء شعور أزعجني؛ شعور أوحته إلي هذه الفكرة التي أوردتها. لقد شيدوا ضريحا فخما للجزار، في حين أن ضريح سليمان باشا يكاد يكون مشارا إليه فقط؛ وهذه بادرة أخرى يجب أن تدون هنا لتدل على أننا والشرقيين على طرفي نقيض في كل شيء.
إن رفات هذا الظالم - أحد أولئك الرجال الذين لم ير لهم الشرق مثيلا في تعطشهم إلى الدماء - يوضع في ضريح فخم، أما أشلاء صديق الإنسانية الذي كان يسميه المسلمون باباس باشا نظرا لتحليه بصفات الراعي الصالح - أو الكاهن الجليل حسب التعبير الديني - فلا يكاد يعرف أين هي. إن هذا يرجع إلى عقلية الشرقيين التي تعزو كل شيء إلى مشيئة الله، ولا تعرفه إلا حين يغضب ويضرب ضرباته المخيفة. فعندهم أن الجزار - الرجل الفاني - لم يكن ليقدر أن يؤدي رسالة هذا الظلم والجور لو لم يكن الله قد اصطفاه لإلقاء تلك الدروس القاسية على العالم. رويت فيما سبق كيف يحترم المجانين عند هذا الشعب الكثير الأوهام والتخيلات، إن لهذا الوهم عذرا واضحا لأن له على الأقل وجهته الأخلاقية، فالاهتمام بالشخص المهمل المعتوه يستحق فاعله أجرا عليه، أما الاهتمام بقبر طاغية كالجزار فعلام يؤجر بانيه؟
قلت في فصولي الأولى إن العرب هم أول من أنشأ المؤسسات التجارية في بيروت، أما أكبر محل أوروبي يتعاطى التجارة مع سوريا في حقلي التوريد والاستيراد فكان إذ ذاك في جزيرة قبرص. فمن هنالك كان يتبضع تجار هذه البلاد مصطحبين الحاجيات التي كانوا يتجرون بها. والذين لا يتمكنون من الذهاب إلى الجزيرة كانوا يطلبون كتابة الحاجيات التي يرغبون فيها. وبعد هذه التجارب حول العرب وجوههم صوب أزمير وإسطمبول، فاستوردوا منها بضائعهم لأنهم كانوا يجنون من الاتجار بها منافع ملموسة. واستمرت هذه الحال مدة الحرب، وعندما أعاد السلام حرية التجارة البحرية أخذ التجار العرب - مدفوعين بطمعهم الفطري - يقومون بشراء حاجاتهم رأسا من البلاد التي تنتجها، وشاء البعض منهم أن يتعودوا تجشم أخطار الأسفار؛ فانتقلوا إلى أوروبا حيث صادفوا نجاحا وفلاحا، فلم يبارحوها.
وظلت الصلة قائمة بينهم وبين أصدقائهم السوريين الذين عهدوا إليهم إذ ذاك بقضاء جميع حاجاتهم، فوجدوا على يدهم منافع لم يجدوها على يد تجار أوروبا. كانوا يكتبون لهم بلغتهم الخاصة، وهم موقنون أنهم يفهمونهم نظرا لمعرفتهم بواردات البلاد واحتياجاتهم، ثم جمعتهم المصلحة ووحدت بينهم، فاحتكروا جميع أعمال تجارة سوريا، فارتأت بيوت مرسيليا التجارية وجنوى وليفورنا أن يكون لها عملاء من العرب ليتفاهموا والذين لا يحسنون سوى هذه اللغة. ثم إن الإغريقيين ما لبثوا أن تمركزوا في الأماكن الهامة ليتفاوضوا مع أبناء أمتهم المنتشرين في جميع أنحاء الشرق؛ لأن اليونان هم بطبيعتهم بعيدو الهمة جسورون، والتجارة تلائم نشاطهم الطبيعي كل الملاءمة.
ذلك كان سبب الانقلاب الذي شعرت به تجارة هذا البلاد، وهو الانقلاب الذي تبين منه - بادئ ذي بدء - أنه لم يكن له من مفعول سوى نقل التجارة من أياد إلى أخرى؛ لأن الذي كانت تخرجه مصانع فرنسا لمؤسساتها الوطنية كانت تخرجه بمقدار واحد للإفرنسيين والشرقيين. بيد أنه لما كانت أهمية الابتياعات تنشأ عادة عن الذين يقومون بها، فإن التجار الشرقيين يعقدون صفقاتهم بتردد وخشية. إنهم يقومون دائما بتجارب وينقادون بسهولة لآراء عملائهم الذين يتملقونهم كثيرا ويزينون لهم اجتناء أرباح لا تكون في الغالب إلا وهمية؛ ولهذا انحصرت في موانئ تريستا وجنوى وليفورنا ومرسيليا، وعلى الأخص موانئ إنكلترا التي بلغت تجارتها مع سوريا - بالنظر إلى ازدهارها - ما لم تبلغه في جميع البلدان مجتمعة.
كانت محلات سوريا التجارية في الزمن القديم فروعا من محلات مرسيليا. والتجار الذين سبق لهم أن أقاموا في المشرق كانوا يديرون مؤسساتهم بوجه يتفق مع حاجات المكان وأذواق أهاليه. أما الوكيل فلم يكن يهتم إلا بتنسيق البضائع التي كان يتسلمها، وإعداد شحنات العودة. كانت التجارة يومذاك على قدم وساق، وكان يمارسها من يتعاطونها باستقامة عظيمة، فمن كان يجرؤ أن يظهر سوء النية أو أقل ميل إلى الغش؟!
كان القنصل يدعو محكمته للالتئام لدى ظهور أي عمل شائن ويحكم بحجر المذنب الذي كان يسمونه «بطال».
هذا عرف حملتنا على اتباعه اتصالاتنا الطويلة بسوريا، وهو ذو أثر فعال يجعل «الرؤساء» وناقلي البضائع وجميع رعايا السلطان الذين تربطهم علاقات بالأوروبيين حذرين في تصرفاتهم؛ لأنه إذا ما قدر ولفظت هذه الكلمة المحترمة - بطال - يصبح الشخص غير أهل لخدمة الأمة. وهذا العرف أدخل فيما بعد في قانون قنصلية حلب الذي نقل منه السيد دي بوكافيل، في مذكراته،
1
مادته الرابعة.
إن السوريين الذين يتعاطون أعمال تجارتهم مع أوروبا لم يوفقوا دائما في صفقاتهم رغم التسهيلات الجمة التي توافرت لهم، ورجحت كفتهم على التجار الفرنسيين - مزاحميهم في الأساكل - مما جعلهم يرجعون إلى أسلوب تعودوه وفهموه، وهو أكثر انطباقا على عقليتهم وذهنهم.
وأرى أنه لمن الأصح - وفي ذلك مصلحة متبادلة - أن يقوم الإفرنسيون وحدهم بتجارة فرنسا، وأن تبقى التجارة المحلية أو تجارة سوريا في يد العرب. إن هؤلاء هم الوسطاء الطبيعيون بين الفرنسيين الذين يبيعون جملة وأصحاب الحوانيت الذين يبيعون تفاريق، كما هي حالة هؤلاء الآخرين بين التجار الوطنيين والمستهلكين، وعندما تتبع هذه القاعدة في سير الأعمال يصبح كل شيء طبيعيا. إني لم أجد تاجرا فرنسيا أو بائعا عربيا لم يقر بأن الاستمرار على الطرق القديمة هو أفضل من اتباع الطرق الحديثة. إنهم كانوا يرغبون جميعا في هذا الانقلاب. ومع ذلك فإن أحدا منهم لم يكن يهتم بالمطالبة به. إن مثل هذا الانقلاب يجب أن تكون النكبات مركبته.
فالإفرنسي يجيد معرفة إنتاج بلده. ولما كان هذان البلدان مضطرين للمقايضة بمنتوجاتهما ، فمعلومات هؤلاء التجار - إذا ما اجتمعت - تحملهم على توسيع نطاق أعمالهم وتجارة بلدهم، فتتضاعف أرباحهم.
إن العرب - وهم لا يميلون إلى التجديد - لا يمكنهم طلب أشياء يجهلون وجودها؛ فلو كان لدى المؤسسات الفرنسية في الأساكل ممثلون في مرسيليا لكان بإمكانها أن تفاوض مصانع المملكة؛ وهكذا فإنها تقوي نفوذها بفتحها منفذا لأصحاب المصانع الغاصة محلاتهم بالبضائع؛ لأنه لا يمكنهم توريدها على حسابهم؛ نظرا لعدم وجود ضمانة أخلاقية توحي الثقة.
إن مزاحمة الأوروبيين للعرب هي في غاية الصعوبة، لا سيما وأن هؤلاء يتمتعون بامتيازات كبيرة لم تتوافر لأولئك؛ إنهم لا يدفعون أجور المحلات أو المخازن أو رواتب المستخدمين، وهم بغنى عن المصارفات الأخرى التي تتطلبها التجارة، ناهيك بأنهم يقومون بنوع من الأعمال لا يجارون فيه، ألا وهو أنهم يمدون ويدينون أبناء الجبل من أمراء ورجال دين، وخواص وعوام، مالا بربا فاحش تسليفا على موسم الحرير، أو يقدمون لهم ملابس وحبوبا بثمن باهظ.
إن السوريين يحبون هذا النوع من الضروب التجارية؛ لأنه لا يتطلب تداول جميع الأموال في وقت واحد، وهو لا يمنع من يقوم به من مزاولة أعمال تجارته الخاصة التي تدر عليه، وينصرف إلى سائر أعماله بما تبقى له من رأس مال.
إن الاعتمادات التي يمكن تجارة أوروبا أن تمد بها هي التي تشجع التاجر العربي. إنه يعتبرها بمثابة بنك يمكنه أن يستدين منه ما يعوزه من مال؛ ومن ثم فإنه يمكننا أن نجعل مضرب المثل قولنا: إن الاعتماد هو قلب التجارة عند شعوب هذه البلدان هنا؛ ذلك لأن العرب لا يتاجرون إلا بالمبالغ التي يقرضونهم إياها. إن المبالغ المسلفة التي يدينهم إياها تجار أوروبا تكون بفائدة ستة بالمائة، مع أن الفائدة التي يطلبها أبناء سوريا هي عشرون بالمائة. أما الذين يقرضون بفائدة تراوح بين 36 و40 بالمائة عن كل سنة، فعددهم كبير جدا، فإذا اتخذت مثل هذه التدابير التي تلائم العرب فسوف لا يفكرون إلا ببيع البضائع التي قدمها لهم عملاؤهم وترويجها وقبض أثمانها.
إن العربي لدى تسلمه البضائع يفكر بما يحتاج إليه من المال في أعماله التجارية، أكثر مما ينظر إلى الظروف الملائمة للبيع. إن كل شيء هنا يعمل حسب مقتضيات الحال، وعندما تبدو هذه الضرورة، لا يهتم تاجر هذا البلد بالخسارة التي ستلحق به؛ وهذا أحد الأسباب الهامة التي تجعل مزاحمة العرب شؤما على الأوروبيين.
إن هؤلاء يجدون ربحهم في الواردات، بينما إن ما يقدمونه للشرقيين هو الصادرات التي يستطيعون الحصول عليها بقيمة تنقص عن 25 بالمائة عما يحصل به عليها الأجانب.
وهذه ليست سوى صورة مصغرة عن نتائج المزاحمة السيئة التي لاقتها تجارتنا وجعلت الكثيرين من تجارنا يملون ويقنطون. وقد اضطروا إلى الإحجام عن دفع نفقات مؤسساتهم بعد أن خدعهم سماسرتهم، وسرقهم مشتروهم، واستذلهم رجال الجمرك، شركاء التجار المواطنين.
والذين لم يتخلوا عن مركزهم استسلموا للتيار وماشوا الظروف، وعرفوا أن يستعيدوا مكانتهم. إن هنالك قسما قد آثر أن يتعاطى العمولة، وآخر اكتفى بقبض جعالة زهيدة.
2
أما المحلات التجارية الراسخة القدم فلم تخفها المزاحمة وإن ضايقتها كثيرا. حولت نظرها إلى تعاطي التجارة المحلية فكفل لها تفوقها - في العدة - عجز العرب عن تقليدها؛ وهذا ما بحثته حين تكلمت عن طريقة حل الحرير الغليظة في هذه البلاد. إن المقدرة التي يتصف بها التاجر الأوروبي تساعده - ولا شك - في المهمة التي يتعاطاها؛ فعليه قبل مباشرة عمله أن يظفر بثلاثة أشياء: معرفة البلاد، لغتها، سمسار قدير. فلا بد إذن من معرفة بعض نقاط تصلح لأن تكون قاعدة ومقياسا لأعمالنا، وتمكننا من مفاوضة المشترين مباشرة. إلا أنه لا ينتظر أن نتفوق على رجل هو تاجر وسمسار في وقت معا، ولا سيما إذا كان يتحلى بشيء من المقدرة وبكثير من الثقة. إنها قضية حياة أو موت لكل مؤسسة تجارية. ولقد توافرت لدي عدة شواهد على هذه النقطة تمكنني من إبداء رأي هو غاية في المتانة: إن تاجرا عنده سمسار قدير، يمكنه أن يجمع بين المقدرة الأوروبية والحيلة الشرقية. وقد ثبت أن مهمة السماسرة كانت جد مجدية وضرورية، حتى إن الحكومات سعت لدى السلطات لتمتع هذه الطبقة من الموظفين بالامتيازات والحصانة الشخصية التي يتمتع بها التراجمة، فمن فور دخولهم في خدمة التاجر تفارقهم رعوية جلالته ويصبحون من رعايا قنصل الدولة التي يخدمونها.
كثيرا ما كان التجار الأوروبيون - قبل أن يمنحوا هذا الامتياز - هدفا للتعديات البالغة الحد؛ لأن السلطات التركية كانت تحرج إلى أبعد مدى موقف «الرؤساء» الذين عرفت أن فرنسا تدعمهم مدفوعة بحبها للإنسانية. إنه - والحقيقة تقال - ما من تضحية أسمى من التي يقوم بها تاجر بدافع الشفقة أو المصلحة لإنقاذ من هو موضع ثقته وأعماله ... وهكذا فإن كان يبذل ماله لينجي عميله المعرض لسيف العدالة الغادرة في هذه البلاد.
لاقيت بعض المشقات عندما دعوت إلى احترام مبدأ حماية السماسرة في بيروت؛ هذه الإسكلة الجديدة التي يجب أن نخلق فيها كل شيء. ولكم تألمت عندما رأيت هذا المبدأ ينهار لدى الذين اعتقدوا أنه يجب عليهم أن يكونوا أقل تسامحا مما هم عليه العثمانيون تجاهنا؛ إذ لم يظنوا مطلقا أننا نتطلب منهم أكثر مما تطلبنا من الآخرين.
3
فهمت بعد محادثة طويلة جرت بيني وبين إبراهيم باشا أن هنالك خطة مدبرة لكيفية معاملتنا في سوريا؛ فهو يعتبر «أن موقف الأوروبيين في مصر كان أقوى مما هو عليه في سوريا، إلا أن موقف أهالي سوريا كان أفضل من موقف شعوب البلد الآخر.» وهذا ما أكد لي - وكثيرا ما دلت عليه تصرفات السلطة - إن نائب السلطان كان ينوي التخفيف عن السوريين والانتقاص من امتيازات الأوروبيين الذين توسعوا كثيرا - حسب رأيه - في مصر بعد أن أثقل كثيرا عاتق المصريين التعساء.
إن التدابير الحليمة التي اختطها محمد علي لم تتبع في هذا الحقل كما اتبعت في كثير من الحقول الأخرى؛ فأفضل وسيلة لترويج منتوجات مصانعنا تكون في إنشاء مستودع ضخم (عنبر) يمكنه أن يقدم لتجار دمشق - في الداخل والإسكلة - الحاجيات اللازمة بأسعار معتدلة، وأن يهتم بأمر بضائع المقايضة التي يمكن هؤلاء التجار أن يقدموها، بشرط أن يسترجعوا الحاجيات التي يتبين أنها لا توافق بلداننا في المملكة العثمانية حيث تعود هؤلاء التجار أن يأتوا بأنفسهم إليها، ووفقا لهذه الطريقة يجب أن تورد المنتوجات إلى فرنسا، حتى إذا لم تتناسب وحاجيات البلاد أعيدت كتلك.
إن مؤسسة تجارية كهذه يجب أن تقوم بإنشاء مدينة صناعية. وعندما يساهم فيها جميع أصحاب المعامل فسوف يقوونها وينشطونها لأنها لن تفتقر إلى بضائع اهتم أصحابها بترويجها عن هذه الطريقة.
وهنالك قاعدة يجب أن يتبعها تجارنا؛ إنها تنحصر في أن لا يقرضوا شيئا السلطات المحلية وألا يبيعوها شيئا - مهما تكن قيمته متدنية - لقاء دفع مؤجل، ما لم يقدم الشاري كفيلا مليا يقدم بدوره ضمانة وافية، ومن يعمل خلاف هذا في بلاد تكثر فيها - ويا للأسف - الحوادث الاستثنائية يعرض مصالح العملاء للخطر. وقد بحثت هذه الفكرة بإسهاب في مذكرة هي بين يدي،
4
وهاكم ما جاء فيها:
اتبعت هذه القاعدة اتباعا دقيقا في وقت ما، فتجارنا لم يكونوا يبيعون إلا في محلاتهم، كما أنهم لم يوردوا قط على حسابهم الخاص. أما تجار دمشق والمحلات الأخرى في سوريا فكانوا يهبطون الأساكل ليقوموا بابتياعاتهم، أو إنهم كانوا يشترونها بواسطة أناس يتقاضون عليها عمولة؛ ولهذا لم يكن خطر في الدفع، ولا مشادات حول الأسعار، ولا مخاطر في التوريد.
إلا أن كلب الجشع، والمحسدة البغيضة، والرغبة الملحة في القبض سلفا، وأخيرا الفوضى في النظام؛ أنست - لبضع سنوات خلت - هذه الطريقة الحكيمة؛ وهكذا سارع كل واحد ليقوم بالعرض، فالإغراء على القبول، فالتوريد. أخذ الشرقي بادئ ذي بدء - وهو داهية دقيق متمسك بتجارته - يجس باحتراس مثل هذه العروض، وأخيرا حملهم على أن يرجوه، ثم انتهى بفرض أسعار البضائع وشروط الدفع؛ فنتجت عن مثل هذه التصرفات المغفلة خسائر جسيمة لحقت بالأمة. كان من المتوجب على تجارنا أن لا يخطئوا الاعتقاد بأن منتوجاتهم - وهي أهم ما يحتاج إليه هذا البلد - يمكن أن تطلب وتنفق دائما.
5
كان الاتجار مع إنكلترا عن طريق أزمير وليفورنا؛ فكان العرب يستوردون منها المنسوجات والقطن المغزول الذي يحتاجون إليه في قليل من الأعمال. غير أن تجارة هذا الصنف ازدادت بمعدل 10 / 1 عندما خصها التجار الإنكليز عام 1831 بكل النشاط الذي كانت تتطلبه؛ وهكذا بلغت قيمة القطن الإنكليزي المغزول المورد إلى سوريا، ابتداء من عام 1833، مبلغا ضخما قدره 6274700 فرنك.
إن الأنسجة البيضاء المصبوغة والموشاة ظلت تتمتع برواج عظيم، وأظن أن السبب الأساسي في ذلك يعود إلى البؤس العام وغلاء الحرير واليد العاملة؛ وهذه العوامل مجتمعة جعلت الأنسجة الأجنبية في متناول جميع الطبقات غنية كانت أو فقيرة. أضف إلى ذلك الزي (الموضة)؛ فقد ساعد على رواج الأقمشة التي هي أكثر زركشة وألوانا لماعة من غيرها كالتي يحبها الشرقيون.
هذا فيما يتعلق بالأنسجة المنقشة والأنسجة القطنية والكوفيات. أما فيما يتعلق بالأقطان المغزولة والخام والأنسجة البيضاء القطنية فأسبابها ليست كتلك.
كانوا يغزلون قديما في البلاد كمية وافرة من القطن لحياكة الخام،
6
أما الأنسجة البيضاء وخيط الغزل الدقيق فكانا يردان من الهند لتحاك منها الأجواخ التي كانت لحمتها من قطن البلاد. إذن، فإلى إدخال مثل هذه البضائع وليدة المصانع، وإلى الميزة التي كانت تتفوق بها على شبيهاتها المعروفة من قبل، يجب أن نعزو الرواج الكبير الذي لاقته مصنوعات إنكلترا في سوريا.
إن سويسرا تقدم أيضا النسيج الموشى، وميلهوزن تمدنا من حين إلى آخر بكمية من النسيج المنقش. إننا نعجب لأول وهلة كيف أن تجارنا لا يستثمرون مثل هذا النوع الهام من التجارة، ثم لا نلبث أن ندرك أن إحجامهم يعود إلى عملاء مرسيليا الذين لا يمكنهم أن يوردوا لممثليهم العرب إلا الأشياء التي يطلبونها منهم.
أجل، إننا متى أتقنا الصنع أكثر مما يتقنه الإنكليز، لا يلائمنا أن نبيع بالثمن نفسه. إلا أن التفوق في الحياكة وعلى الأخص في الصباغ - ولا شك - الزيادة في الثمن؛ فالمناديل والأجواخ الربيعية المصنوعة في «روان» تتمتع اليوم بأفضلية ملموسة، مع أن ثمنها أكثر ارتفاعا من ثمن شبيهاتها في البلدان الأخرى.
إن مصر تقدم أيضا إلى أسواق سوريا كمية كبيرة من المنسوجات والقطن المغزول؛ وهذا ما يسمح لها أن تصدر الحاجيات التي تتوافر لديها من صناعة أهليها. ولو ظلت سوريا في يد محمد علي لشاهدنا الاهتمام بتنفيذ مشروعه الرامي إلى نقل المصانع القطنية إليها لتعمل على أوسع مدى فيها، بعد أن حال مناخ مصر دون ذلك.
إن عزل كل منتوج إنكليزي عن أسواق هذه البلدان نتج عن طبيعة الأمور نفسها؛ فالخيوط والأنسجة المصنوعة في هذا البلد من قطنه، وبأياد تقاضت أجرا ضئيلا، أو على حساب السلطة العامة؛ أمست تباع بأسعار ضئيلة أدت إلى العدول عن الإتيان بها من الخارج.
فالتجار الإنكليز لا يوحون عادة الارتياح الذي يوحيه الفرنسيون؛ إنهم يتطلبون من العرب دقة ليست من طبيعتهم ولا من عاداتهم، ولا يمكنها أن تكون إلا صنيعة الأيام. إن استقامة التجار ترتبط باستقامة أصحاب الحوانيت الذين هم بحاجة إلى أن يقبضوا مالهم كاملا من المستهلكين.
وهنالك عدة دواع أخر تعاضدنا، ويمكننا أن نستخلص منها أنه إذا كان مقدم التجار الإنكليز قد ساهم في ترويج موارد إنكلترا، فإن حلول الأشخاص الموفدين من فرنسا يحدث المفعول نفسه بالنسبة للحاجيات المصنوعة في وطننا. فلا بد - إذن - من أن يزود المحل الذي ينوى إنشاؤه برأسمال كبير، ويفضل كثيرا أن يكون المساهمون فيه من أصحاب المصانع في مختلف المدن الصناعية.
وهنالك نصيحة أخرى أسمح لنفسي أن أسديها إلى الذين يقدمون من مواطني إلى بيروت، وهي أن يهتموا بأن يعيدوا إلى التجارة الفرنسية تراثها القديم في الاستقامة، أو على الأقل أن يحافظوا على ما ظلت تحتفظ به من شهرة قديمة. لقد عرفت أشخاصا انقادوا لإغراءات مقيتة، في مخادعات زعزعت ثقة تجار هذه البلاد، فوافقوا على الإكثار من عدد التيجان المذهبة المطبوعة في أعلى الأقمشة دون أن ينظروا إلى جودتها التي كانت تدل عليها تلك التيجان؛ فنتج على أثر كل صفقة مشادات طويلة، مع أن المشترين كانوا - قبل هذه الخدعة - يثقون باستقامة أصحاب المصانع، ولا يخامرهم أقل شك بعدد التيجان وبيان (قائمة) مستورد هذه البضائع. ولكن الخدعة الآنفة فتحت الأعين وأيقظت الأفكار؛ فأصبحوا يتذمرون من نقص في طول «الأثواب» الذي كان لا ينقص.
ثم إن هنالك عيوبا أخرى فتحت في مجال الملاحقة على أثر اكتشافها.
إن اسم الصانع لم يعد موجودا على هذه الأقمشة، كما أنه لم ير عليها أثر أي خاتم ما، والألوان - وبصورة خاصة الناتئة منها - أصبحت باهتة معتمة، ولعلها غير منسقة أيضا.
إن رزم البضائع كانت مرسلة بدون نموذج، أو إن هذا النموذج أو هذه الرزم كانت مقلدة.
لقد استبدلوا نماذج المصانع المشهورة بنماذج ليست من عملها وصنعها.
وهذه الخدع أضرت بنا، بل ساعدت الأقمشة الأجنبية على أن تحل محل أقمشة مصانعنا.
كانت المراكب تتردد كثيرا إلى بيروت، إلا أنها كانت تعود كلها فارغة تقريبا؛ لأن إنتاج سوريا - حتى في الحالة التي تكون فيها أسعار الحرير ملائمة - لا يكاد يشحن باخرتين أو ثلاثا.
كانوا يدفعون ثمن البضائع المستوردة ذهبا وفضة. ولولا الحرير الذي تحتاج إليه كثيرا مصر وأنحاء سوريا الأخرى، لخلت البلاد من النقود.
إن استهلاك كميات كبيرة من الحرير في أوروبا قد أساء جدا إلى أعمال التجارة؛ إذ تجاوز الحدود التي فرضتها التجارب لتبقى الأسعار ثابتة. كان يتوجب على التجار الأوروبيين أن يحسنوا فهم هذه النظريات والحسابات لأن العرب يفتقرون إلى بعد في النظر سواء أكان في أعمالهم البيتية أم في أعمالهم التجارية. إنهم أناس يفسدون الحرفة، والاهتمام البالغ الحد في عرفهم كفر بالعناية الإلهية. استقى المسلمون مثل هذا الاعتقاد من القرآن، والمسيحيون الذين هم قرود المحمديين يجدون مبررا لهذا التوهم عندما يتمسكون بحرفية بعض آيات الكتب المقدسة.
وأرى لزاما علي أن أقول هنا إن الاختلاف البين الذي يلاحظ بين الواردات والصادرات ناتج أولا عن أن سفاتج النقد والأشياء الثمينة التي جرى التداول بها بصورة خفية لم تفضح أو تعلن. ثانيا أن المرتجعات كانت تعقد في مقابل سندات لحاملها؛ وهكذا كان يقتطع تجار البلاد لأنفسهم جزءا من السفاتج التي يرسلونها على أثر توقيع بولصة الشحن.
وخلال السنوات الثلاث التي تيسرت لي فيها مراقبة جميع أعمال مرفأ بيروت مراقبة دقيقة، يوم كانت التجارة لا تمارس بسبب الإغريقيين، إلا على سفن أوروبية، استطعت أن ألاحظ بأنه استورد في الأعوام:
1825
لآلئ
19000 فرنك
ريش نعام
4000 فرنك
شالات
28000 فرنك
حاجيات مختلفة
970920 فرنك
المجموع
1021920 فرنك
1826
لآلئ
98000 فرنك
شالات
3000 فرنك
حاجيات مختلفة على سفن تجارية
469000 فرنك
حاجيات مختلفة على سفن حربية
150000 فرنك
المجموع
720000 فرنك
1827
لآلئ
39000 فرنك
شالات
20000 فرنك
حاجيات مختلفة
1029100 فرنك
المجموع
1088100 فرنك
وهكذا يمكننا أن نعتمد معدل هذه السنوات الثلاث لنقيس عليه البضائع المصدرة الأخرى التي لم نعرف عنها شيئا؛ ومن هنا نتج أن المدفوع كان أكثر من المقبوض.
إن البضائع المصدرة التي كانت تنقلها كل شهر المراكب الهوائية أو البخارية لا تنقص قيمتها على الستماية أو السبعماية ألف فرنك.
ففي أزمير والإسكندرية ومالطة ومرسيليا كانت تحول السفاتج إلى سندات لحاملها لترسل من ثم إلى المراكز التي يجب أن تدفع فيها.
هوامش
الفصل العشرون
بيروت ودمشق أيتهما أحرى بأن تكون مركزا للمؤسسات الأوروبية - الحجج التي تؤيد بيروت. ***
في سوريا اليوم مشكلة لم تحل حلا يرتاح إليه رجال التجارة، وهذه المشكلة تدور حول معرفة أي المدينتين - بيروت ودمشق - أحرى بأن تكون مركزا للتجارة الأوروبية. ولكي يستطيع القارئ الحكم، فسأقدم له أولا حججي الخاصة، المخالفة للقائلين بأفضلية دمشق، ثم أتبع آرائي بملاحظات أبداها أحد مؤيدي هذه الفكرة، وهو من الذين عرفت فيهم دمشق أكثر الناس اندفاعا لتأييدها.
أرادوا أن تصبح بيروت إسكلة مرور (ترانزيت) فتصير من دمشق كالإسكندرونة من حلب، ثم ينقل القنصل منها ليقيم في دمشق، مجارين في ذلك إنكلترا التي قررت أن تجعل دمشق مقر ممثلها الأكبر.
إن بين حلب ودمشق اختلافا كبيرا، والفرق أشد وأقوى بين الإسكندرونة وبيروت؛ فحلب - نظرا لموقعها الجغرافي - هي أهم نقطة للاتجار مع ولايات الكرمان، وديار بكر، وأرمينيا، وكردستان الغنية، في حين أن دمشق تقع على طرف الصحراء وليس لها إلا علاقات قليلة الأهمية مع بغداد ومكة؛ لأن حلب والقاهرة تزاحمانها فيهما.
فالإسكندرونة هي قرية يسكنها حوالي 200 شخص تقريبا. أما بيروت فعدد سكانها يراوح بين 15 و16 ألف شخص، ناهيك بأن موقع الإسكندرونة غير موافق من جميع نواحيه؛ فهواها أكثر الهواء فسادا، ومجاورتها لباياس وجبل الجياور تجعلها خطرة جدا، فضلا عن أنه لا يستطاع نقل البضائع الكثيرة إليها؛ إذ لا مستودعات فيها ولا مخازن. وهي تكاد تكون بلدا قفرا لأن ضواحيها غير مأهولة.
أما بيروت فتتمتع بمناخ صحي جدا، ومركزها أكثر المراكز هدوءا وأمنا، وهي تقع في نقطة مأهولة من لبنان، كثيرة الاستهلاك، حتى إن البعض من أهاليها الميسورين يتعاطون أعمال التجارة في مرسيليا. ولا ننس قربها من البلد الذي ينتج الكثير من الحرير الممتاز.
ولبيروت أسبقية على حلب في القيام ببيوعات ذات آجال معينة؛ فحلول موسم الحرير هو الوقت الذي تستحق فيه جميع الأموال. إن من يبيعون تفاريق (بالمفرق) يقبضون المبالغ التي أسلفوها، ويدفعونها إلى من ابتاعوا حاجياتهم منهم، وهؤلاء بدورهم يولفون من هذه المبالغ، المضافة إلى منتوجات موسمهم، الكميات التي تعهدوا بها للتجار.
أما في حلب أو الشام فكثيرا ما يتجاوز وقت الدفع آجاله المضروبة؛ كما أن القوافل لا تصل في مواقيت دقيقة، وهي معرضة إلى أخطار قلما تنجو منها. والذين يقطنون حلب يعرفون أن أثمان المبيعات لا تقبض كاملة إلا بعد انقضاء عشرين أو ثلاثين شهرا. أما في بيروت فالسندات تدفع حين الاستحقاق.
وبيروت تنتج من الحرير ما يبلغ ثمنه مليوني فرنك، بينما دمشق لا تنتج إلا قليلا من الإزارات.
حاول الإنكليز مرارا أن يستقروا في دمشق، ثم اضطروا إلى العدول عن ذلك. نعم، إن دار قنصليتهم لا تزال قائمة فيها حتى اليوم، ولكنها لم تعد قنصلية عامة بعدما تمت المواصلات مع الهند عن هذه الطريق. فلو كان الأمر ذا أهمية - كما يزعم أنصار دمشق - لما بخل الإنكليز عليها بقنصل ذي درجة عالية. ولقد أنشأت فرنسا أيضا في دمشق قنصلية من الطراز الأول أملا باجتذاب التجارة الفرنسية إليها. إلا أن هذا العمل لم يسفر عن نتيجة طيبة، مع أن موفدنا هناك كان السيد م. بودان؛ فليس إذن عدم الحماية هو الذي كان يحول دون استقرار مواطنينا في دمشق.
استخفت الإنكليز خطة تقوم على أساس واه، فأخفقوا في تحقيقها. فإذا ما طالعنا بيان غرفة التجارة في مرسيليا،
1
نقرأ في الباب المتعلق بصيدا وتوابعها:
إن عكا وصور وصيدا ويافا والرامة تؤلف جزءا من هذه الإسكلة.
ثم نطالع في محل آخر:
إنه يمكن تخمين قيمة الأعمال التجارية الداخلة إليها بمبلغ 1500000 فرنك، والقيمة العائدة بمبلغ 1800000 فرنك.
وإذا قابلنا بين اليوم والماضي، نجد أن الحالة لم تتغير إلا قليلا، فالتجارة ما زالت تقريبا هي هي،
2
ولكنها انتقلت من أياد إلى أخرى، وهكذا نرى أن بيروت احتلت المركز الذي كانت تحتله صيدا في الأساكل الجنوبية.
وبعد انطلاق تجارنا لاستئناف أعمالهم على أثر الحرب التي تلت غزو مصر، أصبح من المتوجب عليهم أن يختاروا الإسكلة التي يرغبون فيها. وطبيعي أن تنتقل التجارة، التي أصبحت حرة إلى المكان الذي يوافقها أكثر من سواه. وإذا كانت الأساكل الأخرى تضم بعض تجارنا فبيروت تضم منهم عددا أكبر وأوفر ثروة.
إن مجاورتها للجبل جعلت الذين تهافتوا إليها في مأمن من بلص السلطة التركية واختلاسها؛ ففي استطاعة بيروت أن تكفي سوريا بكاملها، ابتداء من طرابلس حتى حدود مصر. إن العادة - وهي مستحكمة عند شعوب هذه البلاد - تحملهم على تفضيل التمون منها بدلا من أن يبتاعوا حاجياتهم من أقرب الأماكن إليهم؛ ولذلك كانوا يقولون إن البضائع التي تشترى من بيروت تكون مملوءة حياة، ولكنها تصبح كالميتة عندما تستورد من الداخل.
أحدث تهافت تجار بغداد والشام والمدن الأخرى في سوريا تزاحما قويا بين البضائع المصدرة. وهذه المزاحمة يستفيد البائع منها دائما، ولا يمكن أن تحصل إذا ما انحصرت علاقاته بالمشترين المحليين فحسب؛ فمن الضروري أن يقوم وسطاء بين البائع بالجملة، والبائع بالمفرق، والمستهلك. وحيث لا تجار يدفعون نقدا أو يقدمون بضائع، نضطر إلى فتح الاعتمادات، ولا يوافق التعامل هكذا إلا مع من يقدمون بعض الضمانة، سواء أكانوا ملاكين أو رأسماليين.
كانت عقود التأمين تكفل سلامة البضائع حتى دخولها بيروت، أما المخاطر التي تلحق بها برا فكانت على عهدة المصدرين. وهذه المخاطر - أي أخطار النقل ومصارفات المرور - تضاعف ثمن الحاجيات وتقف حجر عثرة في سبيل نفود البضائع الزهيدة الثمن، ولا سيما إذا كان متوجبا على تجار يافا ونابلس والقدس أن يتبضعوا من دمشق كما يتبضعون من بيروت. إنهم يجبرون حينذاك على دفع مصارفات نقل باهظة، ورسوم جمارك جديدة، كما أنهم يتعرضون لكثير من المخاطر، وعلى الأخص في فصل الشتاء؛ لأن البلدان التي يقطعونها تخترقها الأنهار، وأكثر هذه الأنهار لا جسور لها. أما من بيروت فتشحن البضائع بأقل نفقة إلى مرافئ الشاطئ، ثم ترسل من هناك إلى الداخل، وبطريقة إبراز «التذكرة» توفر رسوم جمرك ثان.
إن وصول قوافل بغداد هو حدث خطير في دمشق، يعيد إليها مرة في السنة نشاط محلاتها التجارية بعد أن يكون قد اعتراها خمول حياة على وتيرة واحدة. إن قدوم هذه القوافل موسم يحفل بالصفقات التجارية، ولكن هذه القوافل أصبحت نادرة جدا
3
بعد أن كانت منذ عهد بعيد لا تقل عن خمس كل عام.
دونكم الآن تقويما عن إحدى هذه القوافل التي تتألف من 2400 جمل:
1214 جملا تنقل التنباك، 203 تنقل المنسوجات، 117 تنقل الغدد النباتية، 120 الزعفران، 380 الجلود، 9 النيل، 5 شعر الماعز، 60 قصب الكرز الذي تعمل منه مواسير الغلايين، 83 البن، 80 خشب الصباغ، 25 المغرة، 20 الصموغ، 4 مواد الذهب والفضة، 4 رزم الشالات، 15 الخزف. أما الخمسة والخمسون جملا الباقية فتحمل أمتعة ومؤن المسافرين والقافلة.
والسيد شابوسو - وهو الذي أسأله أن يجيبني؛ نظرا لتفضيله دمشق بصراحة ظاهرة - لا ينكر البتة أهمية موقع بيروت، ومع اعترافه بأننا لم نحسن اختيار مركز مؤسساتنا على الشاطئ، قد كان يرى أن تجارتنا بالمصنوعات، التي استوردناها وصدرناها من سوريا وإليها، كانت أكثر أرباحا لو عرضت من نقطة متوسطة كبيروت.
إن هذا الطبيب الإفرنسي قد جار في حكمه على مؤسستنا في طرابلس التي سماها «مدفن الأوروبيين»، وأدهشه أننا ما زلنا نحافظ عليها حتى يومنا هذا، فقال:
ولكن هي قوة العادة وتأثيرها. إنهم لا يلاحظون إلا كثرة المساوئ. والأسهل من ذلك هو القول إنه لا يمكن أن تتغير الحالة ما لم تتخذ تدابير حكيمة نعالجها بها. فكم يحسنون لو نقلوا هذه المؤسسات إلى بيروت! فهذه المدينة المنيعة بسبب مجاورتها للجبل، ونظرا لمركزها الهام الذي يفضل بلا مراء جميع المراكز التجارية في سوريا السفلى، تستطيع أن تقدم لها كثيرا من المنافع، لا بل أجرؤ أن أقول كثيرا من الملذات أيضا.
مفهوم أن إنتاج طرابلس ينحصر في الحرير ليس إلا، وعلى الرغم من أنه دون حرير سوريا قيمة، فكثيرا ما يطلب لاستعماله في صناعة مكاييلنا، وفي بضع مقايضات تقوم بها مرسيليا مع أفريقيا الشمالية.
إنه يمكن - إذن - أن يواصل هذا النوع من التجارة؛ لأن قرب الأمكنة يسهل مثل هذه الأعمال، سواء أكان ذلك عن طريق البحر أم البر، فالقوافل تبقى على طريقها بين بيروت وطرابلس يومين كاملين، بينما تذهب المراكب الشراعية عادة من إسكلة إلى أخرى في ست ساعات أو سبع. إن رياح الجبل التي تهب على الشاطئ بصورة منظمة، في أثناء الليل، تساعدها في الذهاب والإياب. وفيما عدا ذلك، هل يباع اليوم
4
حرير طرابلس ولبنان، بعد أن أصبحت الأمة المثقلة بالديون عاجزة عن الشراء في غير بيروت، أو الزوق التي هي مركز تجارة كسروان ولا تبعد إلا أربعة فراسخ عن بيروت؟
إن المؤسسات الفرنسية في بيروت لا تلحق بنا من الأضرار الصحية الجسيمة ما يلحقه بمواطنينا مناخ طرابلس. إن هواء بيروت نقي، وطبيعة تربتها تدل على أنها جافة، ومنحدرة، والمياه التي تتدافع في السواقي مسرعة إلى البحر لا تستقر ولا تمكث لتكون المستنقعات.
إن بنية الرجال فيها أقوى بكثير مما هي عليه في طرابلس، ومنتوجات أراضيها هامة جدا؛ فحريرها أكثر ملاءمة لما نصنعه نحن من أشرطة وضفائر.
وبعد هذه المقابلة نرى أن الأفضلية هي لبيروت. وهي أيضا ذات خصائص أخرى لأنها تقع في وسط شاطئ سوريا. إنها إسكلة كسروان ودمشق، وفيها تستقبل بضائعنا القادمة من مصر والقسطنطينية وأزمير وسالونيك وبقية أنحاء المملكة،
5
ومنها نورد بضائعنا ومقادير هائلة تطلب من بغداد وبلاد العجم والهند. إن قربها، وأمن طرقاتها، وهدوء خليجها المسمى بالساقية، قد أولتها هذه الأفضلية، وأي منفعة لا تجنيها مؤسساتنا من هذا المركز؟ أنا لا يهمني غير عاملين هامين: توسيع التجارة، والارتباط المباشر مع دمشق.
أما فيما يتعلق بملذات الحياة ورفاهيتها فما من شك في أنه إن لم تفق بيروت وطرابلس في هذا المضمار فإنها توازيها. إننا نعلم أن هذه المدينة كانت قديما نعيم الرومان، ويمكنها أن تكون في جميع الأوقات نعيم رجل ميسور، يتحلى بشيء من الذوق.
هوامش
الفصل الحادي والعشرون
تجارة دمشق - الحجج المؤيدة للمؤسسات التي تنشأ في هذه البلاد. *** «إني أقيم في دمشق منذ اثنتي عشرة سنة، هذا ما كتبه السيد شابوسو.
1
إن هذه المدينة تقع في وسط سوريا، وهي كما نعلم عاصمتها. وبوصفي طبيبا ونظرا للعلاقات التجارية التي ربطتني بالإفرنسيين ومواطني في هذه النواحي على اختلافها؛ توصلت إلى معرفة هذا البلد معرفة جيدة؛ عرفت منتوجاته وأعمال تجارته وشعبه وأخلاق أهليه، وأخيرا المنافع التي يمكن فرنسا أن تجنيها؛ فدمشق تستورد الأقمشة والطرابيش والقرمز والنيل والسكر والبهار والورق والحديد وما أشبه، وكلها تباع بأسعار مرتفعة، ويمكنها أن تورد المواد التي لا يستغنى عنها كالحبوب والزيت والحرير والقطن التي يزخر بها هذا البلد الخصب.
نستطيع القول إن كل شيء في هذه المنطقة - حتى صحراؤها - يكاد يكون مادة تصلح للتجارة. فمن تلك البقعة المترامية الأطراف نحصل على أصواف من نوع ممتاز، وفيها نجد الكثير من الأملاح والعروق الحمراء، وكل هذه يحتاج إليها في عمل الصابون والصباغ. وهناك اكتشافات هامة يستطيع أن يقوم بها تاجر دقيق الملاحظة. إن تجارة الشرق - بوجه عام - لا تدر كسبا إلا مما تستورده من بضائع. أما أعمال التصدير فإنها - أينما كانت - تكلف الشيء الكثير. إن سوريا وحدها يمكنها أن توفق دائما - على الأقل - بين هاتين المنفعتين.
إن الفائدة التي يمكن تجارتنا أن تجنيها في سوريا مسلم بها بصورة لا تقبل الجدل. فما علي إلا أن أتكلم عن الوسائل الآيلة لتحسينها. فإذا ما سمحت الظروف للفرنسيين بأن ينشئوا في دمشق مؤسسات تجارية، فبوسعي التأكيد أنها ستكون الأكثر مغنما في الشرق. إن هذه المدينة هي - بلا منازع، إذا استثنينا إستانبول والقاهرة - أهم مدن هذه السلطنة الشاسعة. إن مركزها الموافق، وعدد سكانها الضخم، وذكاء أهليها المتجه بكليته إلى التجارة، وتهافت الأجانب عليها في جميع الأوقات، وعلى الأخص على أثر عودة القوافل الكبيرة من بغداد ومكة، ووفرة بضائعها المشتملة على جميع الأصناف؛ إن كل ذلك يبشر بازدهار تام.
لست أنكر أن هذا المشروع تعترضه لأول وهلة صعوبات جمة. بيد أني أجرؤ على التأكيد أنه ليس مستحيلا. لاحظت أن الباب العالي يرفض بكراهية متناهية منح الأجانب حق إنشاء مؤسسات تجارية جديدة. إني أعلم أن كل تجديد يستلزم نفقات باهظة، كما أني عرفت أكثر من سواي أخلاق أهالي دمشق؛ فهم بوجه عام مداجون، جسورون، متعصبون، إلا أنهم في حقيقة أمرهم مرنون هلعون، وهم يتمدنون يوما بعد يوم، أما فيما يتعلق بالصعوبات التي تنتج عن الباب العالي فعلى فرنسا - إذا شاءت - أن تقوم بتذليلها.
ولولا أني لم أشاهد بنفسي - خلال سنوات - تلاقي الحجاج الذي يجتمعون هنا للذهاب إلى مكة، لأن دمشق هي ملتقى جميع مسلمي أوروبا وآسيا، ما عدا مسلمي أفريقيا الذين يذهبون إلى القاهرة؛ لكنت شعرت بصعوبة كبيرة في تصديق ذلك. وقد قفز عددهم في بعض السنوات إلى ما يقارب الأربعين ألفا.
إن أسواق دمشق في أثناء إقامة الحجاج فيها - وهذه الإقامة تكون عادة حوالي شهر واحد في ذهابهم وعند إيابهم - تشبه أسواق ليبسيك، وفرانكفورت وبوكير إلخ ... إلخ. إننا نجد فيها جميع المواد والأدوات التي يمكن أن تقدمها تجارة واسعة جدا. إن الجميع يعرفون غاية المسلم من هذه الرحلة الدينية؛ إنها عبادة وتجارة، فقلما نجد حاجا واحدا لا يتعاطى هذه الأعمال، كل يعمل جهده. وإننا نفهم - دون أن نقيم الأدلة على ذلك هنا - أن هذه الفرص المؤاتية فريدة في نوعها للتاجر الغني برأس ماله.
إن الحاج الذي يذهب إلى مكة لا يحجم عن التزود بالحاجيات الهامة التي يمكنه بيعها ليسد بها نفقات رحلته. ولدى ذهاب القافلة نجد ما لا يقل عن ألفي جمل تحمل بضائع لتباع أو ليقايض بها. وإذا ما عادت القافلة فإنها تأتينا بالبن العدني، والسنا، والصموغ، والأبازير، والأنسجة، والأواني الصينية، وعيدان الند، والعنبر، وكل منتوجات البحر الجنوبي التي تعرض آنذاك بكثرة في مكة واردة إليها عن طريق البحر الأحمر. كنا نستقبل كل عام من بغداد قافلتين أو ثلاث قوافل كبيرة يراوح عدد الصغيرة منها بين ألف وألف ومائتي جمل. كانت تنقل من الجزيرة البارود الأبيض، والغدد النباتية، وجلد المعزى، والقطن المغزول المصبوغ جيدا بالقرمز، وأقمشة بغداد وضواحيها.
وتأتينا هذه القوافل أيضا من بلاد العجم بجلود الخرفان والسجاجيد على اختلاف أنواعها، والكوفيات وبكل المنتوجات الجميلة التي تنتجها بكثرة هذه المملكة الشاسعة الأطراف.
وهذه القوافل نفسها تحمل إلينا أيضا منتوجات البنغال وشواطئ كورماندل ومالايار منقولة إلى البصرة وبغداد عن طريق خليج فارس. إن أهم المنتوجات التي تأتينا من هذه البلدان الغنية هي: الحرائر الجميلة، والقطن المغزول الناعم، والشاش على اختلاف أصنافه، والكرمسوت الزاهي، والكوفيات الفاخرة، والأواني الصينية المدهشة التي تفد من الصين واليابان، والجواهر، والحجارة الكريمة، وأخيرا كل مادة تتجر بها الهند.
وبعد هذا العرض الذي لا مشاحة في صحته نرى بدون أي مشقة أن دمشق يجب أن تعتبر كأنها مخزن عام للتجارة (عنبر)، لا بل أكثر مخازن العالم غنى. فإذا كانت لنا مؤسسات مبنية على أساس متين تستطيع أن تجني أرباحا ضخمة.
وإحدى المنافع التي لا ننتبه إليها عادة هي أن التاجر المقيم في هذا البلد لا تسري إليه عدوى الترف والقيام بنفقات باهظة كانت سبب انهيار عدة محلات في إستانبول وأزمير وحلب وعدة أماكن أخرى. فكل شيء في دمشق بسيط غير مركب، والفخفخة لم تدخل إليها بعد. إن أهليها غرباء عن البذل الطائش، ولا يعرفون لذة غير لذة العمل والتنزه والاجتماعات الشريفة؛ فالقمار والملاهي والرقص والمآدب الفخمة والسهرات متهمة جميعها عندهم بأنها منافية للحشمة؛ هذا إن لم ينظروا إليها كأعمال أثيمة.
إن أهم المصاعب التي تلاقيها بعض المؤسسات الفرنسية تنتج عن منافسة خمسة أو ستة بيوت تجارية لها. ولما كانت جميع الوسائل متوافرة لديها بمقدار كبير فلم تكن تتأخر عن استعمالها. ومن المحتمل أنها كانت تجد لمناهضتنا مبررا دينيا، وأي إنسان لا تسيره عصبيته وأنانيته نحو الغاية التي يرمي إليها؟! فهنالك طريقتان للحد من هذه المنافسة المؤذية: خط شريف (فرمان) يرد هذا الكيد، أو حاكم حازم ينتصر لمؤسساتنا ويحميها.
إننا لا نضام إلا في هذه المضاربة التجارية، أما فيما عدا ذلك فقلما نجد بلدا من بلدان تركيا يستطيع الفرنسي أن يتمتع فيه بحرية حقيقية كما في دمشق. إنني أعني الحرية في مختلف وجوهها؛ فبقطع النظر عن ممارسة الديانة بصورة علنية، والتي يقام برتبتها في كنائسنا كما يحتفل بها جهارا في القسطنطينية، نرى آباء الأرض المقدسة والكبوشيين الذين يحافظون - كما حافظوا أينما كانوا - على لباس جمعياتهم، يتنقلون كل يوم في مختلف الأحياء دون أن يزعجهم شخص ما.
إنهم يتنزهون ويذهبون إلى الحدائق آخذين معهم زادهم، حتى إن كل عائلة، لا بل كل شخص يمكنه أن يعمل مثلهم دون أن يرى عيبا في ذلك. ولست أذكر أن إفرنسيا ما، سواء أكان عابر سبيل أو مقيما، وجهت إليه إهانة مهما تكن ضئيلة. إن الشبيبة في تركيا هي - كما نعلم - على جانب كبير من القحة. أما في دمشق فأؤكد أنها ذات أخلاق دمثة، توحي ارتياحا تاما. إننا نجد هنا أصولا للياقة، ويعتبر مغفلا أو عديم الفطنة كل من لا يتقيد بها.
إننا مدينون - ولا شك - بقسم كبير من هذه الراحة إلى اهتمام قوى الأمن الواعية؛ فالحالة ليست كذلك في جميع أنحاء الشرق. إن الجزار هو نسيج وحده في هذا المضمار، ولو لم يكن حكمه أكثر الأحكام ظلما وقساوة وبربرية، لكان بوسعنا أن يهنئ بعضنا البعض الآخر لإقامتنا في أسعد نقطة من أراضي المملكة العثمانية الواسعة.»
لن أدل القارئ على ما في هذه الرسالة من مبالغة، ولكنني ألفت نظره إلى أن موقع دمشق التجاري فقد كثيرا من أهميته حينما ترددت التجارة بين اتباع طريق رأس الرجاء الصالح وطريق تريبزوند.
هوامش
الفصل الثاني والعشرون
آثار بيروت وضواحيها - منبع نهر بيروت - أطلال بعل مرقد (دير القلعة). ***
قلت في الفصل
الأول
إن اسم بيروت مأخوذ من اسم بروتس المشتق من بروا التي قامت بتشييدها عندما اختار أوجيكاس - زوجها الملكي - هذا المكان من شاطئ سوريا ليرتاح فيه بعد غزواته العديدة؛ وبناء على ذلك تكون هذه المدينة - بلا ريب - أولى مدن العالم، ويعود تاريخ تخطيطها إلى أقدم القرون. ومهما يكن من أمر فلا يمكن أن يعود تاريخها الأول إلى ما قبل عام 1748.
قال أريستيب دي سيران في تاريخه عن ليبيا: إن أوجيكاس بعد أن استراح في هذه البلاد الجميلة من متاعب كثيرة سمي «نوى»
Noas
التي تعني في لغة البحار الغفوة والراحة.
1
وهذا المعنى الذي يتوافق أيضا واللغة العربية حدا بي إلى التفتيش عن مشابهات أخرى بين هاتين اللغتين. ولقد وجدت - في القليل مما تمكنت من مراجعته - الكلمات التالية:
الفينيقية
العربية
قدموس
قديم، قديمون
تيابا
طيب، طيبة
غديروس
غديري
هورام
حرم
داب
دابة
لاهام
لحم
ديران
درى، يدري
لابان
لبان
وينبئنا الكتاب الأقدمون أن الفينيقيين قد أتوا إلى شواطئ سوريا من خليج فارس وبحر القلزم. فإذا كان هذا الشعب هو الذي اخترع الحروف الأبجدية وعلمها الإغريق، فمن الطبيعي أن نعتقد أنه علمها، أولا، أهالي سوريا الذين استقر عندهم.
إن قدموس، كما رأى بلين،
2
هو الذي حمل الأبجدية الفينيقية إلى اليونان. كانت ستة عشر حرفا، فأضاف إليها «بالاميد» أربعة تؤلف الألفباء اليونانية الحالية.
وهكذا، فإذا حذفت الحروف التي تتشابه في اللفظ مثل: ت، ط، ض، ظ، س، ص، ز، ذ، والتي تجعل عدد الحروف العربية 28 حرفا، أكون قد أعدتها إلى العدد نفسه الذي هي عليه ألفباء اليونان. وإذا شئنا أن نعيدها إلى الفينيقية فيجب حذف العين والغين والهاء والكاف والشين؛ هذه الحروف التي دعت الضرورة إلى اختراعها، واختراع الثمانية الأخرى المذكورة سابقا لتكسب اللغة العربية طلاوة.
يقول السيد كور دي كابلين:
3 «إن التلفظ بالكلمات كان نتيجة طبيعية لتركيب الجهاز الصوتي، وإنه منذ البدء تلفظ الناس بكل الكلمات الأولى التي تصور بطبيعتها الأشياء، وتعبر عن إحساسات وتفكيرات.»
لقد فتشت في جميع أنحاء سوريا عن مكان يطابق اسمه التقليدي «أرجو» - اسم البارجة التي ركبها أوجيكاس - فلم أجد سوى عرجس قرب طرابلس.
ويحدثنا التاريخ «أنها حفظت في هيكل شيد خصوصا لهذه الغاية في جبل لبنان تذكارا لقدوم أوجيكاس، وأن هذا الهيكل سمي أرجو.»
إننا ندهش إذ لا نشاهد في بيروت أثرا خليقا بعظمة هذه المدينة؛ فما يجده الرحالة اليوم تافه جدا بالنظر لما كان ينتظر أن يراه فيها. فبقليل من الخيال والاستعانة بالأعمدة الباقية، نجد - إذا ما اتجهنا صوب الشرق، ابتداء من الأعمدة التي ما تزال منتصبة في المسجد المحمدي الصغير المسمى ب «الرجال الأربعين» - آثار هيكل قد تكون هذه الصفوف من الأعمدة تؤلف أروقته. وإذا حكمنا - بالقياس - على صف الأعمدة القائمة وحدها، وعلى الكثير المرتمي على مقربة منها، نستنتج - ولا ريب - أن هذا الهيكل كان فسيحا جدا. وإني أقول - وهذا رأيي الخاص - إن الأعمدة الباقية هي أعمدة الجهة الشمالية؛ إذ لا نزال نجد عدة أعمدة من الصوان، من الحجم نفسه، في ناحية تحمل على الافتراض أن الرواق الجنوبي كان يبتدئ بها. إن الأعمدة الموجودة على طريق باب الدركة وبرج الكشاف تتخللها مساحات صحيحة القياس تحملنا على الاعتقاد بأنها لا تزال في المكان نفسه الذي احتلته في هذه البنية.
إن باب الدركة يعلوه حجر ضخم مزين بالرسوم وقد حفرت عليه مخطوطة العمود. وهو - فيما عدا ذلك - يصلح مقياسا لمساحة الهيكل. أما المخطوطة فقد أخذت صورة عنها، إلا أنها غير واضحة.
وعلى مقربة من المكان الذي يسمونه المرفأ الصغير نجد بناء في شكل نصف دائرة لم يبق منه سوى أساساته، ويظن أنه كان ملهى يرتادونه في النهار.
ونرى هنا وهنالك نواويس صنعت من مواد مختلفة وصخورا اقتلعت من ضواحي بيروت وحفرت - كما قلت - لتستعمل مدافن.
أما بقايا البناية القديمة التي تقع على مقربة من المكان الذي يزعمون أنه المكان الذي صرع فيه مار جرجس التنين، فهي تحوي أيضا مدافن صغيرة: اثنان منها للجهة الشمالية في الأسفل، والثالث محفور تحتهما ويقطعهما طولا. وهذه البناية ذات شكل غريب، يظن لأول وهلة أنها مهيأة لعمل مائي؛ فأنابيب الفخار التي وضعت فيها تدل على أنها كانت معدة لجر المياه. إلا أنه يفهم - عند رؤية المجاري عن كثب - أنها لم توضع هنالك إلا للزينة؛ لأن عمقها يراوح بين 18 و20 سنتيمترا، وهي مسدودة من الداخل. وهناك قسم باق من حائط سور بيروت بني بحجارة يدل شكلها ولونها على قدمها.
إن بلاطة جميلة من الفسيفساء اكتشفت هنالك عام 1836، ثم عثر على بلاطات بلغت من الفن غايته، ولكن التنقيب حطم قسما منها. أما أنا فكان نصيبي رأس رجل مسن، وقور الملامح، وظلت الفسيفساء التي لم يتمكن من نزعها عالقة بكمية من الطين، فاضطررت إلى ترك اللوحة في حديقتي، ثم كان زلزال أول كانون الثاني سنة 1837، ففرق بين هذين المركبين وحول الفسيفساء إلى ألف قطعة وقطعة.
عثر الباحثون على نواويس عديدة في بيروت، أهمها اثنان ينفردان بشكلهما وبالنقوش التي عليهما. غير أنه لا يحق لنا أن نحكم عليها تبعا لإلمامنا الفني وذوقنا الحاضر؛ فأحدها نقشت عليه هذه الحروف
IVLIA MAMMEA ، وهذه الآثار اشتراها أميركيو الولايات المتحدة ونقلوها إلى بلادهم.
ووجدت في ضواحي بيروت نقودا كان يتداولها محاربونا الصليبيون، وقطعا نقدية أخرى بقيمة فرنك، باسم لويس التاسع. وهذه النقود نقشت على وجهها السلاسل؛ فإن الملك لويس - كما يرى السيد ده لاسيناجري - قطع عهدا لسجانه بأن ينقش على النقود التي تضرب باسمه رسم سلاسل العبيد علامة القبض عليه! «ولما كان الملك لم ينس تعاسته، بل كان يذكر بها دائما، يقول السيد ميشو: فقد أمر لدى رجوعه بتبديل العملة، ووفى بوعده. وقد جاء في أحد التواريخ أنهم ضربوا نقودا صغيرة من الفضة (باريسيس
)، ونقودا كبيرة تحمل رسم السلاسل والأصفاد لتذكر بأسره.»
4
وأول طرفة نجدها حين نبتعد قليلا عن المدينة هي القناة القديمة التي تمد بيروت بالمياه، يذهب إليها في طريق ظريفة جدا، وفي السهل نجد آثار المجرى الذي كان ينقل هذه المياه. كان بالإمكان - لو كنا في ظل دولة أخرى - أن نرممها ونجر بها الماء إلى المدينة التي هي بحاجة ماسة إليه. إن مجرى المياه هذا قائم على سطح الأرض، فهو بين تارة، وحينا يختفي تحت التراب ليظل محافظا على معدل استوائه الذي يقتضي كثيرا أو قليلا من العمق. ويمكننا الحكم نظرا لطريقة بناء القناة بأن الزلازل - وحدها - لا تستطيع أن تهدمها؛ فهي - والحق يقال - صنع الرومان، وربما كان هؤلاء قد قاموا ببنائها على طريقة الإغريق؛ فالمجرى الذي كان ينقل مياه النبع باق حتى اليوم في سفح الجبل، لجهة الشمال. ولما كان لا يفوت الأقدمين شيء لبعد نظرهم المتناهي، فقد غطوه ببلاط جميل متراص على أكمل وجه. إن هذا المجرى يستخدم اليوم لجر المياه إلى طاحونة، وهذه هي المنفعة كلها التي جناها العرب منه، وهم يحسبون أنها كافية.
وقبل وصولنا إلى النبع بربع ساعة نجد إلى الشمال مغارة سماها العرب الكنيسة، ومغارة أخرى تسمى مغارة القصير، كان يقيم فيها المكلف حراسة المجرى وصيانته، هذا إن لم تكن صومعة ناسك ما. إنها غرفة صغيرة مربعة الحجم، علوها يزيد قليلا على المترين ونصف المتر، أما عرضها فثلاثة أمتار و15 سنتيمترا، أما فسحة الباب فهي متر وثمانية سنتيمترات طولا، ومتر وخمسة وثلاثون سنتيمترا عرضا، وفي هذه الغرفة، عند السقف لجهة اليسار، ست طاقات مربعة، وللجهة اليمنى خمس.
وإحدى هذه الطاقات تتصل بالخارج بطاقة ضيقة طويلة، وعلى مسافة عشرين قدما إلى اليمين تقوم النوافذ. وفي هذا الوادي تقوم قرية تسمى زيرة معن، وقد كانت موطن فخر الدين الشهير.
اتفق أن اقتربت من الساقية لأتنشق قليلا من الهواء الرطب، فإذا بي أمام عدة أشخاص يعدون نوعا من العجين. ولما سألتهم عن الوجه الذي يستخدمونه فيه أجابوني: لصيد السمك ... لقد جهزوا لهذه الغاية محقنا كبيرا، أو شبه ملجأ، تاركين فيه منفذا واحدا تعبر منه المياه.
يتألف ذلك المعجون الذي يعدونه من غدد النبتة المسماة «آذان الأرنب»، ومن ثمرة شجرة اللبنى، ومن الرماد. تمزج جميعا وتدق، ثم توضع في سلال وتغمس عدة مرات في المياه حتى يذوب هذا الخليط بكامله. إن ثمر اللبنى اسمه «جوز» في لغة العوام.
إن هنالك فريقا من الأوروبيين الذين يستخدمون جوز القيء لصيد الأسماك، وعلى الأخص عند مجاري الأنهار، فعندما يبلغ هذا الدواء القاتل خياشيم السمكة تصعد إلى وجه المياه فاقدة الوعي، فيطلق عليها الصياد اليقظ النار (تروبيل)؛ إذ لا يمكنه تصيدها بغير ذلك؛ لأنها لا تلبث أن تغوص فورا.
وفوق ينبوع نهر بيروت يقوم دير القلعة، وقد سمي كذلك لأنه شيد والكنيسة على أطلال هيكل قديم. والعرب يطلقون اسم القلعة أو الحصن على جميع أنقاض العصور القديمة الضخمة.
وهذا الدير الماروني الواقع على قمة جبل تبعد مسافة ثلاث ساعات من بيروت، والذي يتسع لما يقارب العشرين راهبا، يتمتع بأنقى هواء. لا شيء يحول دون رؤيته؛ فهو يرى من مكان بعيد جدا. والكنيسة شيدت منذ خمس وسبعين سنة في فسحة تقارب ثلثي الفسحة التي قام عليها الهيكل القديم المكرس، حسبما أنبأتنا المخطوطات العديدة، لجوبيتر بعل مرقد.
وفي الجهة الشمالية لهذا الهيكل قامت قديما مدينة صغيرة أطلق عليها هذا الاسم، والقرية التي تقابل هذا الدير تسمى بيت مري، إن منازلها مشيدة بأنقاض المدينة لأننا نجد في بعضها حجارة ضخمة وحطام المنحوتات والنقوش. إن أساسات هيكل جوبيتر القديمة شيدت على قطعة من صخور منحدرة ومقطوعة بإتقان، يبلغ طولها اثنين وثلاثين مترا وستة عشر سنتيمترا، أما عرضها فثلاثة عشر مترا وثلاثة وسبعون سنتيمترا. كان الرواق يتألف من ثمانية أعمدة ضخمة من الصوان الأبيض تقوم على صفين. لا تزال أربعة منها قائمة، ويبلغ إطار الواحد منها نحو ستة أمتار. وإذا حكمنا وفقا لما تدل عليه قواعدها فيمكننا القول إن تاريخها يرقى إلى العصر الذهبي. وهنالك بعض أعمدة صغيرة مبعثرة استخدمت وتيجانها لبناء الدير وملحقاته، وهي كتلك عتقا.
ليست الأنقاض نادرة في هذا المكان؛ فعلى مسافة مائة قدم من الدير نجد - في الجهة الشمالية - أطلالا عديدة تدل على آثار هيكلين يرجعان إلى عهد قديم جدا، يدلان على أنهما اندثرا قبل عهد جوبيتر. إن أحدهما مربع الحجم ويرتفع عن الأرض مترا واحدا، ويصعد إليه في درج يبلغ عرضه ستة أمتار، وفي وسطه صخرة قامت، ولا شك، قاعدة عليها، وهو مكرس على اسم جينون، يبلغ ارتفاع الباب ثلاثة أمتار و22 سنتيمترا، أما الجدران فمبنية بحجارة حجم الواحد منها متر مربع، ومع ذلك نجد بينها حجارة طولها ثلاثة أمتار وثلاثين سنتيمترا، وعرضها أربعة أمتار. إن الأعمدة التي نجدها بين هذه الأنقاض يبلغ حجمها ثلاثة أمتار وأربعة وسبعين سنتيمترا، وقطرها 47 سنتيمترا.
ونجد أيضا قاعدة يزينها في وسطها إكليل من الأوراق في نصفه وردة، وبين هذه الأنقاض نرى أرحاء للطحن يبلغ قطرها مترا وخمسة وستين سنتيمترا، ونجد هنا وهنالك حجارة وأجانات تستخدم اليوم أجرانا.
وبين هذه الأطلال وفقت إلى اكتشاف بعض الرسوم التي حفرت لتجميل بناء الهيكل. وعلى يمين هذه الأنقاض ويسارها، نجد عددا لا يستهان به من النواويس المنحولة في الصخور، وهي ذات اتساعات مختلفة.
وفي منحنى الجبل للجهة الغربية، ابتداء من القمة حتى قعر الوادي، كتل ضخمة من الصخور مختلفة الأشكال. وأغلب الظن أن المقلع الذي اقتطعت منه الأعمدة وحجارة الهيكل وأبنية بعل مرقد الجميلة كان هناك.
إن مياه هذه المدينة والهيكل كانت تأتي من ينبوع يبعد عنها مسافة ثلاث ساعات بواسطة مجرى حجري، لا نزال نرى آثاره ممتدة على طول الطريق في حالة زرية، وسيبقى هكذا إلى الأبد بفضل تغافل القرويين.
وبين المخطوطات التي عثرت عليها بين الأنقاض اثنتان منها باللغة الإغريقية تمتان بصلة إلى تاريخ إنشاء هذه القناة. لقد شاء مؤسسها أن يخلد ذكر حسن صنيعه؛ هذا الصنيع الذي هو بحق قيم جليل لأن وزراء الإله جوبيتر الكبير - الذين كانوا ينعمون بمناظر جميلة، وهواء ممتاز - لم يكونوا يرغبون إلا بالماء العذب. إنه الشيء الوحيد الذي كان ينقصهم.
وبين بيروت ونهر الكلب يقوم دير مار إلياس الصغير الذي خلف - ولا شك - أحد الهياكل. إن العرف القديم المتبع وعادة الذهاب إلى هذا الدير لحلف اليمين، عندما يطلبها القاضي من فريق ما، أو يتوقف عليها حل خلاف في إحدى المنازعات، ذكرانا بهذا النوع من الاختصاص الديني القديم. إن المسلمين والدروز يؤمنون أيضا ببطش مار إلياس وفتكه، وقد أكدوا لي أنه لا يوجد في البلد واحد يجرؤ أن يحلف به زورا. ودون أن أناقش صحة هذا الزعم، أستطيع أن أؤكد أن ذلك البلد يزخر بالكذابين؛ لأن الكذب هو عند الشرقيين طريقة مجدية، أو خدعة بريئة، أو نوع من المهارة.
هوامش
الفصل الثالث والعشرون
آثار نهر الكلب
إن آثار نهر الكلب أصبحت معروفة تماما في أيامنا هذه، ولا سيما بعد أن سبك السيد بونومي قوالب لها من الجص، لا مجال للتحدث عنها ها هنا؛ لأنهم كتبوا عنها كثيرا، غير أني أحسب أن القارئ سيقرأ بشغف الرسائل التي بعث بها إلي السيد لاجار - العضو في المجمع العلمي - وجوابي عليها، فهي - كما أظن - أحسن طريقة تمكنه من إدراك أهمية هذه الآثار نظرا لقدمها غير المنازع عليه.
الرسالة الأولى (باريس، 25 حزيران 1834)
عندما تشرفت بمقابلتكم في باريس لسنوات خلت، تفضلتم وأطلعتموني على صورة نقلت عن أحد الآثار المنقوشة في واجهة الصخور بضواحي بيروت. ربما تذكرون أن هذه الصورة التي تهمني جدا قد فسحت لي في المجال لأخبركم أن رحالة إنكليزيا - هو السيد بانك - قد أخذ بنفسه، أو بواسطة غيره، من المحلة نفسها نسخة عن مخطوطة كتبت بلغتين: القسم الأول كتب بالحروف الهيروغليفية، والثاني بالحروف المسمارية. وبهذه المناسبة دللتكم آنذاك على الذكر المقتضب لهذا الاكتشاف الذي أدخله السيد شامبوليون في طبعته الثانية (1828) من كتابه الموجز في الخطوط الهيروغليفية، الصفحة 272، تحت هذه العبارة: «إننا نجد أيضا هذه المخطوطة الملكية نفسها (مخطوطة رعمسيس التي أيدها كري) في مخطوطة كتبت باللغتين الهيروغليفية والمسمارية. إن هذا الأثر الثمين موجود في نهر الكلب بسوريا، وهو (بالطبع نهر الأقدمين المدعو ليكيس) قرب بروتوس القديمة (أي بيروت التي تقع بين بيبلوس وصيدون).»
إن رسمكم - كما أذكر - لم يكن يحتوي على مخطوطة هيروغليفية، إنما هنالك إشارة غامضة إلى مخطوطة كتبت بالحروف المسمارية محفورة على صخر رملي إلى جانب شخص لم ألبث أن عرفت به ملكا عجميا من سلالة الأشمونيين
Achéminides . أظن أننا نجد في المكان نفسه - حيث عثر على هذا الأثر الطريف - عدة آثار أخرى لا نزال نتبين منها بضعة رسوم وجوه ومخطوطات هيروغليفية، أكل معظمها هواء البحر وغيره.
وهناك نبأ آخر - نشر حديثا في مجموعة تقوم بطبعها جمعية علوم المراسلات الأثرية، المؤسسة عام 1829، وهي جد محترمة ومتداولة - قد استفز انتباه العلماء وفضولهم؛ إذ قال إن جوالة إنكليزيا آخر - هو السيد ليريك - وصل حديثا إلى نابولي بعد أن وجد المخطوطات الهيروغليفية والمسمارية التي اكتشفت منذ عدة سنوات في نهر الكلب. إلا أن هذا الرحالة لم يأخذ رسم الوجوه ولا نسخة المخطوطات. إن حديثه يختلف في نقطة هامة عن حديث السيد بانك ويتفق مع ما قلتموه؛ فإنه يزعم «أن المخطوطات الهيروغليفية ممحوة عمدا، في حين أن المسمارية لا تزال محفوظة على أحسن وجه.»
إن السيد لافين الذي قام - بناء على رغبة السيد وليم جيل، العالم الشهير بالآثار - بزيارة نقوش نهر الكلب. يعتقد أن هذه المخطوطة حفرت بأمر من قمبيز، وأن هذا الملك محا المخطوطة التي كتب عليها بالحروف المصرية اسم رعمسيس أو سيسوستريس كي لا يترك دليلا تاريخيا كهذا ينبئ عن غزوة الملك المصري لآسيا الغربية.
وألاحظ بدوري أن هذا الافتراض لو كان يرتكز على أساس صحيح، لأصبح من الصعب تفسير تمكن السيد بانك من نسخ أو استنساخ أسطورة مصرية، في المكان نفسه، يقرأ عليها اسم رعمسيس أو سيسوستريس. وبما أن هذا الرحالة أو موفده قد زار نهر الكلب قبلكم على ما أظن، وقبل السيد لافين بعدة سنوات، فيجب أن نسلم، توصلا للتوفيق بين هذه الأدلة الثلاثة، بأنه: إما أن تكون المخطوطة المصرية - التي أخذها السيد بانك أو موفده من نهر الكلب - قد أتلفت بعد سفره أو سفر موفده إلى سوريا، وإما أن تكون محفورة في مكان غير ناتئ؛ فلم تنتبهوا إليها، لا أنتم ولا السيد لافين، ولا الذين كلفوا تنفيذ أوامر الهدم للقيام بأعمال التنقيب التي أمرهم بها الملك العجمي الذي أريتموني رسمه.
وبعد، فأرى أن ملاحظة المرحوم شامبوليون التي ذكرت ودونت - على الأرجح - بناء على المعلومات المعطاة من السيد بانك، لا تشير البتة إلى وجود هذا الرسم المشار إليه، أو وجود أي رسم آخر في نهر الكلب . ويظهر أن السيد لافين هذا - إذا حكمنا بناء على أحاديثه الموجودة بين يدي - لم يتحدث عنها أكثر من ذلك. وإني آسف جدا لعدم مواصلتكم العمل الذي شئتم أن تجعلوه في متناول الجميع بحفركم هذا الرسم ليكون في عداد مشاهدات رحلاتكم. إني أجهل إذا كنتم عدلتم عن نشر هذه المشاهدات. وفي حالة الإيجاب أرجوكم أن لا تعتبروا طلبي نسخة عن الرسم المشار إليه، وعن معلوماتكم المتعلقة بنقوش نهر الكلب الأخرى، إفشاء للسر. إنه لمن الجائز بعد رجوعكم إلى بيروت أن تتاح لكم فرصة العودة إلى تلك الأمكنة كما فعل صديقي العالم المرحوم سان مرتان. ومن المحتمل أيضا أن تنجزوا عند ذاك رسم الأثر الذي يمثل ملكا عجميا وتنقلوا بدقة المخطوطات المسمارية المتعلقة به؛ هذه المخطوطات التي تبين منها - وفقا لما جاء في رسمكم - أنها تمت إلى طريقتين مختلفتين في الكتابة، وأنها تتضمن اسم الملك الفارسي وألقابه. إن الاسم والألقاب مكتوبة - ولا شك - باللغتين العجمية والسريانية أو بأية لغة أخرى آرامية، كما نرى شبيهاتها الأخرى في برسيبوليس (المدائن) وهمدان وفان
Van, Hamadan, Persepolis .
فسواء أنقبتم مرة ثانية في ضواحي نهر الكلب أو كنتم لا تملكون سوى الملخص والمعلومات التي حصلتم عليها في زيارتكم الأولى، فإني أعلق أهمية كبرى على الطلب الذي التمسته منكم. ويجب أن تتيقنوا - إذا لبيتم طلبي، وسمحتم لي بالتصرف بهذه المستندات القيمة - بأني أجد لذة كبرى في أن أنسب إلى أحد مواطني فخر الاكتشاف الذي يدور حولها.
إنه لمن الطبيعي، في وقت اتجهت فيه بنوع خاص أنظار جميع علماء الآثار إلى القضايا التاريخية والمذاهب الدينية، وآثار آسيا ومصر المصورة، أن تستقبل الإدارة العامة لمجمع علم المراسلات الأثرية - المؤسسة في وقت واحد بروما وباريس ولندرة وبرلين - نبأ وصول السيد لافين إلى نابولي، لتدل الطبقة الراقية على أهمية آثار نهر الكلب وتدعو السائحين المثقفين إلى التنقيب في هذه الأمكنة بأكثر ما يستطاع من اهتمام حتى يومنا هذا، يساعدهم في ذلك رسام ماهر هو السيد بونسون، وزير بروسيا في روما، ورئيس الإدارة وكاتب المقال المنشور في المجموعة الأثرية. إنه كان يجهل تماما أنكم ذهبتم وشاهدتم بأم العين تلك الأمكنة، وأنكم أتيتم برسم الملك العجمي الذي لم يشر إليه في مشاهدة ما، وقد كتبت إليه أعلمه بذلك.
إن إدارة المجمع تعلق أهمية كبرى على نجاح هذه المهمة، ولا سيما أن السيد بانك يصر على عدم نشر مخطوطة نهر الكلب المكتوبة باللغتين أو اطلاع أحد عليها، كما يصر على أن لا يعطي أو يتنازل عن واحدة من الكثيرات التي أتى بها من رحلاته الأخرى.
هل تأملتم طبيعة الصخرة التي نقشت عليها هذه الآثار في نهر الكلب؟ إن البعض يقولون إنها من الحجر الرملي الطري، والسيد لافين يقول إنها حجر أشهب صلب.
رسالة السيد لاجار الثانية (باريس، أول أيلول 1834)
إني - خوفا من ضياع الكتاب الذي تشرفت بإرساله إليكم في الخامس والعشرين من شهر حزيران المنصرم - أبعث إليكم بنسخة ثانية عنه، وأستمحيكم عذرا بأن أضيف بعض معلومات استقيتها من العدد الأخير لصحيفة مجمع علم المراسلات الأثرية الصادرة عن روما.
إن هذه الصحيفة تتضمن كتابا للسيد وليم جيل يدل - كما دل المقال الأخير الذي نشره السيد بونسون - على الأهمية التي تعلقها الطبقة الراقية على مخطوطات نهر الكلب ونقوشه.
إن السيد وليم جيل يصحح في هذه الرسالة بضعة أخطاء فاتت السيد بونسون، ثم يحاول أن يثأر لمواطنيه مما أخذه عليهم السيد روزيليني حول هذه الآثار في مشاهداته التي نشرها في بييز بعد سفره إلى مصر؛ ذلك السفر الذي قام به - كما تعلمون - بالاشتراك مع المرحوم شامبوليون الشاب. إن السيد روزيليني يستغرب ويشكو إهمال إنكلترا في عدم نشرها ومعاينتها - في الأمكنة نفسها - كل ما يتعلق بأثر يهم التاريخ كآثار نهر الكلب؛ حيث ترى مخطوطة محفورة بلغتين يقرأ فيها اسم رعمسيس وسيسوستريس بحروف هيروغليفية. والسيد روزيليني يدرك إفراطه في الإهمال حتى إنه لم يعلم هو ولا المرحوم شامبوليون لمن نحن مدينون بفكرة اكتشاف هذا الأثر الثمين.
إن السيد وليم جيل يصرح في هذه المناسبة بأن صاحب الاكتشاف هو سائح أيرلندي: السيد وايز. وقد أعطاه - بعد عودته من سوريا - نسخة عن مخطوطة نهر الكلب الهيروغليفية، وهذه النسخة نقلها حالا السيد وليم جيل للدكتور يونغ الذي تكلم عنها في الصفحة 52 من خطبة حول المخطوطات الهيروغليفية.
إلا أن رسالة السيد وليم لم تنبئ عن الفترة التي زار في أثنائها «وايز» نهر الكلب. إننا نلاحظ فقط أنها قبل الرحلة التي قام بها السيد لافين إلى سوريا بسنوات عديدة. إن السيد لافين هذا قد سمي لفيك خطأ في مقال السيد بونسون.
إنه لم يأت في هذه الرسالة على ذكر السيد بانك، كما أنها لم تنبئنا شيئا عما إذا كان هذا الرحالة شاهد أو نقل صورة ملك مصري أو صورة أي وجه آخر. وعلى الرغم من أنها تشير إلى قمبيز، فإني لا أزال أصر على الاعتقاد الذي راودني دائما بأن اكتشاف صورة ملك العجم في نهر الكلب عائد بالطبع إلينا، وإن كانت تعترضنا هنا عدة أسئلة: (1)
المخطوطة باللغتين (التي يحوزها السيد بانك سواء أكان نقلها له السيد وايز أو رحالة آخر، أو كان ذهب هو بنفسه وشاهد هذه المخطوطة التي لم تنشر بعد)، هل حفرت إلى جانب الملك العجمي الذي أريتموني رسمه أم على صخر آخر في المحلة نفسها؟ (2)
لنفرض أنها لم تحفر إلى جانب الملك الفارسي، فهل نجد على مقربة منها آثار حفر تحملنا على الاعتقاد بأنها تلاصق صورة ملك مصري ربما امحت بأمر من فاتح عجمي أو بسبب آخر؟ (3)
كيف هو نسق القسم الهيروغليفي من هذه المخطوطة بالنسبة إلى القسم المكتوب بالحروف المسمارية؟ هل هذا القسم الأخير مقسوم عمودين أو ثلاثة طبقا للأسلوب الذي كنا نلاحظه في آثار المدائن وهمدان وفان؟ (4)
وأخيرا هل إن آثار النقش والحفر - التي ترى على واجهات الصخر في نهر الكلب - هي غير التي رأيتموها ونقلتم عنها صورة ملك عجمي؟ ألا تزال هذه الآثار ظاهرة اليوم فيمكننا أن نحكم حين نراها إذا كانت هذه الآثار ترجع إلى فن أو تاريخ المصريين أو إلى ملوك العجم؟ وفي الحالة الأخيرة هل يمكن الظن أن ملوك العجم قد محوا التصاوير المصرية أو المخطوطات الهيروغليفية ليستبدلوها بصورهم الخاصة ومخطوطات مسمارية؟
إن جميع هذه الأسئلة تؤكد لكم مرة أخرى جهلنا الكبير في أوروبا ما يمت إلى آثار نهر الكلب بصلة، وبأي جزع تنتظر الطبقة المثقفة المعلومات الحديثة عنها التي استقيتموها استقاء لم تسبقوا إليه أو عرفتموها بعد معاينتكم تلك الأمكنة.
جواب (بيروت، في 5 كانون الأول 1834)
إني لم أتسلم إلا منذ حوالي عشرين يوما الرسالتين اللتين شرفتموني بكتابتهما إلي بتاريخ 25 حزيران وأول أيلول.
إني أجهل السبب الذي أخر وصول الرسالة الأولى في حينها، وآسف كل الأسف أن يحول هذا التأخير دون إشباع رغبتكم بأسرع ما يمكن. إن هذا التأخير قد أضر بي أيضا فحال دون إتمام معلوماتي التي كان يستطاع إكمالها بسهولة في فصل الصيف الجميل ومعونة السيد بونومي الذي كان عندنا.
ولما كنت قد وهبت الرسم الذي تشرفت باطلاعكم عليه، وكانت أشغالي لا تسمح لي بعد عودتي أن أهتم بغير مشاغل وظيفتي، فقد اضطررت للقيام خصوصا برحلة إلى نهر الكلب لأمدكم بالمعلومات التي أجد بعض اللذة في نقلها إليكم.
ولما كانت رسائلكم تشتمل على طائفة من الأسئلة، فقد فكرت في أن أجيب عليها بعد استعراضها ثانية؛ لأني إذا لم أرو غليلكم في كل شيء فستعقدون أني تعمدت ذلك.
أظن أني لم أكن المكتشف الأول لآثار نهر الكلب التي هي على مرأى من المارة، وقد أكون المكتشف الأول للتي فوق الطرق بمعزل عن الناس؛ والذي يثبت ذلك هو أن السائحين لم يتحدثوا عنها إلا بعد أن أرشدتهم إليها. لقد أخذت صورة عنها عام 1808 قدمتها إلى والدي فأعطاها هو إلى الذين جاءوا إلى زيارتها ورؤيتها. إن غيابي الذي استغرق فترة ثلاث سنوات لم يسمح لي أن أعرف أسماء السياح الذين مروا بطرابلس حتى عام 1812 معرفة دقيقة.
نقلت حينذاك قسما كبيرا من المخطوطة المسمارية. وأما اللوحة رقم 6 فقد ظننت أنها إغريقية، وهذا تقدير بحت أوحاه إلي الشكل المربع الذي حافظت عليه الحروف حتى يومنا هذا، وإن لم يكن يستطاع تمييزها أو معرفة واحد منها. فهل تكون صفة اللغة المزدوجة التي أطلقت على مخطوطات نهر الكلب عائدة إلى نوعي حروف المخطوطات؟ يجب أن أعتقد ذلك. إلا أنها تصير غير قابلة التصديق بالنظر إلى المخطوطتين المسمارية والهيروغليفية؛ هذا إذا لم يكن تلاز هذين الأثرين (رقم 8 و9) قد حمل على اعتبارهما أثرا واحدا.
من الممكن أن يكون بعض العارفين قد اكتشفوا آثارا للحروف المسمارية في أسفل وجوه اللوحة المصرية. أما أنا فلا يمكنني أن أجازف بأية فكرة من هذا النوع. إني أقول فقط إن هذه الافتراضات يمكن أن تفسر وتوضح من السيدين بونومي وكاترفود اللذين اصطحبا إلى إنكلترا رسوما جد صحيحة عن آثار نهر الكلب، لا بل الطبعة نفسها عن الأثر ذي الرقم 9.
والسيد بونومي - وهو نحات ومهندس مشهور متخصص بدراسة الحروف الهيروغليفية - لم يدخر، ولا ريب، بعد أن نقل طائفة كبيرة منها أثناء تجواله والسيد شامبوليون، شيئا من وسعه ليقرأ كل ما تستطاع قراءته في نهر الكلب.
ونظرا للمعلومات الوثيقة التي أدليا بها لم تبق لي فائدة تذكر من نقل بقايا هذه المخطوطات؛ ولهذا اكتفيت بنقل صور الوجوه التي لم أتمكن من الحصول عليها، إلا أثناء الليل، بعد أن استعنت بمشعال أراني خطوطها ناتئة لأنها تكاد تكون ممحوة.
إن اللوحات المصرية مقعرة دون أن تكون مجوفة كثيرا، أما رأي السيد لافين حول محو الآثار المصرية فلا يرتكز كما أظن على دعامة.
أولا:
لأن عملية المحو تعرف من آثار الأدوات التي استخدمت لهذه الغاية. ثم لو كان المحو متعمدا لما بقي ما نراه الآن من مخطوطات هيروغليفية لا تزال محفوظة. أما الذي أظنه أنا فهو أن المحو ناشئ عن طبيعة الصخرة، فهي أشد صلابة في ناحية منها في الناحية الأخرى.
ثانيا:
لأن الإطار لا يزال في حالة حسنة.
ثالثا:
لأن تلف اللوحات العجمية في تناسب تام مع تلف الألواح المصرية، وإذا ما وجدنا بين الأولى لوحة رقم 9 في حالة أقل تلفا من الباقية، فذلك لأنها استفادت من عرق أكثر صلابة من بقية أجزاء الصخرة ، ثم لأن هذه اللوحات تقع في مكان منحدر وفي مأمن من الشتاء.
إن افتراض عملية المحو لا يمكن التسليم به؛ إذ يقدر كل رحالة مطلع على علم الحروف الهيروغليفية - ولو قليلا - أن يرى لأول التفاتة وجه واسم سيسوستريس في القسم الباقي من خطوط النقوش المصرية وحروفها. ما كاد الدكتور باريزه - الذي توجه معي إلى نهر الكلب - يرى اللوحة ذات الرقم 8، حتى قال لي وهو يشير إلى الوجه: إنه رعمسيس. والسيد بونومي كان من هذا الرأي، وقد قال لي إنه أدرك ما ترمز إليه هذه الآثار المختلفة، وقد رسم لي صورة رأس أتأسف لعدم حفظي إياها.
إن المنحوتات لم تتعرض لأي تلف منذ زمن ما، ولقد أحبط سعيي انتزاع اللوحة العجمية ذات الرقم 9، ما لاقيته من مشاق عند مباشرة تنفيذه.
والصعوبة الكبرى التي تلمسونها أنتم في التوفيق بين الأدلة المختلفة المأخوذة عن آثار نهر الكلب؛ ناتجة عن تقلقل آراء السيد بانك ولافين؛ ذلك لأن الأول لا يتكلم مطلقا عن الوجوه الفارسية مع أنها تبلغ الستة، واثنان منها ملتصقان بالآثار المصرية، ثم لأنكم قد تحملون على اعتناق فكرة السيد لافين القائلة بمحو المخطوطة المصرية بأمر من قمبيز، وهي المخطوطة الهيروغليفية التي اطلع عليها السيد بانك.
إن الأدلة التي تشرفت بتقديمها لكم ورسم الأثر رقم 9 الذي سبكه السيد بونومي تغنيني عن المخطوطة المسمارية.
إن الصخور التي حفرت عليها آثار نهر الكلب هي من حجر قاس كلسي أبيض اللون في الداخل، أما سمرته الخارجية فناتجة عن تفاعل الهواء والماء.
إن الرسوم التي أجد لذة في إرسالها إليكم تجيب على الأسئلة المدونة في رسالتكم الأخيرة. وأكرر هنا أني لا أظن مطلقا أن ملوك العجم قاموا بمحو المخطوطات المصرية أو الهيروغليفية، وأن التلف الذي تعرضت له آثار نهر الكلب هو وليد الأزمنة.
إن المخطوطة اللاتينية الموجودة في جوف الصخرة نفسها تجد فيها سطرا امحى. وهذه المخطوطة تنبئنا أن العرب سموا ليكيس نهر الكلب لمشابهة الكلب للذئب المحفورة صورته عند الممر فوق الحاجز. ولما كان هذا التمثال أجوف فارغا يعوي عند هبوب نوع من الرياح، فقد اعتقد العرب أنه كان مسكونا، وعزوا إليه تهدم الجسر الذي شاءت أياد غير لبقة أن تستبدله بالجسر الذي بناه الرومان فحملته مياه شتاء قاس؛ وعند ذاك تقرر التخلص من هذا الكلب المشئوم، فدهور إلى قاع البحر.
وأضيف هنا نبذة من رسالة بعث بها والدي إلى السيد ستزن تتعلق بالمخطوطة اللاتينية التي لم تفهم بعد:
علام التفريق بين أوريل وأنطونان التقي وكلاهما من حاشية إمبراطور واحد؟ فمن الجائز أن يكون لقب البريطاني لم يمنح لأنطونان ولا لخلفه. إن كاركلا هو الذي ادعاه لأنه رافق أباه في حملته إلى بريطانيا. وهذا الملك أتى بعد ذلك إلى سوريا، واضطر لأن يعبر هذه الطريق في الجبل سنة 96 قبل المسيح، وكان يقصد الإسكندرية لينزه - حسب تعبير مونتسكيو - صولته وبطشه متلذذا بمشهد عدد كبير من الرجال ذبحوا في أحد الأعياد؛ ولذلك رممت الطريق ووسعت إما بأمر من الإمبراطور، وإما لاكتساب رضاه عندما كان في أنطاكية.
حاولت مخطوطات إغريقية وعربية أن تخلد ذكرى الفاتحين الذين مروا في هذا المكان، إلا أن الأيام قست على تلك الآثار التي أرادوا أن يتركوها لنعرفهم بها اليوم.
لقد أمليت بضعة أسطر من مخطوطة إغريقية وأنا ممسك بالصخرة بإحدى يدي، حاملا بالأخرى مشعالا لأتمكن من قراءتها. إن الكاتب الذي رافقني لا يحسن اللغة الإغريقية إلا قليلا؛ ولهذا لم يستطع القيام بمهمته على وجه صحيح. وإني أشك في استفادتنا من نقل هذه المخطوطة.
الفصل الرابع والعشرون
وصف لبنان المسمى الجبل الدرزي - تقسيمه إلى مقاطعات - ارتقاء بيت شهاب كرسي الحكم - الميثاق. ***
من مقدمة كتابي هذا يعرف القارئ طريقة السياحة في سوريا. فليتصور إذن مؤلف هذه المشاهدات حاملا عدة السفر وعتاده، متسلقا الجبال، هابطا الأودية، باحثا عن كل مكان خرب ذي أهمية أثرية ... قمت بعدة رحلات في لبنان، وفي جهات جد مختلفة، ولو شئت أن أصف جميع ما رأيت وشاهدت لأهلكت نفسي بتكليفها ما لا تستطيع؛ فها أنا ذا أعفيها ولا أحملها فوق طاقتها من قص حوادث ذهابي وإيابي، وأكلي ونومي، وما اعترضني من شئون وشجون؛ إذ يستحيل الطواف في هذه البلاد دون مقاساة آلام الأخطار التي تواجهنا كل يوم تقريبا، فلا يستغرب إذن تهافت عدد كبير من الزائرين على كل قادم من سفر ليهنئوه بالعودة منه سالما معافى.
تعرضت لأخطار لا تحصى عندما اقتدت بين اللجج وسرت في معابر المعزى لأبلغ خرائب زعموا لي أنها موجودة، أو أدرك آثارا أصبحت عافية، وكم من مرة عدت أتعثر بأذيال خيبة مرة! ألزمت نفسي معرفة ما في الجبل اللبناني من آثار هامة، وكنت مضطرا - قبل أن أغادر المكان الذي أكون فيه - أن أطرح عدة أسئلة على نفسي وعلى السكان لأتيقن من أني لم أخلف شيئا ورائي فيه بعض الفائدة. إنه يمكنني أن أطنب في مديح نفسي لأني لم أدخر خطوة في سبيل السعي ركضا وراء الآثار، وإذا كنت قد وفقت إلى بعض الاكتشافات فيحق لي القول إني قد دفعت ثمنها كثيرا من التعب والمشقة.
إني أرجع إلى ما قاله من تقدموني عن طبيعة هذه الجبال الخشنة الغليظة، القلقة المجاز، الصعبة المرتقى، ذات الطرقات الرديئة، هذا إذا كان يمكننا أن نطلق اسم الطرقات على المعابر والمضايق القليلة أو الكثيرة الاتساع، والتي كثيرا ما تكون معوجة صخرية، غير ممهدة، يمشي عليها الناس بقوة العادة والاستمرار، بل الاضطرار لأن لا طرق غيرها. شغل وصف هذه الطرقات ومتاعبها من تقدموني؛ فكتبوا كثيرا من الملاحظات. أما أنا فسوف أدعها ولا أهتم إلا بوصف سيماء هذا الجبل الأخلاقية. عرفت هذا الجبل في مختلف وجوهه ونواحيه أثناء إقامتي فيه خمس عشرة سنة.
ولكي أحسن درسه على أتم وجه - كما وعدت في مطلع هذه المشاهدات - أراني مضطرا لحصر موضوع كتابي في نطاق محدود. سوف لا أتناول بالوصف إلا الناحية الواقعة بين نهر المعاملتين من جهة الشمال، ونهر الدامور لجهة الجنوب. أما في الجهة الشرقية فسأقف عند الحدود الطبيعية؛ أي بكليك ولاية دمشق وولاية صيدا، تلك التخوم التي تخترق سهل البقاع طولا. إن نهر الليطاني الذي يسمونه أيضا نهر القاسمية هو الذي يرسم تلك الحدود.
يقسم هذا الجزء من البلاد إلى ثماني مقاطعات، تمتد سلطة الأمير على 24 إقطاعة منها؛ فحدود إمارته تبتدئ من جبة بشري فوق طرابلس وتنتهي في جزين قرب صيدا بطول 14 ميريامتر (الميريامتر عشرة كيلومترات) وعرض ستة في المكان الأكثر اتساعا.
إننا لا ندري كم كان عدد سكان لبنان قبل عهدنا الحاضر، فلا شك في أن ذلك العدد كان ضئيلا. ولسنا نعرف شيئا صحيحا عن هذا؛ لأن التاريخ العربي ينبئنا فقط أن اثنتي عشرة عائلة نزحت من معرة النعمان عندما كانت حكومة دمشق خاضعة لإمبراطورية الروم - أي قبل ظهور الإسلام - واستقرت في الجبل وشيدت فيه القرى. أما زعيم هؤلاء النازحين فهو الأمير تنوخ ابن الملك النعمان؛ ملك الحيرة.
وأول مكان استقر به كان يدعى تيروخ
Tirouch
في مقاطعة المتن. ثم انتقل إلى الجهة الغربية، فاضطره ازدياد عدد عائلته لبناء قرية عبيه التي عرفت آنذاك باسم دار تنوخ. وقد فصل المؤرخون تاريخ هذه الأسرة العريقة تفصيلا مسهبا حتى اعتناقها الإسلام.
حكمت هذه الأسرة الجهة الغربية والجرد الأعلى من نهر الكلب حتى الدامور، من انبساط الموج إلى مرمى الثلج. أما آل بيت معن فهم أكراد الأصل ومن سلالة صلاح الدين الأيوبي. قدم جدهم الأعلى إلى لبنان واستقر في مقاطعة الشوف. وظل هذا البيت ينعم بالسلطة حتى ارتقاء فخر الدين كرسي الحكم.
إن عدد سكان الجبل هو حوالي 300000 نفس؛ ثلثا سكانه مسيحيون، والبقية من الدروز والمسلمين والمتاولة.
زعموا - ولا أدري على أي حساب استندوا - أن لبنان يمكنه إعداد 100000 مقاتل إذا ما جند أهلوه ابتداء من عمر 15 إلى عمر 70، أما المعقول فهو أن ننزل عدد محاربيه إلى ستين ألفا؛ وبناء على هذا التقدير يكون عددهم هكذا: 35000 ماروني، 15000 درزي ومسلم ومتوالي، 6000 روم، و3500 كاثوليكي.
ظهر - بناء على إحصاء قاموا به عام 1843 - أن الرجال الذين يمكنهم أن يحملوا السلاح في ست عشرة مقاطعة، ابتداء من الشوف حتى جبيل، كانوا 45050، منهم 34000 مسيحي، و10050 درزيا.
أما الإحصاء الذي وقع في يدي فلا يزيد فيه عدد سكان لبنان عن 193835 شخصا موزعة على مقاطعات لبنان الأربع والعشرين كما يلي: 290 يهوديا، 5395 متواليا، 8775 مسلما، 26445 درزيا، 153050 مسيحيا.
إنه يستحيل - وتلك هي الحالة في جميع أنحاء تركيا - أن نحصل على معلومات صادقة تمكننا من معرفة عدد السكان معرفة صحيحة. وليس ما يذكر في هذا الباب إلا تخمين مبني على تحريات وحسابات قائمة على افتراضات غامضة. أما إحصائي الذي قدمته عن سوريا فهو نتيجة عدة معلومات مستقاة من مصادر صحيحة محصت طويلا.
أخذ عدد السكان يزداد زيادة مطردة في الجبل على أثر تطبيق عملية التلقيح؛ فالطاعون الذي كانت تظهر دلائله في الأماكن البعيدة كان يوقف كل مرة بسرعة فائقة؛ لأن الأمير كان يطبق في بلاده الأنظمة الصحية بكل دقة، وذلك قبل أن يفكر نائب ملك مصر والسلطان في إنشاء المحاجر الصحية.
عرفت هذه البلاد باسم الجبل الدرزي لأن مشايخ آل تلحوق الدروز حكموها قبل عائلتي معن وشهاب في مقابل جزية ضئيلة كانوا يدفعونها للباشوات؛ فالمسيحيون - على الرغم من أنهم أبناء هذه البلاد - لم يجرءوا على الظهور، وكانوا يفضلون الخضوع لهؤلاء النزلاء الذين أتوا من مصر، وتمكنوا بوصفهم مسلمين - ولو ظاهرا - أن يطمحوا إلى الحكم.
تمتد المنطقة الدرزية من نهر الكلب حتى جزين حيث تنتهي الحدود الجنوبية لحكومة الأمير بشير. لسنا نجد دروزا قرب نهر الكلب، ولكنني جعلت هذا النهر تخما للمنطقة الدرزية؛ لأنه يقع ضمن نطاق المتن، ولئلا يظن أن هذه المنطقة تمتد إلى أبعد من هنالك؛ فمن أعالي هذا الجبل الذي يشرف على طرابلس ممتدا حتى ولاية عكار، لا نجد درزيا واحدا؛ فجل سكان هذه الناحية هم تقريبا من الموارنة والروم، والأكثرية الساحقة من الروم في لبنان تقيم في مقاطعات الكوره والبترون.
إن هذا الطوائف كانت في منازعات دائمة مع المتاولة؛ حكام هذه المقاطعة القدماء ومالكيها. وما استطاع الموارنة أن يجلوهم عن كسروان إلا بعدما شجعهم الأمير يوسف ومشايخ بشري وعائلتا حبيش والخازن الذين كانوا يقطنون آنذاك ضواحي بيروت؛ عند ذاك اندحر المتاولة وانكفئوا متراجعين عن هذه الناحية بعد أن تناقص عددهم إلى الألف عائلة، فأقاموا جميعا في أعالي قرى جرود جبيل والبترون.
كان أمير الجبل في ذلك الزمان يتلقى من باشا طرابلس أمر توليته على البلاد التي تبتدئ في الزاوية، وتمتد إلى مقاطعة جبيل لتنتهي عند نهر المعاملتين. وكان باشا صيدا هو الذي يولي من يشاء على بقية أنحاء الجبل التي تمتد حتى جزين.
حدث في وقت من الأوقات أن كان على رأس كل من المقاطعتين أمير. ولما ارتقى الأمير بشير إلى كرسي الحكم انتقى الناحية التي كانت عاصمتها دير القمر، ومنح أخاه الأمير حسنا المقاطعة التي كانت عاصمتها جبيل؛ فاتخذ الأمير حسن بلدة غزير - مسقط رأسه - عاصمة لحكومته بحجة أنها بلد طيب. أما الواقع فهو أن وجوده في جبيل - مركز هذه المقاطعة - كان يجعله أكثر تعرضا لوطأة السلطة التركية؛ فلا عجب إذن أن فعل ذلك أمير كان يرتقي كرسي الحكم بحذر واحتراس بالغي الحد؛ لأن آلاف المخاطر تتهدده.
كانت مقاطعة كسروان أوفر جميع إقطاعات الجبل ثروة وأكثرها عدد سكان.
وهاكم بيانا عن تنظيم حكومة لبنان قبل الحوادث الأخيرة:
المقاطعات
الحكام
جبة بشري
الشيخ جرجس بونار(؟)
إن هذه المقاطعات الخمس المسماة بلاد جبيل تخضع لباشا طرابلس. وأخيرا ولي عليها الأمير بشير من قبل عبد الله باشا وشريف باشا، كما ولي في الوقت نفسه على الناحية المنوط أمرها بعكا.
الزاوية
بيت الضاهر
الكوره
ابن الأمير الكبير البكر
البترون
الأمير أمين
جبيل
الأمير الكبير
كسروان
الأمير عبد الله شهاب
إن مشايخ هذه المقاطعة هم من آل حبيش الذين يمثلون مع مشايخ آل الخازن أكبر إقطاعيي الجبل والقوى المسلحة فيه.
المتن
أمراء بللمع ومراد
أحفاد قايد بيه
العرقوب
الأمير قاسم وبيت عماد الدرزي
إن أهالي هذه المقاطعة هم من أتباع الشيخ الدرزي.
الجرد
الشيخ عبد الملك
إن الأهالي هم أتباع هذين الشيخين.
الغرب الفوقاني
الشيخ تلحوق
الغرب التحتاني
أسرة شهاب وبيت أرسلان الدرزي
إن هذه المقاطعة تقسم إلى عدة نواح، وأهاليها أتباع مشايخ الدروز.
الشوف
الأمير خليل وبيت جنبلاط الدرزي
إقليم البلان
إن هذه المقاطعات كانت تخص المتاولة، إلا أن الأمراء استولوا عليها بتشجيع من الجزار الذي ضايقه موقف المتاولة التهديدي لهذه الناحية من البلاد التي كانوا يعيثون بها فسادا كلما نشب خلاف بينه وبين الطائفة.
إقليم الخروب
إقليم التفاح
جبل الريحان
إقليم الشحار
وهنالك بعض المقاطعات المقسومة قسمين، كما هي الحالة في مقاطعتي البترون، وجبيل التي سميت جرود جبالها بلاد المتاولة والفتوح. ولما كان نهر الكلب يخترق بلاد كسروان أطلقوا على الجهة الجنوبية منها اسم القاطع. أما الناحية التابعة للجبل من البقاع فتدعى الهرمل.
والشوف قسمان يؤلف أحدهما دير القمر وحدها، كما تؤلف ضواحي بيروت مقاطعة صغيرة تدعى الساحل، وأمر هذه المقاطعة منوط بالأمير الكبير.
أما سهل البقاع - الذي يؤلف اليوم جزءا من حكومة الجبل - فهو جزء من الأملاك السلطانية (البكليك أو الجفتلك). كان يستأجر هذه الأرض الشديدة الخصب باشوات دمشق وأغواتها، ويستثمرونها لحسابهم الخاص. ولما كان تموين أهالي لبنان لا يستطاع بدونها، فقد أخذ أمراء الجبل الطامحون في إلحاقها بإمارتهم يثيرون فيها الخلافات والفتن، منذ أربعين سنة، بين مزارعي القرى المجاورة لها، وشركاء إقطاعيي دمشق. وكثيرا ما كان هؤلاء الأمراء ينجدون أهالي القرى ويساعدونهم مساعدة فعالة. أما عاقبة هذه الاعتداءات فكانت دائما حرق الأغلال؛ وهكذا كانت تبقى الأرض التي أحرقت غلالها بورا مدة سنتين أو ثلاث سنوات دون أن تزرع. إن هذه الاعتداءات المتوالية لم تكن تمنع الأتراك من أن يؤجروها ثانية، ثم يطرد مستأجروها بعد أن يمنوا بالقليل أو الكثير من الخسائر
1
حتى إذا ما سئموا أخيرا هذه الغزوات والهجمات المتتابعة ولم يظفروا بطائل رجعوا عن استئجارها. لم يعد في استطاعة قوى الباشوات أن تثبت في وجه قوات أمير الجبل، هذه القوى التي كانوا يشعرون بثقل وطأتها في جميع أنحاء سوريا؛ ولهذه الأسباب استطاع الأمرار الدروز وعدة مشايخ آخرين أن يضمنوا البقاع ويستأجروه لقاء بدل ضئيل، ثم أخذ هذا البدل يزداد عاما بعد عام حتى بلغت قيمته مائتي كيس.
وهذه الملكية التي طالما اشتهاها أمير الجبل كان يحافظ على دوامها له بدهاء ومكر؛ كان يدلع النيران في البقاع بواسطة التركمان والمتاولة، ثم يظهر أنه يتعقبهم إلى ما وراء بعلبك. ولكن هذه الطريقة المؤسفة التي زادتها الحوادث الدامية هولا لم تعد تخيف الشركاء القدماء الذين كانوا يشعرون بأنهم جد سعداء إذا ما ظفروا بدخل معين؛ فهو - مهما يكن ضئيلا - خير من انتظار ريع أكبر محفوف بالكثير من المخاطر.
وما أدرك إبراهيم باشا سر هذا النظام العقاري المخصص ريعه لنفقات زعماء القصور (التيمار)
2
حتى استولى على تلك الأراضي واستثمرها. فلو كان غرس الأشجار في ذلك السهل لكانت تستطيع وحدها أن تجعل من هذا الوادي - العاري اليوم تماما - جنة فسيحة تعطي أضعاف أضعاف منتوجاتها. ولكن ... إنها لامبالاة السوريين المفرطة، فهم يدرجون على ما درج عليه آباؤهم من قبل، ولا يعملون إلا مثلما عملوا، وإذا ظلت هذه القاعدة مقود هذا الشعب الميكانيكي فلا يمكننا أن نترجى لسوريا إلا حياة تعسة ومحدودة جدا، وأراني مجبرا على القول إن الثقة مفقودة تماما؛ وهذا هو أهم أسباب تعاسة الولايات الخاضعة للحكم العثماني وضعفها؛ ففقدان الثقة بالمصير جمد رءوس المال وشل حركة الأخذ والعطاء. «إن تزعزع الثقة وارتياب كل شخص في مستقبل مصيره كان يحمل جميع الناس على اختلاف طبقاتهم - من الباشا إلى الفلاح - على إخفاء قسم من الغلال ومواراتها عن أنظار الجشعة».
3
بعد انقراض آل معن دعي آل شهاب (وكانوا آنذاك في حوران) إلى تولي الحكم في الجبل، وفقا لرغبة الأهلين، وطبقا لعهد وميثاق، مدفوعين بما يقوم بين آل معن أسياد الجبل وبين آل شهاب من أواصر قربى.
إن الأسرة الشهابية حصلت على عدة امتيازات يوم تولت الحكم؛ فأيدتها هذه الامتيازات ودعمت سلطتها التي تداولها أحفادها. تعهدت هذه الأسرة المالكة - لقاء ما منحها الشعب من امتيازات - ألا تزيد أبدا ضريبة الأملاك والضرائب الأخرى إلا بالمقدار المعين، كما أنها تعهدت بعدم تملك أراضي لا تستدعي حاجتها الضرورية الخاصة ملكيتها.
ولهذه الغاية خصص لآل شهاب دخل سبع قرى في ضواحي دير القمر - عاصمة الجبل - حيث يقيم الأمير الكبير الذي صار مقره بعد حين ملكا خاصا به.
إن عائلة شهاب التي لا تملك - لأنها غريبة الدار - أملاكا وإقطاعات، لم يكن في مستطاعها تملك إقطاعات جديدة أو الانفاق من مالها على تجهيز قوة مسلحة غير محدودة تصلح للخدمة العامة والخاصة بكل أمير. وهي لا تستطيع تجنيد الأهلين لأن هذا التجنيد لا يمكن فرضه إلا إذا رضي به أو أمر - مباشرة - أمراء الولايات ومشايخها، والإقطاعيون ومدبرو إقطاعاتهم الخاصة.
إن هؤلاء الزعماء (المناصب) كانوا يجبون بأنفسهم مال الأعناق في إقطاعاتهم، ويوزعون الضرائب ويقبضونها ليحوزوا على صفو خاطر الأمير الكبير بما يقدمونه له منها. وكان هو يعيد إليهم قسما من هذه الضرائب إذا كان راضيا. أما إذا كان غاضبا فلا يمنحهم أقل مهلة، بل يرهقهم بجميع الأساليب حتى يدفعوا المال المفروض عليهم كاملا.
لم تكن هذه الطريقة هي الوحيدة التي ابتدعها الأمير ليوطد نفوذه، بل نسي رويدا رويدا جميع ما يفرضه عليه الميثاق الصريح الذي سبقت الإشارة إليه، والذي لم أعلم بوجوده إلا من ألسنة الناس.
خرقت بنود هذا الميثاق الأساسية، والضرائب والمكوس لم تحافظ على أساسها القديم - وهو ألفا كيس - إلا ظاهرا، ثم ضوعفت، وحصل فيما بعد أضعاف أضعاف أضعافها، ثم ظل هذا الازدياد في اطراد تبعا للظروف. وكانت هنالك ضرائب تجبى ست عشرة مرة تحت ستار أسماء مختلفة: بزرية، وطرح، وشاشية ... إلخ.
وهكذا أنمى الأمير أملاكه الثابتة ومداخيله؛ أنمى عقاره إذ أقام نفسه وارثا للعائلات المنقرضة، وأنمى المداخيل بطريقة التخليات الطوعية والاكتسابات الشرعية، وأخيرا بما كان يغتصبه بلباقة من جيرانه الذين أثقلت كواهلهم الديون، أو أذلتهم أسرة شهاب بسلطانها. فأملاك الشهابيين وفلاحوهم معفون من الضرائب فلا يؤدون منها شيئا؛ وهكذا أصبحت هذه الأسرة الحاكمة أكثر بيوت الجبل ثروة وغنى، وأشدها قوة وبأسا.
سوف أحاول - فيما بعد - أن أصف بمقدار تصرفات الأمير بشير بإلقائي نظرة عابرة على حياته، ابتداء من ارتقائه كرسي الحكم حتى سقوطه. وإني أرى أن عودة هذا الأمير، أو عودة أحد أفراد أسرته، حاجة ماسة لا يستغنى عنها لإعادة النظام وتوطيد دعامته في الجبل، فالأمراء الآخرون - الذين أعترف لهم بمقدرة تسلم زمام الحكم - أثبتوا بتصرفاتهم الكلمة المأثورة عندنا: «إن ما يسطع في الصف الثاني هو الذي ينكسف أولا.»
ولكي أتحاشى كل حكم متهور والاتهام بالمحاباة، ها أنا ذا أصرح - في أول هذه اللمحة المقتضبة - أني لم أكن قط شخصيا ممن يطريهم الأمير بشير ويتودد إليهم، وأني رغم العلاقات العديدة التي تربطني به وبعائلته كنت أبعد الناس عن الحصول على إنعاماته.
كان ينكر علي دائما حقوق مواطني، حتى إني لم أتمكن من الوصول إلى حق - في الجبل - إلا بجهود لا تعرف الكلل، وبالمثابرة أو الالتجاء إلى توسط السلطات التي كان يخضع لها الأمير.
عرفت دائما في هذا الأمير شعورا مسيطرا يمتلك جميع عواطفه وعقله، ألا وهو حب المحافظة على سلطانه. وقد حمله هذا الشعور على التضحية بكل شيء؛ ولهذه الغاية ظن أنه بخلقه العراقيل وإقامة المصاعب في وجهي يرضي باشوات عكا ومصر.
إنهم كانوا يعزون هذه العراقيل إلى نصائح وزيره المخطئة؛ ذلك الرجل الذي ثبت أنه كان يجاهر ببغض شديد للأوروبيين. ومع أني لا أريد أن أتهم هذا الرجل، أو أعزو إليه شيئا، فقد كفاه عقابا ما آلت إليه حاله بسبب سياسته الحمقاء، فلا يسعني إلا الاعتقاد بأن عودة المعلم بطرس كرامة إلى لبنان تكون في غير أوانها، إلا إذا كان شقاء سيده - الذي هو شقاؤه أيضا - قد علمه درسا مفيدا.
هوامش
الفصل الخامس والعشرون
تاريخ لبنان الطبيعي وضواحي بيروت
المراعي في أعالي لبنان صالحة، إلا أنها غير وافرة؛ وهذا ما جعل الحيوانات الداجنة قليلة في البلاد، وهذه القلة اضطرت الحكومة لمنح ملاكي بلاد ما بين النهرين ورعاتها حق إدخال ثلاثين أو أربعين ألف رأس من الغنم إلى سهول بعلبك.
إن الأكراد والتركمان يفعلون ذلك أيضا، كما أن عددا غير قليل من سادة العجم الأغنياء كانوا يتعاطون هذه التجارة. والرعاة على اختلاف أنواعهم يجلبون قطعان الغنم العديدة يتجرون بها مع أهالي لبنان وأهالي مدن الساحل، وهم يدفعون لقاء حرية هذه التجارة ضريبة ضئيلة تجعلهم في حماية أمراء ضواحي البقاع ؛ فينعمون حينذاك بأمان تام، وتكون ديونهم غير هالكة إذا ما باعوا مواشيهم بثمن مؤجل تسهيلا لتجارتهم.
وأغنامهم هذه ذات أليات ضخمة قد يبلغ وزن الواحدة منها خمسة عشر كيلوغراما. يعلفها الأهالي علفا عنيفا، وإذا ما ملت الأكل أقبلوا عليها يحشونها حشوا بأوراق التوت والنخالة، ويغسلونها يوميا بالمياه النقية فتبلغ أقصى حدود السمن. فكل عائلة لبنانية تعلف واحدا من هذه الكباش لتدخر لحمه مئونة للشتاء، فيقلى ويحفظ في شحمه المذوب، ومتى أقبل الشتاء تهبط القطعان التي تصيف في الجرود إلى الساحل؛ حيث يكون قد أعد كل ملاك محلا ملائما لبياتها عنده طمعا في سمادها الذي لا بد منه للزراعة على اختلاف أنواعها، وخصوصا زراعة أشجار التوت. إن هذه الحيوانات اللبونة هي التي تمد البلاد بالحليب والزبدة والجبن واللبنة.
وفي الجبل جمال يبتاعها أهلوه من عرب الصحراء. أما البقر والمعزى فمن إنتاج البلاد نفسها، ومن جزيرة قبرص تستقدم الحمير والبغال والخيول العادية. والبقر الممتازة ترد إلى الجبل من ضواحي دمشق.
لا ينتج لبنان وملحقاته من الحبوب (القمح، الشعير، الذرة، العدس، الكرسنة) إلا ثلث الكمية التي يستهلكها الأهالي، وإذا أصابت البلاد خصبا كبيرا فقد تستريح من اللجوء إلى الخارج - في طلب المواد الغذائية - مدة أربعة أشهر أو خمسة فقط.
ينتج كل مكيال من البذار من ال 12 إلى ال 14 مكيالا. وفي السهول والأرض الجبلية الجيدة يغل المكيال عشرين مكيالا.
أما سهل البقاع فالمد الذي يبذر في تربته فتراوح غلته بين خمسة وعشرين وثلاثين مدا.
إن تربة لبنان صالحة جدا لزراعة البطاطس، ومع ذلك فقلما يعرفها أهلوه، وإذا زرعت في بعض الضواحي فلكي تباع من الإفرنسيين. إن الشعب هنا - كما هي الحالة في جميع أنحاء تركيا - غير ميال إلى التجديد، ومن شريعتهم: القديم على قدمه. ولهذا يفضلون على البطاطس ذات الغذاء الصحي النافع، خروب قبرس وفول مصر الذي قد يصنعون منه خبزا كريها.
تنتج القرى الساحلية - وعلى الأخص القرى الواقعة بين بيروت وصيدا - كثيرا من الزيت . أما الحاصلات الأخرى التي تكثر في الجبل وضواحي بيروت ، فهي العنب والتين والصنوبر واللوز والجوز. قد تنتج البلاد ما يكفيها من جوز ولوز، أما العنب والتين والصنوبر فيصدر بعضها إلى الخارج.
الأشجار المثمرة نادرة جدا في قرى الساحل بسبب الحرارة القوية والجفاف. وهي قليلة أيضا في الجرود العالية بسبب البرد القارس أثناء الشتاء، ناهيك بأن الشرقيين لا يقدرون الثمار حق قدرها. ولما كانوا لا يصبرون عليها حتى تنضج، فإنهم لا يجدون فيها إلا طعما مزا يشبه تماما طعم الأصناف البرية من هذه الأنواع. إننا لا نجد في الجبل ثمرا لذيذ الطعم حقا إلا العنب والمشمش اللوزي ذي النواة الحلوة.
1
وقد تمتع تين بيروت بشهرة حق له معها أن يشبه بتين مرسيليا.
إن عدم استطابة الشرقيين الثمار هو - بلا ريب - السبب الأول في ندرة الجيد منها. أما السبب الثاني فقلة اكتراثهم بها؛ فهم لا يهتمون بإتلاف الحشرات التي تفسد عليهم أعمالهم الزراعية، ولو فعلوا لأضافوا إلى محاصيلهم منتوجا جديدا يستفيدون منه في تغيير ألوان معيشتهم، أو يبيعونه فيتضاعف ريع عقارهم، ولكنها اللامبالاة التي يتصفون بها في جميع شئونهم.
ومن حيوانات هذه البلاد الخفافيش ذات الحجم الكبير، المنتشرة انتشارا ذريعا في ضواحي بيروت. إنها تهاجم المدينة كل ليلة، وتغشى المزارع والحقول لتعيث فيها فسادا حتى الصباح، محدثة أجسم الأضرار. ويا لتعاسة التاجر الذي لم يؤشب نوافذ دكانه بشريط حديدي!
تطوف الخفافيش هنا وهنالك، وتدخل حيث تجد شيئا لذيذ الطعم. إنها تأخذ كل ما يمكنها حمله لتأكله، تحت أروقة
2
المدينة الكثيرة، أو في جنائنها، أو في أوكارها إذا كانت ذات صغار. أما البساتين فإنها تختطف منها جميع الثمار التي تستطيب طعهما.
وإثباتا لما قلت عن وفرى هذه الحيوانات أسرد هذه الحادثة التي وقعت في بيروت، وقد رواها لي عدة أشخاص مؤكدين وقوعها.
اشترى تاجر كمية كبيرة من الزبيب وتركها مكومة في مخزنه، وذهب إلى دمشق لاستيراد المشمش المجفف الذي تصدره هذه المدينة بكثرة، وطالت مدة إقامته أكثر مما تقتضي صفقته التجارية؛ فدهش أشد دهشة عندما دخل حانوته بعد عودته ووجده خاليا خاويا ، فتبادر إلى ذهنه - طبعا - أن أحدا قد سرق الزبيب؛ فرفع شكواه إلى الوالي، فأمر بالبحث والتدقيق والكشف الحسي، فلم يسفر ذلك عن نتيجة. لم يهتدوا إلى أي كسر؛ فالقفل لا يزال كما كان، وشبابيك المخزن لا تزال قضبانها الحديدية مشتبكة لم تمس، فلم يبق إذن سوى القيام بتحريات في المدينة، وهذا ما وعد الحاكم بأن يهتم به كل الاهتمام.
يصعب جدا أن تطمس آثار جريمة كهذه في مدينة صغيرة كبيروت، ومع ذلك لم يعثر على أثر ما لهذه الصفقة الكبرى من الزبيب.
وبعد مرور شهر وأكثر على الحادث الذي لم يظفر التحقيق بجلاء غامضه - ولو بعض الشيء - دخل بعضهم عرضا إحدى المغاور العميقة الواقعة في طرف المدينة الغربي، فرأى فيها بذور العنب كوما كوما، ولما توغل في المغارة وجد أكداسا أكثر ضخامة؛ فأذاع خبر ما رأى وشهد في مغاور الروشة.
ذكرت هذه الحادثة الناس بالأضرار الجزئية التي كانت تحدثها هذه الطيور الليلية؛
3
فلم يشكوا بعد ذلك في أنها غرماء التاجر اليوناني صاحب الدعوى، فدعي إلى السراي حيث أنبئ بالاهتداء إلى سارقيه، وشاء الوالي أن يتأكد ذلك بنفسه، فامتطى جواده واستصحب التاجر ليرى بعينيه أشلاء بضاعته.
وسار التاجر وهو لا يدري إلى أين - مع الحاكم - واستغرب هذه النزهة. ولما انتهيا إلى شط البحر، ذهب بعض دهشته عندما وقف أمام مغارة عميقة، فظن أن السارقين يختبئون فيها، وأن الوالي قد استصحبه ليريه غرماءه. وكم كانت دهشته عظيمة عندما أروه أكداسا كبيرة من البزور وقالوا له: هذه هي الآثار الدالة على السرقة، وهنا يسكن مرتكبوها.
فصاح اليوناني مستغربا: ولكن أين هم؟
فأجابوه: في كل مكان من هذه المغاور العميقة، إنهم مختفون في ثناياها وأخاديدها.
ولما كشفوا له عن سر الحادث، خاف التاجر وظن المغارة مرصودة ... وظل مدة طويلة لا يصدق ما حدث، ولكنه صدق بعد حين أن الخفافيش هي التي سرقت بضاعته، بعد أن رأى بعينيه آثارها؛ رأى منها كمية كبيرة لا تزال باقية ، ففهم للحال أن الحادثة ليست صعبة التصديق، ولا سيما إذا عرفنا أن الجرذان المنتشرة في مدينة بيروت انتشارا هائلا لا تتأخر عن نجدة زميلاتها ذوات الأجنحة في مثل هذه الغزوة، فهما حلفان في محاربة تجار الثغر.
إن الثمرة الأكثر شيوعا في بيروت هي ثمرة تين برباريا التي تسمى في أفريقيا التين المسيحي؛ فهذا المحصول هو أحد عناصر الغذاء الهام عند جميع السكان بوجه عام، وعلى الأخص عند الفقراء الذين يجعلونه غذاءهم الوحيد ويعيشون عليه طوال الصيف كله.
إن كمية الصبار الكثيرة التي تنمو في هذه البلاد لم تحمل السوريين على التفكير في تعميم دودة القرمز عندهم؛ فهم يكتفون من هذه النباتات بفائدة ثمارها، فما لهم ولأوراقها، وحسبهم منها فائدة أخرى، وهي أن يحيطوا بها بساتينهم فتكون لها خير سياج؛ نظرا لأشواكها الحادة التي تتسلح بها.
كثيرا ما نجد في الجبل مناجم فحم حجري مطمورة في الأرض، وقد كانت تصلح للمصانع الكبيرة لولا زيادة الحامض الكبريتي فيها. قال لي إبراهيم باشا إن استخراجه هذا الفحم في المدة الأخيرة كان يكلفه من الثمن ما يعادل تكاليف الفحم الذي يأتيه من نيو كسل إلى الإسكندرية، ولكنه عندما استطاع أخيرا أن يستغني عن مهندس يدير العمل فقد عاد عليه بثمن أدنى. إن مناجم هذا الفحم تقع في البقعة الواقعة بين ميروبا وفالوغا.
4
لم يستعمل السكان هذا الفحم وقودا، ولكنهم اكتشفوا فيه ميزة طبية، وهي شفاء الجراح الأكثر اتساعا في ظرف أربع وعشرين ساعة. إنهم يحولونه إلى مسحوق ناعم تكاد لا تستطيع الأصابع أن تقبض عليه، ثم ينثرونه على الجرح الذي يلف بشاشة، فيندمل بسرعة عجيبة.
وهنالك عدة مناجم من الحديد في لبنان قلما استثمرت؛ لأنهم لا يحسنون اختصار أساليبهم، ولا يغيرونها؛ فيستخدمون الحطب في صنعه، فتكلفهم تلك العملية غاليا نظرا لارتفاع ثمن الحطب عندهم. إن الحديد الموجود في لبنان من النوع اللين جدا، وهذا ما يجعله أفضل من الحديد الأجنبي لصنع نعال الخيل وعمل المسامير، والأعمال الأخرى في البلاد.
ويؤكدون أيضا أنه يوجد عندهم مناجم ذهب وفضة ونحاس، غير أنهم لم يجرءوا قط على مسها. والسيد بروكي العالم بالطبيعيات الموفد من قبل محمد علي إلى سوريا عام 1823 وجد مواد هذه المعادن الثلاثة، ومواد من التوتيا أيضا.
إن الأشجار التي يلائمها مناخ لبنان وتنمو فيه هي الأزدرخت الذي ينمو بسرعة ويبقى خشبه صالحا مدة طويلة. وهنالك نوع منه تنمو أغصانه المورقة بشكل مظلة، فيوافق الطرق والممرات ظله الوارف؛ فتصبح كأنها أسرة.
ومن أشجار لبنان الجوز الذي أجهل بالفرنسية اسمه، وهو ذو صمغ طيب الرائحة، وقد سبق لي أن قلت إنهم كانوا يستعملونه ليدوخوا الأسماك في الأنهار والغدران عند محاولاتهم اصطيادها.
لست أعتقد أن توت هذه البلاد هو من نوع خاص؛ لأنه لا يعلو عن الأرض أكثر من ثلاثة أمتار أو أربعة. إنه ولا شك أكثر أشجار هذه الناحية أهمية ونفعا. وبقطع النظر عن فائدته الأولية في تربية دودة الحرير، فقضبانه التي تقطع في الربيع - بقدر ما تدعو الحاجة إلى ورقه لعلف دود القز - تستخدم للوقود، كما أن قشور هذه القضبان تقوم في علم الاقتصاد عند الفلاحين مقام قشور الخيزران في الأشياء التي تحتاج إلى ربط. إن أوراق الدفعة الثانية من ورق التوت - وهي تنمو في الصيف - تطعم للمواشي. أما الخشب فقد سبق لي أن قلت إن النجارين يفضلونه على سواه من الخشب في أعمالهم.
وأقول أخيرا إنهم ينتفعون بكل ما ينتجه التوت حتى بفضلات الأوراق التي استعملت في تربية دود الحرير، كما أن براز هذه الدودة يستعمل علفا للبقر، وكثيرا ما تستلذه.
إن الفوائد العديدة التي تجنى من شجرة التوت تدعو الفلاح إلى التضحية بجميع الأشجار الأخرى بدون شفقة؛ فإذا ما نبتت قربها شجرة - كما سبق لي أن قلت - تقتلع حالا خوفا من أن تشاطر من هي أفضل منها عصارة التربة المغذية. وكلما بدا لناظر الفلاح اليقظ مكان ملائم لغرس التوت، يقتلع كل ما فيه من شجر ليغرس مكانه التوتة قرة عينه؛ وحينذاك تسمد التربة باعتناء وتحرث مرات في السنة. وبقدر ما تولى هذه الشجرة من عناية يزداد الفلاح يسرا؛ لأن غلة هذه الشجرة تزداد بازدياد العناية بها.
وعندما يرون أن الشيخوخة قد دبت إلى شجرة التوت (وهذا يكون في الثلاثين من عمرها إذا لم يعتن بها) يقتلعونها بلا شفقة، لينصبوا مكانها شجيرة من العائلة نفسها؛ فالعناية الحسنة والتدبير الأكثر ملاءمة لطبيعة هذه الشجرة يجعلانها أكثر خصبا، وأوفر غلة، وأطول عمرا.
وإذا تفقص بزر الحرير قبل نمو ورق التوت - وهذا ما يحدث في فصول الشتاء غير الباردة - فإنهم يغذونه بأوراق الخبازي إلى أن يؤتي شجر التوت أكله.
وموسم الحرير في القرى الساحلية يسبق موسم الجرود زهاء شهرين؛ فينتهي في الساحل في أواخر أيار، وفي الجرود في أواخر تموز.
إن النمر، والسنور المبرقش، والضبع، والذئب، وابن آوى،
5
والثعلب، والغزال، والدب، والعنز البري، والخنزير البري، والغرير، وكثير من الظرابين الضخمة؛ هي الحيوانات التي تشاهد في لبنان. فالغرير يرمي بنفسه من أعالي الصخرة إن لم يجد غير هذه الطريقة للنجاة من مغتاله. ومن الصعب جدا اصطياد هذا الحيوان اليقظ، وقد صورت واحدا منه أتوني به ميتا.
إن صنوبر لبنان ينتج خشبا يصلح لبناء المراكب البحرية، وهو يستعمل جسورا لسقوف البيوت يستغنى بها عن القناطر الحجرية. وعندما يعمر الصنوبر يصبح خشبه كثير الصمغ ويعيش إذ ذاك مدة طويلة.
وهناك نوع من النمل في الجبل يؤلم لسعه ويحدث انتفاخا في البشرة.
إن الجبل يزخر بالخمور، وعلى الأخص في الوادي الذي يجري في أسفله نهر الكلب، وعلى الرابية المقابلة لمدينة بيروت. إن خمرة لبنان بيضاء صفراء بوجه عام؛ ومن هنا جاءها الاسم الذهبي، ولكن الخمرة الحمراء معروفة أكثر من تلك، ولا سيما بعد أن عرفت بيروت المؤسسات الأوروبية وأصبحت هذه الإسكلة يرتادها الأجانب. إن المولع بعمل الخمور يمكنه أن يكتشف خمورا فاخرة في لبنان شرط أن لا يؤمن بشهرة بعض القرى والمزارع؛ فهذه المحاصيل تختلف أجناسها في القرية الواحدة، حتى إنك لا تجد تجانسا بينها خلال سنوات كثيرة. ولقد اختبرت ذلك بعد أن ذقت في كل موسم قسما من خمرة صليما الفاخرة. وفي كل عام كنت أحصل على صنف يختلف في اللون والطعم عما تقدمه في الأعوام السابقة؛ فعلى المولع بأصناف الخمرة أن يتذوق عددا كبيرا من الخوابي، ثم ينتقي الجيدة منها.
لا تكثر الطرائد في لبنان، وهذه القلة ناتجة عن الطريقة المبيدة التي يتصيدون بها. إن الأمير بشيرا تعود أن يقوم كل سنة برحلة أو رحلتين في الناحية بين دير القمر وصيدا، وكل مرة كان يصطاد ببزاته من ثمانماية إلى تسعماية حجل. وقد اقتفى أثره الأمراء الآخرون باتباعهم هذه الطريقة في صيد هذه الطيور. أما طريقة الصيد الأكثر تداولا من غيرها في الجبال، فهي تعويد الحجال طلب غذائها من محلات معينة، ثم مفاجأتها في تلك الأماكن، بعد التثبت من مثابرتها على الذهاب إليها.
إنهم يغدون إليها مبكرين ويكمنون لها في الدواميس (الستارة) التي هيئوها لهذا الغرض، ثم ينتظرون الفرصة المؤاتية ليطلقوا نار بندقيتهم. وكثيرا ما يصرعون بطلق واحد من العشرة إلى الخمسة عشر حجلا عتيقا أو فروجا. والصيادون الذين لا يمكنهم أن يبنوا دواميس أو يقبعوا فيها لقلة جلدهم، يستخدمون رقعة كرقاع الشطرنج ذات لون أبيض وأسود تعرض لنظر الحجال بنصبها على قضيب كالراية، فيجتذبونها بها ويطلقون النار عليها من خلال ثقب يعدونه لإخراج فم بندقيتهم منه. وقد أكدوا لي أن هذه الرقعة تمثل للحجال جلد النمر الهندي الذي يجذبها رقطه.
أرسلت إلى المرحوم السيد دي ميريل النباتات المهمة التي لممتها من جبال لبنان، وقد شاء السيد دي ميريل أن يعرفني بأسمائها. ومن النباتات التي أبيدت حتى أصبحت كأنها مجهولة توجد نبتة اسمها الريباس
Ribès
الذي يظن أنه نوع من الرواند. حاولت الحصول على هذه النبتة لأبعث بها إلى الذين رغبوا في إدخالها إلى فرنسا فلم أوفق إلى ذلك! إنها موجودة في ضواحي بعلبك، وإني لم أرها إلا في شهر أيار بزحلة حيث تجلب لتباع كأنها ثمرة، إن أصولها الفتية تكون في البدء كثيرة الحموضة، غير أنها تحلو متى نضجت. أما نفعها فهو أنهم يصنعون منها دواء يفني الديدان، ويمكن القول إن الاعتقاد السائد في فرنسا الزاعم أن هذه النبتة تزرع في حلب لهو اعتقاد خاطئ؛ لأني لم أجدها هناك، وقد أكد لي أهلوها أنهم لا يعرفونها.
تزخر جبال لبنان بالنباتات العطرية. والعرعر ليس بقليل الوجود في جهة صليما.
وهنالك شيء جدير بالملاحظة، وهو أننا نجد في أعالي لبنان شجرة ذات قشور، ذكية الرائحة، تدعى الشجرة العطرة، وهي شجرة اللبنى التي يمكن أن يكون قد اشتق منها اسم لبنان، لا من تعممه بالثلج
6
لأن الثلوج على عهد الإسرائيليين كانت تتساقط أقل مما تتساقط اليوم؛ فالآثار الباقية تؤكد أن قمم صنين وجبل الكنيسة كانت مأهولة في زمن يسبق الزمن الذي ابتدأ يميل فيه فلكنا إلى البرودة.
الهواء - بوجه عام - جيد في لبنان، وعلى الأخص في الأماكن المرتفعة التي يؤمها الناس في أثناء الصيف. إن سكان كثير من القرى الساحلية أو التي تقع على الشاطئ، ينتقلون في فصل الصيف إلى سفوح الجبال العالية. والمكان الوحيد ذو المناخ السيئ في هذه البقعة من سوريا هو ما وراء نهر بيروت المتفرد بحمياته.
7
إن أهالي هذه المحلة يموتون بمرض الاستسقاء والكظام، وقد أكدوا لي أن الذين يعرفون آباءهم من أهالي تلك المنطقة قليلون جدا، أما الجد فلا يعرفه أحد منهم.
الدم نقي جدا في الجبل، وقلما تنتشر فيه الأمراض السارية. والذين تظهر عليهم أمراض البرص - وهذا نادر جدا - يذهبون إلى دمشق ليتنعموا بفوائد مياه هذه المدينة، إما بالشرب منها، أو بالاستحمام بها. إنها تخفف وطأة الألم حين بلوغه الحد الأعلى، وتشفي منه إلى الأبد إذا عولج بها المريض حالا. ولكن يجب أن يعاود المريض استعمال الدواء، وإلا فلا تلبث أعراض المرض أن تفشو ثانية؛ ولذلك نرى البرص يقيمون في المدينة ويعيشون من الصدقات.
إن مادة التلقيح أدخلت إلى سوريا منذ سنوات طويلة، والفضل في هذا يعود إلى المرحوم السيد بيير لورالا. ونظرا للحظوة التي لاقاها هذا السيد عند الأمير بشير والمساعدة الناتجة عن صداقته لمواطنه المرحوم المطران غندولفي - نائب الكرسي الرسولي - استطاع الحصول على الامتياز المطلق في إجراء عملية التلقيح، كي لا يتعرض الأهلون لسوء نية من أتوا يتمرنون بهم وهم ليسوا من ذوي القدرة والاختبار، ولا يعيرون عملهم اهتماما وعناية كافيين.
والسيد لورالا خدمه حسن الحظ فاكتشف - في أثناء إقامته الطويلة في الجبل، حيث مارس الطب مهنته الأولى - بقرة ظهرت عليها بثور ذات سائل كاللقاح، فقدم حينذاك تقريرا إلى أكاديمية الطب في إيطاليا، فما لبثت أن أعلنت اكتشافه.
8
وإذا أثبت بعض المعلومات عن الطاعون فما أظنها تكون في غير محلها، ولا سيما أنها تفيد لتقرير قضية اختلفت فيها آراء الأطباء؛ قال بعضهم إن هذا الوباء ينتج عن تأثير الهواء ويخضع للفصول أو شدة الحرارة أو البرد، وذهب فريق إلى غير ذلك.
إن الطاعون يجيء في أغلب الأحيان من مصر إلى سوريا،
9
وقد يأتي أحيانا من إستانبول خلال سنتين أو ثلاث، مارا بالمدن التي تفصل هذه المنطقة عن العاصمة.
وعندما تظهر عوارضه في مكان ما يجب التأكد من أنها ستظهر هنا في العام المقبل. إن ذلك ناتج عن الألبسة التي تحفظ بعد أن تكون قد كمنت فيها الجراثيم المعدية؛ فالأتراك لا يسلمون بأن الطاعون ينتقل عن طريق اللمس.
10
لاحظت فيما مضى أنهم لم يكونوا يحتاطون للأمر لدى وصول الرسائل، لا بل جميع الأشياء التي تلتقط بسهولة هذا الداء عندما يكون متفشيا في القسطنطينية؛ لأنهم لم يكونوا يخشون قط أن يصابوا به مباشرة.
أما في المدن الكبرى فأسباب العدوى أكثر انتشارا؛ لأن مخلفات الأجانب تسلم إلى وكيل من قبل السلطة كما هي، فيكون مضطرا إلى أن ينتظر مداعاة الورثة أو الأجل المعين في القانون.
ومع ذلك فحالات عودة الداء أكثر من سنتين متواليتين عند توافر هذه الأسباب، هي قليلة جدا. وقد كان بوسعنا الاستنتاج أن خطورته تتضاءل متى طال عليه الزمن لو لم نلاحظ أن الإصابة الثانية كانت تقريبا دائما أشد من الأولى.
ومكروبات الطاعون - إذا ما ظهر هذا الداء في السنة الثانية والثالثة - تكون، ولا شك، قد حفظت في بلدة إسلامية أو درزية؛ فالتدابير التي اتخذت في لبنان المسيحي كانت كافية حتى الآن لتطهير الأمكنة التي تسربت إليها العدوى.
يأتي الطاعون عادة من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب (عدا الحالة التي يأتي بها من مصر)، وهذا ما يجعل بيروت لا تخشى إلا طاعون دمشق.
والذين لاحظوا أن الطاعون يصل إلى الشاطئ عن طريق بعض الأماكن خاصة، قد ظنوا أن الطبيعة الجوية لها بعض التأثير في انتشاره.
وعندما كان ينتشر الطاعون في سوريا كانت الرياح الغربية والجنوبية تضاعف شدته، فيزداد عدد الوفيات زيادة محسوسة.
تخف وطأة الطاعون في أوقات معينة، وهي ذات صلة وثيقة باتساع الأمكنة أو مناخها المألوف. إنه ينقطع عن بيروت خلال شهر تموز، ومع ذلك فإن إصابة واحدة قد وقعت في 16 آب. أما في الأماكن المرتفعة فيستمر الطاعون حتى تشرين الثاني، لا بل إلى ما بعد هذا الشهر، إذا كان فصل الخريف معتدلا؛ وهكذا استقر نحو سنة كاملة في لبنان عام 1826 بعد أن تنقل بين جميع مناخات هذا الجبل.
وعام 1817 كان الطاعون متفشيا في الجزائر بعد أن انقطع عن زيارتها حوالي خمس عشرة سنة، فخرب ودمر طوال ستة عشر شهرا، على الرغم من أنه لا يثبت عادة أمام حرارة الشمس القوية، أما في هذه السنة فقد شعروا - عند اقتراب هذا الفصل - بنقص ملموس في الوفيات.
قالوا: لا العمر ولا الجنس ولا البنية تقي من الطاعون. ولكن ألم يلاحظوا في أحوال متعددة أن ضحايا هذا الداء هي في شعب ما
11
أو جنس ما أكثر منها في شعب آخر؟ أو أنه فتك - على الأخص - بالأشخاص الذين هم في سن واحدة؟ إنه ليمكننا القول بكلمة أكثر وضوحا أنه كان يبدأ دائما بالأطفال.
ولوحظ أيضا أن الطاعون كان يصيب بعض طبقات من الناس دون غيرها، وأن الأجانب هم الذين كانوا يصابون بادئ ذي بدء، ومثل هذه الحالات تلاحظ في المدن الكبرى.
ففي بحر سنة واحدة (وأظنها سنة 1813) مات بهذا الداء في أزمير جميع الحمالين تقريبا.
إن الطاعون مؤذ وحليم؛ فتارة يودي بحياة عيال كاملة، ويعدي عند أقل احتكاك، وطورا يقتصر على شخص واحد من أهل البيت الذي دخله، على الرغم من أن الأشخاص الباقين لم يلجئوا إلى أية وقاية.
ويؤكدون أن المصابين بالطاعون يخافون بعض الثمار وعلى الأخص الخيار. إلا أن أنفسهم تشتهي البرتقال والحامض لأن الأحماض توافقهم.
إن أبناء البلاد يضعون على بثورهم لزقات تكون إما من العنب المجفف الأسود ودهن من ألية الخروف، وإما من الخبازى والحليب ولب الخبز والزعفران، وإما من البزاق الأصفر؛ فالدمامل تشفى وتتلاشى في بعض الأحيان بعد استعمال هذه الأدوية. أما العرق الذي ينضح بغزارة فهو علامة طيبة تدل على نجاة المريض، وإذا لم يعقب فتح الدمامل العرق فإنهم يلجئون إلى بضعها فتشد ليسيل قيحها بطريقة الفتائل والمراهم العادية.
إن الجبليين معرضون دائما لحبة يدعونها حبة الكي، وهي لا تشفى إلا بحرقها. أما أعراضها فهي الصعوبة في البلع، ورائحة اللهاث الكريهة، والبثور في الفم، وفي بعض الأحيان البثور في الأمعاء. إن كيا بسيطا في مقدمة الرأس يشفي منها تماما.
إننا نجد عددا ضخما من الثمار المتحجرة في الجبل، وعلى الأخص من هذه الثمار التي تسميها كتب الطب القديمة لابيدس جيدو
Lapides Judœ ، وبعضها يرسل إلى دمشق، ويزعمون أنها ترسل من هنالك إلى الصين حيث تستعمل في صناعة الأواني. إني أنقل هذا الخبر دون أن أؤكد صحته. وبين طبقات الأرض نجد مستحاثات الأسماك. لقد ولجت هذه الأسماك الطبقات الفخارية فكانت لها غلافا، ويرجع عهد ذلك - بلا شك - إلى الطوفان الكبير.
شاهدت عدة مرات متحجرات منها في جرود لبنان.
إن رسوم الأسماك المتحجرة موجودة في جهة جبيل،
12
ونشاهد صخورا من الصدف عند ذهابنا من عينطورا وبكركي، في الحقول المجاورة لهذا الدير، قرب جعيتا، وبين عين عنوب وعبيه، وفي أماكن أخرى. لقد لممت الكثير منها في عين الباردة.
هوامش
ملحق
البحر الأحمر وبحر الهند
مصالح إفرنسية وأوروبية. طريق الهند. سيطرة. مصالح تنافي والمصالح الإنكليزية. فرنسا، روسيا، النمسا، إنكلترا، مؤسسات عسكرية وتجارية، بواخر بين السويس وبوربون، فحم حجري، أسباب المعيشة، مؤن، خط وطني أو إفرنسي، مواقف ، مدغشقر، شاطئ الحبشة، خط تجاري عسكري بين مرسيليا وبوربون ، تجارة عامة، جزيرة بلاد العرب، الحبشة، شاطئ إفريقيا الجنوبي الشرقي، موقف عدن، أخطار، خلاصة. (نبذة من مذكرة رفعت إلى مجلس الوزراء سنة 1842). ***
الهدف الرئيس للسياسة الإنكليزية في سوريا ومصر هو أن تشق لنفسها طرقا إلى الهند، وأن تستأثر هناك على قدر ما تستطيع بأعمالها التجارية؛ فطريق الهند - في البحر الأحمر - هي الطريق المنشودة. وعلى هذا المسرح الجديد تمثل العبقرية الأوروبية أدوار مصالحها المختلفة؛ فعلى فرنسا وأوروبا جمعاء أن تضع حدا لتوسع إنكلترا.
أفضى السيد أوبير-روش، عام 1842، ببيان إلى مجلس الوزراء يدور حول هذه القضايا، وهذا البيان حافل بالآراء البارعة الطريفة. وها نحن ننقل خلاصته المنشورة في مجموعة خصصت لبحث قضايا الشرق، لعل في نقلها تنويرا لأذهان قرائنا. (1) مصالح فرنسية وأوروبية في البحر الأحمر وفي خليج باب المندب
حلت المشكلة مبدئيا بإعادة البحر الأحمر إلى ما كان عليه؛ بحيث يصبح منفذ أعمال تجارة الهند، والصين، وأوقيانيا، وجنوبي شرقي أفريقيا.
إن محاولة إثبات هذه القضية بحث عقيم، فيكفي أن نلقي نظرة على خريطة ما لندرك أن هذه الطريق هي أقصر الطرقات وأكثرها ملاءمة لتوجه - إلى نقطة ما من البحر المتوسط - منتوجات الهند وأوقيانيا؛ فالخط الذي تتبعه السفن الإنكليزية بين بومباي والسويس يقيم لنا كل شهر هذا الدليل. لقد قاموا بتجربة تجارية محاولين تصدير بضائع الهند عن طريق مصر وإرسالها من هناك إلى تريستا عوضا عن إنكلترا، آملين أن لا يثيروا أي اهتمام حول هذه القضية.
إن تحويل تجارة الهند بأجمعها عن طريق البحر الأحمر لا يكون إلا إذا حفرت ترعة السويس، وبناء على أمر نابليون (الأول) الذي كانت عبقريته تحل أصعب القضايا، رسم المهندس لابار خريطة للقيام بهذا المشروع العظيم. إن أعمال الحفر هينة بسيطة، وهي لا تكلف إلا بضعة ملايين. أما الذين يزعمون غير ذلك فهم إما جبناء، وإما غير عارفين بهذه الشئون.
إن حفر ترعة السويس هو أخطر عمل يقلق بال أوروبا. والإنكليز يعرفون تلك الخطورة ويحتاطون للأمر أشد الاحتياط ؛ إنهم يوطدون أساسات قوتهم المستقبلة بتمركزهم في عدن، وبتوسيع سيطرتهم في زيلاء وبربرة. أما في خليج باب المندب فقد أصبحوا على أبواب البحر الأحمر، وهذا أمر واقع لا محالة.
فإذا تركوا يتصرفون كما يشاءون، فسيستولون على الممر، ويغمرون - وحدهم - عن طريق مصر أسواق أوروبا وآسيا بالبضائع. إن مطامع إنكلترا في البحر الأحمر كانت عظيمة كما يظهر في المسلك الذي اتبعته أخيرا من قضايا الشرق.
وللقوى الأوروبية - وعلى الأخص القوى التي تحيط بحوض الأبيض المتوسط - مصلحة كبرى في أن لا تستولي إنكلترا أو تستفيد - وحدها - من مركز هام كهذا. إن مرافئ مرسيليا وجنوى وليفورنو وتريستا تصبح ذات علاقة مباشرة مع الهند، وعلى الأخص إذا ما حفرت الترعة. وقد تكون روسيا أكثر اهتماما من غيرها بالقضية؛ إذ تصبح من قوى الدول الأوروبية الأكثر قربا إلى الهند عن طريق البحر الأحمر. إن أوديسا تبعد 400 فرسخ عن الإسكندرية، في حين أن مرسيليا تبعد 600 فرسخ. أما هولندا فتود هي الأخرى أن ترى دول أوروبا متمركزة على هذه الطريق، فتخلق مصالح تتنافى ومصالح إنكلترا التي ستبتلع مستعمرات هولندا عاجلا أو آجلا.
فعلى الدول الأوروبية إذن - مهما كلفها الأمر - أن تحبط مشاريع إنكلترا، وتحول دون استئثارها بالسيادة على البحر الأحمر؛ فمن الضروري أن تكون جميع الدول متساوية النفوذ في هذه المنطقة. وهنالك أمر أهم من ذلك، وهو أنه في استطاعة فرنسا وروسيا والنمسا - لو عرفت هذه الدول كيف تتفاهم - أن تلاشي نفوذ إنكلترا دون أن تتمكن هذه الدولة من المقاومة.
إن العرب والأحباش الذين يقيمون حول البحر الأحمر يكرهون الإنكليز؛ فعلينا أن نستفيد من الفرصة المؤاتية بأن نعرف كيف نربط مصالح هذه الشعوب القريبة من الشاطئ بمصالحنا، ونستخدم مصالحهم ونعاضدهم بنوع أن نكتسبهم قلبا وقالبا.
ومن يصبح سيد القسم الأعلى من البحر الأحمر يكون سيد المنفذ في وقت السلم، كما أنه يسد البحر في وجه كل قوة أثناء الحرب.
إن تمركز الإنكليز في عدن يمكنهم - ولا شك - من خلق العراقيل في وجه السفن لدى خروجها من بوغاز باب المندب. أما سفن الأعداء فلن تستطيع أبدا أن تدخل خليج العرب. وإن كل محاولة هجومية تصبح مستحيلة ماديا، ويكفي أن نتذكر البرتوغاليين الذين حاولوا عدة مرات أن يبيدوا بقواهم البحرية القوى العربية في هذا البحر حتى تجرءوا على الانزلاج فيه بسفن عديدة. ولكن الإخفاق كان حليفهم رغم قواهم التي كان العرب يقاومونها بزوارق حقيرة لا يمكنها أن تصمد. إن البحر والمناخ المجهولين من البرتوغاليين، لا بل الشواطئ أيضا، قد عضدت العرب وقاومت في صفهم.
كان يجب علي - بادئ ذي بدء - لو كنت أقوم بتصنيف كتاب أن أعرض بإسهاب مصالح دول أوروبا الحاضرة والمقبلة في الهند والصين وأوقيانيا والجهة الجنوبية من أفريقيا وجزرها، وأبين بالتفصيل أن مصالح هذه البلدان هي ذات علاقة وثيقة بمصالح أوروبا. ولكن هذا البيان الذي أتقدم به لا يتسع لذلك، ناهيك بأن كل شخص يعرفها أو أنه يجب أن يعرفها لأن الكثيرين قد أفاضوا في الكلام عليها. إننا نعلم جميعنا - اليوم - ارتباط بعض نقاط هذه القضية ببعضها الآخر؛ فإلى الكتب الخاصة أحيل من تهمهم معرفتها.
لا تنقصنا معرفة العلاقات الجديدة التي ستقوم في البحر الأحمر، ولا يفوتنا إدراك تغيير ما كان موجودا، ولسنا نجهل تبدل وجه الأمور في العالم، بل الذي ينقصنا هو أن نعرف كيف نعمل، ونتهيأ لنستفيد من هذا الانقلاب الذي لن يكون عن طريق باتافيا وبومباي وكلكتا وبونديشيري وبوربون ومدغشقر، بل عن البحر الأحمر ومصر. لقد درست قضية المرور عن طريق العريش ومصر؛ فهذه قضية مستطاع حلها لأنها لا تستدعي إلا إرادة، ولأن في الاستطاعة مهاجمة مصر من البحر المتوسط؛ ففرنسا وروسيا واقفتان على أبوابها، وإذا لم يكن للنمسا من أهداف سياسية في هذه البلاد توازي أهداف هاتين الدولتين قيمة وأهمية، فلهذه الدولة مصالحها التجارية التي ستصبح هامة نظرا لهذا الممر والعلاقات الجديدة التي ستنشأ وتنمو.
إن المصالح الأوروبية هي هي، سواء أكان ذلك في مصر أم في البحر الأحمر؛ فالإنكليز يعملون دائما وأبدا ليسيطروا ويوطدوا نفوذهم. بيد أن أخاديعهم أصبحت مفضوحة، وسيدا مصر اليوم - محمد علي، وإبراهيم باشا، خلفه المقرر - يفهمان جيدا طوية الإنكليز، وهما يمقتانهم رغم ملاطفتهما إياهم. إنهم يصيخون إلى النداء ويقدمون يد المساعدة لكل طلب أو محاولة أو مشروع من شأنه أن يناهض نفوذ هؤلاء، فما يهم مصر أصبح مفهوما: يجب أن تكون مصالح أوروبا في هذه البلاد أمتن من مصالح إنكلترا وحدها وأقوى.
إن قضية البحر الأحمر هي - إذن - ذات شقين مستقلين: مصر أولا، ثم - وهذا قد رأيناه سابقا - القسم الأعلى من البحر الأحمر وخليج باب المندب الذي استولت على شواطئه قبائل مختلفة متفككة يسهل المكر بها، وهي على الغالب تفهم مصالحها على أسوأ ما يكون الفهم. إن هذه الناحية مجهولة إلا من الإنكليز، وقد درسوها باهتمام. إنهم يعرفون تماما بأن نصف القضية أو - على الأصح - كلها هي ها هنا، فمن سواكن إلى رأس كاردافوي من جهة، ومن جدة إلى دفر حدود حضرموت من جهة أخرى، ينتظر مستقبل باهر، سياسي وتجاري؛ فالدولة التي تعرف كيف تنشئ مؤسساتها على هذه الشواطئ أو تقيم علاقات حسنة لا يستطيع أي حادث أن يزعزها.
أوهل يجب أن نقدم لإنكلترا برهانا آخر مستشهدين مجددا باحتلال عدن؟
إن دولة منافسة عينت وجهة سيرها وتحفزها؛ فعلى فرنسا أن تستقر إذن في البحر الأحمر وخليج باب المندب. وللدول الأوروبية هناك مصالح مماثلة لمصالحنا؛ فعليها أن تعمل جميعا إما متحدة وإما منفردة الواحدة عن الأخرى. إن مصالح هذه الدول مشتركة متشابكة إلى أبعد مدى، فإحداها تدعم الأخرى. وإذا ما تقرر العمل فالدول تتعاضد، وكل منهما يعمل من جهته: فرنسا في مدغشقر وبوربون والهند، والنمسا وروسيا تنشآن مراكز تجارية وغيرها، وهولندا تصبح ذات علاقة مباشرة مع جاوى وسومطرة والهند، وكذلك الإسبان؛ فإنه باستطاعتهم أن يستوردوا عن طريق البحر الأحمر منتوجات مانيلا؛ فبواسطة هذا المنفذ تأتي كل دولة بمنتوجات مستعمراتها وتصرفها عن طريق البحر المتوسط، وتقايض بها، وتزاحم منتوجات الهند الإنكليزية على أوسع نقاط تجارة العالم. (2) المؤسسات بوجه عام
قلت إن القضية تنحصر في إنشاء مؤسسات تمتد من سواكن حتى رأس كاردافوي على شاطئ أفريقيا، ومن جدة إلى دفر على شاطئ جزيرة بلاد العرب حتى حدود حضرموت.
وهذا العرض البسيط يدل على أن السويس والقصير
Cosseir
منعزلان إن هذين المرفأين هما لمصر، وسوف لن يكونا أبدا إلا مرافئ استيداع وتصريف البضائع، وسيبقيان بحق لأصحاب تلك البلاد، فما علينا سوى إنشاء دور القنصليات وتعيين موظفين تجاريين يشرفون على البضائع التي تنقل من الهند إلى أوروبا ومن أوروبا إلى الهند، ثم نقف بالمرصاد منتظرين الحدث الأهم.
إن معرفة مقدرتنا على إنشاء مؤسسات على شاطئ أفريقيا أو جزيرة بلاد العرب هي ما يجب علينا بحثه، وإني أرى هذه القضية أقل تعقيدا مما يظنون.
ليست القضية قضية إنشاء مؤسسات على شاطئ الجزيرة، ولكنها قضية إنشاء علاقات طيبة ومتينة فحسب، وهاكم الدليل: إن كل مؤسسة تنشأ على هذا الشاطئ تسيء في الوقت نفسه إلى الأمة التي تديرها، والبرهان على ذلك عدن التي احتلها الإنكليز فكانت سبب الكراهية والحقد اللذين يكنهما العرب لهم؛ فهؤلاء الناس الذين يتعشقون الحرية إلى أبعد مدى - وهم في الوقت نفسه متعصبون لدينهم، وتياهون معتدون بأنفسهم، ينقلبون عليكم إذا ما شعروا أنكم تهددون استقلالهم ودينهم وتجرحون عزتهم الوطنية. إن التفكير بإخضاعهم عملية خطرة جدا، وليحاول الإنكليز ذلك إذا شاءوا.
إني أرى غير التفكير بإخضاعهم؛ أرى أن يسعى سعيا حثيثا للتحالف معهم.
إن احتلال إنكلترا لعدن هو خطأ بالنظر للعلاقات التي يجب أن تقام مع داخل الجزيرة. لقد ظنت هذه الدولة أن القضية تتعلق بهنودها فأخطأت ولم تصب المرمى؛ فلنستفد نحن من خطئها؛ فالطريق إلى أن نكون أكثر منهم نفوذا ممهدة لنا اليوم. أما فيما يتعلق بمشكلة المرور والمركز فما من شك في أن احتلال عدن هو من أهم القضايا الخطيرة. إن عدن لهي جبل طارق البحر الأحمر؛ فيجب - قبل كل شيء - أن نتخلى عن فكرة إنشاء أي نوع من المؤسسات على شاطئ الجزيرة. وحسبنا الآن تعيين موظفين وقناصل في جدة، والحديدة، ومخا، والداخل إن أمكن، ليوطدوا مصالحنا وعلاقاتنا هناك.
ومنذ اليوم الذي يلاحظ فيه العرب بأنكم لا تتطلبون منهم شيئا، بل يرون - على نقيض ذلك - أنكم ترغبون في ربط مصالحكم بمصالحهم، فسيكونون إلى جانبكم ضد إنكلترا التي يخافونها.
أما قضايا شاطئ أفريقيا فتختلف عن ذلك كل الاختلاف. صحيح أن هذه الشواطئ مأهولة بقبائل إسلامية، إلا أن هذه القبائل ضعيفة مفككة عرى الاتحاد؛ فالقسم الداخلي من بلاد الحبشة يضم شعوبا مسيحية، وهي بأسرها تدعونا وتمد لنا يد المساعدة عندما ننزل إلى الشاطئ.
والمواقع التي يمكن احتلالها، سواء أكانت في خليج باب المندب، أم كانت عند مدخل البحر الأحمر، أم على شواطئ الحبشة، هي كثيرة جدا، يجب أن توصل جميعها ببوربون عن طريق شاطئ أفريقيا الجنوبية الشرقية ومدغشقر؛ فتؤلف سلسلة مؤسسات تجابه بها فرنسا إنكلترا، لا سيما أثناء حرب عامة. أما أيام السلم فيمكنها أن تكون لنا مصدر منافع تجارية عديدة.
يظهر أن الدولة الفرنسية قد سلمت بأهمية هذه القضية فكلفت؛ لجنة أن تدرس قضية إنشاء مراكب تجارية تمخر بين السويس وبوربون. إنه لمن المحتمل جدا - لسوء الحظ - أن تقوم هذه اللجنة بما قامت به شبيهاتها، فتدفن المشروع. ولكن مهما يكن من أمر فإن مستعمرتنا بوربون، ومصالحنا في مدغشقر والهند، وأخيرا مصالحنا التي قد تنشأ على شاطئ أفريقيا؛ تستدعي هذا التنظيم. (3) بواخر بين السويس وبوربون
إن بين بوربون والسويس - إذا ما سرنا خطا مستقيما أو شبه مستقيم - مسافة تراوح بين 1650 و1750 فرسخا. وطريق كهذه لا يمكن أن تكون شوطا واحدا، ما لم نقم ببناء بواخر كالبواخر المعدة للإبحار إلى ما وراء المحيط. وإذا اتبعنا هذا النهج في علاقاتنا مع أميركا فلاستحالة وجود المواقف. أما من بوربون إلى السويس فإننا نجد أماكن نرسو فيها حيث نشاء؛ لأن نظرنا يقع دائما على شواطئ وجزر. إن تنظيم هذه الشبكة من البواخر ونجاحها - وهما ممكنان إذا شئنا - يرتكزان أولا: على اتجاه الخط، ثانيا على المئونة (فحم الحطب، خشب البناء، المعيشة)، ثالثا على مركز الموانئ. (4) الاتجاه الأول والخطوط الممكنة
الاتجاه الأول: الخط الإنكليزي.
430 فرسخا من بوربون إلى سيشيل، ربطه بجزيرة فرنسا
625 فرسخا من سيشيل إلى عدن، ربطه بسوكوتورا عند الضرورة
585 فرسخا من عدن إلى السويس، ربطه بمخا وجدة
1640 فرسخا، موقفان
الاتجاه الثاني: الخط العربي.
660 فرسخا من بوربون إلى شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي، ربطه بجزيرة فرنسا ومدغشقر
520 فرسخا من شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي حتى مخا، ربطه بعدن وبربرة
515 فرسخا من مخا إلى السويس، ربطه بجدة
1695 فرسخا موقفان
الاتجاه الثالث: الخط الإنكليزي العربي.
430 فرسخا من بوربون إلى سيشيل، ربطه بجزيرة فرنسا
310 فراسخ من سيشيل إلى شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي
450 فرسخا من شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي إلى عدن
585 فرسخا من عدن إلى السويس، ربطه بمخا وجدة
1775 فرسخا، ثلاثة مواقف
وهناك أيضا اتجاه آخر، عربي إنكليزي، ينقص عنه مسافة 80 فرسخا، وهو ذو موقفين: الأول من بوربون إلى شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي. الثاني من هذا الأخير إلى عدن، ومن عدن إلى السويس.
الاتجاه الرابع: الخط الفرنسي.
280 فرسخا من بوربون إلى القديسة مريم ومدغشقر، *
ربطه بجزيرة فرنسا.
280
360 فرسخا من مدغشقر إلى شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي
360
320 فرسخا من الشاطئ الجنوبي الشرقي حتى رأس كاردافوي
220
330 فرسخا من الرأس حتى شاطئ الحبشة نحو ماسونا، ربطه ببربرة ومضيق باب المندب.
340
405 فرسخا من شاطئ الحبشة نحو ماسونا - السويس
430
1695 فرسخا أربعة مواقف - الفرق بين المراسي
1730 *
إنني لا أسمي نقاط المواقف بأسمائها، بل حاولت جهدي أن أتكلم عنها بصورة عامة، لأن ذكرها قولا يضر بمصالحنا، فكيف بنا إذا دوناه في كتاب.
وهذه الاتجاهات الأربعة هي الوحيدة الممكنة، إنها الفرصة المؤاتية، بل الساعة التي يجب علينا فيها درس قيمة كل منها على انفراد، ولما كانت هذه الخطوط ترتبط كل الارتباط بالمواقف فسندرسها معا. (5) الذخائر: الفحم، الخشب، أسباب المعيشة (5-1) الفحم الحجري
نحن بين أمرين: إما أن نستورد الفحم الحجري من الهند وأوروبا، أو أن نوجده في هذه الأمكنة نفسها؛ أي أن نستخرجه من مدغشقر وأفريقيا وجزيرة بلاد العرب حيث يجب أن تقام هذه المواقف.
إن طرفي هذا الخط خاليان من هذا الفحم؛ فبوربون ومصر يفتقران إليه، بينا هو موجود في مدغشقر والحبشة، وأهل تلك البلاد يعرفونه. أما جزيرة بلاد العرب فلم يعرف شيء عن الكمية التي وجدت فيها منه.
نجد في مدغشقر الفحم الحجري في مكان يبعد قليلا عن البحر، فيستطاع نقله بسهولة في نهر يصب في خليج كبير. وفي داخل الجزيرة - قرب تاناناريف - كثير من الفحم الحجري، وقد استخدمه إفرنسي في أعمال الحدادة، فإذا ما خصصنا قليلا من العمل للنهر الذي يجري قريبا من ذلك المكان، فإنه يمكننا نقل ذلك الفحم إلى البحر. إن تحقيق هذا المشروع سهل، كما يقول العارفون.
أما العارف في الحبشة، فقد عثر على الفحم الحجري عند حدود فولوكالا وكوى، قرب نهر وات الذي يبعد قليلا عن روبي سانا ويصب في هافاش، وهو موجود أيضا في تيانو عند حدود كوى، قرب هافاش. ومن الثابت اليوم أن جبال مدغشقر والحبشة تحتوي الفحم الحجري.
أما الأمر الجدير بالذكر فهو أن رحالتين قد عثرا على الفحم في الحبشة حينما كانا يجولان في أطراف أنجاد تلك البلاد. إن معرفتي لعلم طبقات الأرض قليلة، ولكن اختباري وملاحظتي التربة يؤكدان لي أنه محتمل جدا أن نجد منه قرب تارانا الواقعة على مقربة من هالاي وبوراي. وهاتان الأخيرتان تقعان على قمة رابية فسيحة، وهي الجزء المتمم لرابية كوى، إن معادن الفحم الحجري تقع إذن على مسافة غير بعيدة من البحر، وعلى الأخص من بوراي، وها إني أدون هذه المعلومات لتكون دليلا للمستقبل. أما اليوم فيجب الاهتمام بنوع خاص بفحم مدغشقر؛ فهو أول ما يجب الحصول عليه ليستعمل في الذخيرة. إن فحم كوى لا يجدي نفعا ما لم يمكن الإبحار في هافاش؛ وهذا أمر محتمل وقوعه. إن الهند تستطيع في كل حال أن تقدم من الفحم الحجري كميات كالتي تقدمها أوروبا؛ ولهذا يجب علينا أن نعلم أن القيام بمشروع بناء السفن البخارية أمر يكلف فرنسا الشيء الكثير، ولكنه أمر لا بد منه إذا كانت مصالحها في بحار أفريقيا لا تقل عنه قيمة. (5-2) الأخشاب والحديد
إن هذه المواد تستورد عادة من أوروبا والهند، ومع ذلك فهنالك عدة أمكنة على الخطوط المشار إليها يمكنها أن تقدمها لنا؛ فمدغشقر تقدم حديدا أو أخشابا لبناء البواخر. أما الأخشاب فموجودة حوالي البحر. أما الحديد ففي الداخل؛ فكيلوى والبلدان الواقعة قبالتها ذات غابات كثيرة، ومنها تقطع أخشاب البناء، كما أننا نجد أيضا غابات على الشاطئ الجنوبي الشرقي من أفريقيا وفي نهر جاب الذي تحمل مياهه السفن، وهنالك يمكن أن تبنى المراكب الضخمة.
وفي الحبشة حديد كثير، وعلى بعد خمسة عشر فرسخا من البحر - قرب هالاي - مناجم منه يحسن الأهلون استثمارها. وهذا الحديد هو من النوع الجيد، وحسبنا برهانا على قيمته القول إن حدادي البلاد - وهم عمال غير حاذقين - يلقونه بعض الأحيان ثلاثين أربعين مرة في النار حتى يستطيعوا أن يصنعوا منه الشكل الذي يرغبون فيه. (5-3) المؤن
لا يعنيني أن أتحدث عن المؤن التي تستورد من الهند أو أوروبا؛ فهذه المؤن نجد منها ما نشاء في جميع الأمكنة، في بوربون ومخا وجدة والسويس ... إلخ، ولكنني سأتكلم على المؤن التي تقدمها البلدان الواقعة على الخط الذي تتبعه البواخر.
إننا نجد في مدغشقر المؤن على اختلاف أنواعها بكثرة؛ فهي يؤتى بها إما من الشاطئ، أو من الداخل. وكذلك نقول عن شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي.
وعلى شاطئ الحبشة لا نجد من المؤن إلا اللحوم فقط. بيد أنه يمكن أن يؤتى إليه بالحبوب من الداخل وبغزارة كلية. ولقد نقلوا في منتصف القرن الماضي إلى جزيرة فرنسا حمولة اثنتي عشرة سفينة من القمح.
ليس في سيشيل وعدن ومخا فحم ولا حديد ولا خشب لبناء السفن؛ فهي تستورد كل شيء من الخارج، ما عدا بعض المؤن التي تأتي من الداخل إلى هذين المحلين الأخيرين. أما في مدغشقر وشاطئ أفريقيا والحبشة والبحر الأحمر فنقدر أن نجد كل شيء بسهولة؛ فالفحم الحجري، وخشب البناء، والحديد، والمؤن نجدها بكثرة تحت تصرفنا المطلق. (6) المواقف
ها قد وصلنا إلى أدق نقاط مشكلة البواخر التي تربط بين السويس وبوربون، وهي مفصلة المواقف. أما المراسي فيمكن تحويرها على ما تقتضيه المصالح السياسية التجارية؛ وعليه فإذا ذكرنا بوضوح المنافع التي يجب أن تتوافر في الموقف ليكون مقبولا ويسلم بإحداثه، فهذا يعني أننا عينا وجهة الخط.
ما هي هذه الشروط؟ (1)
يجب أن يكون الموقف - بناء على حق ما - ملكا لفرنسا يحيط به شعب محالف لين الجانب، تشبه مصالحه مصالحنا، ونكون ذوي تأثير فيه وسلطة عليه لنتمكن في جميع الحالات أن نتقي المتاعب التي قد يحدثها لنا. (2)
يجب أن يكون كل موقف نقطة تجارية يستطاع تحويلها إلى موقع عسكري في أثناء الحرب؛ ولهذا يجب أن يكون ذلك المركز سهل الحماية يصلح ملجأ للمراكب التجارية، وعند ذاك سيكون لكل موقف مرفأ ممتاز، وشعوب حليفة تحيط به؛ فمن هذه المواقف التي يجب أن تكون ملكا لفرنسا نستمد الفحم والخشب، ومواد الإعداد والتجهيز الأخرى، والمؤن؛ فهل نجد في مواقف هذه الخطوط الأربعة المنافع المشار إليها؟ (6-1) مواقف الاتجاه الأول: الخط الإنكليزي
إن سيشيل وعدن - المملكتين الإنكليزيتين - هما مواقف هذا الخط، فسنكون إذن تحت رحمة الإنكليز. فالفائدة الوحيدة، وهي وصول المؤن أيام السلم، فلن نحصل منها إلا على ما يوافق الإنكليز أن نحصل عليه؛ فنضطر حينئذ إلى مشترى كل شيء منهم، أو على الأقل استيداعهم كل شيء. وبعد، فإذا كانت كل منفعة تجارية أو وطنية تقوم على المخاطرات، فهذا الخط لا يسلم به، وهو يسيء إلى مصلحتنا الوطنية. (6-2) مواقف الاتجاه الثاني: الخط العربي
إذا كانت المواقف على شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي وفي مخا، فإنها تخص العرب الذين يحتملون بصعوبة وجودنا فيها، فاستقرارنا هنالك لا يكون إلا رغما عنهم؛ وعليه فلا يمكن أن يكون لنا موقف إلا على الشاطئ الجنوبي الشرقي في أفريقيا. وإذا كنا نطمح إليه فيمكن إحداثه إذا ما استندنا إلى حق ما. أما مخا فلا يجب أن نحلم بها لأننا نضطر إلى مغادرتها إما عاجلا أو آجلا. ثم إن الاستقرار على الشاطئ الجنوبي الشرقي، وفي مخا، دون التفكير بالمستقبل - ولو رضي أهلوهما - يعني خلق المشاكل الكبرى؛ فالدسائس الإنكليزية التي تدعمها المصالح المقهورة لا تتأخر أبدا عن العمل سرا.
إن الإنكليز أنفسهم لم يتمكنوا من الاستقرار في مخا، ولولا مبادرتهم إلى احتلال عدن لكانوا قطعوا عليهم - على أثر اندحار محمد علي من مخا - خط المواصلات الذي تتبعه بواخرهم بين السويس وبومباي؛ فكل مشاكلهم هناك من صنع العرب.
أما على الشاطئ الجنوبي الشرقي فيصعب عليهم أن يضروا بنا؛ لأن ليس لهم فيه مصالح محلية تعادل مصالحنا أهمية، ولأن بعض المراكز بعيدة عن تأثير سلطنة زعماء الداخل، بخلاف مخا التي هي تحت سلطة إمام صنعاء.
فالمنفعة الوحيدة التي يمكن أن يقدمها هذان الموقفان هي تجارية، وكل ما عداها مؤقت؛ فعلى الشاطئ الجنوبي الشرقي مرفأ جميل يمكننا بواسطته أن نستورد من الداخل الأخشاب والمؤن، أما مرفأ مخا فهو غير نافع من جهة ثانية لأننا لا نجد في ضواحي هذين الموقفين الفحم الحجري، وبكلمة واحدة إننا سنكون هناك تحت رحمة العرب؛ ولهذا أرى استحالة إحداث هذا الخط وعدم نفعه. (6-3) مواقف الاتجاه الثالث: الخط الإنكليزي العربي
ثلاثة مواقف في سيشيل ومثلها على الشاطئ الجنوبي الشرقي من أفريقيا وفي عدن، أو اثنان فقط في هاتين النقطتين الأخيرتين إذا كانت المسافة غير طويلة.
سوف لن نتناول هذا الخط إلا بكلمة واحدة؛ فهو شريك الخطين الأخيرين ولا يقدم أية فائدة، إلا إذا استثنينا الحالة التي ينشأ فيها موقف على الشاطئ الجنوبي الشرقي، فتقصر الطريق عند ذاك، ونستطيع الحصول على منافع تجارية، ولكننا نكون تحت رحمة العرب والإنكليز.
إننا لا نجد بين هذه الخطوط الثلاثة واحدا تجتمع فيه المنافع والشروط المدونة أعلاه، فأينما كنا لا نواجه إلا شعوبا تقاومنا ملبية داعي مذهبها. وإذا ما حاولنا كبت تعصبها تناصبنا العداء إما بدسائسها وإما بدافع مصالحها المقهورة، وأخيرا الإنكليز! إن كل شخص يفهمهم؛ فهذه المواقف - من جميع جهاتها - تكون إقامتنا فيها موقتة ومعرضة للأخطار.
وعليه فإذا شئنا أن نحدث خطا للسفن البخارية مبنيا بنيانا وطيدا على أساس المصالح الإفرنسية - سواء أكان في البحر الأحمر أو مضيق باب المندب - فيجب أن لا يكون موقفنا فيه تحت رحمة العرب أو سلطة الإنكليز، وإذا فعلنا خلاف ذلك فلا خط للبواخر ولا مستقبل.
لننتقل الآن إلى الخط الإفرنسي. (6-4) مواقف الاتجاه الرابع: الخط الفرنسي
الموقف الأول:
في خليج مدغشقر: إنه يبعد عن بوربون حوالي 245 فرسخا، وهو مكان صالح للإرساء، ويمكنه أن يتسع لجميع أساطيل العالم. حمايته سهلة، ومناخه صحي خلافا لطبيعة شواطئ أفريقيا. إن الأراضي هناك قابلة للحراثة، لا بل هي محروثة أيضا، والأنهار والسواقي تسقيها. وقرب الشاطئ نجد الفحم الحجري والأخشاب للبناء؛ ولهذا يمكننا تحويل هذا الموقف إلى مستعمرة جميلة، أما مركزه فتجاري، وسياسي، وعسكري، ويمكننا أن نستمد منه - لبوربون والمواقف الأخرى - الفحم والخشب؛ فالمؤن هناك يسهل الحصول عليها، وبكلمة وجيزة نقول إن جميع الشروط التي نطلبها متوافرة كلها. أما المشكلة الوحيدة فهي الاستيلاء عليه بصورة شرعية. إن معاهدات 1814 تمنح فرنسا جزيرة مدغشقر.
الموقف الثاني:
على الشاطئ الجنوبي الشرقي من أفريقيا، وعلى بعد 360 فرسخا من مدغشقر: هنالك نقطة ذات مرفأ جميل هادئ، وهي محور تجارة تلك الناحية من الشاطئ، لا بل محور تجارة داخل أفريقيا بكاملها؛ فالبلدان المجاورة لها زراعية وفيها جميع أنواع المؤن حتى الأخشاب؛ فالجاب - وهو النهر الكبير الذي يجري من الحبشة إلى البلدان؛ بلدان الغال وسومولي - يصب قريبا من هنالك. إن ركوب هذا النهر ممكن وتجار البلاد يقطعونه. فمما ذكرنا يبدو لنا أن مركزا كهذا يدر أرباحا ضخمة، وفوائد كبيرة اليوم وغدا.
يجب أن يكون لنا هناك مؤسسة تقام بناء على حق مشروع، وحل هذه المشكلة لا يكلفنا سوى قليل من الإرادة؛ وعند ذاك تنتفي الأضرار التي سبق ذكرها لأن مصالح الأهلين تصبح مصالحنا ونمتزج بهم.
فهؤلاء الناس يتعاطون التجارة مع البانيانيين الذين يغشونهم؛ ولهذا يفضلون الاتجار معنا عندما يرون أننا أقمنا هنالك، وأن حسن النية رائدنا في عملنا.
الموقف الثالث:
يقع في رأس جاردافوي على مسافة 380 فرسخا من النقطة التي ذكرناها سابقا: إن هذا الموقف هو أكثر المواقف أهمية، وهو يشرف على البحر الأحمر وشاطئ أفريقيا. أما من الوجهة التجارية فمركزه قليل الأهمية. يمكننا أن نحصل فيه على مؤن من الداخل. أما فيما عدا ذلك فلا ينظر إليه إلا كنقطة عسكرية تستمد ذخائرها من المواقف الأخرى، إلا أنه لا يستغنى عنها. لا يمكننا الذهاب لاحتلال بربرة، المركز التجاري الهام، الواقع على مسافة 140 فرسخا من الرأس؛ لأن ذلك يعني تخلينا عن المركز العسكري بتوغلنا في خليج باب المندب. أما من رأس كاردافوي فنقدر أن نحمي العلاقات التجارية مع بربرة ونسهر على صيانة شاطئ أفريقيا. إن نظرة نلقيها على الخريطة تظهر لنا أهمية هذا الموقف، وخصوصا في أيام الحرب.
إن موقف الإنكليز في زيلا وعدن يجعل الاستيلاء على هذا المركز ضرورة ملحة؛ فبإنشائنا مؤسسة قرب مضيق باب المندب - على شاطئ الحبشة - لا نكون أحدثنا موقفا بل مرسى يعادل به نفوذنا نفوذ الإنكليز الذين ظنوا أنهم وصلوا إليه بامتلاكهم عدن. فإذا لم نستطع إبادة ذلك النفوذ، فعلينا أن نقاومه بهذا المرفأ الممتاز الواقع على مقربة من مضيق باب المندب، وفي البحر الأحمر، في موقع يجعله سيد بحر القلزم؛ فمن هناك نقدر أن نشاهد الناحية المقابلة، فلا يستطاع تهريب شيء بصورة مخفية. أضف إلى ذلك أنه لا يفصله إلا مسافة 12 يوما سيرا أو 72 ساعة عن بحيرة هوسا؛ حيث يتضعضع الهافاش. ولما كانت هذه البحيرة تصلح للملاحة - وهذا مؤكد - فتجارة كوى وعدل وبلال الغال ترد عليها بوفرة؛ لأنها أقرب مرفأ من بحيرة زيلا. إن بضائع كوى وفحمها الحجري لا تقطع - بعد عبورها النهر - إلا طريقا تبلغ مسافتها حوالي ال 72 فرسخا، وهي سهلة التمهيد لتصبح صالحة للعربات. وإذا نشبت حرب يحول هذا الموقف مرفأ تحتمي فيه السفن.
الموقف الرابع:
على شاطئ الحبشة قرب ماسونا، ويمكن ربطه بمخا إذا دعت الحاجة: إنه من أكثر المراكز أهمية، سواء أكان من حيث الوجهة التجارية، أو تنظيم خط البواخر، أو احتلال المواقف على البحر الأحمر وشواطئ أفريقيا؛ فهنا وفي مدغشقر يجب أن يبتدئ العمل، وعلى هاتين النقطتين يبنى مستقبل تجاري باهر، فتحقق المصالح الوطنية الكبيرة. إن هذا المكان لا يحتوي الفحم الحجري؛ أي إنهم لم ينقبوا عنه فيه، ولا عن الأخشاب الصالحة للبناء، ولكنه يتمتع بأطيب مناخ حول البحر الأحمر؛ فجميع أنواع المعيشة متوافرة فيه ، وهو يفتح لنا مجال استخراج الحديد من الحبشة. فهذا الموقف - الذي يتلقى الفحم من مدغشقر - ومن كوى عن طريق الهافاش، وأخشاب البناء من شاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي، في مقابل حديد الحبشة وذخائرها؛ يمكننا من القبض على ناصية تجارة البحر الأحمر.
إنه ليسعني أن أؤيد بحادث خطير صحة ما زعمت، ولكن ذلك يقتضيني تعيين المحلة بكثير من الوضوح، وفي الإيضاح ضرر يحب علي أن أتجنبه لئلا أخدم غير دولتي.
لنفكر مليا؛ فباحتلال رأس كاردافوي وشاطئ الحبشة نصبح أسياد الهند عن طريق البحر الأحمر، وباحتلالنا رأس كاردافوي ومدغشقر نصبح أسياد الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح؛ فالمسافة التي بين هذا الموقف الأخير والسويس ليست إلا 450 فرسخا. سوف لن أتكلم عن السويس؛ حيث يجب أن تنشأ مستودعات للفحم. إن موقف السويس هادئ لأن هذه المدينة تخضع من حيث تموينها للقاهرة ومصر، وقد كنا في كل وقت نستطيع التأثير على الرجالات الذين يحكمون القطر المصري؛ فمصلحتهم تقضي عليهم بأن يقوموا قدر الإمكان بحماية المؤسسات الفرنسية والأوروبية التي تناهض مصلحة إنكلترا.
إن هذا الخط الوطني للبواخر يشمل أيضا المواقف التجارية والعسكرية الممتدة بين بوربون والسويس. وإذا ما نفذنا مشروعا كهذا بإرادة صلبة، نقبض على تجارة مدغشقر وشاطئ أفريقيا الجنوبي الشرقي، والبحر الأحمر والحبشة، وجزيرة العرب؛ وهكذا نصبح أسياد طريق الهند المطلقين عن طريق البحر الأحمر وترعة موزامبيك؛ فالصمود في الحرب هناك سهل علينا إذا أحسنا تنظيم هذا الموقف، لا بل يلحق بأعدائنا الأضرار البالغة؛ إذ لا يجسرون على اللحاق بنا أو التفتيش عنا في البحر الأحمر، ولا يحاولون الاقتراب من مؤسساتنا.
إن الخط الفرنسي هو الوحيد إذن الذي يوفر فوائد اليوم والغد، وهو الوحيد الذي يجب تبنيه؛ فإنشاء خط للبواخر بين السويس وبوربون هو مشروع وطني ذو مستقبل باهر، وبه تصبح بوربون على مسافة 35 يوما من فرنسا، ومدغشقر على مسافة 33 يوما، ومخا على مسافة 22 يوما، والحبشة على مسافة 20 يوما، وتصبح جدة - وهي مرفأ مكة ونقطة ارتكاز بلاد جزيرة العرب - على مسافة 19 يوما. إن هذا يعني تشييد العمران والنفوذ الفرنسي في البحر الأحمر، وبلاد جزيرة العرب، والحبشة، وشاطئ أفريقيا بما فيه مدغشقر التي تستمد منها الفحم. (7) منافع المواقف وخط البواخر بين بوربون والسويس
إن الفوائد الناتجة عن إنشاء الخط الفرنسي وامتلاك المواقف هي على أنواع؛ فبعضها معروف يتفرع بالطبع عن الوقائع نفسها ويمكن إثباته بالبراهين، وبعضها الآخر يمكن إثباته بالأرقام.
ومن المؤكد - وهنا أعيد ما قلته سابقا - أنه بامتلاكنا المواقف والحقوق على الشاطئ وتوطيد مؤسساتنا - كما أشرت - نصبح أسياد طريق الهند في البحر الأحمر، وهذا ما يجب أن نفكر به مليا؛ لأن الوقت الذي تستعيد فيه تجارة آسيا وأفريقيا طريقها القديمة ليس ببعيد.
ويجب أن نعلم أيضا أنه إذا كانت شواطئ أفريقيا مأهولة بالمسلمين، ففي الداخل - أي في الحبشة وكوى وكافا وناريا - مسيحيون يدعوننا ويودون لو يروننا نستقر على الشاطئ.
إن كل هؤلاء يصيرون سماسرتنا وعملاءنا حتى في وسط أفريقيا؛ ففرنسا بامتلاكها مركزا عسكريا وتجاريا، وبخلقها منافذ لترويج بضائعها، إنما تقوم بالمهمة التي شاء القدر أن يلقيها على عاتقها، ألا وهي مهمة تمدين الإنسانية.
قد تخالج بعضهم الريبة بأن هذه النتائج لا تكون بدون تضحيات. إن القضية هي غير ما يتوهمون، فإذا وجدنا - على الخط المذكور - مصالح عتيدة وأدبية، فهنالك أيضا مصالح بديهية ومفيدة يمكن تحقيقها مباشرة. إنها مصالح مادية نقدية يمكن تحقيقها في اليوم الذي ننزل فيه إلى الشاطئ.
صحيح أن تجارة جميع هذه الأمكنة من مدغشقر وشواطئ أفريقيا والبحر الأحمر ليست على المستوى الذي يجب أن تكون عليه، إلا أنها مع ذلك مهمة جدا يجدر بنا أن نستأثر بها؛ وعليه يجب الابتداء هنا، ولو في إنشاء خط البواخر بين السويس وبوربون.
قد نتعرض لمصاعب جمة إذا شئنا أن ننشئ بغتة مراكز عسكرية، ناهيك بأن هذا الأمر يتطلب نفقات كبيرة. أما إذا ابتدأنا بتعاطي أعمال التجارة، وخلق علاقات ومصالح مع شعوب الداخل والشاطئ، فإنهم يمنحوننا جميع مطالبنا عندما يشعرون بالأرباح التي يجنونها. يجب ألا نعتقد أن مسألة هذه التجارة سهلة، وإنه يجب أن نواجه هذا العمل كمن يذهب إلى صيد الحوت. كلا! إنها تقتضينا القيام بغزوة تكون أكثر رصانة من غزوة أنكوبير والكثيرات مثلها التي أسفرت عن نتائج مخزية؛ فهي تتطلب إنشاء شركة متكاتفة وعمل متتابع، لا عمل شركة منافع.
1
سوف لن أدلي فيما بعد بأية معلومات عن تجارة مدغشقر لأنها معروفة نوعا ما؛ فهذا البلد يقدم لجزيرة فرنسا وبوربون حاجيات ذات أهمية أولية. وأنا واثق من أننا نعرف القليل عن منتوجات هذه الأرض الشاسعة التي نجد فيها منفذا هاما للتصدير؛ لأنها تضم حوالي أربعة ملايين من المستهلكين. لا أريد أن أتعمق في التفصيلات؛ لأن أناسا آخرين غيري يهتمون بذلك بصورة جدية، فيمكننا أن نقرأ عن مدغشقر وتجارتها البيان الصحيح الممتاز المنشور في المجلد الخامس من هذه النشرة. ويلاحظ المؤلف - بلا ريب - أن مدغشقر التي شاءت أن تحصر فرنسا فيها جميع نشاطها، ما هي إلا واحدة من النقاط التي تهم الأوروبيين عامة والإفرنسيين خاصة لكي يقفوا بوجه إنكلترا. (8) تجارة جزيرة بلاد العرب
الأرقام تفصح هنا أكثر من الكلام؛ ولهذا أبدأ بتقديم بيان عن البضائع المستوردة والبضائع المصدرة، مع وصف الحركة التجارية.
وأحيط القارئ علما بأنني لم أسجل في لوائحي إلا الرقم الأدنى؛ فعندما كنت أقع على رقم كنت أمحصه دائما معتمدا على معلومات رسمية لا شك في صحتها، ثم أنقص من نسبته دائما. وسوف يلاحظ المطالع أيضا أن جميع أرقامي خالية من الكسور، وما سبب ذلك إلا إهمالي لها، لأزيد في إيضاح بياناتي. ومع كل هذا أراني لم أتجاوز قط الواقع.
إن المعلومات التجارية المتعلقة بجزيرة بلاد العرب ومصر وسنار وشاطئ أفريقيا هي مختصرة، وقد اكتفيت بتدوين الواردات والصادرات كي لا أضخم هذا البيان، كما أني لم أقم إلا بعرض واردات الحبشة والبلدان المجاورة لها لأنها لم تعرف مثل غيرها.
إن المراكز الثلاثة الهامة التي تمارس فيها الأعمال التجارية هي: جدة، والحديدة، ومخا. (8-1) تجارة جدة
حركة المرفأ التجارية:
من 40 إلى 50 سفينة تراوح حمولتها من 500 إلى 600 طن.
من 30 إلى 40 مركبا شراعيا من الهند إلى مسقط.
من 150 إلى 200 مركب من مصر والنقاط الأخرى.
واردات
المأكولات، الأرز، القمح، السكر، الأبازير، الأقمشة الحريرية والقطنية، الزجاج، الخزفيات، السكاكين، الأسلحة، البارود، الرصاص، الخرطوش، السجاد، الخام الساذج، الخام الملون والأصفر، العرق، الخرضوات، التبغ، الأجواخ، المخمل.
صادرات
الصمغ، السندروس (نوع من الصمغ)، البخور، الزجاج البراق، اللآلئ، الحجارة الكريمة، وعلى الأخص النقود والبلح.
إن التوريد ضئيل جدا؛ فهم يقايضون بقليل من الأشياء، والتجارة تنحصر كلها في الاستيراد.
إن كمية المعاملات التجارية تبلغ على الأقل 25000000 فرنك. (8-2) تجارة الحديدة
صادرات
البن، السنا، الصمغ، الأملاح، الحمضيات، جلود البقر والمعزى والغنم، التمر الهندي، البخور، عروق الصباغ، الزجاج البراق، اللآلئ، البلح.
واردات
الأرز، السجاد، الأقمشة الحريرية والقطنية، الأنسجة ذات اللونين الأزرق والأحمر، التبغ، البضائع الخفيفة (خرضوات)، السكاكين، الأسلحة، الأبازير ... إلخ.
إن الاستيراد ضئيل جدا والتجارة محصورة في التوريد مقابل نقود.
كمية المعاملات التجارية: 15000000 فرنك. (8-3) تجارة مخا
صادرات
البن، الصمغ العربي، المصطكي، الصبر، جلود البقر والمعزى والغنم، الجلود المدبوغة، النيل، ملح البارود، التمر، السنا، خراشف السلاحف، الأشياء اللماعة، عود الند، روح النشادر، العطور، البلح.
واردات
الأرز، الأبازير، الخام البسيط والمصبوغ، السجاد، التنبك، التبغ، الأرز، العرق، الحديد، الرصاص، القصدير، النحاس، السكاكين، الأسلحة، الزجاج، الخزف، الأجواخ، المخمل.
يتعاطى نصف هذه التجارة بالبضائع المستوردة مقايضة، والنصف الآخر بالنقود.
كمية المعاملات التجارية: 15000000 فرنك.
ملاحظة: إن هذه المرافئ الثلاثة تمون الشعوب النجدية واليمنية. ومرفأ جدة يمون مكة والمدينة والبلدان المجاورة. إن هذه المرافئ تتعامل مع 5000000 نفس على الأقل.
أما التجارة القائمة على الاستيراد والتوريد فيقوم بها أبناء البلاد، والبانيانيون مع الهند. إن بعض السفن الأوروبية - وهي ثلاث أو أربع على الأكثر - تأتي إلى مخا لتنقل البن دافعة ثمنه نقودا. (9) تجارة مصر
إن هذه التجارة تمارس عن طريق السويس والقصير
Cosseir . إنها هي هي - من حيث التوريد - في كلا المرفأين، أما البضائع المستوردة فتذهب خصوصا إلى السويس. (9-1) البضائع الموردة
الخام، الحرائر المصبوغة بالأحمر والأزرق، الملابس الجاهزة، الزنانير الحريرية، الطرابيش، البوابيج، الجلود الحمراء، المناديل، التبغ، الأسلحة، الأنسجة المغربية ، الثمار المجففة، الخضار، وبنوع خاص المأكولات كالأرز والقمح، حاجيات المصانع الأوروبية كالأنسجة القطنية، والأنسجة المصبوغة والزجاج والخزفيات وشبيهات تلك. (9-2) البضائع المستوردة
البن، البخور، جلود الأغنام، التنباك، البلح، السجاد، الكشمير، اللآلئ، عروق الدباغة، الكركم، القصدير، السفط، الأقمشة القطنية الزرقاء، الحناء.
إن الاستيراد يفوق بكثير قيمة التوريد.
رأس مال هذه المعاملات التجارية: 6000000 فرنك.
ملاحظة: إن مرفأي السويس والقصير يوردان إلى مصر الوسطى والسفلى وقليلا إلى سوريا، وهما يتعاملان مع 2000000 نفس.
إن الأعمال التجارية تمارس بواسطة المراكب. (10) تجارة سنار وبلاد النوبا
سواكن وبادرو هما النقطتان الوحيدتان لأعمال هذه التجارة. (10-1) واردات
الأرز، القمح، الأنسجة الحريرية والقطنية، التبغ، الأبازير، الأسلحة، البن، ثم البضائع عينها الموجودة في جدة، ولكن بمقدار قليل. (10-2) صادرات
الصمغ، البخور، ريش النعام، الجلود، الذهب، العاج.
إن الاستيراد والتوريد متعادلان.
كمية المعاملات التجارية: 3000000 فرنك.
ملاحظة:
وهذه التجارة التي كانت قديما هامة ضعفت بعد احتلال محمد علي لسنار وبلاد النوبا. إن المنفذ التجاري الهام كان عن طريق البحر الأحمر. أما اليوم فإن جميع الواردات والصادرات تتوجه إلى مصر.
إن سواكن وبادرو تتعاملان مع 500000 شخص، وقد كان هذا الشعب يتعامل فيما مضى مع درفور وفازوجلون وبلاد الزنوج الأخرى. إن هذه التجارة التي أعيدت إلى ما كانت عليه سابقا يمكنها أن تسد حاجة 2500000 مستهلك. وهي تمارس بواسطة مراكب تقدم من جدة. (11) تجارة جزر البحر الأحمر
دهالاك وكامران، ونورا وفروت ... إلخ هي جزر تقع في الجهة السفلى من البحر الأحمر. وهذا بيان بما تصدر وتستورد كل سنة: (11-1) بضائع التصدير
السفط
50000 فرنك
اللآلئ
100000 فرنك
العروق اللماعة
1000 فرنك
الحصر
500 فرنك
151500 فرنك (11-2) بضائع الاستيراد
المأكولات، الأرز، القمح، البلح، بعض الأنسجة للملبوسات وعلى الأخص النقود.
كمية المعاملات التجارية: 300000 فرنك.
ملاحظة:
كانت هذه التجارة مزدهرة تماما وكثيرة الإنتاج. أما اليوم فاصطياد اللآلئ وسفط الأسماك أهمل تقريبا، وشعب جميع جزر البحر الأحمر لا يتعدى الألفين من السكان. إن هذه التجارة تمارس بواسطة المراكب مع مدن جزيرة بلاد العرب وأفريقيا. (12) تجارة نقلي
إن هذه التجارة تمارس على نقطتين؛ عن طريق مصوع وأرانا. (12-1) بضائع التصدير
الزبدة السائلة
100000 فرنك
البقر والأغنام
10000 فرنك
جلود البقر والأغنام والمعزى
10000 فرنك
120000 فرنك
شحم الغنم، إنهم لا يحسنون تحضيره، كما أنهم يرمون القرون. (12-2) واردات
الأرز، القمح، الذرة، البلح، الأنسجة القطنية الزرقاء اللون والبيضاء، الزجاج، البارود، الأسلحة، الرماح، السيوف.
تجارة مقايضة ونقود.
كمية المعاملات التجارية: 240000 فرنك.
ملاحظة:
تتعاطى هذه التجارة مع شاطئ جزيرة بلاد العرب. إن تجارة أخرى - سنتكلم عليها فيما بعد - تتعاطى في المرافئ نفسها، هي تجارة الحبشة. إن شعب دنقلي يقارب 40000 نفس. (13) تجارة شنغالا
إن هذه التجارة تمارس عن طريق مصوع وتيجري. (13-1) صادرات
ذهب
30000 فرنك
عاج
5000 فرنك
فار المسك
2000 فرنك
قرون الكركدن
500 فرنك
صموغ
1000 فرنك
جلود البقر والمعزى
1000 فرنك
ريش النعام
1000 فرنك
جلود النمورة
100 فرنك
40600 فرنك (13-2) واردات
أنسجة قطنية بيضاء وزرقاء وحمراء، سيوف، بندقيات، بارود، زجاج، أبازير، بهار.
وهذه التجارة هي بمعدل 4 / 1 من النقد و4 / 3 بالمقايضة.
كمية المعاملات التجارية: 80000 فرنك.
ملاحظة:
وهذه التجارة الضئيلة يمكنها أن تصبح ذات أهمية كبرى. إن بلص حكام مسوى هو السبب في إحجام سكان شنغالا عن تعاطي التجارة في هذا البلد. إن عدد السكان يبلغ حوالي 40000 نفس. (14) تجارة الحبشة (14-1) تجارة أقاليم تيجري
عدوى وأنتالو هما النقطتان الهامتان لهذه التجارة.
بضائع التصدير
شمع
200000 فرنك
جلود البقر والمعزى والأغنام
70000 فرنك
قطن
50000 فرنك
نعال
50000 فرنك
عسل
50000 فرنك
عاج
30000 فرنك
صموغ
1000 فرنك
مسك
1000 فرنك
ذهب
15000 فرنك
فراء
1000 فرنك
468000 فرنك
إنهم لا يحسنون صنع شحم الغنم. بقر، أغنام، قمح، شعير.
واردات
أنسجة قطنية زرقاء وحمراء، جلود القاهرة، حرائر زرقاء، بنادق بفتيل، سيوف، نحاس، زجاج، أنسجة منقشة، بهار، كحل، تبغ، مشروبات، زجاج، وما شاكلها.
ونصف هذه التجارة يتعاطى بالنقود، والنصف الآخر بضائع مستوردة.
كمية المعاملات التجارية: 880000 فرنك. (14-2) تجارة أقاليم أمهرة
غوندار هي السوق المهمة والنقطة التي تتوجه إليها القوافل لتعود منها إلى بلاد الغال وتذهب إلى ناريا وسنار ومصوع بعد أن تمر في تيجري.
بضائع التصدير
عاج
150000 فرنك
ذهب
200000 فرنك
بن
400000 فرنك
مسك
150000 فرنك
جلود البقر بحالتها الطبيعية
60000 فرنك
جلود مدبوغة
15000 فرنك
جلود المعزى والأغنام بحالتها الطبيعية
3000 فرنك
جلود مدبوغة
5000 فرنك
قطن
50000 فرنك
بوابيج ونعال
80000 فرنك
صمغ
20000 فرنك
قرون الكركدن
1000 فرنك
الفراء
2000 فرنك
ريش النعام
7000 فرنك
شمع
800000 فرنك
1943000 فرنك
إن شحم الأغنام والبقر والخيول والمعادن تزخر بها هذه البلاد.
بضائع الاستيراد
الأنسجة القطنية الزرقاء والحمراء، زجاج، حرائر زرقاء وحمراء، أجواخ زرقاء وحمراء، أنواع المخمل، قطن، بهار، بفتا، بارود، سعوط وتبغ، أنسجة منقشة، شاش موصلي، أقمشة حريرية، سيوف، عطور، أبازير، كبش قرنفل، لعب للأولاد، سكاكين، زجاج، خزف (لا يستوردون من هذا الصنف إلا القليل)، حلي من فضة ومن نحاس مطلي، بنادق بفتيل، بعض السجاد، أواني كنسية.
إن الاستيراد والتوريد يتعادلان، وهذه التجارة تقوم بها القوافل.
كمية الأعمال التجارية: 7540000. (14-3) تجارة أقاليم كوى
إن عليو-أمبا هي سوق هذه الأقاليم الهامة؛ فالقوافل تجتمع فيها لتتوجه إلى بلاد الغال وكافا وناريا وجنجيرو، ثم تعود إلى البحر عن طريق هورر، واليوم إلى بربرة، وفي بعض الأحيان إلى زيلا.
بضائع التوريد
عاج
400000 فرنك
بن
50000 فرنك
صمغ
30000 فرنك
مسك
12000 فرنك
ذهب
500000 فرنك
ريش النعام
4000 فرنك
شمع
60000 فرنك
جلود بقر ومعزى وأغنام غير مدبوغة
30000 فرنك
1086000 فرنك
وفيما عدا ذلك فهنالك البغال، وجلود فرس البحر، وجلود النمورة والفهود، والبقر، والأغنام، والخيول، والمعادن.
بضائع الاستيراد
هي البضاعة نفسها التي نجدها في أمهرة. والاستيراد والتوريد يتعادلان. ويؤثرون التعامل بالنقود على المقايضة. أما المبالغ المتداولة في هذه الأعمال التجارية فهي 2192000 فرنك.
ملاحظة:
إن تجارة هذه الأقاليم الثلاثة من الحبشة تمارس حاليا عن طريق البحر الأحمر مع مصوع وأرانا، وعن طريق باب المندب مع زيلا وبربرة، وأخيرا مع سنار لتنفذ إلى مصر.
يمكن أن تكون أكثر أهمية مما هي عليه اليوم عندما يتأكد أصحاب القوافل أنهم في مأمن من المتاعب. وأول محل يستطيع أن يقوم بحمايتهم يصبح نقطة ارتكاز هذه التجارة.
إن عدد سكان هذه المقاطعات الثلاث يبلغ 4000000 نفس، إن لم يكن أكثر، وهي تتعامل مع أهالي نارايا وكافا وجنجيرو وجميع بلدان الغال التي تبلغ حوالي 3000000 نفس. وهي تتعامل أيضا مع بلدان أكثر بعدا. إن أمهرة وكوى هما السوقان اللتان تنتجان البضائع الموردة والمستوردة ، واللتان تلتقي هذه البضائع فيهما. (15) تجارة عدل والصومال
مركز هذه التجارة زيلا وبربرة. أما هوسا وهورر فهما السوقان الهامتان اللتان تتوجه إليهما القوافل. (15-1) بضائع التوريد
بن
40000 فرنك
صمغ عربي
100000 فرنك
صمغ
50000 فرنك
شمع
40000 فرنك
عاج
20000 فرنك
ريش النعام
3000 فرنك
مسك
5000 فرنك
زبدة
20000 فرنك
بخور
10000 فرنك
جلود البقر والأغنام والمعزى
6000 فرنك
فراء
1000 فرنك
ذهب
200000 فرنك
495000 فرنك
ويجب أن نضيف إلى ما سبق: البقر، والأغنام، والبغال، والحمير، والجمال، والخيول التي يمكن أن تؤلف تجارة كبيرة. إنهم لا يحسنون صنع شحم الأغنام. (15-2) بضائع الاستيراد
إنها البضائع نفسها التي نجدها في أمهرة.
وهذه التجارة قوامها المقايضة تقريبا، ومع ذلك فهم يؤثرون النقود.
كمية الأعمال التجارية: 994000 فرنك.
نسبة حمولة المراكب في مرفأ بربرة: من 10 إلى 12، ومن 500 إلى 600 طن، ومن 5 إلى 20 مركبا تصل من الهند ومسقط.
ملاحظة: يجب أن نضيف إلى هذا المعدل التجاري معدل كوى. إن هوسا هي نقطة ارتكاز عدل التي تتفاوض مع بلاد الغال الغربية، كما أن هورر هي نقطة ارتكاز الصومال التي تتصل بفروعها مع بلاد الغال الجنوبية، وهاتان النقطتان هما المركز التجاري لهذا المثلث الفسيح الذي ينتهي به رأس جاردافوي.
إن عدد السكان لا يقل عن 2000000 شخص. (16) تجارة شاطئ أفريقيا الجنوبي ورأس جاردافوي عند مصب كيلاموس
إن هذه التجارة تمارس على الأخص في باد، وماجادوكسا، وبرافا، وهامار، ولامو. (16-1) بضائع التوريد
ذهب، عاج، صمغ اللك، مسك، جلود بحالتها الطبيعية. (16-2) بضائع الاستيراد
بارود، أقمشة زرقاء، زجاج، أنسجة منقشة، خرضوات، أجواخ، تبغ، عرق، مأكولات.
وهذه التجارة تمارس بواسطة سفن ومراكب، وقوامها المقايضة. إنه يصل من الهند من 15 إلى 20 سفينة.
إن معدل عدد المراكب - وجميعها من مخا أو مسقط - لا يقل عن الخمسين مركبا.
الحمولة: من 100 إلى 150 طنا في جميع أنحاء الشاطئ.
كمية المعاملات التجارية: 4000000 فرنك على الأقل.
ملاحظة:
إن البلد الذي يمتد من الكيلاموس - النهر الذي يجري من نارايا وجنجيرو حتى رأس بربرة - هو مأهول ومروي مزروع، وغير قاحل كما توهموا. ويمكن الإبحار على متن مراكب ثقيلة وضخمة في الكيلاموس والجاب حتى مسافة 15 يوما من المصب. إن المراكز المختلفة التي أتينا على ذكرها هي أسواق تتعامل مباشرة مع 1000000 شخص إن لم يكن أكثر. (17) بيان موجز
2
حركة الأعمال التجارية عن عام واحد
الشعوب التي تفاوض هذه الأسواق (السكان)
جزيرة بلاد العرب، مخا
15000000
5000000
اليمن ونجد
جزيرة بلاد العرب، الحديدة
15000000
جزيرة بلاد العرب، جدة
25000000
مصر، السويس، القصير
6000000
2000000
مصر، سوريا
سنار، بلاد النوبا، سواكين
300000
500000
سنار وبلاد النوبا
2500000
البلدان المجاورة
البحر الأحمر والجزر
300000
2000
في الجزر
دنقلي، مصوع
240000
40000
دنقلي
شنغالا، مصوع
80000
40000
شنغالا
الحبشة، تيجري
880000
الحبشة، أمهرة
7540000
4000000
في الحبشة
الحبشة، كوى
2192000
3000000
البلدان البعيدة
عدل، صومال
994000
2000000
شاطئ برافا الجنوبي
4000000
1000000
في الداخل مباشرة
كمية المعاملات التجارية
80226000
20082000
عدد المستهلكين
عدد السفن التي تقوم بأعمال هذه التجارة.
من 65 إلى 82 سفينة تراوح حمولتها من 500-600 طن
المعدل 40150 طنا
من 95 إلى 110 قوارب هندية تراوح حمولتها من 100-150 طنا
المعدل 12750 طنا
من 150 إلى 200 مركب عربي تراوح حمولتها من 60-100 طن
المعدل 14000 طن
المجموع
66900
المستهلكون
23082000
كمية المعاملات التجارية
80226000
حمولة
66900000
إن البيوت التجارية الأوروبية لا تتعاطى هذه التجارة.
وما أظن أننا في حاجة إلى التذكير بالخلاصات التجارية التي أتينا على ذكرها لندلل على أهميتها. إننا نعلم أن إنشاء خط للبواخر ومواقف في النقاط المذكورة يعني الاستيلاء على التجارة، واستقرارنا على طريقي الهند في رأس الرجاء الصالح والبحر الأحمر.
لنفكر مليا أن كل ذلك جدي، ولتتنبه إذن فرنسا وأوروبا إلى موقف إنكلترا وخطتها.
إن عدن - الممتلكة الإنكليزية - هي على مسافة ستة أيام من السويس، وهذه الأخيرة على مسافة نهار وليلة من القاهرة. إن خليج عدن هو أفضل الخلجان، فمن يمنع الإنكليز إذن - بحجة الحرب أو حماية أنفسهم من العرب - أن يحشدوا في هذه النقطة من عشرة آلاف إلى اثني عشر ألف رجل، ويجمعوا البواخر وسفن الشحن لينقضوا على ترعة السويس في الوقت المناسب، من الفصل الجميل، بظرف ثمانية أيام على الأكثر، يعاونهم في ذلك أسطول إنكليزي يتألف من عدة بوارج تخرج من مالطة لتقوم بأعمال عدائية أمام الإسكندرية، فتخلق البلبلة والتشويش، وتسفر النتيجة عن استسلام مصر للإنكليز بدون قتال؟
إنه يسهل عليهم القيام بذلك قبل أن تستطيع فرنسا وروسيا والنمسا أن تعوق خطتهم هذه. أما إذا امتلكنا المواقف التي أشرت إليها، فأنشأنا خطا للبواخر، أو موقفا واحدا في البحر الأحمر على شاطئ الحبشة، فإننا نقطع الطريق في وجه الإنكليز الذين لا يجرءون بعد ذلك على المغامرة في قطع بحر القلزم، ناهيك بأن حملة من هذا النوع تكون مستحيلة.
إن موقف الإنكليز في عدن يشكل خطرا قويا وتهديدا كبيرا لمصر؛ إذ يمكن أخذها من الأمام ومن الوراء، وتلك هي الخطة التي اتبعها الإنكليز عام 1800. لقد أنزلوا إلى الشاطئ جيوشا في أبي قير والقصير واضطرونا إلى التسليم، فما علينا - اتقاء لخطر جديد - إلا أن نحتل موقعا في البحر الأحمر.
إن تقدم إنكلترا نحو البحر الأحمر يستحق درسا دقيقا خاصا. وعلينا أن نبدأ بدرس قضية غزوها سيباي في القصير، ومحاولات تمركزها في سوكوتورا، وبريم، وكاماران، وبعثاتها الديبلوماسية في صنعاء، والحبشة؛ تلك البعثات التي قررتها ونفذتها رغما عن نفقاتها الباهظة، والمصارفات الضخمة المخصصة لرسم خريطة البحر الأحمر وجزره وسواحله. ولا ننس إصرار هذه الدولة على انتزاع شاطئ جزيرة بلاد العرب من محمد علي، الذي كان يضايقها ويمكنه أن يهاجمها من الوراء إذا تجرأت وحاولت غزو مصر. أما احتلت عدن، وقوت نفوذها في زيلا وتاجورا، وأحكمت عرى علاقاتها التجارية التي أقامتها بينها وبين كوى والهورر عن طريق بربرة لتحصل منها على المئونة التي أبت أن تقدمها جزيرة بلاد العرب لعدن؟
فهل يظن أن جميع هذه الأعمال وهذه النفقات التي صرفت بصورة متواصلة منذ أربعين سنة قد اتخذت بدون أي هدف؟
إن القضية ليست قضية صرف بعض الآلاف من الفرنكات يشغل بها الرأي العام - كما هي الحالة في فرنسا - لكي يقال فيما بعد: انظروا، إن فرنسا تهتم أيضا بمشكلة البحر الأحمر. لقد أوفدنا رسلا، وأنطنا بجمعية أمر الاهتمام بقضية إنشاء خط تجاري بين السويس وبوربون وإنشاء بيوتات تغزو تجارتها العالم، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت العاقبة تقويض المحل التجاري، وزرع الحذر والريبة بين التجار، وتجديد الحرب الأهلية في الحبشة، وقنوط كل من شرع بعمل مجد هام.
3
لقد شاءت إنكلترا بطريقة جدية الاستقرار عند مصب البحر الأحمر؛ لأنها تدرك أهمية هذا الموقف؛ ولذلك أنفقت الملايين وأنشأت مؤسسات يمكن أن تقدم لها خدمات جلى. لقد احتلت عدم مفتاح البحر الأحمر، وهي اليوم سيدة طريق الهند عن طريق مصر، ولا ينازعها تلك السيادة منازع، فإذا ما تعقدت قضايا الشرق فإنها تنبئ إذ ذاك فرنسا وأوروبا (باحتلالها مصر، وبدون أن يشعروا بذلك في باريس) عن أهمية موقفها في عدن. (18) ملخص
وختاما لهذا العرض الموجز الذي تناول طريق الهند عن طريق البحر الأحمر، والمصالح الأوروبية وإنشاء خط للبواخر بين السويس وبوربون، والمراكز التي يجب أن تحتلها فرنسا، وأخيرا تجارة البحر الأحمر العامة، وتجارة شاطئ أفريقيا، ألخص كلامي السابق لأجعل القضية أكثر وضوحا وإيجازا: (1) إن علاقات أوروبا مع الهند وأوقيانيا والصين وشواطئ أفريقيا الغربية سوف تتبع طريقا جديدة، وسيصبح البحر الأحمر منفذ هذا الممر. (2) إن مصالح الدول الأوروبية - وبوجه خاص مصالح فرنسا - هي واحدة في البحر الأحمر وخليج باب المندب؛ وعليه، فعلى هذه الدول إذن أن توحد قواها لتضعف في هذه النواحي توسعات إنكلترا أو تعادلها. (3) من واجب هذه الدول - متكاتفة أو غير متكاتفة - أن تتشبه بإنكلترا فتحتاط للأمر وتجني نفعا من الفوائد المقبلة التي ستجعلها طريق الهند في متناول البلدان الواقعة على شاطئ المتوسط. (4) أما اليوم فإن طريقة الاستفادة من المستقبل، وهي أساس كل عمل عتيد لتنحصر في إنشاء مؤسسات حول البحر الأحمر وفي خليج باب المندب. (5) يجب على فرنسا أن تكون رأس هذه الرابطة الأوروبية التي وفقت بينها مصالحها، فتحتل المراكز التي أشرنا إليها، وتنشئ خطا بحريا للبواخر بين السويس وبوربون. بحريا (6) إن مركز المواقف وإنشاء خط للبواخر هما الطريقة الوحيدة لإنشاء مؤسسات كبرى تجارية وعسكرية، ثم الاستعمار، وتوطيد النفوذ الفرنسي في جزيرة بلاد العرب، والحبشة وشاطئ أفريقيا، ومدغشقر، والسيطرة، أو على الأقل، اقتسام تجارة هذه النواحي، وفتح أسواق جديدة لفرنسا وتوطيدها بقوة على طريقي الهند. فمن مرسيليا إلى بوربون - عن طريق مصر - يمكن فرنسا أن تنشئ خطا هاما للعمليات الحربية. (7) إن الدول الأوروبية التي هي من طراز أول وثان تقضي عليها مصلحتها بدعم - بل بمساعدة - الدولة التي تأتي لتقف على طرقات الهند معارضة إنكلترا.
إن قلق الصحافة الإنكليزية في الهند من البعثات التي أوفدتها الحكومة الفرنسية إلى الحبشة لهو برهان كاف لتأييد صحة ما جاء في هذا الملخص.
هوامش
الجزء الثاني
الفصل السادس والعشرون
الآثار القديمة في لبنان: عين القبو، فقرا، صنين، جبل الكنيسة، فيطرون. ***
إن جميع السائحين الذين جاءوا بيروت أثناء إقامتي فيها، كان أقصى رغباتهم شيء واحد، ألا وهو رؤية بعلبك؛ فمدينة الشمس هي المكان الوحيد الذي أثار فضولهم إلى أبعد مدى؛ بسبب ما خلفه الفن من آثار لا تزال جميلة جدا. فالكثيرون من الناس لم يعرفوا هذه البقايا الأثرية إلا مما وصفها به الكتاب الرحالة الذين غالوا في وصفها، مباريا بعضهم بعضا.
ولما كنت قد قمت بعدة اكتشافات فيها، فقد كنت أدل السائحين عليها جميعا، فصاروا يقومون توا بزيارة الأمكنة التي عينتها لهم، إذا لم يحل دون ذلك أدلاؤهم الذين قلما يهمهم هذا الأمر لأنهم غير مطبوعين على التأمل.
1
وأسديت نصائح أخرى عديدة إلى سياح عديدين كان في استطاعتهم اجتناء الفائدة كاملة من إرشاداتي لو تقيدوا بها، ولكنهم لم يفعلوا. إن مهمة اكتشاف الآثار محفوفة بكثير من المصاعب، وهي سبب مشاق كثيرة لا يذللها إلا رغبة قوية في مشاهدة الآثار القديمة الجليلة، وميل عنيف مفرط إلى معرفة الأشياء الطريفة، وهذا الأمر يتطلب كثيرا من الوقت، وأصحابنا السياح - بوجه عام - يمرون عجالى بهذا البلد؛ ولهذا لا يفوزون من غايتهم بطائل.
إني لم أحجم قط - في كل رحلة أقوم بها - عن تغيير طريقي عندما كنت أعلم أن هنالك شيئا تجدر رؤيته. ولا يستطاع إدراك ذلك إلا إذا استخبرنا الأدلاء أو الأشخاص الذين نصادفهم في طريقنا.
لا أنكر أن فضولي البالغ حده قد حملني على القيام بعدة رحلات محفوفة بالأخطار وغير مجدية، ولكن أيجب الامتناع عن ركوب البحر إذا كان اليم يزخر بالمخاطر ؟
إن حبي الملحاح للاستطلاع كان - غالبا - علة رحلاتي الخطرة غير المجدية . كنت أسأل من ألتقيهم: هل نجد في ضواحيكم أطلالا هامة، وقصورا قديمة، ومعابد وثنية، وأخيرا بعض الحجارة الضخمة؟ فكانوا يقتادونني لأرى كتلا من الصخور بوشر فعلا قطعها وشغلها، إلا أن أهميتها لم تكن لتنسيني قط ما قاسيته في سبيلها من تعب ومشقة.
قرأت في كتاب «فولناي» أنه يوجد جسر طبيعي في جرود كسروان، ومع ذلك فليست الرغبة في رؤية هذا الجسر هي التي دفعتني - بعد عودتي من بعلبك - إلى القيام برحلة نحو آثار تلك الناحية التي لم يتحدث عنها رحالة واحد.
إن مشقات رحلتي الأولى جعلتني أسلك طريقا أخرى غير التي سلكتها أول مرة عندما قمت بزيارتي الثانية لقلعة فقرا مارا بعينطورة وعجلتون وفيطرون ... إلخ.
فأهوال الطريق التي سلكتها قديما اضطرتني أن أدور - هذه المرة - حول المخرم الضيق الواقع أوله عند أقدام صنين؛ وهكذا قيض لي أن أرى بسكنتا - القرية الكبيرة - القائمة على منحدر جبل يشرف على وادي الجماجم الرهيب.
إن أهالي هذه القرية من الموارنة والروم، وهي مقر عشرات الأمراء ومشايخ عديدين من بيت الخازن. اشتهرت هذه البلدة بالحياكة، وهي تصنع - بوجه خاص - نسيجا أكثره مصبوغ باللون الأزرق. وأكثر نسائها متحجبات بإزار أسود.
وإذا ما غادرنا بسكنتا مجتازين منحدر صنين الذي يشكل نصف دائرة، نصل إلى عين القبو، وهي مزرعة صغيرة تحيط بها أشجار التوت والعريش، ويجري في أسفلها نبع عذب المياه، يتفجر وسط قبو معقود بشكل دائرة نقشت على حنيته مخطوطة إغريقية.
ومن عين القبو نتسلق الجبل فنصل إلى مسجد تركي قديم كرس - كما قيل - لجوناس. ومن هنالك نهبط في واد جميل. فاتني أن أدون هذه الواقعة، ولا بأس من العودة إليها:
اضطررنا - ونحن على طريق بسكنتا - أن ننزل عن ظهور جيادنا ونقودها. وبعد أن أسقطت الطرقات السيئة نعالها وأصبحت حوافرها في حالة تلف يرثى لها، كان همنا الوحيد - لدى وصولنا - أن نستفيد مما يمكن أن نجده في هذه القرية الكبيرة من أسباب الراحة. ولكن لسوء حظنا صادف ذلك اليوم يوم عيد الرسل، والبيطار الماروني لا ينعل جيادنا ولو قبض ذهب العالم بأسره. اعتصم بشرائع كنيسته التي تأمر بترك كل شغل وعمل يوم ذلك العيد؛ فكدنا أن نقضي ليلتنا في بسكنتا لو لم ينبئونا أن البياطرة الروم - وهم ليسوا آنذاك من أصحاب العيد - يمكنهم أن يقوموا بهذه الخدمة التي رفض أن يقوم بها الموارنة. إن الاختلاف بين هاتين الملتين - الموارنة والروم - يدور على اثني عشر يوما بالضبط، فأولاهما تتبع التقويم الغريغوري (الحساب الغربي)، والثانية ترفض أن تسلم به لأن أحد البابوات دقق هذا الحساب ونظمه.
وعند المساء حططنا رحالنا في دير سيدة النياح، وهو دير للراهبات المتعبدات من طائفة الروم الكاثوليك من حلب والشام. كان بينهن آنئذ راهبة كلدانية ذات صوت جميل جدا. حدثونا عنها فلم نكترث ولم نعر الأمر اهتماما؛ لأننا لم نسمع أحدا من قبل يتحدث عن هذه العذراء المتعبدة وعن صوتها العذب.
وفي السهرة القصيرة جدا، رجونا الرئيس العام - وكان موجودا في الدير هاتيك الليلة - أن يرافقنا برجل من خاصته يوصلنا إلى فقرا، فوعدنا بذلك.
ينام السياح دائما في ساعة مبكرة لكيما ينهضوا قبل الفجر، ويعدوا أعتدة السفر التي تتطلب وقتا طويلا، ثم ليتخلصوا ما استطاعوا من حرارة الشمس المحرقة. فما نهضنا وانتهينا من إعداد خيولنا حتى سألنا عن الرفيق الدليل في هذه الرحلة، فقيل لنا إنه الكاهن الذي يصلي. ففضلنا أن نحضر القداس ونستريح في مكان مضاء، على أن ننتظره خارجا في شبه عتمة.
إن دخولنا الكنيسة المقببة التي لم يكن ينيرها إلا شموع الهيكل ومسارجه قد أيقظ فينا شعورا لا يمكن أن أنساه أبدا. بهت أنا ورفاقي فبتنا كأننا في غيبوبة، ولم نملك مقدرة الإفصاح عما نشعر به إلا بعد انقضاء عدة دقائق؛ فصوت مريم الكلدانية الساحر قد كهربنا. إن ألحان الروم في طقسياتهم بديعة جدا، وشجية تحمل على الخشوع؛ فالأنغام المختلفة الإيقاع لم تلغ منها، وقد كانت هذه الراهبة المتعبدة تجيد فيها وتبدع كل الإبداع. كانت تجلس على السدة فيتعالى صوتها الرخيم إلى أجواء القبة، ثم يهبط إلى صحن الكنيسة فيوقظ جميع أصداء الهيكل الكثيرة العدد لأن الشرقيين كانوا يراعون، في البنايات التي يشيدونها، بعض القواعد المتعلقة بحاسة السمع ووقع الأنغام لتسد مسد الآلات الموسيقية التي يفتقرون إليها.
فقداسة المكان، وساعة الصبح المبكرة التي لا ينام أثناءها السائحون إلا مدفوعين بتعبهم المفرط الذي ينهك قواهم، وهذه العتمة التي كانت تخيم علينا قد زادت - ولا شك - في تأثير ذلك الصوت العجيب الذي لم يسمع مثله أحد منا. ويظهر أن ترانيم الراهبات - حسب هذا الطقس - مختلفة الإيقاع في كل مقطوعة من مقطوعاتها، فلا تشبه البتة ترانيم الأساقفة المسكوبيين الخناء، وهذا الذي يزيد في روعتها وسحرها. تحدثت أمام كثيرين عن الراهبة الكلدانية، فذهب كثير من هواة الصوت الرخيم ليروها، فطار صيتها، وأمست أحد الأشياء التي يشتهر بها الجبل. أذهل صوتها الجميل السيد بودين بقدر ما أذهلني، فما استطاع أن يخفي إعجابه به؛ فأعرب لها عن ذلك قائلا: «أختاه، إن صوتك يحمل على تمجيد الله!» ولكن إطراء يوجه إلى راهبة عليها أن لا تفاخر بموهبة دنيوية يذهب ضياعا ...
ثم ركبنا خيولنا بعد أن أفلتنا من هذا الدير الذي سنرجع إليه ثانية. فأنبأونا - لدى عودتنا - عن آثار ومخطوطات تبعد مسافة ساعة أو ساعتين عن الدير لجهة الشرق، في مكان يدعى بدين، إلا أننا لم نتمكن من الذهاب إليه.
تسلقنا الجبال العالية في طرقات ملتوية صعبة ... لم نبال قط بمشقات الطريق لأن المناظر التي كانت تتجدد على التوالي أنعشت أبصارنا. إنها أجمل بقعة وقع عليها نظري في جميع أنحاء لبنان؛ فالجبال المخضرة التي تتوج رءوسها كتل ضخمة من الصخور، كأنها على أهبة الانقضاض، والأودية الحافلة بغابات السنديان والجوز والصنوبر، والأنهار ذات المياه البلورية
2
العذبة؛ هذه جميعها تنسي الدرب الطويل الشاق، فالذاهب إلى فقرا من هناك يدركها بعد مشي ساعة.
وأول ما رأيناه، في فسحة كبيرة من الأرض تقارب مساحتها نصف فرسخ، بعض الجدران القائمة بين صخور مبعثرة هنا وهنالك. وهذه الجدران التي لم تتهدم مبنية بحجارة منحوتة متساوية الحجم، ولا تزال قوية متينة، إنها - ولا شك - معالم مدينة قديمة.
وإذا ما ملنا بضع خطوات عن الطريق لجهة اليسار، نجد أنفسنا بين أنقاض هيكل فقرا.
يبلغ طول هذا الهيكل أربعة وثلاثين مترا، وعرضه أربعة عشر مترا. جدرانه مبنية بحجارة يبلغ طول الواحد منها تسعة وثمانين سنتيمترا، وسمكه خمسة وسبعين سنتيمترا. وهذه الحجارة مبنية بدون طين.
تزين واجهة الهيكل ستة أعمدة من الطراز العصري، ويبلغ قطر قاعدة كل عمود مترا وخمسة وعشرين سنتيمترا. أما التيجان التي نجد أربعة منها مستديرة الحجم، واثنين مربعين لا يزالان بأحسن حال، فيبلغ علوها أربعة أمتار وعرضها مترا وثمانية وستين سنتيمترا. ويبلغ حجم واجهة القواعد مترا وثلاثة وأربعين سنتيمترا، وعرضها مترا وأربعة وثلاثين سنتيمترا، وعلوها مترا وخمسة وتسعين سنتيمترا. وقد حفر في وسط القاعدة اليمنى رسم كاد أن يكون ممحوا.
أما طول الدار والفناء فثمانية وثلاثون مترا، وعرضهما ثلاثون مترا. وإذا جئنا الهيكل من الجهة الشمالية، إلى الجهة الواقعة في جانب واجهة الهيكل، وجدنا أن حائط الفناء مبني حتى منتصفه أو أكثر بحجارة منحوتة نحتا غير دقيق، أما من الجهة اليمنى فهو كذلك حتى الثلث. يظهر أنه كان يقوم حول الدار رواق تزينه أعمدة يونانية الطراز، يبلغ قطر دائرتها اثنين وسبعين سنتيمترا. إن عامود الزوايا المزدوج مستلق على الأرض، وهو يتألف من قطعة واحدة.
فالأعمدة وتيجانها وأعلى الهيكل وأسفله مبنية من حجر واحد، وقد قطعت أحجارها جميعها من الصخور المجاورة التي اقتطعت منها حجارة الأروقة الواقعة على مقربة منها. بيد أن جدران الواجهة الخارجية أو الفناء وأعمدة الأروقة الواقعة قبالة الهيكل مبنية بحجر مصفر رملي موجود أيضا هنالك، ولكنه يختلف عن حجر الهيكل الذي يميل إلى لون أشهب ضارب إلى الزرقة.
ولدى رؤيتنا هذه الكمية الوافرة من القطع والتيجان المبعثرة هنا وهنالك، يخامرنا الشك في قيام رواق أمام المدخل الأول - مدخل الفناء. وهذا ما نرجحه متى لاحظنا أن الأعمدة الخارجية هي أضخم من أعمدة الأروقة. ولقد رسمت صورة عامة مستعجلة لهذا الأثر.
إن اختلاف الطراز المعماري يدل أيضا على أن هذين الأثرين لم يشيدا في عصر واحد؛ فالبناية الخارجية هي أحدث عهدا من الأخرى.
نجد تجاه هذه البوابة الرئيسية - على بعد خمسين خطوة منها - خربة مربعة الحجم يدخل إليها من الجهة الجنوبية. تهدم بناء هذه الخربة إلا ثلاثة مداميك يبلغ أطولها ثلاثة أمتار وستة وثمانين سنتيمترا طولا، وثلاثة وتسعين سنتيمترا علوا، وخمسة وسبعين سنتيمترا سمكا، وأضخمها يبلغ طوله مترين وخمسة وثمانين سنتيمترا، وعلوه مترا وستة وثمانين سنتيمترا، وسمكه مترا وعشرين سنتيمترا.
وعلى مسافة عشر دقائق للجهة الشمالية نجد أيضا هرما صغيرا لا يزال قائما منه ما يقارب الثلث، وتبلغ مساحة قاعدته المربعة الحجم نحو ستة عشر مترا وواحدا وأربعين سنتيمترا، أما علوه الحالي - لجهة البوابة - فيبلغ سبعة أمتار ونصف المتر.
إن باب المدخل كبير جدا، وأذكر أنه مزين بكتابة أتلفتها الأيام وشققتها. ولما كنت قد قمت بزيارة هذا الهيكل في ساعات مختلفة من النهار، تمكنت من استغلال الفترة التي تظهر فيها الحروف جلية، ونقلت هذه المخطوطة، والمخطوطة الأخرى المحفورة على حجر الزاوية، للجهة اليمنى.
إن هذا الباب يؤدي إلى ردهة واسعة، وتجاهه باب آخر يقود إلى دهليز معوج،
3
معقوف، ينتهي من الجهة اليمنى إلى الدهليز الرئيسي. وإذا ما صعدنا وقطعنا حوالي ثلثي المسافة للجهة الشمالية، نجد بابا يؤدي إلى الدهليز الواقع في الوسط؛ فمن هنا يمكننا أن ندخل الدهليز الذي ينتهي بنا إلى السطح حيث يقوم الدرج الذي يوصل إلى نافذة صغيرة تنتهي فوق المدخل.
ويدخل النور هذا المكان من ثغرة تشبه المرمى، وهي تخترق كثافة الحائط كلها، وعند منتصف هذا الدهليز نجد ممرا يوصل إلى غرفة يبلغ علوها ثلاثة أمتار وثلاثين سنتيمترا، وإذا ما دخلنا إليها نجد في إحدى زواياها - للجهة اليمنى - فرجة يبلغ عرضها ثلاثة وثلاثين سنتيمترا، وعلوها ستة وستين سنتيمترا، وعمقها مترا واحدا. ونرى على جوانب الممر - الذي يقود إلى هذه الغرفة - تقويرا بشكل نصف دائرة، أو خطا أجوف يبلغ عرضه أربعة عشر سنتيمترا، ورفرفه الخارجي عشرة سنتيمترات بعلو خمسة أمتار تقريبا، وهو يربط بين أعلى الممر وأسفل جهتيه الجانبيتين حيث كان يدحرج الباب الزحاف، فيحكم سد الحجرة المختصة بدفن الموتى.
وفي أسفل الدهليز الرئيسي فرجة توصل إلى غرفة صغيرة أخرى تقوم فوق باب المدخل، يبلغ عمقها في الجهة الشرقية مترا وسبعة وخمسين سنتيمترا، ويبلغ عند أسفل زاوية الممر الشمالي والزاوية الخارجية مترا وواحدا وخمسين سنتيمترا.
يبدو أن هذا البناء قد شيد أو رمم بأمر من «تيبر كاود» الذي وضعه تحت حماية الإله الكبير «رافولون» ورفع هيكل فقرا إكراما له.
نجد في الجهة الجنوبية للهرم عدة أساسات لأبنية مربعة الشكل منحرفة حجارتها، ونجد حول هذه الأشكال من المدافن، وبين الصخور، كمية كبيرة من بقايا الحجارة المنحوتة وهي من الرخام الأبيض.
إنها جميلة جدا ومختلفة الألوان، ونرى أيضا عدة نواويس أخرى فنحكم - بناء على إتقان أحد أغطيتها - أنه غطاء لحد رجل ذي غنى وجاه.
وعلى مسافة ساعة واحدة شرقي فقرا، يندفع نبع اللبن ثائرا معربدا في واد عميق وضيق. يعلو هذا النبع الضخم الغزير جسر من صخرة واحدة، وهو - ولا شك - من عمل الطبيعة لا البشر، إلا أنه من الجائز أن تكون يد الإنسان قد أنجزت صنعه، والدليل على ذلك هو أن الأقدار لا تستطيع أن توجد قناطر في مثل هذا الإتقان تراعى فيها - في مدى ما - المقاييس الهندسية. إن هذا الجسر الفريد في نوعه يبلغ عرضه واحدا وثلاثين مترا، وطوله اثنين وخمسين مترا، وعلوه في أعلى نقطة ثمانية وخمسين مترا، وسطحه مغطى بطبقة كثيفة من التراب تزرع حنطة.
إن منظر هذا الجسر هو بالحقيقة جليل مهيب؛ فثرثرة المياه التي توقفها عند جريها حجارة ضخمة أفلتت من الصخور وتجمعت في النهر، والصيحات الحادة ترسلها العقبان التي ترتاد هذا المكان، ونوح اليمام الشاكي الذي عشش هناك، والهواء الذي تتدافع دونه ألوف خفافيش ترفرف بين زاوية وأخرى في شبه عتمة؛ كل هذه المرئيات تكسب هذا المكان المنعزل المنفرد منظرا موحشا. إلا أنه مهيب جدا، وله لذته أيضا.
إن مياه هذا الينبوع الذي يبعد حوالي مائتي قدم عن الجسر تنبثق مرغية مزبدة لتفلت من بين صخرتين بسرعة لا يمكن أن يحدها عقل. إنها باردة كالثلج، وميزتها الهضمية مشهورة في جميع أنحاء تلك المنطقة.
وعندما تتدفق المياه من نبعها، يجري نهر اللبن بسرعة هائلة في مجريين يرويان عدة أماكن، ثم يلقيان أخيرا عصا الترحال في نهر الكلب ونهر بيروت.
ويزعم الأهلون أن صخرة كالرحى سقطت في هذا الينبوع فحالت قوة تدافع مياهه دون وصولها إلى قعره. ويزعمون أيضا أن تلك الصخرة لا تزال ترى حيث وقفت.
إن أبناء لبنان يزورون فقرا أحيانا، ولا يدفعهم إلى تلك الزيارة إلا نهر اللبن ومياهه العذبة. أما رؤية الآثار القديمة فلا تهم العرب مطلقا؛ فالأنقاض تبعث فيهم الهلع لأنها ليست سوى أنقاض الأبنية الدارسة.
أراد شيخان أن يولياني شرفا بمرافقتهما إياي في رحلتي الثانية، فتزودا بما يستطيبانه ويستسيغه ذوقهما، وعلى الأخص بزق من الخمر. وحوالي الساعة العاشرة أخذ الجوع يحرك أمعاء الشيخين، وبينما كنت أخشى - وقد عيل صبري - أن يفوتني النور الكافي فلا أتمكن من قراءة مخطوطة استنفدت جميع قواي، أنذرني هذان الجائعان بأن وقت الغداء قد حان، ولهذه الغاية ذبحا الجدي الذي اصطحباه، حتى إذا ما شرعا بتقطيع اللحم ليشوى على النار، أخذا يفتحان قابليتهما بقلب الحيوان وكبده السخنين، بعد أن مهدا لهما الطريق ونضحاهما بكئوس مليئة من الخمرة الذهبية، وهي أقوى الخمور اللبنانية وأشدها بطشا بالشاربين.
تركنا هذين المولعين بالخمرة يتلذذان كما يشتهيان، وما مشتهاهما غير أسلوب نحن نراه أكثر ما يكون انحطاطا في الذوق. ولكيلا نظهر لهما أننا فقدنا تماما القابلية لدى رؤيتنا ما يستعملانه من أساليب استحضرنا زادنا وتناولنا طعامنا وإياهما بألفة معتادة. إن هذين البطلين تمكنا من أكل الجدي وشرب زق الخمر كله دون أن يذوقا مياه النبع الشهيرة التي ظننت أنهما سيطلبان منها المساعدة.
ولدى عودتي إلى فقرا طفت في الحقول الواقعة للجهة الجنوبية، والتي تحوي كمية كبيرة من أنقاض تدل - ولا شك - على أنها معالم مدينة قديمة نجهل اسمها حتى يومنا هذا.
إننا نجد بين هذه الأنقاض هيكلا صغيرا في طرفه حجرة تقوم المدافن عن يمينها وشمالها، كما نرى ديماسين نالا قسطا وافرا من العناية، وهما محفوران في الصخرة.
وعلى صخرة تقع في الجبل القائم تجاه فقرا، على بعد مسافة نصف فرسخ منها، وجدت هذه الحروف الثلاثة المحفورة بصورة غليظة
T E B . إن أول هذه الحروف بحجم خمسة وعشرين سنتيمترا، والاثنين الأخرين بحجم ستة وثلاثين سنتيمترا، وهي تعلو عن الأرض مترين ونصف المتر.
ولدى عودتنا إلى دير النياح رأينا ناووسا غير بعيد عنه، تزينه عدة نقوش. أما على جنباته فقد كانت محفورة رسوم تروس.
كان علينا أن نختار في رجوعنا قطع أحد واديين: وادي جهنم ووادي الصليب. أخافنا الاسم الأول؛ فهذا الوادي - كما يقال - هو أكثر الأودية خطرا. ومع ذلك فلا يسعنا أن نثني على الثاني؛ إن طوله غريب حقا ومهبطه في غاية الانحدار. سرنا فيه ما يقارب الثلاث ساعات بعد أن قدنا جيادنا وراءنا، وهذا تدبير لا بد من الاعتصام به إذا شئنا أن نأمن التدهور في تلك الجبال.
وفي رحلتي الثانية التي قمت بها إلى فقرا زرت آثار فيطرون، فلم أجد فيها ميزة خاصة. إنها حجارة ضخمة مبني بعضها فوق البعض الآخر. أما الأخرى فهي في غاية التشويش، وأظن أنه كان في هذا المكان مرقب تعطى منه المعلومات والإشارات.
إن ذرى جبل صنين لها أيضا مرقبها؛ فالبناية المربعة الحجم التي ترى آثارها على أعلى قمة من الجبل لا يعقل أن تكون قد خصصت لغير هذا الغرض. والبنايات التي تلاحظ اليوم هنالك لم تكن سوى مقر متولي هذه المؤسسة. إن القبو الواسع استخدم - ولا شك - لجمع مياه المطر.
أما جبل الكنيسة فسمي هكذا لأن كنيسة صغيرة كانت تتوج رأسه، ولهذا الجبل مرقب كما لجبل صنين، وفيه غرفة معقودة بالحجر تستخدم صهريجا.
هوامش
الفصل السابع والعشرون
الآثار القديمة في لبنان: عين القبو، فقرا، صنين، جبل الكنيسة، فيطرون. ***
قمت بجولتين إلى بعلبك سلكت في أولاهما طريق القوافل، وفي الثانية طريقا أخرى خططتها لنفسي؛ ولهذا أنصح السائحين الذين يريدون أن يذهبوا من بيروت ليزوروا هليوبوليس القديمة، أن يتبعوا هذه الأخيرة؛ فطريق مار موسى التي أعنيها تقصر عنها مسافة أربع ساعات، وهي فيما عدا ذلك أقل رداءة، وهذا ما يجعلها مفضلة على غيرها. وإذا ما اتبعنا الطريق التي تتبعها قوافل دمشق نقوم بدورة كبيرة، وفي ذلك إضاعة وقت للسائح لا غير؛ فهو لا يرى إذا ما سلك هذه الطريق إلا «المغاور المزينة»، إنه مشهد مخيف يطل على وادي البقاع وهو على مسافة بعض دقائق من قب إلياس.
وتحت هذه المغاور نجد أنقاض بنيات دارسة ذات اتساع غير قليل يبلغ تقريبا الثلاثة عشر مترا. وقد كانت الآلهة حارسة هذا الوادي الخصيب تسكن هذه الهياكل، ولا شك في أن الحجر الثلاث كانت مقرا لتماثيلها.
إن قصر فخر الدين في قب إلياس لا يتميز بشيء خاص،
1
وضريح مار إلياس المزعوم لا يلفت النظر ولا يسترعي الانتباه.
إن المسلمين يحترمون - كالمسيحيين أنفسهم - النبي إلياس؛ ومن هنا نتجت كثرة الزيارات التي يقوم بها أبناء الطوائف - على اختلاف أنواعها - إلى هذا المكان. لقد شيد على مقربة من ضريح النبي مسجد يعيش سدنته من الصداقات التي يمن بها الذين يترجون الظفر بأمانيهم بشفاعة هذا القديس عند زيارتهم مقامه هذا؛ فتقاليدهم تؤكد لهم أن أشلاء النبي ما زالت حتى اليوم في هذا المكان. والغريب أن هذا الاعتقاد لا يمنع المسلمين والمسيحيين من أن يشفعوا عادة اسم مار إلياس بلقب الحي.
تنبئ خريطة البقاع عن وجود عدد كبير من المقامات المكرسة للأنبياء، وهذا ما يؤكد تقديس المسلمين لهذا الوادي.
والزعم الأشد غرابة هو أن ضريح نوح - الذي سأتكلم عنه - موجود أيضا في هذه البقعة. وهذا ما جعل لهذه الأمكنة شأنا عظيما في نظر الشعب. تؤيد ذلك الخطوط العربية التي تكسو جدرانها الداخلية؛ فهي تخبر عن أسماء عديدة احتلت مكانا خطيرا في التاريخ.
وإخال أن كثرة هذه المزارات قد نتجت عن منازعات طائفية؛ فكل شعب فاتح شاء أن يعزز بدوره أولياءه، فقوض لهذه الغاية الأمكنة التي كرست لمعتقد غير معتقده أو حولها لأوليائه؛ فالتنازع في جميع الأعمال هو أول خاصة من خواص الشرقيين.
ولا أنصح السائحين أبدا أن يذهبوا ويروا آثار مشيمشة التي تبعد مسافة ساعة ونصف عن مار حنا؛ فهنالك أربعة نواويس تثير بعض الفضول، وأهمها اثنان يبلغان المترين في الطول والعلو. وإذا ما رغبنا في التفتيش عثرنا على بقايا آثار مبعثرة هنا وهنالك، ولكن كل ما نراه في ذلك المكان يبدو لنا غير منسق، وميزته الوحيدة هو أنه عتيق ليس إلا.
وعلى منتصف الطريق الواقعة بين المروج وزحلة؛ أي قبل أن نبلغ هذه المدينة بثلاث ساعات، وجدت على أحد الصخور طغراء الإمبراطور أدريان، ووجدت مرة أخرى - على الطريق نفسها - تاريخ فترة على جانب كبير من الغموض
IX Julii ، وأظن أنها تدل على ما يدل عليه شهر تموز.
يجد المسافر من زحلة طريقين تمكنانه من الوصول إلى بعلبك. سلكت هذه الدربين دون أن أجد أثناء عبوري شيئا يستحق الالتفات إذا استثنينا مخطوطة أبلح العديمة الأهمية، والمسجد الصغير الذي يبعد مسافة نصف ساعة من مدينة الشمس. لست أشك في أن هذا المسجد وجوامع المدينة كلها قد شيدت بحجارة الهياكل المختلفة التي قامت في بعلبك؛ وذلك لأننا نرى في جدرانها جميعا أعمدة يختلف بعضها عن البعض الآخر في الشكل والنوع.
قمت بعدة جولات من زحلة، فوفقت إلى بعض الاكتشافات. وأهم ما اكتشفته - حسبما أرى شخصيا - كان الضريح الروماني الذي يسميه العرب: الجب (البئر) لأن نبعا يتدفق هناك من فم السرداب.
يبلغ عرض هذا الأثر ثلاثة أمتار وسبعين سنتيمترا، ويبلغ طوله حتى خد الباب ستة أمتار وخمسا وستين سنتيمترا، ومن هذه الزاوية حتى الزاوية الخارجية ثلاثة أمتار ونصف المتر، أما علوه فنحو ستة أمتار. إنه كان - ولا شك - مدفن إحدى العائلات الميسورة، وقد وضع تحت حماية الآلهة التي كانت ترتع في الحجر الثلاث.
تأسفت لعدم استطاعتي النزول إلى السرداب لأن مياه النبع لا تجف إلا في أواخر الصيف.
وشاهدت عدة هياكل في الطيبة وقصر نابا
Qasser Naba
ونيحا، فالهيكل الذي لم يقوض كالهياكل الأخرى يعرف اليوم باسم حصن نيحا، وتيجان أعمدته تمثل زهر الحندقوق، والهيكل الواقع على مقربة من تلك القرية يسمى القلعة، وهو قورنثي النمط. ومهما يكن من أمر فهو أجمل تنظيما وتنسيقا من هيكل فقرا، وإن كانا مبنيين على طراز واحد.
وإلى الجهة الجنوبية من حصن نيحا تبدو أنقاض إحدى المدن، وعلى مسافة عشر دقائق منها ديماس لم نتمكن من الدخول إليه لأنه كان محاطا بسور. إن منفذ هذا الديماس مزين بعمودين مزدوجين، ونجد على بضع خطوات شبه مسلة طولها حوالي المترين، كانت - ولا شك - تقوم في أعلاه، وفي رأس هذه المسلة رسم حندقوقة.
أما الفرزل - وهي مدينة قديمة جاء ذكرها في كتب الصلاة عند الروم - فما هي اليوم إلا قرية حقيرة، استعان أهلوها بحجارة أبنيتها القديمة على تشييد كنيستها، وإذ لم يستطيعوا هدمها لغموها وحطموا حجارتها الضخمة ليستطيعوا التصرف بها بسهولة.
نجد على جدران أحد بيوت الفرزل صورة رأس ممحوة رديئة الصنع، وفي أسفلها كتابة باسم محمد بن العباس تحمل تاريخ 738ه. وقيل إن محمدا هذا أتى لزيارة هيكل نيحا. وهذا يدلنا على أنه صار إلى مسجد أو أنه اشتهر بأعجوبة ما.
وغربي المدينة نجد المغاور الشهيرة المنقورة في الصخر، وهي لا تزال كثيرة رغم اندثار بعضها بسبب الانهيارات. يتصل بعض هذه المغاور بالبعض الآخر، وتزعم التقاليد أن بعض النساك كان يسكنونها، والعرب يطلقون على هؤلاء اسم حبساء الفرزل.
كان هؤلاء النساك يملكون كنيستين أو معبدين: الأولى تقوم فوق المغاور، والأخرى تستوي والأرض. ولقد وجدت بين المقاصير - وهي كلها ذات شكل واحد؛ أي مقطوعة بشكل طربوش، ومتساوية الحجم - مقصورة كلست ثانية. وهنالك مقصورة أخرى استخدمت غرفة للطعام، وتبلغ في أوسع مكان منها ستة أمتار وسبعين سنتيمترا.
وتحت المغارة الأولى بقليل نرى ديماس الحبساء، وتقوم حوله تسع حجر فسيحة يبلغ علوها مترا ونصف المتر، وفوق مدخل هذا الديماس حجرة فيها صخرة تنتهي بنتوء كأنه السن. ونرى في بعض المغاور حفرا بشكل قوارير يرجح أنها كانت مستودعات المؤن. وهناك آثار أقنية صغيرة كانوا يتلقون بواسطتها مياه الشتاء أو يخزنون مياه نبع ما.
ولما كان يستحيل علينا الدخول إلى جميع الحجر فلم نستطع التأكد من أن أولئك الحبساء كانوا يملكون أحواضا كبيرة تجمع فيها المياه. غير أننا نرى هنالك أثرا نستدل منه أن ساقية كانت تجري في سفح الجبل.
نجد في هذا المكان ما يقارب ست طبقات من المغاور يقوم بعضها فوق البعض الآخر، وهي تبعد عن الفرزل مسافة ربع ساعة.
وتجاه تلك نجد ثلاث مغاور أخرى مختلفة الأشكال؛ صغراها مربعة الحجم، ذات باب كبير، وقد أطلقوا عليها اسم المعصرة، وإذا ما حكمنا بالاستناد إلى الخرزة والجرن الذي يتلقى السوائل، يبدو لنا أنها خصصت لهذه الغاية. أما المغارتان الأخريان - وهما أقل رحابة من الأولى - فتحتويان بعض التماثيل، وإحداهما ذات شقين، أما الأخرى فسقفها مثلث الشكل.
وتجاه البقاع جنوبي هذا المكان نجد - إذا ما سرنا في لحف الجبل الذي يحاذي المغاور بعد مسير عشر دقائق صعودا - تمثالا منقوشا في الصخرة إلى جانب حجر ضخم هو على أهبة أن يهوي من مكانه. فهنالك المقلع الذي تقتطع منه الفرزل حجارة البنيان.
إن صنع هذا التمثال متقن، بيد أنه غير تام، وقد أتلف تلفا كبيرا. يقارب هذا التمثال المتر حجما، وإني لأجهل السبب الذي حدا العرب إلى تسميته بالقسيس أو القسيسة.
والآن وقد جاء دور الكلام عن بعلبك، فسوف لا أسهب في وصفها لأن الكثيرين قبلي شاهدوها ووصفوها. سأتكلم عن البناء المقبب وحده؛ فهو قائم على بعد ماية قدم شرقي الهيكل الصغير، تزين واجهته الشمالية أربعة أعمدة من الرخام الأبيض منحوتة على الطراز القورنثي. وحول هذا البناء تقوم - في الجهة الخارجية - أربع حجر تتألف منها زواياه الخمس وتتكئ على خمسة أعمدة من طراز أعمدة البوابة. وفي كل حجرة قاعدة خصصت - كما يظهر - للتماثيل التي كانت تنصب عليها. إن أعلاها مزدان بصفدة عقيق جميلة، لا تزال أربعة أعمدة وثلاث حجر قائمة حتى اليوم، أما بقية البناء العليا فقد تهدمت.
يطلق سكان بعلبك الحاليون على هذا البناء اسم كنيسة القديسة بربارة. وإذا قسنا هذه البناية ابتداء من الباب يبلغ طولها إحدى عشرة قدما هندسية وعرضها اثنتي عشرة.
وتحت الهيكل الكبير قبة تبتدئ في الجهة الشرقية وتنتهي في الجهة الغربية. أما طولها فمائة وستون قدما هندسية، وعرضها ست أقدام. إننا نلاحظ على أغاليق عقد هذه القبة نقوشا تمثل الآلهة، مثل هرقل وديانا ... إلخ.
وعلى مقربة من تمثال هرقل، قبالة دار موروية يبلغ طولها مائة وأربعا وثلاثين قدما وعرضها ثماني أقدام، نجد هذه الكتابة:
Divisi Mosc ، وقد كتبت في سطرين.
إن هذه القبة الموروية التي تبتدئ على ثلاث وعشرين قدما من الباب، تتصل بقبة ثانية موازية للأخرى؛ أي إنها تمتد أيضا من الجهة الشرقية للجهة الغربية، متبعة المقياس نفسه في الطول والعرض، وفي أعلاها نقرأ أيضا هذه الكلمة:
Divisi .
وعند دخولنا نجد إلى اليسار غرفة تبلغ إحدى وعشرين قدما طولا، وسبع أقدام عرضا. أما إلى اليمين فنمر في مدخل ينتهي إلى مسكن يبلغ طوله سبع عشرة قدما وعرضه سبع أقدام.
جميل أن ندرس في هذه المدينة المخطوطات المتعددة الموجودة على جدران الهيكل الكبير والمساجد المتعددة. ولقد اكتشفت هنالك اسم ملك فارسي لم يأت على ذكره المرحوم رولو، في كتابه الذي يدور موضوعه على سلالات الملوك. غير أني - ويا للأسف - فقدت نسخة تلك المخطوطة لأني بعثت بها إلى قاض في بيروت لاعتقادي أنها كانت تحوي آية ظننت أنها مأخوذة من القرآن. ولقد قرأت عدة مخطوطات ترقى إلى سنة 611 و704 و740ه، نقشت بأمر من الحكام العرب.
وهذه النبذة التالية الواردة في تاريخ «الهان» العام تنبئنا عن الاجتياحات الكثيرة التي تعرضت لها هذه المدينة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر:
وفي عام 1083؛ أي 476ه استولى توتوخ سلطان بلاد العجم على بعلبك التي كانت يومذاك في يد المصريين، فعاد هؤلاء واحتلوها مرة ثانية عام 484ه.
وعام 526ه، خضعت بعلبك لمحمد أمير دمشق الملقب بشمس الدولة. ثم في عام 533ه، سقطت بين أيدي عماد الدين زنكي وكانت يومذاك لدمشق. وبعدئذ احتلها مجير الدين عبس.
وعام 1157؛ أي 552ه، احتل بعلبك نور الدين قطب الدين. وفي هذا العام نكبت سوريا بزلازل أرضية عنيفة. وفي سنة 570ه، استولى صلاح الدين على بعلبك، ثم خلفه في الحكم الأمير مجد الدين بهرام شاه عام 589، وبعد ذلك خضعت للمغول وحكمها هولاكو خان.
وفي عام 1025؛ أي 415ه، احتل بعلبك صالح بن مرداخ زعيم العرب الكلابيين.
وعام 1400 أي 803ه، سقطت بين يدي تيمورلنك.
إن بعلبك تخضع لدمشق وهي إقطاعة منها. وقد تسلم آل حرفوش - أمراء المتاولة - زمام حكمها، وهي الولاية الوحيدة التي عهد بها إلى هذه الأسرة مع بعض الصلاحيات التي كانت لها في ضواحي صور؛ فآل حرفوش هم أول من سكن هذه الناحية من سوريا، وقد قل عددهم اليوم.
يسيطر المتاولة على قسم من البقاع واسع جدا، وهو أخصب أرض مروية في سوريا. ومع هذا الخصب والري فلا يزرع منها ما يكفي لسد رمق شعب بائس قليل العدد.
إن التلال القائمة حول السهل، والتي كانت أشهر جميع أنحاء سوريا في إنتاج أطيب العنب قد خربت وأتلفت بلا شفقة بناء على أوامر الأمير الحاكم ليمنع الدمشقيين من استئجارها.
فلو لم يحسن آل حرفوش الاستفادة من العلاقات التي تربطهم برعاة بلاد ما بين النهرين العرب، لما استطاعوا القيام بنفقات أتباعهم المسلحين، ولكن مقايضتهم مع أولئك الرعاة كانت تدر عليهم كثيرا من الخيرات وتمهد لهم سبل المعيشة.
وإذا ما اتجهنا إلى بعلبك مارين في منتصف الوادي أعجبنا بذاك النشاط الذي نلمسه في حراثة الأراضي المزروعة حبوبا. أما التشجير فلا يبالى به منذ سنوات عديدة؛ فالعناية بغرس الأشجار تتلاشى وتزول رويدا رويدا بقدر ما نبتعد عن حدود دولة لبنان.
يشعر الناظر بغبطة لا حد لها إذا ما ألقى نظرة على سهل البقاع من قب إلياس. أما إذا ما تطلع من بعلبك فإنه يتألم ويحزن؛ فمتى تركنا أراضي تلك الولاية لا نر إلا حقولا يغطيها العوسج والأشواك؛ فالعين التي تتعب من رؤية هذا المشهد المؤلم ذي النمط الواحد، لا تجد أمامها لتفتن بعض الافتتان إلا مشهد بعض الروابي القاحلة التي يخالها الناظر - نظرا لتكوينها الغريب - حجارة قبور مخروطة الشكل. ومنذ حين غامر أهالي جبة بشري وزحلة في شراء عقارات من المتاولة الذين أصبحوا كثيري التخوف فجنحوا إلى السلم وصاروا أقل ميلا إلى المنازعات.
كان أمراء آل حرفوش قديما يكيد بعضهم لبعض ويشنون فيما بينهم غارات مستمرة. ولكي يواصلوا منازعاتهم الظالمة ويمدوها بما تحتاج إليه من عتاد وغيره، أثقلوا كاهل المزارعين بفرض الضرائب الغاشمة عليهم؛ وهذا هو سبب التباين الذي كنا نلمسه ما بين حالة زراعة هذين البلدين. إن الأمير بشير - رغم طابع حكمه الجائر ولجوئه إلى الأساليب العنيفة ليوطد زمام سلطانه - كان يتقيد ببعض الأصول التقليدية التي تضمن الحقوق الشخصية ضمانة كبرى.
إن من يرى قرى المتاولة يخال أن بيفون قد شاهدها حين وصف الطبيعة التي أفسدها البشر؛ فالقطعة التي كتبها في هذا الموضوع هي صورة تمثل لأعيننا ما نشاهده في هذه المقاطعات، وترينا الأسباب التي أدت إلى الخراب والدمار. قال بيفون:
ومع ذلك فالرجل لا يتقلد الحكم إلا بفضل غزواته وفتوحاته؛ فهو يتنعم ولا يملك. إنه لا يستطيع المحافظة على سلطانه إلا بهذه المساعي التي تتجدد دائما. وإذا ما وقف عدوانه ذوى كل شيء، وفسد وتبدل وعاد إلى مجراه الطبيعي. إن الطبيعة لتستعيد حقوقها وتمحو أعمال الإنسان وتكسو أشد آثاره تيها وزهوا بالغبار والطحلب، ثم تدك معالمها كلما تقادم العهد، فتترك في نفس ذلك الجائر ندما وحسرة على اعتدائه على آثار أسلافه. وهذه الأيام لا بل القرون البربرية التي يضيع فيها الإنسان ملكه، ويفنى فيها كل شيء، لا يسببها غير الحروب، ولا تكون إلا في سني الجدب والقحط، والهجرة التي تقفر البلاد. لا يستطيع الإنسان أن يعمل إلا متكتلا، ولا يقوى إلا بتكاتفه، ولا يسعد إلا بالسلم. إنه يهلع ويجزع إذا ما فكر بحمل السلاح والقتال اللذين يجران عليه الخراب والويل والتعاسة. وعندما يحرضه نهمه الذي لا يشبع، ويعميه طمعه الجشع، يتناسى شعوره الإنساني، ويوجه قواه إلى نفسه، ويحاول أن يتفانى لا بل أن يفنى حقا. وبعد الأيام الدامية والمذابح يرى بعين كئيبة - عندما يتبدد دخان النصر - الأرض مقفرة، والفنون مدمرة، والشعوب مبعثرة، والأمم ضعيفة، وسعادته الشخصية محطمة، وقوته الحقيقية مضمحلة.
2
هوامش
الفصل الثامن والعشرون
تابع الآثار القديمة في لبنان، وادي البقاع، دير مار سمعان، عنجر، النبي زور، النبي نوح، زحلة. ***
عندما تركت بعلبك أحببت أن أسير في لحف الجبال المناوحة للبنان كي لا أدع شيئا ورائي له بعض الأهمية،؛ فشاهدت رصيفا قديما تتكون منه طريق بعلبك التي تؤدي إلى صور وصيدا. وهذا الرصيف رفع عاليا ليستطاع المرور عليه - أثناء فصول الشتاء الممطرة - حين تكون أراضي البقاع مغمورة بالمياه.
إن أنقاض دير مار سمعان ليست بذات طابع خاص، وهي تدل على مكان مؤسسة دينية مسيحية حلت على الأرجح محل هياكل كرست لعبادات أخرى، وذلك شأن الشعوب المتعاقبة؛ فإن تقواها تدفعها إلى هذا العمل فيحل المعبود المقبل محل المدبر.
تنبئ تقاليد البلاد عن وجود عدة قرى من أصل فرنسي، تقع عند أقدام الجبال المناوحة للبنان. والقرية التي زرتها لأنها تسمى «عنجر الفرنسية»، يحيط بها سور محصن ببرج. بنى هذه البلدة المحاربون الصليبيون عندما طردوا من الأرض المقدسة.
1
ومع أني لم أتوصل إلى اكتشاف أي أثر يثبت صحة الرواية التقليدية، كنت مقتنعا كل الاقتناع بصحتها. إن طراز بناء قرية عنجر لا يمكن أن يكون إغريقيا ولا رومانيا أو عربيا؛ ولهذا لا يصح لأن تنسب إلا إلى الأوروبيين. أما القناة التي تجر مياه أحد الينابيع إلى القرية والقصر فجديرة حقا بالاهتمام.
إن مياه هذا الينبوع ذات مد وجزر؛ ولهذا ظنها أبناء البلاد مسحورة.
إن المطحنة المائية المشيدة هنالك يرتادها أكثر أبناء قرى الضاحية الغربية المجاورة للجبال المناوحة للبنان؛ نظرا لندرة المياه في جميع أنحاء تلك البقعة.
وجدت بين أنقاض قرية عنجر قطع أعمدة من صوان جميل أسود اللون وأبيضه وأحمره.
وغير بعيد من هنالك يقوم مقام النبي زور، وهو جامع مشيد على آثار هيكل قديم.
إن احترام ذلك المكان وإجلاله ونوع الحجارة التي استخدمت في البناء الجديد ينبئان أن هذا المحل كان مزارا مقدسا قبل مجيء الأتراك. وفيما عدا ذلك نرى هنالك حفرة مطمورة طافحة بالمياه، ويبدو للنظر أنها كانت فسيحة. وهناك نواويس وصهريج ينزل إليه بدرج، وحول هذا الصهريج أنقاض كثيرة على جانب كبير من الضخامة.
والنبي نوح الذي يبعد قليلا عن المعلقة - وهي قرية قرب زحلة - مقام ذو آثار ترقى إلى عصرين مختلفين؛ فجامعه الكبير المدعو باسم هذا النبي زاره عدد كبير من الخلفاء والسلاطين، وقد خلدت زياراتهم تلك المخطوطات المنقوشة على جدرانه.
بني هذا الجامع الكبير بحجارة الهيكل القديم. أما ضريح هذا النبي القديم فمشيد في غرفة طويلة تتناسب مع حجم اللحد الذي لا يزيد طوله على الواحد والثلاثين مترا، أما عرضه فمتر وخمسة وستون سنتيمترا. إن الذين خطوا الضريح لم يشاءوا أن يجعلوه أكبر مما هو عليه خوفا من الابتعاد عن الواقع؛ لأن بنية نوح الجبارة - لا بل أكثر من جبارة - يجب أن يزاد قبرها خمسة أو ستة أمتار عما هو عليه. بيد أنهم - دون أن يبالوا باحترام هذا الجسد المقدس - جعلوا ساقي الدفين منتصبتين عموديا؛ وهكذا اختصروا القبر فجعلوا نهايته عند أول الركبتين.
تعد قصبة زحلة حوالي ثلاثة آلاف من النفوس، وهي واقعة في واد على منحدر رابية، وتحت هذه الرابية تجري ساقية صغيرة فتروي بضع مئات من أشجار الحور يتفيأ ظلالها أكثر السكان حين يدفعهم قيظ الصيف من مساكنهم الضيقة القليلة الارتفاع.
إن بيوت زحلة مبنية بالتراب والقش، تدخر حرارة شمس النهار وتحفظها طول الليل؛ وهذا ما يحمل أبناء زحلة على أن يناموا فوق سطوح منازلهم في العراء. وهذه البيوت نظيفة الداخل، وأكثرها كبير واسع يدخله الهواء وتتوافر فيه جميع أسباب الراحة كما في بيوت المدن. ويخيل للذي يرى هذه البيوت أنه في إحدى قرى جزيرة قبرص المشيدة بالمواد نفسها.
يرتدي سكان زحلة بوجه عام ملابس نظيفة جيدة، والنساء يلتحفن بمئزر من النسيج الأحمر، ويعصبن رأسهن ببساطة كلية، فالطربوش المعصوب بمنديل يغطي الرأس يذكر السائحين بملابس أهل قبرص. وفي زحلة أمر تجدر ملاحظته؛ وهو كيف يدفنون موتاهم. إنهم يدفنونهم على وجه الأرض تقريبا، وعلى مسافة بضع خطوات من منازلهم؛ يضجعونهم في أضرحة تشبه النواويس يبنونها من كلس ورمل فيبدون كالموميات لمن يراهم حين يوسدون الثرى.
أكثر سكان زحلة من الروم الكاثوليك. وهم شجعان أشداء، حمل تكاتفهم جيرانهم المتاولة على احترامهم، وخمسمائة من الزحليين يحمون بلدتهم من كل عدوان خارجي. وعندما أعلن الدروز ثورتهم على الموارنة انضم أهالي زحلة إلى هؤلاء وصمدوا في وجه الدروز، لا بل غلبوهم على أمرهم وكبدوهم خسائر فادحة.
تتجر هذه البلدة بالمأكولات والأنسجة والأصواف والزبدة.
تصدر الأحكام القضائية في زحلة باسم الأمير الكبير، والإدارة المحلية منوطة بأحد ضباطه، يعاونه مطران الأبرشية في تدبير الشئون المختصة به.
إن جميع سطوح منازل قرى البقاع وجدرانها الخارجية مغطاة بكوم من زبل البقر المخلوط بالتبن الخشن الذي عافت أكله تلك الحيوانات. والأهالي يجففون هذا الزبل ليجعلوه وقودا.
وإذا ما استثنينا بضع أشجار من الحور فقلما نجد في سهل البقاع شجرة واحدة. إن الذين يرونه الآن لا يمكنهم أن يهتفوا: إن رجلا نافعا مر ها هنا!
لقد أمر إبراهيم باشا بتشجير هذه الناحية؛ فجيء بعدد كبير من الأشجار لتزرع في البقاع، ولكن إذا سمحت لنفسي أن أحكم على الأعمال لا على الأقوال، أقول: إن هذه البقعة لا تزال قفراء كما رأيتها في رحلتي الأوليين، وقد عملوا فيها كما فعلوا في حلب تحت بصر هذا القائد.
إن زحلة تفرح وتسر في الربيع، وخصوصا من يتيسر له أن يسكن الضاحية المرتفعة منها. والسيد بودين - الذي أنزلني في داره مدة من الزمن، شيد فيها لنفسه بيتا على جانب كبير من الجمال، في أجمل موقع يمكن أن يتخيله إنسان.
وعندما اضطرنا مدفع «نافاران» إلى مغادرة مراكزنا أصبح لبنان ملجأ جميع فرنسيي سوريا. والسيد بودين القائم بأعمالنا في دمشق انكفأ إلى زحلة، بينما كنت أنا أنزل حينا بعد حين في مختلف الأديرة؛ فرجال الأكليروس الذين سمحت لي الفرص أن أخدمهم في عدة مناسبات أظهروا لي اهتماما بالغا ليبرهنوا عن عرفان جميلهم.
إن السيد بودين هو صديق لي منذ مدة طويلة (وهو صديق جميع الذين يعرفونه). ولما كنت أغتنم ساعات فراغي للتلهي، فقد شاء هو أيضا أن يحصل على نصيبه مني، فزرته يرافقني صديق آخر، هو أحد أولئك الفرنسيين المحبوبين الذين عرفتهم سوريا: السيد فورتونه أومان.
وفي تلك الرحلات التي قمنا بها معا شد ما تلذذنا بالتحدث عن وطننا الذي جعله ابتعادنا عنه جميلا في أعيننا أكثر مما هو عليه ألف مرة. إننا نأسف عندما نفقد شيئا، وعند ذاك يمكننا أن نقدر قيمته؛ وهكذا يجب أن نحرم امتلاك شيء لندرك أهميته وحاجتنا إليه.
كانت امرأة السيد بودين ترافقه، وهي سيدة تتجسد فيها الدعة واللطافة. ففي هذه الرفقة الممتعة قضيت خمسة عشر يوما في رحلاتي أصور وأعشب، وإن لم أجن من عملي هذا غير تعب ومشقات، وأخيرا كنت أتنعم بمجالس ضيوفي المجتمعين حلقات حلقات، وبهم حلت في عيني تلك الأمكنة. ما أحلى زحلة والبقاع أثناء فصل الربيع، وعلى الأخص لشخص يحب الحليب! إن الزبدة وألبان الجواميس لذيذة الطعم فيها.
هوامش
الفصل التاسع والعشرون
تاريخ الموارنة
قلت سابقا إن سكان لبنان هم الموارنة، والروم الكاثوليك، والروم الأرثوذكس، والدروز، والمتاولة. أما الملل الأخرى التي نجدها في تلك الجبال كالمسلمين، واليهود، والأرمن الكاثوليك فضئيل عددها.
سوف لن أتعب قرائي ببحثي مطولا عن أصل الموارنة، ولن أتعرض لمجادلات شغلت كثيرا من المؤرخين
1
عن منبع هذه الطائفة ومصدرها، ولكني أسمح لنفسي بالقول إنهم ضلوا جميعا في قضية تكتنفها الغوامض، وإن اختلف ضلالهم قلة وكثرة. فإذا لم تسفر تحريات علمائنا عن معرفة ما يرغبون فيه، فذلك لأن الأجيال القديمة المقدسة هي أيضا قد احتفظت بأسرارها، وأرخت سدولا لا تخترق على ما ضنت به، أو شاءت أن تحجبه عن إدراكنا.
لسنا نعرف معرفة لا تقبل الريب إذا كان الموارنة أتوا إلى لبنان من بلاد ما بين النهرين أو من فلسطين. ومهما يكن من أمر فأرجح أنهم من أصل جنوبي أكثر مما هم من أصل شرقي، رغم الآراء التي تؤيد الفكرة الأخيرة. وهنالك رأي ثالث، يمت إلى الأول بصلة، ينبئنا أن الموارنة وجدوا - في القرن السادس - في مدن حماة وقنسرين وأفاميا، وأن مار مارون - الذي يقال إنه ولد في بلاد ما بين النهرين - سكن تلك البقاع قبل ذلك بقرنين.
وعلى كل فهاكم ما ترويه التقاليد حول هذا الشعب المعروف بالشعب اللبناني اليوم.
إن بعض مسيحيي سوريا الذين اضطهدهم الإسرائيليون والوثنيون، على إثر نشأة الكنيسة، فكانوا يسمونهم السريان،
2
قد لجئوا إلى جبل لبنان، وعاشوا فيه جماعات جماعات حتى القرن الخامس؛ الفترة التي قدم خلالها يوحنا مارون - تلميذ الأنبا مارون القديس - مفتشا عن ملجأ حصين في لبنان هربا من ثورات هراطقة بلاد ما بين النهرين وأنطاكية الذين ذبحوا ثلاثماية تلميذ من تلاميذ الأنبا مارون. أخذ يوحنا مارون يبشر برسالته فلاقى نجاحا باهرا نظرا لسعة ثقافته وبراعته في الكلام. وهنالك أسس رهبانية مار مارون فانخرط فيها أكثر السوريين واتبعوا تعاليمها وكانوا قدوة.
3
ولدى انشقاق كنيسة الروم أو كنيسة الشرق لم ينفصل الموارنة عن الكنيسة اللاتينية؛ كانوا يعيشون في كسروان، منفصلين عن الملل الأخرى، ناهجين نهج الرهبان الأبرار الذين كانوا يتولون إدارة شئونهم مدنيا ودينيا، فكانوا أمراءهم وزعماءهم
4
ورؤساءهم في وقت واحد.
إن الإمبراطرة أو أكليروس القسطنطينية، وقد قتلهم الحسد لدى رؤيتهم أبناء هذه الجبال يعيشون هادئين، ناعمي البال، وسط الخلاقات وبلبلة الكنيسة التي كانوا يحمونها، أوفدوا إليهم بضع شراذم تخضعهم وتعاقبهم لاتباعهم البابا. إلا أنها دحرت عدة مرات بعد أن منيت بخسائر فادحة.
5
وعندما أغضبتهم هذه المقاومة استمالوا أحد سلاطين دمشق وأغروه ليثأر لهم من هذا الشعب المتمرد. ولما كان جيش هذا السلطان لا يجرؤ أن يهاجمهم بالسلاح، فقد لجأ إلى استعمال الحيل الحربية؛ خدعهم بعقد ميثاق تحالف يربط بين مصالحه ومصالحهم، ليقفا معا في وجه أولئك الإمبراطرة. ثم دعاهم إلى اجتماع في سفح من سفوح جبال لبنان حضره الأمير إبراهيم الماروني وأكبر قواد أمته، وفي أثناء هذا الاجتماع العام الذي كان يسوده الارتياح التام، وبينما كانوا يتناولون طعامهم جميعا، أومأ السلطان إلى رجاله فذبحوا الأمير وعدة أشخاص من أسرته مع جميع قواده وحاشيته الذين حضروا الاجتماع، وكان يبلغ عددهم خمسين شخصا. واستغل السلطان الذعر الذي عقب هذا الحادث ، فتوغل في الجبل على رأس عدة شراذم من عسكره، أقرها في الضواحي، وأخذ يطارد الموارنة التعساء الذين وقعوا في الشراك كقطيع من الماعز، فذبح منهم قسما كبيرا بلا شفقة أو رحمة، واختبأ قسم آخر في المغاور، أما الباقون فقد تشتتوا هنا وهنالك هاجرين هذه الديار. ثم إن هذه الفلول التائهة بين مكان وآخر التجأت أخيرا إلى جبال تراقية الواقعة على شاطئ مالابار، وهم لا يزالون هنالك - كما يقال - حتى اليوم، وقد بلغ عددهم مائتي ألف شخص. إنهم لم يحافظوا - فيما يختص بتعاليم الديانة المسيحية - إلا على سر العماد الذي يمنح باسم الأب والابن والروح القدس ومار يوحنا مارون. والبعض الآخر يزعم أنهم كانوا يعمدون برسم إشارة الصليب واسم مار مارون، وهم يجهلون اللغة السريانية. وفي هاتيك الفترة التي تلت نكبتهم تلك دخل المتاولة كسروان وظلوا في هذه المقاطعة حتى أيام الأمير يوسف الذي أجلاهم عنها.
ويقال - بناء على زعم الكثيرين - إن عدد الموارنة كان كثيرا لا يستهان به في الهند، وإنهم كانوا يعيشون فيها سعداء مستقلين، لا يعكر صفوهم معكر؛ نظرا لأعمالهم الزراعية التي كانوا يقومون بها، ومراكز إقامتهم المنيعة التي لا تقتحم.
أوفد البطريرك حنا الحلو والمطران يوسف إسطفان - مؤسس عين ورقة - إلى تلك البلاد، سنة 1813، راهبين اضطرا إلى التوقف في بغداد بسبب الحيرة التي وقعا فيها، لا لعدم توفر الأسباب المؤيدة لوجود هؤلاء النصارى الذين يقال إنهم يتحدرون من الموارنة، بل للصعوبات التي اعترضت وصولهما إليهم، فعادا على أعقابهما. ومذ ذاك لم يقم أحد بمحاولة أخرى من هذا النوع.
ويظن في بغداد أن بعض المرسلين تمكنوا من الوصول إلى جبال تراقية فردوا أهليها إلى اعتناق الكثلكة. ويجب أن نلاحظ أن البيان الذي نشرته نيابة أسقفية مالابار
6
قد تناول المسيحيين الأول المعروفين باسم مسيحيي القديس توما - الكلدانيين السريان أو السريان فقط - الذين لم يتفقوا والموارنة إلا في دحض مغالطات أوطيخا ونسطور. إن هذا البيان لم يأت على ذكر جبل تراقية.
وأشد الآلام التي قاساها الموارنة، في الآونة الأخيرة هي - بلا ريب - تلك التي تلت سقوط فخر الدين. لقد استنزفت بادئ ذي بدء جيوبهم من جراء دفعهم نفقات أميرهم الضخمة. وعندما حدث الانقلاب وما تلاه من نتائج سيئة سحقوا تماما؛ ففي تلك الآونة توطدت - بنوع خاص - العلاقات القائمة بين الموارنة والفرنسيين؛ لأن مصيرهم البائس لم يكن يريهم خشبة النجاة إلا في تدخل ملك فرنسا - لويس الكبير - الذي ملأت شهرته قلوب مسيحيي لبنان ودوت في جميع جبالهم.
وبهذه المناسبة (1659) أخذ الملك على عاتقه حماية البطريرك، وجميع الأساقفة والإكليريكيين والعلمانيين الموارنة، ثم توسط سفير فرنسا في القسطنطينية للمحافظة على هذا الشعب وحماية مصالحه.
ويظهر أن الموارنة ظلوا في قلق وخوف، كما يتبين ذلك مما نشره دي لاروك من براءات ملكية ترجع إلى عام 1697 حول مساعي أمراء لبنان وبطريركه في تغيير أسلوب الحكم المجحف بحقوقهم.
ففي عام 1662 عين أحد أفراد آل الخازن - وهؤلاء هم من أعرق وأشرف عائلات الجبل - قنصلا لفرنسا في بيروت. وكان القصد من هذا العطف أن يخول أحد الموارنة الأقوياء بعض السلطة ليعاضد إخوانه ويرعاهم.
وقد فهمت من أحد أساقفة هذه العائلة أن الكنيسة الأولى، التي شيدت في كسروان - يوم كان يأبى تعصب المتاولة الأقوياء، حينذاك، أن يكون للمسيحيين مكان عام يصلون فيه - كانت في منزل قنصل فرنسا. فهذا القنصل الخازني جعل مقره الصيفي في الجبل، فكان ذلك المكان مصيفا وكنيسة في وقت معا؛ وهكذا أتاح لبني ملته ممارسة طقوسهم الدينية.
ترجع شهرة أسرة بيت الخازن إلى الشدياق سركيس الذي والاه الحظ فحمى أبناء الأمير معن. والصغير الذي ربي بين أولاد الشدياق سركيس أصبح فيما بعد أميرا؛ فاتخذ مدبرا له الرجل الذي قام مقام والده؛ وهكذا احتفظ آل الخازن بهذا المنصب؛ لأن خلفاء الأمير سلكوا مسلك والدهم، مدة مائتين وثماني عشرة سنة، مشتهرين بالمقدرة والاستقامة.
وما بلغت عائلة الخازن قبة مجدها وشهرتها حتى أخذت تعاني صروف الدهر وضربات القدر التي كانت تتوالى عليها بسرعة متتابعة. وعندما أفل نجمها تمكنت بفضل خدمات قامت بها أن تكتسب عطف الرجال العظام في بلاد فرساي والقسطنطينية. إن هاتين الدولتين اتفقتا على مخالفة شرائعهما الخاصة ونظمهما لتعينا - كما سبق لي أن قلت - أحد مشايخ آل الخازن قنصلا في بيروت، وقد لقبوه في باريس بالأمير.
إن البراءة الملكية الصادر في شهر تموز 1708 تشير إلى براءة أخرى سابقة لها يرجع تاريخها إلى سنة 1662. أما آخر براءة فصادرة سنة 1721. وهنالك براءات أخرى عديدة قد اطلعت عليها عند الموارنة.
واطلعت على فرمانين سلطانيين صادرين عن الباب العالي؛ أحدهما من السلطان محمد يرجع تاريخه إلى سنة 1074ه، وآخر من السلطان مصطفى مؤرخ في 23 شعبان 1116ه. وفي هذه البراءات السلطانية ود وعطف أكثر مما تعودنا أن نقرأ في أمثالها؛ فالذين وجهت إليهم يدعون فيها أبناء الباب العالي.
غير أن آل الخازن جردوا من مناصبهم حين نشبت الثورات في الجبل؛ ففقدوا على إثر ذلك منصب قنصلية فرنسا في بيروت. وقد عهد بهذا المنصب بعد موت آخر قنصل من الموارنة إلى مدبر ماروني هو الشيخ غندور الخوري الذي قتله الجزار قبل أن يتسلم البراءة.
وإذا شئنا أن نبحث عن المنفعة التي تجنيها اليوم أعمالنا التجارية من تجديد مناصب القناصل والوكلاء، وجعلها في عهدة شخصيات لبنانية أو رجالات شاطئ سوريا العظام، يتوجب علينا أن نلقي نظرة على حكومة هذه البلدان؛ لأن نفوذ الأشخاص يتوقف على تأثيرهم لدى هذه السلطات؛ فبعد أن خلق الأتراك الفتن وبثوا روح التفرقة بين الشعوب والزعماء، أصبحوا هم أسياد البلاد، وفقد الموارنة مكانتهم في الجبل. أما في المدن فقد أخذ الموظفون الكبار يفضلون التعامل مع الأوروبيين بدلا من النصارى من رعايا السلطان، ولا سيما عندما راعى الفرنسيون البلاد وعرفوا أن المثل القائل: «الهدايا الصغيرة تغذي الصداقة.» قد وضع خصوصا للشرق.
يزعمون أن الحاجة هي التي توقظ فيهم شهوة القبض. أما أنا فلا أؤيد هذا الزعم لأني ما عرفت تركيا واحدا لم يستقبل بفرح متناه عرض تقديم هدية ما . إن خازندار داي الجزائر - وهو على جانب كبير من الثراء - لم يكن يرتدي غير الأجواخ التي كان يستقدمها له قنصلنا بلون رمادي مفضض. وكثيرا ما كان يقول هذا الموظف: إن الأجواخ المعروضة في أسواق الجزائر لا تضاهي أجواخ باريس في القيمة والاتقان والجمال. وما إخالها حازت إعجابه العظيم إلا لأنها كانت تأتيه بلا ثمن.
لا شك أن معرفة الجميل هي التي حببت الموارنة بنا. ومع ذلك فهنالك من يزعم أن مودتهم ليست إلا رابطة قوامها المصلحة، وهي تتبدل بتبدل الحكم القائم عندهم؛ فموالاتهم لنا تتوقف على موالاة الحكم القائم عندهم وعدمها. لقد وجدتهم على الغالب في كثير من المناسبات غير ودودين، لا يظهرون أي مبالاة. وتلك الامتيازات التي اكتسبها الفرنسيون في استمالتهم ومودتهم قد شاخت ... فكم مرة لاقيت منهم مقاومة ومناهضة في الخدمات المتوجب قضاؤها! فلا أدري، إذا كان لا بد لي شخصيا من الثناء على الموارنة، كيف أستطيع ذلك وأنا لم أشعر - أثناء قيامي بمهمتي الرسمية - بالعطف الذي كنت أتوقعه منهم. إن الأمراء والإكليروس، أو بكلمة وجيزة رجال الدنيا والدين لم يعاملوني المعاملة التي كنت أتأملها وأرجوها. إن الشعب الماروني بوجه عام طيب بمقدار ما، وخيره ذلك القروي الساذج الذي لا يزال يحافظ على عاطفته، ويتمسك بتقاليده التي لم تستطع الأيام أن تفسدها. إنه يرى فينا - كما لاحظ السيد لامرتين - «حماة اليوم ومحرري المستقبل.»
نعمت بنفوذ وتأثير قويين في الجبل، فكثر فيه عدد أصدقائي بعدما قمت بقضاء حاجاتهم وقدمت لهم الخدمات التي كانت تسمح لي مهمتي بتأديتها، وعلى الأخص تلك الحماية التي كانت تمنحها فرنسا لرجال الإكليروس الماروني. وقد كنت أطبقها بحذافيرها بلا هوادة؛ فإنما هؤلاء ينشدون حمايتنا لهم عندما يقومون بأعمالهم الدينية، فلو كنت حصرت خدماتي في نطاق الدين فقط لما كان في استطاعتي أن أتمتع بأية شعبية في لبنان، وكان شأني شأن بعض القناصل الذين لم يتعدوا نطاق الأوامر التي كانوا يتلقونها، فبمشاركتي رجال الإكليروس آراءهم وتنفيذ رغبتهم حملتهم على أن يشعروا ويلمسوا حسنات رعاية فرنسا. ولقد منحت جميع مكاري الأديرة «تذاكر» تمكنوا بواسطتها من النزول إلى المدن وشراء حاجاتهم دون أن يخشوا السخرة التي كانت تتناول المكارين ودوابهم.
وهناك عدة مؤسسات دينية أذنت لها - بعد أن فتكت بمحصولاتها الحيوانات البرية المتلفة - بحمل الأسلحة النارية، حتى إني سعيت في السنين القاحلة في إعفاء جميع الديورة من دفع ضرائب الحبوب التي توازي - على وجه تقريبي - سدس قيمتها الحقيقية. وأخيرا فإن دار القنصلية الفرنسية كانت ملجأ لهذه الديورة، فكم من مرة أمدتها بمساعدات استغنت بها - في بحر سنة مجدبة - عن شراء منتوجات هذه البلاد وقد أغلت ثمنها الفائدة الباهظة التي كان يتقاضاها من يسلفون عليها.
يريد الخاصة من ناس هذه البلاد أن ينعموا هم أيضا كإكليروسها بالحماية الفرنسية، ولا غاية لهم من هذه الحماية إلا التخلص من دفع ميرة أملاكهم، وعدم محاكمتهم أمام محاكم بلادهم في دعاويهم العديدة، وما أكثرها عند الطبقات المرموقة المطبوعة على التنازع والخصام.
وأخيرا، وجدت بعد إقامتي مدة طويلة في تركيا أن براءات الحماية ما هي إلا امتيازات تنجي صاحبها من العقاب. والأشخاص الذين يحصلون عليها بطريقة مغايرة للقانون يكونون بالطبع ممن لا يردعهم رادع، بعد أن يروا أنفسهم محميين. إنهم يقومون بأعمال خطرة مغايرة للقانون، ويفترون على البشر، ويرتكبون جميع ضروب المظالم؛ فيتبعون السلطة - بصورة متواصلة - بدسائسهم التي يدبرونها لها.
كان على الموارنة، من وقت إلى آخر، أن يؤدوا فروض الطاعة والخضوع للسدة الرسولية المقدسة، فكل بطريرك يجب عليه خلال عشر سنوات تلي انتخابه أن يزور رومية.
7
إلا أن الحوادث التي كانت تطرأ لم تكن تسمح دائما أن يؤدي البطريرك بنفسه هذا الواجب؛ فكان يوفد نائبا عنه.
ولما ارتقى الباب لاون العاشر إلى السدة الرسولية، ذهب أحد هؤلاء البطاركة - وفقا للقانون - لكي يجدد خضوعه للكنيسة البطرسية واعترافه بعقائدها. وعام 1596 أوفد إليهم البابا أكليمنضوس الثامن، الأب جيرولامو دنديني المنخرط في سلك الجمعية اليسوعية لينظر في فض بعض الشئون المختلف عليها، والقائم الجدل حولها. ولما كان النظام الكنسي لم يكن قد استقر بعد بصورة نهائية فقد طلب البطريرك يوسف من الكرسي الرسولي أن يصلحه بما له من سلطان، فيقطع دابر الخلاف. رفع هذا الطلب إلى البابا أكليمنضوس الثاني عشر، والتمس منه أن يوفد لهذه الغاية زائرا رسوليا إلى جبل لبنان.
وبالاستناد إلى هذا الطلب قرر المجمع المقدس بتاريخ 24 تموز سنة 1735 وجوب إيفاد قاصد رسولي من قبله ليشترك مع البطاركة ورؤساء الأساقفة والأساقفة الموارنة، فيعقد مجمعا مليا تبحث فيه النقاط المستوجبة البحث، ويلغي كل ما طرأ على الطقسيات المارونية إذا كان يضاد العقيدة الرومانية. أما القضايا العويصة الحل فيحفظ حق الفصل فيها للمجمع المقدس.
وبناء على ذلك أوفد البابا المونسنيور السمعاني حافظ مكتبة الفاتيكان، وهو ماروني لبناني، بعد أن منحه صلاحية مطلقة في بحث هذه الشئون وحلها، فاستقبل بسرور عظيم.
التأم المجمع في دير القديسة مريم في اللويزة من كسروان بتاريخ 28 أيلول سنة 1736، وأنهى أعماله بتاريخ 3 تشرين أول، وطبعت مقررات المجمع اللبناني في دير الروم الكاثوليك - دير مار يوحنا بالشوير، حيث يوجد مطبعة عربية - على نفقة قنصل فرنسا في بيروت، وهو من آل الخازن.
وخلال تلك الفترة توفي البابا فلم يعمم ولم ينفذ ما قرره المجمع في جبل لبنان إلا عام 1741 على عهد خلفه بندكتوس الرابع عشر.
لقد نشرت قوانين المجمع وعدة قوانين أخرى، ولا تزال الكنيسة المارونية تتقيد بها حتى يومنا هذا.
ومنح المجمع البطريرك حق تعيين المطارنة في الأبرشيات التي تفتقر إليهم. وإذا ما سيم مطران ما بصورة صحيحة فلا يعود بالإمكان حرمانه الامتيازات التي يتمتع بها إلا في حالة اقترافه ذنبا كبيرا نص عليه القانون الكنسي.
ومنح البطريرك أيضا حق استيفاء العشر، وقبول الهبات، والقيام بزيارة الأبرشيات الخاضعة له، كل ثلاث سنوات، وتكريس الزيت المقدس وتوزيعه على الأبرشيات السبع، كما أنه ترك له صلاحياته القديمة التي أقرها العرف والتقليد.
ومنع تلك العادة المريبة وهي سكنى الرهبان والراهبات في محل واحد، أو اتصال بنايات الأديرة التي تضم هذين الجنسين، وحظر كل علاقة أو مواصلة بينهما.
وأوعز إلى كل مطران - بوضوح كلي - أن يقيم في دوائر أبرشيته وألا يغادرها إلا بإذن من البطريرك وفي حالة الضرورة القصوى.
إن وفاة البطريرك يوسف الخازن في 13 آذار 1743 فسحت في مجال الشقاق؛ فانتخب بطريركان مارونيان لكرسي أنطاكية. إلا أن الأب الأقدس استطاع لحسن الحظ - ببراعته وحكمته ومقدرة موفده الأب جياكومو دي لوقا، رئيس القدس القديم - أن يضع حدا لهذه البلبلة؛ فألغى انتخاب المتزاحمين غير القانوني، وأحل رئيس الأساقفة - سمعان الدمشقي - محلهما. إن هذا الانقلاب انتهى بسلامة، ولكن بعد جهد، بمعاضدة الأمير الدرزي وقنصل فرنسا في صيدا على إثر اجتماع عام عقد في حريصا بتاريخ 7 تشرين الأول سنة 1743 وحضره جميع رجال الإكليروس الماروني.
هوامش
الفصل الثلاثون
تاريخ الروم الكاثوليك والدروز
أتى الروم الكاثوليك لبنان وسكنوه ليتقوا شر اضطهاد الروم المنشقين عن الكنيسة الذين أذاقوهم مرارة التعديات والهوان في جميع أنحاء الشرق بعد أن استنصروا الأتراك عليهم. ولكي ندرك ما قاساه هؤلاء التعساء من قبل الروم يجب أن نكون قد قضينا فترة من الزمن في كيو وحلب ومدن تركيا التي أقمت فيها. ولا أبالغ إذا قلت - لأدل بقليل من الكلمات على مبلغ الفظاعة التي شاهدتها: إن شعر رأسي كان يقف من شدة الهول.
فالكاثوليك الذين طردوا على التوالي من مدن سوريا التجأوا إلى لبنان - الحصن المنيع. وبفضل حكومة بيروت المسيحية تمكنوا من الاستقرار فيه لينتشروا بعد ذاك في أساكل صيدا وصور وعكا ويافا.
ويظهر أنه اعترف بالروم الكاثوليك في الشرق على عهد البابا أكليمنضوس الحادي عشر؛ فبطاركة الإسكندرية وحلب ودمشق انشقوا عن الكنيسة الشرقية في وقت واحد تقريبا، فانضموا جميعا إلى الكنيسة الرومانية. ثم ما لبث أن اقتفى أثرهم مطران بيروت.
1
نظم الكاثوليك - في مجمع عقد في دير القرقفة قرب بيروت، عام 1806 - شرائع شعبهم الدينية ونظمه. إلا أن براءة بابوية مؤرخة في 16 أيلول 1835 منعت بصورة جازمة تطبيقها. وبدون أن يؤبه للمتاعب التي يلاقيها السيد مكسيموس مظلوم، بطريرك الروم الكاثوليك في القسطنطينية، فقد دعي إلى عقد مجمع لتصحيح الأخطاء التي وردت في مقررات المجمع الأول.
إن الروم الكاثوليك يملكون في لبنان عدة أديرة للرجال والنساء، ومجموع عددهم يبلغ 18000 نسمة، وهم يقيمون بوجه خاص في زحلة، ودير القمر، والحدث، وزوق مكايل.
أما الروم الأرثوذكس فهم أقل عددا منهم في هذه البقعة من الجبل، ويقطنون بكثرة في الشويفات وحدث بيروت وبسكنتا.
وينعم الأرثوذكس بحماية روسيا، وقناصل هذه الدولة يفهمونهم دائما أن مندوبي ملك فرنسا يدافعون في الأساكل عن مصالح الكاثوليك. ويظهر أن روم دمشق التمسوا قديما حماية أحد قياصرة روسيا؛ ولهذا جرت عادتهم على إيفاد بعثة كل عام إلى بطرسبرج مؤلفة من كاهن وعلمانيين ليعربوا لجلالة القيصر عن طاعة واحترام روم سوريا مقابل قبضهم مبلغ مائة روبل يوهبونها. ولقد صرفت بادئ ذي بدء هذه القيمة بسبب هذه الحوادث السياسية، وظل بطريرك دمشق مدة ثلاثة وعشرين عاما لا يطالب بدفعها، إلا أنه لدى مرور السيد لوف كلفه البطريرك التماس مواصلة دفعها؛ فأمر الإمبراطور عام 1837 بدفعها كاملة لأول بعثة تصل. إن بلاط روسيا تعود أيضا أن يدفع جميع النفقات الأخرى التي تصرف لهذه الغاية.
تكلمت عن المتاولة في حديثي عن بعلبك، وسوف لا أذكر عنهم ها هنا إلا الشيء القليل.
فبعد أن طرد مشايعو الإمام علي من وطنهم في إحدى مقاطعات بلاد فارس، لجئوا إلى سوريا؛ فانتشروا في ضواحي حماة وحمص وبعلبك وصيدا وعكا. ثم انتهزوا فرصة انهزام الموارنة فتسللوا إلى لبنان واحتلوا القسم الممتد بين بيروت وطرابلس من الجبل حتى الساحل.
وحدث أن ثار على عهد الأمير يوسف مشايخ جبة بشري الموارنة، ومشايخ بلاد جبيل وطردوا المتاولة؛ فتراجع بعضهم إلى ضواحي بعلبك. أما البعض الآخر فاحتفظوا ببعض القرى في مقاطعتي جبيل وبشري، وكانوا فيها ذوي قوة وبأس. بيد أن الجزار أتى عليهم نهائيا إثر قتله زعيمهم. إن هذا الباشا جعل منهم فلاحين مقابل أجر معين يتقاضونه، ومذ ذاك أصبحوا يعيشون بؤساء. ثم أرهقهم تعنت الحكام المسيحيين والأتراك الذين ناهضوهم فازدادوا فظاظة وخشونة.
وإذا ما استثنينا الموارنة فالدروز هم الشعب الأكثر عددا في لبنان؛ إنهم يحتلون سبع مقاطعات توازي مساحتها 28 ميريامترا مربعا: الشوف، العرقوب، الغرب، المناصف حيث دير القمر، الشحار، المتن، الجرد وأهم قراه الشويفات. ويبلغ مجموع عدد سكان هذه المقاطعات 22970 درزيا و33220 شخصا من الطوائف الأخرى.
عرفت أوروبا الدروز معرفة تامة بعد أن حاول كثيرون أن يستخرجوا، من فوضى الآراء، تاريخ هذا الشعب، وبنوع خاص، ديانته التي لا نعرف عنها إلا معلومات غامضة. بيد أني لما كنت لم أقتنع بما اطلعت عليه، فأرى أنه يمكنني هنا المغامرة ببحث وجيز جمعته من الأقوال التي استقيتها من أبناء البلاد
2
والأوروبيين الذين مكثوا طويلا بين الدروز، ومن المعلومات التي توصلت شخصيا إلى معرفتها.
حاولوا أن يردوا كلمة الدرزي إلى عدة مصادر، وأظن أن جميع تلك المحاولات لم توفق؛ إذ إن اللفظة التي يسلم بها الجميع تقريبا تختلف عنها بموسيقاها تمام الاختلاف. إن فعل درس يدرس يمكن أن يشتق منه دراسي، وليس درزي ودروز - مفرد وجمع هذه الكلمة.
فاسم الدروز لم يطلق على هذه الطائفة إلا بعد تمركزها في لبنان. فأول مكان نزلوا فيه لدى وصولهم إلى سوريا هو وادي التيم حيث أخذوا اسم تاجانه
Téjané .
إن الحماية التي لاقوها في الشوف من شيخ هذه المقاطعة المدعو الدرزي الذي اعتنق أخيرا مذهبهم، حملتهم على أن ينتسبوا إليه اعترافا بجميله.
نعلم أنهم تلقوا مبادئ ديانتهم من الحاكم،
3
الخليفة الفاطمي الخامس، الذي ولد في القاهرة عام 375ه، وظل على كرسي الخلافة مدة خمس وعشرين سنة، وعاش دون السبعة والثلاثين عاما.
إن تابعيها الأول أقاموا - كما سبق القول - في وادي التيم والجبل الأعلى. وهنالك سنوا شرائعهم ورتبوا نظمهم بصورة نهائية، ونشروا الكتب التي ألفها حمزة بن علي، وهي التي تقرأ كل عشية خميس في خلواتهم.
ينقسم الدروز طبقتين: العقال والجهال.
العقال يتميزون بمسلك هو على جانب من الرصانة؛ إنهم يتأملون ويحافظون على سمت خارجي في غاية الحشمة؛ فملابسهم بسيطة جدا، وأحاديثهم تنم عن تواضع ورزانة يوليانهم شرفا كبيرا.
إنهم يعرفون بعمامة بيضاء، تعقف قبل أن تلف حول الطربوش،
4
وعباءة من الصوف ذات خطوط عريضة سوداء وبيضاء. إن أجفانهم تكتحل بمسحوق ناعم (الكحل) يكاد لا يمسك لدقته.
يرتقي العقال من مرتبة إلى أخرى، ويبلغ الأولى منها من يثبت أنه تقيد بالتعاليم تقيدا دقيقا.
وهنالك من العقال من يصومون ويحرمون أنفسهم تناول المأكولات الشهية، وهؤلاء هم الذين يسكنون الخلوات وقد تشبعوا من فهم تعاليم كتبهم. ونجد أيضا عقالا يصومون طيلة حياتهم أو يقضون على أنفسهم أن لا يتناولوا غير خبز الشعير.
يدلل العقال على تحفظ متناه في تصرفاتهم مع الناس؛ فهم يأبون أن يأكلوا في كل مكان - إذا ما أتوا المدينة - خشية أن يكون الطعام قد اشتري بمال حرام؛ ولهذا السبب يتحاشون أن تربطهم بالسلطات أو رجالها علاقات ما. إن جميع الموظفين هم في نظرهم ظالمون، برابرة، لا يستحقون أبدا ما يملكونه أو يتقاضونه.
إن نسوة العقال تسمى العاقلات، ويقمن أيضا بواجباتهن الدينية. والعاقل لا يمكنه أن يتزوج ثانية دون أن يصبح جاهلا.
يفقد العقال صفتهم إذا ما ارتدوا ثيابا أنيقة أو حملوا سلاحا في غير حالات الحرب. أما في السفر فيمكن العاقل أن يغير بذلته وهو لا يزال يحتفظ بهذه الرتبة.
للعقال أربعة زعماء أو مشايخ، وهذا العدد غير محصور. إنهم يتميزون بعباءة بيضاء وبنظافة كبيرة. ولمشايخ العقل هؤلاء صلاحية الفصل في القضايا الدينية، وحرمان المخطئ ممارسة الدين. وهم يتلقون تصريح الجهال الذين يريدون أن يصبحوا عقالا ويعلمونهم أصول الديانة.
إن سلطة كل من هؤلاء متعادلة في كل شيء، وعندما يتوفى أحدهم يحل محله تلميذه الأقرب إليه. كانوا يعترفون قديما بزعيم واحد. إلا أن نوعا من الشقاق والحسد منذ حوالي ثلاثين سنة قضى على هذه المرتبة الشريفة.
وقد بلغ شيخ العقل درجة عالية من النفوذ، حتى إن الأمير الكبير كان مجبرا - إذا ما التقاه - أن يقبل يده. وعلى الرغم من ذلك فتولية هذا المنصب كانت منوطة بقاضي دير القمر، السلطة الدرزية الثانية في الجبل. إنه زعيم الدنيا، بينما شيخ العقل زعيم الدين. يتبع هذا الشيخ - إذا ما انتقل من مكان إلى آخر - حشد غفير، فتزحف إليه الجماهير لتمثل بين يديه بغبطة متناهية، وهم يتفاءلون إذا ما استطاعوا لمس طرف ردائه.
وشيخ العقل عند الدروز هو زعيم الدين وأول العقال، وهو يعيش من صدقات المحسنين. يحيا هذا الشيخ حياة حكيمة، متقشفة، منزوية ، تشبه حقا حياة أحد حكماء الأزمنة القديمة؛ فالأعمال التي يقوم بها أعمال روحية فحسب، رغم أن الأمير الكبير أو زعيم الشعب الدرزي الأول - وكان دائما من عائلة جنبلاط - كان يشركه في الأعمال الإدارية ويفيد من نفوذه القوي لدى الشعب الذي يقدره حق قدره؛ لأنه يهيئ نفسه لقبول هذه المرتبة الشريفة بقضائه خمس أو ست سنوات بالتقشف والحرمان وإماتة النفس. ولما كان يكثر عدد المرشحين كانت القرعة تقع دائما على أفضلهم مسلكا.
يعيش مشايخ العقل من الأموال التي يوهبونها؛ فهم يرثون من يموتون بدون عقب. وجميع الدروز مضطرون إلى أن يهبوا لهؤلاء الزعماء شيئا لينالوا بركتهم.
يثق الدروز بكلام هؤلاء المشايخ والعقال، ويتقيدون بنصائحهم، ويكونون جد سعداء إذا ما حصلوا عليها عندما يحتاجون إلى توجيه.
ويمكن النساء العاقلات أن يشتركن في المجالس التي تعقد عشية كل خميس ثم. إنهن يجلسن في ناحية من الخلوة ويفصل بينهن وبين الرجال ستار. وعندما يدخلن للمرة الأولى يؤدين يمينا يلقن نصها. وقبل أن يدخلن المجلس، ينزعن جميع أنواع المجوهرات، حتى إن جميع النساء العاقلات وكثيرا غيرهن لا يتحلين عادة بحلى ذهبية وفضية.
وحول الخلوة يقوم حراس يمنعون من هم على غير دينهم من أن يخترقوا حجب أسرار المجلس.
تبدأ الصلاة بقراءات تعقبها وجبة من الأكل خفيفة، قوامها العسل والزبيب والجوز، فيأتي كل منهم بشيء لهذه الغاية. والعقال الذين هم من طبقة رابعة ينسحبون بعد القراءة الأولى، ثم يعقب تلك قراءة ثانية تليها المواعظ، فينسحب على إثرها مشايخ الطبقة الثالثة، وهكذا يفعل مع الثانية إلى أن تبقى الطبقة الأولى وحدها، وهذه تتألف من كبار الأجاويد.
ويزعمون أن قسم العقال يتجدد لدى حضورهم كل مجلس يراوح وقته حوالي الساعتين.
تحفظ الكتب في الخلوات ويعتنى بوضعها في أماكن خفية. والدروز يزعمون أنهم يملكون عدة كتب، إلا أن جميع ما يدور حول هذه العقيدة والتعاليم الدينية مجموع في سبعة أجزاء.
أما أشهر أولياء الدروز، فهو الأمير السيد عبد الله التنوخي الذي حرم على العقال شرب الخمرة والتدخين.
ولقد تساءلت كيف عرفوا التبغ في سوريا يومذاك؛ إذ إنه لم يعرف في أوروبا إلا منذ حوالي 280 عاما. فقيل: إن العرب كانوا يدخنون منذ زمن قديم نوعا من الأعشاب يدعى التبغ.
إن الجهال - وهم أكثر عددا من الآخرين - لا يخضعون لقانون ما؛ فهم لا يشتركون في الحفلات الدينية ويعيشون في لامبالاة كاملة.
يمكن الجاهل - إذا ما أصلح سيرته - أن يصبح عاقلا، فيتطلبون منه أداء قسم، وعندئذ يبدأ إشراكه بالديانة، فيؤذن له بقراءة الكتب الدينية.
إن الطلاق جائز عند الدروز، إلا إنهم لا يجمعون بين امرأتين. وإذا طلقت المرأة يدفع لها الرجل صداقها طبقا لما هو في عقد النكاح.
أما الطقوس الخارجية التي يمارسها الدروز فتشبه تقريبا طقوس المسلمين؛ فهم يدفنون موتاهم على طريقتهم، إلا إنهم لا يغسلونهم. وغداة الدفن تذهب النساء ليبكين على الضريح الجديد ضاربات صدورهن بمناديلهن علامة الحزن والأسى.
إن الدروز - حسبما قيل - لا ينقطعون كالنصارى عن أكل اللحم، وما من لحوم محرم عليهم أكلها، إلا أنه تأكد أنهم لا يأكلون الطريدة المصادة.
والدروز غير ميالين إلى تعاطي الفنون؛ فهم شعب زراعي يربي دود الحرير، وقلما نرى بينهم بنائين أو نجارين.
إن العائلات الدرزية الأكثر شهرة هي التالية:
آل جنبلاط، وهم حلبيو الأصل يقطنون بعدران والمختارة.
آل عماد (زعماء اليزبكيين) في الباروك.
آل نكد في دير القمر.
خلفاء الأمير مراد في المتن وفالوغا، وخلفاء الأمراء قايد بيه في صليما.
أمراء آل أرسلان في الشويفات وعين عنوب.
آل هرموش في السمقانية.
بيت عيد في عين زحلتا.
بيت أبو علوان في الباروك.
بيت حمدان في عين قنا.
التلاحقة في عيتات وعاليه.
بيت عبد الملك في بتاتر.
إن آل جنبلاط وعماد ونكد هم أقوى شوكة، ويتولون تدبير شئون الآخرين. وقديما تنازع زعامة الجبل حزبان متخاصمان: الحزب الجنبلاطي والحزب اليزبكي اللذان قاما مقام القيسي واليمني.
كان الجنبلاطيون دائما الأشد نفوذا وسلطانا؛ وهذا ما جعل زعيمهم يأمل بتولي حكم الجبل. إلا أن أمله خاب، فقضى عام 1825 ضحية طموحه.
كان يقف من الأمير الكبير وقفة المنافس لا وقفة أحد رعاياه، وكان الأمير الكبير يستشيره قبل إتيان كل عمل. ثم إن ثروته الضخمة وتوليه قيادة الجيوش - بصفته زعيم الأمة الدرزية - كانا يكسبانه سلطة هي الثانية في الجبل؛ فالدروز يمكنهم أن يجهزوا من اثني عشر إلى ثلاثة عشر ألف مقاتل.
لا نعلم شيئا عن أصل عائلات جنبلاط وعماد ونكد، إلا إننا نعلم أنهم لا يتميزون بأي شهرة أو مجد؛ فجنبلاط كان في خدمة قبلان القاضي في الشوف، وعندما مات سيده تولى على أملاكه في هذه المقاطعة. أما آل عماد ونكد فلم يعرفوا إلا على عهد الأمير حيدر الشهابي الذي حكم هذه البلاد بعد انقراض عائلة معن، فتسلم زمام الحكم؛ لأنه متحدر من تلك السلالة الملكية المنقرضة.
إن أول من قام بخدمة الأمير حيدر من هؤلاء الزعماء قد كرم إلى درجة بعيدة، فأعطي لقب شيخ، وكان الأمير إذا ما كتب إليه يخاطبه بالأخ العزيز.
هوامش
الفصل الحادي والثلاثون
أخلاق سكان لبنان وعاداتهم
إن المسيحيين - رغم بساطتهم وجهالتهم وفقرهم - هم خير الشعوب التي تسكن لبنان وأودعها، وأكثرها أهلية لاقتباس العلم والثقافة، وأشدها خضوعا للكنيسة الرومانية، وتعلقا بفرنسا. إنهم يفاخرون بعناية ملوكنا بهم واهتمامهم، ولا يزالون يطالبون بالحماية القديمة التي سبق أن منحوههم إياها.
إن الموارنة حسنو الخلق، وهم لم يحرموا بعض التفكير، وتصرفاتهم على جانب كبير من اللين، بيد أن الرياء والمداجاة، وبوجه خاص روح الانتقام ترافق عادة هذا المظهر الجذاب.
إن نيبور - السائح المدقق - أدرك مثلي ما أتيت على ذكره ها هنا. ولقد أتيحت لي الفرصة فتأكدت أن بساطة العادات لم تكن تحول دائما دون فساد الأخلاق. وقد يكون تسرب إلى النساء المارونيات ما تسرب إلى غيرهن من الفساد. والأهالي المتصفون بالمداجاة واللياقة لا يحجمون متى سنحت لهم الفرصة عن أن يثأروا لأنفسهم ممن أساء إليهم ولو بعض الإساءة، أو عاقبهم وإن كانوا يستحقون ذلك العقاب.
إن الموارنة - مثل سكان سوريا الآخرين - قصيرو الأعمار، ولا يعرفون إلا التباهي المفرط بالملبوسات والأسلحة والخيول. بيد أن ذوقهم هذا محدود جدا لا تفنن فيه، وجميع ثرواتهم تنحصر فيما يرتدونه؛ نرى نساءهم يتحلين بخواتم ضخمة، وأساور فضية حول الزندين، وخلاخل في الساقين، ويتقلدن عقودا ثمينة، ويضعن في آذانهن أقراطا من الذهب، ويتعصبن بعصابات تشك فيها الدنانير الذهبية، ويعلقن في ذوائبهن عددا غير قليل من هذه الدنانير. إن غنى الأزواج في هذه البلاد يعرف من المجوهرات التي يتحلى بها نساؤهم في النهار وفي الليل؛ إذ إنهن ينمن متحليات بها.
وإذا كانت الحياة القاسية البائسة دليلا على قناعة ودماثة أخلاق البشر، فهذا البلد لا يفضله بلد في الإقليم الشامي؛ فخاصة الضيافة التي اشتهر بها لبنان هي أحد الدواعي التي تزيد تعلق الأجانب بهذه البقعة، مع أن تكاليف الحياة فيها أغلى كثيرا مما هي عليه في المناطق الأخرى؛ حيث تتيسر لنا حاجيات أكثر ملاءمة لأذواقنا، وأخف وطأة على جيوبنا.
وبعد، فما عساه أن يقدم لضيفه الرجل المرموق، بل أكثر الناس ثراء في الجبل؟ في العشاء أرز مفلفل ولبن وبيض، وعند النوم فراش رقيق مبسوط على حصير مع تمني الراحة للضيف العزيز ...
إن الصعوبات الناشئة عن أشباه هذه الفنادق تزداد وتنقص تبعا لحالة أصحابها؛ فإذا كان صاحب المنزل فلاحا بسيطا - وأغلب الأحيان ينزل السائحون عند هذا الفلاح - فغرفة نومه هي بالوقت نفسه زريبة مواشيه، وهكذا تؤنس مساكنة البقر، والحمير، والدجاج، والأولاد الصغار، السائح المسكين إلى حد بعيد ...
أما بيوت الأغنياء فتتألف من ثلاث حجر أو أربع غير مرتفعة الأبواب، لا يستطيع رجل معتدل القامة أن يعبر منها دون أن يحني رأسه. أما مفروشات البيت فتتألف من حصير وفراش ووسادة أو وسادتين، وصندوقين أو ثلاثة دهنت بالأخضر أو الأحمر، ومرآة يبلغ حجمها عشرين سنتيمترا. وهنالك بعض الأواني الغليظة من الفخار أو النحاس تستخدم في قضاء بعض حاجات المنزل، ثم تصف على رفوف في انتظار ساعة العمل، فتكون في هذه الفترة من أدوات الزينة والتجميل. إن النوافذ الصغيرة الضيقة لا إطار لها ولا زجاج، وهي تغلق في الشتاء بمصاريع خارجية، ولا توفر الراحة التي تعود عليها عندنا أبناء الطبقة العادية.
لا يجلس العرب أبدا في شبابيك منازلهم؛ فهذه الكوى لم تجعل عندهم إلا لينفذ منا ضوء النهار. أما إذا أرادوا أن يتنشقوا الهواء النقي فإنهم يذهبون إلى الحقول، أو يتفيئون ظلال أقرب شجرة إليهم. ليس التنزه من طبعهم. وهم يعدوننا مجانين لأجل هذه النزهات التي نقوم بها رواحا ومجيئا؛ فهم قلما يفهمون هذه الناحية فينا.
1
وإذا قيل لهم إن مثل هذه الحركات البدنية صحية، يجيبون: ماذا تقول؟ أولا تتمتعون بصحة جيدة إلا إذا تأرجحتم كالمبخرة كل يوم؟
وعندما ندخل على أمير أو شيخ أو رجل وجيه يجب علينا أن نتقيد ببعض عادات فرضتها التقاليد؛ يأتي الخدم فيخلعون حذاء الغريب الداخل وينزعون سلاحه، ثم بعد أن يجلسوه على ديوان يأتون بطست ماء ليغسلوا يديه ووجهه إذا شاء، وبعد الغسل ينشفون يديه ووجهه بمنديل موشي بالحرير والقصب، ثم يبخرونه بالند الذي يحرقونه في حق، وبعد أن ينزع المنديل يخففون من حدة دخان العنبر والند برش قطرات خفيفة من ماء الورد ينضحون بها الضيف الكريم بواسطة منفخ. وبعد الفراغ من هذه العملية يقدمون له الغليون، فالشراب، وأخيرا القهوة التي لا بد منها.
القهوة عندهم أم جميع التشريفات، وهي علامة احترام الناس ... ولكني أراني هنا معيدا ما سبق لي أن قلته في فصل مضى.
وعندما تحل ساعة الفطور أو الغداء يفرش على الأرض شبه شرشف فوق الحصير أو السجادة التي تؤلف جزءا من الديوان، ثم يؤتي بالطاولة وهي عبارة عن إسكملة مدورة توضع فوق الشرشف. ثم يجيئون بكمية ضخمة من أرغفة الخبز يوازي حجم كل رغيف منها حجم صحن صغير، وهي رقيقة جدا، وهذا ما حدا أحد أصدقائي الذي لم ترقه عادات الشرق إلى أن يطلق عليها اسم القشرة. إن ألوان الطعام تقدم في صحف من النحاس دفعة واحدة، إلا اللحم المشوي إذا قدم منه، والسلطة إذا كان سيد الدار عارفا بذوق الأوروبيين.
إن بلوغنا غرفة الطعام لا يقتضينا عناء الانتقال من مكان إلى آخر، فما علينا إلا أن نحني جسمنا ونلتوي يمينا وشمالا حتى نبلغها.
يدعوك صاحب الدار إلى الابتداء بالأكل، ثم يعلمك بالمثل كيف تأكل. فلا خادم ينقل إليك الصحفة! فعلى المدعو أن يدس ملعقته في صحن الأرز المفلفل، ثم يغترف شيئا من طعام سائل يرطبه به؛ إذ لا يمكن أن يدخل البطن بدون المركبة التي تجره؛ وهكذا تظل الملاعق متنقلة من صحن إلى صحن حتى تنتهي هذه النزهة بشبعك. إن هذه الطريقة تمكننا من أكل ما نستسيغه أكثر من غيره دون أن نضايق في شيء.
الشوكات والسكاكين لا يزال استعمالها مجهولا عندهم. أما ما يحتاج إلى تقطيع من ألون الطعام كالطيور واللحم فيفسخ بالأصابع، وهذا عمل يقوم به صاحب البيت عن ضيفه.
والعرف العربي يقضي أن لا يوضع الشراب الذي يترطب به المؤاكلون على المائدة، فالخدم يحملون الأباريق والكاسات ليصبوا الماء لمن يطلبه. وإذا كان الضيف ممن تعودوا شرب الخمرة، فإنه لا يحرم منها إذا كانت موجودة في بيت نزل عليه ضيفا. أما أبناء البلاد فهم لا يشربونها عادة إلا في المرافع، وفي بعض الأعياد. وفي مثل هذه المناسبات يقومون بما يجب لها على حقه؛ إنهم لا يمزجونها بالماء، ويرون أنها تفسد إذا خفف من حدتها.
وبعد أن تقدم الفواكه والحلويات على إثر تناول الطعام تنقل بسرعة كلية إلى مرحلة ثانية. إنها فترة تتنعم فيها حاسة السمع؛ يسخرون أشهر المغنين في الجيرة ليشنفوا بألحانهم آذان المؤاكلين. وكل ذلك احتفاء بالضيف الغريب؛ إذ يتوجب أن يقام بواجبه خير قيام، وإذا أهمل شيء من التقاليد يلام المضيف. أما خير مغن عندهم فهو عادة شماس الكنيسة، وهو يقوم أحسن قيام بدوره هذا؛ لأن هذا العرف قد ابتدعه الكهنة عملا بقول مار بولس الذي فهموه حرفيا تقريبا:
مكلمين بعضكم بعضا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب، شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح لله والأب.
2
إن أجمل الأناشيد التي تغنى في مثل هذه المناسبة مأخوذة عن المسلمين وشعرهم النبوي؛ ذلك لأن المقام يستدعي الرصانة والوقار، فلا يمكن أن ينتقى أحسن من تلك لمثل هذا المقام. فالأسلوب الصوفي الذي يسود هذه المقاطع المنتقاة التعابير، يخلب لب الرجل العادي. إنه يجد فيها موضوعا جليلا لأنها تتعدى قوة إدراكه، وهذا ما يجعله يسر لدى سماعه هذا اللحن الأخن الناعم الذي يجلب إلى جفنيه نعاس القيلولة.
ونسيت أن أقول إنه يتوجب عند العرب دعوة الضيوف والإلحاح عليهم ليأكلوا. وإذا ما لوحظ تمنعهم بعد استحلافهم بأقدس شيء في العالم، يمسك سيد الدار لقمة بيده يجمع فيها بين ألوان الطعام المختلفة ويقدمها لمن يريد أن يخصه بها، فيتلقاها هذا الأخير بفمه. ما أسعد الضيف إذا كرر هذا الضرب من اللياقة عدة مرات! إن العرب يتطلبون من الضيوف أن يكثروا من الأكل عندهم؛ ولهذا يعبرون عن الأكلة الطيبة بقولهم: إنها كادت تخرج من أنوفهم. لكثرة ما استطيبوها وأكلوا منها.
أما كيفية ترك الخوان فعلامتها هزة إلى الوراء، وهي الحركة نفسها التي تفعل - ولكن إلى الأمام - عندما يجلسون إليه، فحينذاك يباشر الغسل، فيأتي الخادم بالطست والصابون والإبريق ليناول على إثرها المنشفة بكتفه؛ لأن يديه تكونان مشغولتين بصب الماء وغيره؛ ولهذا السبب توضع المنشفة على كتف الخادم ليقدمها في حينها بإمالة الكتف صوب الضيف.
إن تدخين الغليون وشرب القهوة يعلنان نهاية الوليمة الممتعة. وصاحب الدار يحاول جهده تفكهة ضيفه، فيروي له ما ادخرته ذاكرته من أقاصيص فضولية؛ فالعرب هم بوجه عام قصاصون ماهرون.
إن الذين يحافظون على الروح الجبلية الحق شديدو الانفعال بطبيعتهم، ويكرهون التصرفات التي تدل على ألفة مفرطة ورفع الكلفة.
إن الجبليين وعددا كبيرا من سكان المدن يحبون - إلى حد بعيد - الزعتر فيأكلونه عند الصباح وينشطون به معدتهم ويفتحون قابليتهم لتناول طعام النهار. إنهم يجففون هذه النبتة المعطرة ويحفظونها بعد أن تدق فتصبح ناعمة. ثم يضيفون إليها السماق وبعض الملح لكي تكتسب الحموضة التي يستطيبها العرب، وعلى الأخص نساؤهم. والزعتر أكبر هدية يقدمها السوريون للمصريين الشاميي الأصل، حتى إني رأيت منه ما يصدر إلى لاجئينا في فرنسا نظرا لهذه العادة المستحكمة عند بعد الأشخاص . إننا نقول إنها طبيعة ثانية، أما العرب فيقولون إنها طبيعة سادسة.
النساء في الجبل قويات البنية حتى إنهن يلدن وهن يقمن بأشغال المنزل كما لو لم يكن شيء. واللواتي يهتممن منهن بالولادة ويخفن عواقبها ينمن مدة في فراشهن ويطلق عليهن اسم الستات.
وفي المدن والجبال، عندما تعود النساء امرأة نفساء، يجب عليهن - إذا كن مرضعات - أن يرضعن الطفل الصغير. وهذه العادة تضر أكثر ما يكون بأولاد الرجالات العظام؛ إذ إنهم يرضعون - على إثر ولادهم التي تفرح بها الضيعة والجوار - أشكالا مختلفة من الحليب يعرفون مضارها، ولكنهم لا يفكرون بإلغائها.
وهنالك شيء آخر جدير بالملاحظة، وهو أن الجبلي ذو رأس حاد (مروس)؛ وسبب ذلك ضغط الجمجمة وشدها لدى ولادته ليتمكن من لبس الطربوش بسهولة عندما يشب. إن هؤلاء الرجال المساكين يجهلون المضار التي يعرضون لها أطفالهم طمعا في اجتناء منفعة عقيمة.
3
وإذا حافظت بضعة أعضاء أخرى من الجسم على شكلها الأولي، فإنها لا تلبث أن تصبح بدورها مروسة مثلها؛ فالأطفال يمددون في سرير يربطون فيه ويشدون كأنهم أجسام محنطة. ولكي يتمكنوا من قضاء حاجاتهم يضعون لهم إناء يثقبون السرير لإدخاله فيه بالمحل المناسب.
تعلن الولادات - في الجبل والمدينة - بهتافات الفرح الصاخبة إذا كان المولد ذكرا. أما إذا كان المولود فتاة فبالسكون الكئيب.
إن حفلات العماد عندهم تشبه تماما حفلاتنا. وجميع التشريفات والتبجيلات تخصص بالكهنة الذين يرافقون المعمد حديثا إلى المنزل.
يذهب الأولاد إلى المدرسة بعد أن يبلغوا الرابعة أو الخامسة من العمر. والمدارس التي يتلقون فيها دروسهم يقوم بنفقاتها دخل عقار ما اشتراه الأهلون، أو وقفه أحد الأتقياء، لينعم به المعلم الذي لا يكون دائما كاهن القرية. إنهم يعلمون فيها اللغتين: العربية والسريانية، ولا يكاد يحسن الصبيان القراءة حتى يحولهم ذووهم إلى العمل، فلا يلبثون أن ينسوا كل شيء. وهذه المدارس تكون خلال سبعة أو ثمانية أشهر من السنة في الهواء الطلق، أما بقية أيام السنة ففي غرفة صغيرة تابعة للكنيسة. وهم لا يلقنون صغارهم فيها إلا مبادئ القراءة البسيطة، أما القواعد فلا يتعلمون منها شيئا.
يتقاضى كهنة القرى حوالي مائة وخمسين فرنكا كل عام، يضاف إليهم دخلهم الخارجي وهو ضئيل جدا. إن الكهنة لا يمكنهم أن يتقاضوا أكثر من 37 سنتيما حسنة قداسهم، كما أنه لا يجوز لهم أن يقبضوا سلفا أكثر من حسنة خمسة قداسات.
والكاهن في لبنان هو الرجل السامي الكمال، فهو - في القرية التي يقيم فيها - قدرة الله الثانية. والفضل في هذا التأليه يعود كله إلى الصبغة الضعيفة التي يتميز بها في ثقافته عن العوام من الناس. إن صرامة الأساقفة؛ وبالتالي صرامة الكهنة، بعيدة إلى حد أن «الحرم» يلفظ عند أقل بادرة. لقد حرم كاهن ابنه لأنه حاول انتزاع العصا من يده إذ كان يضربه بها حتى كاد أن يقضي عليه.
وعلى أثر تأسيس المدارس لتثقيف الكهنة، لبى الدعوة عدد كبير من الطلاب ليكونوا كهنة غير متزوجين. إلا إنهم لم يستطيعوا خدمة النفوس إلا برضى الرعايا؛ لأن هؤلاء يفضلون، بل يطلبون أن يكون خوريهم متزوجا.
إن غباوة فلاحي الجرود العالية لا حد لها ولا شبه. أما فلاحو القرى المجاورة للمدن فنجد بينهم أناسا لبقين، دهاة، رغم أنهم لم ينالوا قسطا من العلم.
إن اللبنانيين على جانب كبير من القناعة، وأمنيتهم الوحيدة تدخين الغليون. وهذه القناعة تغتفر لهم لأنهم يحيون حياة قاسية.
قلما يطبخ الفلاح. وقوام فطوره الخبز والثمار المجففة إن لم تكن في أوانها. أما في المساء فيأكل البرغل والعدس المتبل بالزيت أو السمن بعد أن يمزج باللبن، مستعينا على إثارة قابليته بالتهام البصل. الزيتون نادر الوجود في بعض النواحي، وهكذا يصبح شيئا نفيسا إذا ما وضع على المائدة. أما الأمكنة التي يكثر فيها فإنه يكون قوام الفطور.
يأكل الفلاحون بعض أعشاب يقتلعونها من الحقول أو البساتين، ثم يقلونها بالزيت ويطبخونها بطرق مختلفة. وإذا ما أراد الفلاح أن يأكل ويشبع فإنه يرجع إلى مئونته، وتكون من لحم الخروف ذي الألية الضخمة، وتعلف واحدا منه كل عائلة وتذبحه في أوائل الشتاء. إن هذا اللحم يقلى بعد أن يقطع أجزاء صغيرة ويحفظ في دهنه ليؤكل في بحر السنة.
وأتساءل هنا عما يمكننا استنتاجه بعد أن عرفنا هذه الألوان من الطعام؛ لأن روسو يقول: «يمكننا أن نحكم على أخلاق الشعوب إذا عرفنا أنواع المأكولات التي تأكلها أكثر من غيرها.»
إن كسل الجبليين بالغ حده، وهو لا يتفق أبدا وقوتهم التي تجعلهم أهلا أن يقوموا بكثير من الأعمال. ولكن يكفي أن يكون آباؤهم لم يتعاطوا تلك الأعمال حتى يروا أنفسهم غير ميالين إليها فلا يهتمون بها. ومع ذلك فالجبليون فضوليون جشعون، وهذا الأمر يصعب تعليله. إنهم يفضلون التماس الصدقات على أن يشتغلوا، ويعدون التسول ضربا من الكيمياء.
تندر الأمراض الخطرة في الجرود العالية؛ فهنالك يعيشون حتى التسعين عاما. وكثيرون هم الذين لا يموتون في هذا العمر لأنهم لم يلاقوا اعتناء كافيا، أو لأنهم حرموا المآكل الجيدة.
إن سكان الجبل فقراء جدا، وأكثرهم لا يملكون غير قميص يضطرون إلى غسله نهار السبت؛ ففي هذا النهار نرى الفلاحين والفلاحات يرتدون ثيابا ممزقة، وقد أظهروا عريهم للمارة. أما في اليوم التالي فيرتدون ثياب الأحد.
ترتدي النساء فساطين زرقاء، ويشددن خصرهن بزنار تزينه بضع قطع من الفضة. والطنطور - الذي يلف حوله برقع لا يمكن الاستغناء عنه - هو غطاء الرأس عندهن. أما الفلاحات الفتيات فيحل عندهن الساتان المقلم محل النسيج، ويرتدين جبة الجوخ (على الأخص) يحيط بها كشكش صغير. والنساء يزين أسفل سراويلهن بتطريزها بالخيوط الحريرية. أما باقي أعمال الزينة فتكون حسب البحبوحة التي هن فيها.
والجبليون يستعملون المنديل أداة للزينة أكثر منه للغاية المعلومة. ويعملونه من قطعة نسيج يبلغ عرضها ثلاثين سنتيمترا. وهو يعلق حد كيس التبغ في الزنار، ويستعمل لمسح أطراف الأصابع عندما تتلوث أثناء قيامها بوظيفة المنديل. إن النساء لا يستعملن المناديل إلا في حالات قليلة، اللهم إلا في حالات الرشح التي يكن فيها مضطرات - حسب قولهن - أن يحفظن - كنساء أوروبا - جميع أوساخ الرأس في جيوبهن.
إنه ليصعب - في مجتمعات الرجال - أن يحافظ المرء في حديثه على نبرات متوسطة الارتفاع؛ فالجميع يريدون أن يتكلموا في وقت معا. والذين وهبوا رئتين قويتين يتغلبون على الآخرين بقوة بصوتهم؛ إذ يمكنهم أن يسمعوه ويتابعوه. فيا لتعاسة من يريد أن يبدي رأيه في هذه الجلبة الجهنمية! يجب أن يصرخ لا أن يتكلم، وفي أكثر الأحيان تذهب أتعابه أدراج الرياح.
هوامش
الفصل الثاني والثلاثون
تابع أخلاق سكان لبنان وعاداتهم
عندما يتلاقى شخصان في الطريق يقذف كل منهما الآخر بدفعة كبيرة من المجاملات. وإذا أحسنا التعبير قلنا إنهما يقومان بهجوم لا هوادة فيه، حتى إذا ما فرغت جعبة أسئلتهم يفترقان وكل منهما يتمنى للآخر جميع أنواع السعادة له ولأولاده وأنسبائه وأصدقائه ومواشيه. ثم لا يكفان عن الكلام إلا عند حصول مانع طبيعي يحول دون سماع أحدهما الآخر. إن الأسئلة التي يطرحانها تتناول أقرباءهما وأملاكهما وبهائمهما ...
1
يحاول الموارنة تقليد المسلمين بإلقاء التحية، فيحيي بعضهم بعضا بأسلوب واحد، وبكلمة واحدة. ففي أول كانون يحيي بعضهم بعضا ب «صباح الخير» منذ طلوع الشمس حتى غروبها؛ لأن هذا النهار - حسب اعتقادهم - عيد صباح الخير. أما في غير ذلك النهار فإنهم يحيون ب «مساء الخير» ابتداء من الظهر.
يلفظ أبناء الجبل كلامهم لفظا بشعا؛ فهم يمغطون آخر الكلمة ويضيفون إليها نهاية اعتادوها. إنهم يحورون ويمسخون تماما الكلمات، ويستعملون كلمات أخرى لم يألفها العرب.
إن قلة كياسة السوريين - وخصوصا اللبنانيين - جديرة بأن تكون مضرب المثل؛ فهم لا يتحدثون أبدا عن امرأة دون أن يستدركوا بقولهم: أجلك الله. وبلا سبب موجب يقول لك بعضهم: لا تؤاخذني على هذه الكلمة. وهنالك تشبيه آخر يستعملونه، فلا يدل أبدا على تعلقهم بحياتهم الزوجية، ولا يحمل على الاعتقاد أنهم يشعرون طويلا بألم فقدان الزوجة. إنهم يشبهون فقدها بالألم الذي يشعر به عند اصطدام الكوع بشدة؛ يقولون: إنه ألم موجع، ولكنه لا يلبث أن يزول سريعا.
وبالطبع ليس إلى مثل هذه التشابيه يجب أن نرجع لنجاري مدام دي ستايل في قولها: إنهم يستعملون في جنوبي فرنسا تعابير شعرية بعيدة عن الكلفة، حتى نكاد نقول إنها مستوحاة من الهواء والشمس. وذلك لأن مثل هذه التعابير التي يستعملها العرب لا يستطيع غير القمر أن يوحيها.
إن هذا الشعب الذي قلما يحترم الجنس اللطيف أناني، مدع، يحب ذاته. قال بيفون: إن الإنشاء هو الرجل نفسه. وعليه فيمكننا أن نستند إلى طريقتهم في مخاطبة بعضهم بعضا في رسائلهم لنحكم على مدى تفكير هؤلاء الجبليين.
إنهم يبالغون في منح الألقاب كما يبالغون في مجاملاتهم وجميع أقوالهم وأحاديثهم. ولكن الشقة بعيدة جدا بين أقوالهم وأعمالهم؛ فالوعد والوفاء به هما شيئان يختلفان تمام الاختلاف في الشرق وجبل لبنان.
إن البروتوكول المتبع عندهم في تدبيج الرسائل وتوجيهها لا يعرف حدودا؛ فكل عائلة وكل طبقة من الناس لها ألقابها وتبجيلاتها التي تتميز بها من غيرها. وهذا علم خاص وصعب لا يحسن حفظه وإتقانه أي امرئ كان؛ فعلينا عند الاقتضاء أن نفتش عن الذين يحسنون الكتابة لنكتب حسب الأسلوب الذي نرغب فيه. أما هؤلاء الأشخاص المختصون بهذا الفن فيتميزون بدواة يشكونها في زنارهم، وهي تكون عادة من الفضة. إن أسلوب المجاملات في الكتابة قضية على جانب كبير من الخطورة في نظرهم؛ فرب كلمة واحدة أهملت فأدت إلى عدم قضاء الحاجة التي تطلبها.
فوصف الرجل بالرفيع الشأن، والأجل الأمجد، والمحترم، لا بل المقدس؛ تستعمل عندهم بكثرة غريبة. إنهم يرفعون الرجال عاليا حتى يخيل إلينا أنهم يخاطبون أنصاف آلهة لا بشرا. ويجب أن نعترف هنا أنهم بقدر ما يجلون الآخرين ويبجلونهم يتضعون هم ويحقرون أنفسهم. فصاحب الرسالة يسمي نفسه الفقير والحقير، أو عبدك، أو المطيع لك، أو أخاك، وصديقك عندما توجه رسالة إلى نسيب قريب أو صديق مخلص.
ليس يسعنا نحن أن نعرب لرئيس ما أو زعيم خطير كالباشا - مثلا - عن كثير من هذا التذلل والخضوع؛ وهكذا نجد هنا تناقضا كبيرا بين عاداتنا وعاداتهم؛ إذ بينما نجرؤ نحن على مخاطبة الله بسؤالنا إياه أن يحرسنا كبؤبؤ العين، يكون الشرقي جد سعيد إذا تشرف وسمح له أحد الباشوات مثلا أن يقبل التراب الذي يدوسه.
ولا يجوز - عملا بأحكام هذا البروتوكول - أن توجه الرسائل إلى جناب الست مثلا، بل إلى حضرتها. أما الزعماء الكبار فلا يخاطبون بهذا أو تلك، بل بهاتين اللفظتين معا: إلى جناب حضرة ...
أسندت إلى غندور الخوري أعمال قنصلية فرنسا، ولم يكن من عائلة شهيرة، فتناقشوا طويلا حول منحه ألقابا جديدة بداعي المهمة الجليلة التي رفعته عاليا؛ ومن ثم لتعريفه إلى الناس بمجرد الاطلاع على عنوان الرسائل الموجهة إليه؛ فاجتمع الأقارب والأصدقاء لبحث هذه القضية الخطيرة، فاقترح كل منهم لقبا ظنه كافيا، إلا أنه لم يسلم بواحد من تلك الألقاب لأنهم رأوها جميعها لا تفي بالمرام، ولا تؤدي الغاية. وأخيرا وقف أحد المؤتمرين قائلا وقد نفد صبره: «أرى أنكم سوف لن تحكموا على اقتراحي الذي سأتقدم به كما سبق لكم أن حكمتم على سواه. أرجوكم أن تضيفوا إلى اسمه البروتوكولي: أيها الرب ربنا، كم هو جدير اسمك بالاحترام في جميع أنحاء الأرض. إن عظمتك رفعتك إلى ما فوق السماوات.»
2
إن أبناء الجبل خبثاء جدا حتى إنهم ينشغلون بمعنى الكلام المجازي عن انشغالهم بمعناه الصحيح؛ وهكذا، دون أن ينتهبوا إلى موضوع الحديث، فإنهم يعلقون أهمية كبرى على معنيي الكلمة اللذين لم يقصدهما المتكلم. ومن هنا نشأ التحفظ في انتقاء التعابير عند من يدققون في كلامهم، أو الاستدراك بقولهم: بلا معنى، بلا قافية، عندما لا يسعهم الاستغناء عن الكلمة التي تكون ذات معنيين.
أما إذا تكلموا عن مرض أو حادث مؤسف فيضيفون: بعيدا عنك، أو وقاك الله.
ولقد بلغوا أقصى هذه الوساوس فصاروا يتحاشون ذكر أسماء نسائهم حينما يتحدثون عن أسرتهم؛ فيعبر الرجل عن زوجته في معرض الحديث - كما يعبر عن ذلك عند الأتراك - بهذه التعابير التقليدية: أهل البيت، بنت عمي، أو أم فلان - إذا رزقت ولدا. وعليهم، إذا ما استعملوا كلمة امرأة فحسب، أن يشفعوها حالا بالاستدراكات اللائقة، كما لو كانوا يتحدثون عن شيء خسيس، دني.
ولا يحق لك أن تستطلع العربي عن أخبار أو أحوال أو صحة أهل البيت إذا لم تكن بينك وبينه أقصى الألفة. وإذا ما اضطروا إلى التحدث عنها في حضرة أحد أمرائهم وزعمائهم فإنهم يطلقون عليها اسم العبدة. والزوجة في معرض كلامها عن رجلها تسميه سيدها، أو ابن عمها، أو أبو فلان، سواء أسبقت هذه التسمية ولادة الصبي أو عقبته.
وكثيرا ما يميل الجبليون إلى إبدال اسمهم بكلمة أبو فلان، حتى إنهم تعودوا أن يتكنوا قبل أن يتزوجوا.
يرون في الزواج عملا مشرفا يرفع من قدر الرجل، ويبتهجون إلى أبعد مدى إذا ما كان ولدهم الأول ذكرا؛ وهكذا تطلق عليهم في اليوم الذي يلي الولادة الكنية الجديدة: أبو جرجس، أبو حنا، أبو يوسف، تبعا لاسم القديس الذي يقتبسونه من الروزنامة أو الإنجيل، فلكل يوم قديس. إنهم يغضبون ويكدرون من أصبح أبا إذا ما ظلوا يخاطبونه في المجتمعات بالاسم الذي كان له قبل هذا الحادث السعيد.
والذي حدا إلى استعمال الكنية قبل الزواج هو أن الكنية عندهم هي خير الألقاب. ومن قلة الأدب أن يخاطب الرجل باسمه. وقد لا يرزق الرجل أولادا ذكورا أو يحرم العقب سواء أكان ذكرا أو أنثى؛ ولذلك يحتاطون لهذه المصيبة قبل وقوعها، فلا يعيش الرجل بلا كنية طول عمره.
وقد تلتصق الكنية بصاحبها فلا تبارحه مطلقا وإن رزق صبيا وسمي باسم يختلف تمام الاختلاف عنها. والطبقات المرموقة تهتم أكثر من العامة باتباع هذا العرف؛ فالأمير ملحم الحالي، الذي رزق خمسة صبيان، لم يعرف إلا بأبي فاعور - كنيته التي عرف بها قبل الزواج والإعقاب. والذين يخشون أن يفوتهم بعض الذوق في انتقاء اسم ما يكتفون عادة بكنية أطلقت على إحدى الشخصيات العظيمة؛ وهكذا أصبح مألوفا اليوم أن يكنى جرجس بأبي عساف، وإلياس بأبي ناصيف، ويوسف بأبي الحسن، وموسى بأبي نجيم؛ لأنه سبق لرجالات أشداء في الجبل أن حملوا هذه الكنى، فصارت عندهم اليوم من التقاليد.
بيد أنه لما كان لكل قاعدة شذوذ حتى في لبنان، فقد وجدت أن الميل إلى تبديل اسم الرجل العازب باسم ولده، عندما يتزوج ويرزق ولدا، ليس عاما عندهم ... وعرفت أشخاصا عديدين ظلوا متمسكين باسمهم الأول ورغبوا رغبة قوية في المحافظة عليه رغم ولادة صبي لهم؛ فكانوا يعمدون ولدهم حينذاك بطريقة سرية، ويسمونه أبا إلياس مثلا، فيستحيل على من يريد أن يكنيهم أن يقول لهم: أبو أبو إلياس ... وبهذه الحيلة كانوا يحافظون على اسمهم الذي يؤثرونه على الكنية.
ويزعمون هنا أن محبة الذات تعمل عملها في عادة إطلاق اسم الابن على الأب، وقد كانت الدافع لاستنباط هذه الوسيلة؛ فكلمة أبو فلان فقط لا توحي لنا أي انقباض، أما أن ندعو امرءا أبا أبا فلان فهذا لم يسمع بمثله، وإذا كنا سمعنا بشيء مثل هذا فسببه المصانعة والمداجاة أيام الظلم والاستبداد. أيكون هنالك اسم أجمل من اسم الأب؟ لقد قدست جميع الشعوب الأبوة، ويجب أن تقدس أيضا في لبنان حيث لا يزال الناس يحافظون فيه على عادات الأزمنة الأولى البسيطة.
إن النساء لا يتخفين أبدا في الجبل، فالشباب ينتقون بأنفسهم زوجاتهم، وعندما يعلن الأهلون رضاهم تبدأ حفلة الخطبة التي يكون لها بعض الرونق؛ فالعقد ينظم بحضرة شاهدين يكون أحدهما أو كلاهما من القسوس، وفي هذه العقد يذكر ما يقدمه العريس أو العروس من أموال ثابتة ومنقولة، وعندما يمنح الكاهن البركة يعتبر هذا العقد الديني كأنه نصف سر مقدس؛ فلا يمكن نقضه بدون سبب موجب، أو بدون رضى الفريقين، أو إخلال أحدهما بتعهداته، كما أنه لا يجوز أن تتجاوز مدة الخطبة - لغير مبرر شرعي - مدة سنة؛ ففي نهاية هذا الأجل يجب أن يتم الزواج، وإلا فالسلطات تجبر المتعاقدين على ذلك.
إن الأعراس مستحبة كثيرا في القرى، تنعشها، وتخلق فيها - ولو لبضعة أيام - أسباب اللهو الكثيرة الجلبة. والعرب يبتهجون في هذه المناسبات حتى الجنون. إن هرج هؤلاء الرجال وهذيانهم يبلغان أشدهما في المرافع وفي الأعراس؛ فكل واحد يريد أن يعرب عن مقدار اهتمامه واندفاعه أمام قريبه أو صديقه، ويحاول أن يتميز من سواه كيما يقال فيما بعد إن هذه الحفلة كانت أكثر الحفلات بهجة وإبداعا.
تكون الحفلات في منزل العريس، وأهل العروس لا يظهرون أية بهجة كي لا يفسحوا مجالا للقول بأنهم يتملصون بسرور من ابنتهم.
إنهم لا يصحبونها إلى بيت العريس، ولا يحضرون حفلة الزفاف لئلا يظن أنه لا يسعها الاستغناء أو أنها تحتاج إلى مساعدتهم.
ترافق العروس قريبة بعيدة النسب ورجل فقير يمسك بزمام الجواد؛ وذلك لأنه لا يجوز مطلقا أن تقطع العروس الفسحة التي تفصل بين بيتها ومسكنها الزوجي مشيا على الأقدام، وإن لم يكن يفصل بين كليهما سوى زقاق واحد. يجب أن تقوم بهذه الرحلة ممتطية جوادها فلا تنزل عنه إلا عند وصولها أمام منزل العريس. والذي يمسك برسن فرسها يرتدي عادة عباءة أو جبة - وهما ضربان من ثياب هذه البلاد. وهذا الرجل يسرح حالا بعد أن يأكل أكلا عنيفا.
أما إذا كانت العائلة لا تملك جوادا أو فرسا فإنه يصعب عليها أن تقترض أو تكتري فرسا من القرية؛ لأن من خرافات الجبل أن المطية التي تنقل العروس تلاقي حتفها في بحر السنة نفسها؛ ولهذا يضطرون إلى التفتيش عن فرس في أمكنة بعيدة جدا، بعد إخفاء سبب احتياجهم إليها.
أما أنا فكنت موقنا - إذا ما وجدت عرضا في الجبل - من أنهم سيطلبون جيادي لدى كل حفلة زفاف في الضواحي، وكنت أقرضها بسرعة مدهشة لأفهم الذين ينعتونني بالتهور وقلة التبصر أنها كانت تزداد نشاطا وعافية.
يتألف موكب العروس من عدد غفير من سكان قرية العريس. وهؤلاء - بعد أن يرتدوا أجمل ملابسهم - يبدءون بالأغاني وتصعيد هتافات الفرح، ثم يتبعونها بطلقات نارية. إنهم يتوقفون من وقت إلى آخر ليغنوا دفعة واحدة، أو ليرقصوا، ثم لا تلبث أن تدوي الأهازيج، والصراخات الحادة، والهتافات للحكام والأقارب والأصدقاء.
تصطحب العروس صندوقا يضم ثيابها وفراشها ولحافها. والعريس لا يحلق ذقنه أو يرتدي ثيابه إلا بعد وصول عروسه، أما الإشبين وأصدقاء العريس فينتهزون بدورهم هذه الفرصة ليحلقوا هم أيضا، زاعمين أن في ذلك فألا مليحا.
وعندما يصل الموكب، يفتش العريس في المكان الذي تتوجه إليه العروس عن نقطة مرتفعة ويقف عليها ليقال إنه نزل حتى وصل إليها؛ أي إنه أسمى منها.
وقبل أن تدخل العروس بيت عريسها تلصق على عتبة باب البيت خميرة وترمي رمانة أو رمانات. وهذه العادة ضرب من التفاؤل في حياة الزوجين ومصيرهما.
وغداة اليوم التالي يقوم العريس بزيارة أهل العروس، بعد أن تكون قد تقدمته الهدية. بيد أنه يتحتم عليه أن يعود في المساء إلى منزله، فلا يبيت عندهم تلك الليلة. إن أقارب العروس يأتون جميعهم في النهار الثامن ويصطحبون هدية (نقوط) تراوح قيمتها بين العشرين والماية قرش تهدى إلى العروس خاصة، ويمكنها أن تتصرف بها على هواها. والعريس يقوم بتقديم مثل هذه القيمة عند زفاف أحد أخوة العروس. وأخيرا تقام وليمة عائلية يجتمع فيها جميع الأنسباء، وهذه الوليمة هي نهاية حفلات العرس.
أما الفلاحون فقد تعودوا أن يعينوا - لدى موافقتهم على زفاف ابنتهم - مبلغا من المال هو ثمن العروس كما لو كانت صفقة تجارية. وهذا المبلغ يراوح بين المائتين والخمسماية قرش ويسمى «نقدا». إن هذا المبلغ مقدس، وعند موت الزوج يباع جميع ما يملكه - إذا اقتضت الحال - ليدفع كاملا. وهذا النقد هو الذي يمكن الأرامل من التزوج ثانية.
إن الهبات بين الأحياء معمول بها حتى ثمن ما يصيب الرجل من إرثه.
وهنالك عادة درجوا عليها في الجبل ثم ألغاها الأمير بشير منذ اثنتي عشرة سنة خلت. لم يكونوا يسلمون العروس لأهل العريس وأصدقائه إلا بعد أن يصيب أحد هؤلاء برصاصة هدفا ما يعلق في طرف ركيزة عالية. وإذا لم يتمكن أحد هؤلاء الموفدين من قبل العريس أن يصيب الهدف، ازدراهم جماعة العروس واحتقروهم. وكثيرا ما كان يؤدي ذلك إلى المنازعات، لا بل إلى نقض الزواج.
وفي زمن متأخر جدا لم تكن تسلم العروس - وهي في صحبة جمهور غفير من شباب قريتها - إلى أهل العريس وأصدقائه، إلا بعد قتال وهمي ينتهي بظفر هؤلاء. وإذا لم يأتهم الله بالظفر أرجئ التسليم إلى يوم ثان. إن اتباع مثل هذا العرف أدى - في كثير من الأحيان - إلى معارك حقيقية بين شباب القريتين إذا رأوا في هذا الحادث مسا بشرفهم.
تنصرف العروس إلى تدبير شئون المنزل في اليوم الثامن لزواجها. وعليها أن تطبخ، وتسقي الماء من العين، وتقطع الحطب أحيانا. والنساء عندما يقمن بأشغالهن يشمرن أثوابهن ويشددنها بقمصانهن حتى تبلغ ما فوق الركبتين فتربط بالزنار؛ ولهذا كن يزين سراويلهن بالتدبيج والتطريز.
وفي المدن - حيث تقوم النساء بأشغال المنزل أيضا - تراهن يجلسن مقرفصات بعد أن يستعن بأعقابهن أو ركابهن. إنهن يغسلن ويعجن ويطبخن ويصنعن القهوة ويتحدثن أو يدخن وهن في إحدى هذه الجلسات. أما عندما يتعبن فيكون كرسيهن حجرا.
إن الدرزيات والمارونيات لا يلففن جميع جسدهن بملاءة غليظة أو شفافة كما هي عادة نساء المدن؛ فقطعة من القماش أو الحرير تبلغ مترين أو ثلاثة محكمة الوضع في قمة الطنطور تسترسل إلى الوراء حتى ثلثي جسدهن يحجبن بها وجوههن إذا دعت الضرورة إلى ذلك. والمسيحيات لا يحتجبن إلا عندما يشاهدن رجلا مسلما أو درزيا. أما نساء هذين الشعبين فيختفين عن أبصار جميع الرجال من أي طائفة كانوا.
إن عادة استعمال الطنطور ترجع إلى الدروز، والملاءة إلى مسيحيي كسروان. ثم ما لبث أن اتبع القسم الأكبر من هؤلاء - وعلى الأخص الذين يقطنون البلدان الدرزية - عادة لبس الطنطور.
إن الأميرات وزوجات المشايخ والأشراف كن يلبسن طناطير من ذهب، أما الذين يتعاطين الحرف فنطناطيرهن من الفضة يحلى قسم من مقدمتها بالذهب. إن طناطير الدروز قصيرة أكثر من غيرها، وطناطير نساء العقال والشعب خشبية أو مصنوعة من القرون.
أما عادة ارتداء الطرابيش الكبيرة فهي حديثة العهد، لم تتبع في الجبل إلا منذ حوالي مائة سنة. وهذا الزي قد أتي به من بغداد، مع أن هذه الطرابيش تصنع في تونس، ثم ما لبثت فرنسا أن قلدتها في ذلك.
وهذه العادة قد زالت عندما أخذت عادات مصر تعمل عملها في سوريا. فعودة الأمير بشير إلى الجبل، عام 1823 بعد حصار عكا، على إثر عصيان عبد الله باشا، أحدثت انقلابا كبيرا في أزياء الملبوسات؛ وهكذا استحسن الجميع ذوق الأمير لأن الأزياء التي درج عليها كانت فخمة جدا.
إن الجبليين يميلون كثيرا إلى الفخفخة؛ فهم لا يملكون إلا الملبوسات والأسلحة . واللبنانيون يحبون كثيرا تقديم الهدايا، حتى في زياراتهم البسيطة التي يقومون بها؛ ولذلك يقولون إن اليد الفارغة كريهة الرائحة. يجب دائما تقديم هدية للسلطة التي تحكمهم. ويزعمون أن هذا التقليد مستوحى من وصية موسى للإسرائيليين، وهي أن لا يأتوا إليه فارغي الأيدي.
لم يعد من أثر في الجبل لليزبكية والجنبلاطية اللتين قامتا مقام اليمنية والقيسية. إلا أن البلاد انقسمت بعد وقوع الحوادث الأخيرة إلى دروز ومسيحيين. وأهالي بيروت بصفتهم يمنيين كانوا أعداء الجبل.
العدل في بيروت خاضع لتأثير ذوي النفوذ الذين يرجحون دائما كفة الميزان؛ وهكذا لا يكفل الحق ربح القضايا الخاضعة لأحكام القضاة.
ذهب شخص - بعد أن حكم عليه في دعوى رغم توافر حججه وبراهينه - إلى كنيسة قريته وأخذ يدق الجرس دقات حزن، وعندما رأى الناس يتراكضون متسائلين عن الرجل المتوفى، قال: «إنه الحق! ولما كان الحق شخصا هاما فقد أحببت أن أعرب عن الأسف الذي أشعر به عند موته في فترة أنا بحاجة فيها إلى مساعدته وحمايته.»
إني أقول - اعترافا بالحقيقة - إن أعمال رجال الأمن يمكن المفاخرة بها رغم عنايتهم القليلة؛ فالرأي العام مطبوع على حب الفضيلة والشرف؛ وهكذا فقلما يذنب شخصان من الجنسين المختلفين إلى شرائع الطبيعة. وإذا كانت العادات العامة قد فسدت فإنما ذلك يكون في القرى المجاورة لبيروت؛ فيتوجب علينا إذن أن نعزو إلى هذه الضاحية ما قلته عن نساء لبنان؛ إذ إن هنالك اختلافا بين اللواتي يسكن الساحل، والأخريات اللواتي يعتصمن بالجبل.
أما إذا توفي شخص فيخطر على الأثر عموم الأقارب والأصدقاء والمعارف، فيهتم هؤلاء بإيواء المعزين الوافدين من القرى المجاورة وإطعامهم. فكل منهم يصطحب إلى داره حسب مكنته شخصين أو ثلاثة. إنهم يتسابقون إليهم بعد عودة الموكب من الدفن؛ إذ قلما تكون المدافن بعيدة، لا بل تكون عادة حول الكنائس والمعابد.
وعندما يكون المتوفي رجلا مرموقا يكرم - وفقا للتقليد - إلى مدى بعيد. إن أمراء البلدة أو الضواحي يوفدون رجال حاشيتهم ليعزوا أقرباء الفقيد، وتتدافع الجماهير من الرجال والنساء لحضور المأتم، فيأتون من جميع القرى المجاورة. ولما كان لا يجوز إضرام النار في بيت الراحل، فأصدقاء الفقيد هم الذين يقرون هذه الجماهير وينزلونها عندهم.
وعند وصول كل وفد أو شخص من المعزين يتعالى صراخ محزن مقدمة لنواح تصعده النسوة الملتفات حول النعش وينهينه بتأوه شامل حاد.
والمرطبات التي تصب للمعزين يقدمها على اختلاف أنواعها الأقرباء والأصدقاء وزعيم القرية أيضا. فالأمراء والأميرات يرسلون عدة قطع من الأقمشة المزركشة بالذهب والفضة ليلف بها نعش الميت، ويلبسون الفراء كلا من أولاده، وعند عدم وجودهم يلبسها أنسباؤه الأقربون، وأسرة الفقيد تعد هذا شرفا لها. وقد تكون هذه اللفتة الأميرية في بعض الأحيان هي المكافأة الوحيدة لخدمات جلى قام بها الفقيد.
إن الجبليين الذين يتمسكون كثيرا بتقاليدهم وأنانيتهم يحاولون في مثل هذه المناسبة أن يحيطوا أنفسهم بهالة كبيرة من التقدير، وهذا ما يدعوهم إلى تكبد مصارفات لا يحتملونها ليفسحوا مجالا للتحدث عن عظمة المأتم؛ ولهذا قيل في الأبهة: أنها تدغدغ - في هذه البلدان - كبرياء الأحياء أكثر مما تخلد ذكرى الأموات.
إن الكهنة الذين يحضرون دفن الميت عند الطائفة المارونية كثير عددهم، وهذه الكثرة لا تدل على منزلة الفقيد؛ فالكاهن لا يعطى إلا ما يقارب الأربعين سنتيما، ثم يعطى مثل هذا المبلغ بعد حين إذا ما أقام قداسا وجنازا عن نفس الفقيد.
يحترم الفرنسيون - بلا ريب - أكثر من غيرهم في الجبل. والفضل في هذه المنزلة التي اكتسبوها يعود إلى من سبقهم؛ فهنالك بين الذين أتوا حديثا من يفضلون أن يبرزوا بمظاهر أجنبية عوضا من أن يحافظوا على أخلاقهم الطبيعية الدمثة الحليمة؛ هذه الصفات التي يستعذبها أبناء البلد هنا، لا سيما وأنهم لم يتعودوها في زعمائهم الوقورين بطبيعتهم، والذين لا يبتسمون كما يبتسم الإفرنسي دائما.
لا يضع العرب الخاتم في السبابة أو الإصبع الوسطى أبدا. أما الأصابع الأخرى فيزين كل منها بثلاثة خواتم أو أربعة في أكثر الأحيان، حتى إن الإبهام قد لا تحرم نصيبها من الخواتم.
ولما كانت السبابة إذا أشير بها متدلية تعني التهديد، فإنه يخشى استفزاز الناس وإهانتهم عند المباهاة بالخواتم التي تزينها.
إن الإصبع الوسطى متهمة بقلة النظافة، وهذا ما يحول دون تزيينها.
هوامش
الفصل الثالث والثلاثون
تاريخ الأمير بشير شهاب
كان الجزار سياسيا داهية بقدر ما كان ظالما غدارا، فلم يفته ما تضمر بعض الأسر اللبنانية للبعض الآخر من أحقاد يذكيها التنافس؛ فعمل بلباقته على إنماء تلك الحزازات في نفوسهم. وكان يعرف نيات آل شهاب ومطامعهم السياسية فيتملقهم تارة ويخدعهم طورا، يعللهم ويؤملهم، أميرا بعد أمير، بكرسي الحكم.
ووفقا لهذا المنهج الذي نهجه الجزار كانت تباع خلعة الولاية بالمزاد العلني، وكان الأمير الكبير مضطرا - لأجل المحافظة على كرسيه - إلى أن يقبل بتأدية الثمن الذي كان يتقدم به من الجزار سائر أفراد تلك العائلة، على الرغم من جسامة المبلغ البالغة الحد. كان للخلعة ثمن باهظ لا بد لباشا عكا من أن يقبضه - كل عام - من الزائد الأخير.
وبسبب هذه المزايدة سعى الأمير بشير في قتل عمه الأمير يوسف؛ فمات هذا مخلفا وراءه ثلاثة أولاد غير مجتمع أشدهم. كان بوسع أقاربهم - لو خلقوا أقل جشعا - أن يمدوا لهم يد المعونة وينتظروا بلوغهم سن الرشد، ولكن تهافتهم على كرسي الولاية وطمعهم بها حدا الأميرين حيدر وقعدان - عم أبناء الأمير يوسف وابن عمهم - أن يطمحا إلى الحكم؛ فحاربا الأمير بشيرا الذي كان يمقته الشعب واستطاعا التغلب عليه. فالتجأ الأمير بشير إلى عكا، وطلب المعونة والمدد من الجزار، فأمده بسبعة عشر ألف رجل حارب وإياهم في الجبل أكثر من سنة دون جدوى؛ فاضطر الجزار إلى سحب جيوشه، ولكي يقهر الأميرين حيدر وقعدان عرض على «مناصب» لبنان أن يعيد إليهم أمراءهم الشرعيين - أولاد الأمير يوسف - فهب أبناء الأمير يوسف وطردوا عمهم وابن عمهم وحكموا البلاد بهدوء وسكينة، ولكن مدة سنة فقط.
ثم حاول باشا عكا - الذي لم يفتأ يثير الفتن والتفرقة في الجبل - أن يعيد الأمير بشيرا إلى كرسي الحكم، بعد أن بقي هذا الأمير ثلاث سنوات لا يقوم بعمل ما غير تربص الدوائر بخصومه، فأمده من جديد بجيوش لم تكن أكثر توفيقا من التي أمده بها من قبل؛ فالشعب كان لا يزال كارها للأمير بشير، مصرا على عدم القبول بولايته؛ فغضب الجزار على بشير وألقاه وأخاه حسنا في غياهب سجن عكا، واعترف لمن لم يتمكن من طردهم بحق حكمهم الجبل.
خال أعداء الأمير بشير أن الباشا سيقتل الأخوين. بيد أن الجزار - وهو ذلك اللبق الحاذق - لم يكن ليهرق نقطة دم ما زال يأمل بوسيلة يستدر بها المال.
وبعد سنتين فاوض سجينه بالعودة إلى الحكم؛ فالشعب لم يعد يكن لأمرائه الحاكمين ذلك الولاء القديم، فالفرصة إذن مؤاتية. عرض الجزار على الأمير بشير وأخيه أن يجعلهما سيدي الجبل شرط أن يدفعا له خمسين كيسا كل شهر (37500 فرنك)، وأن يتركا أولادهما عنده رهائن.
وعندما درى الأميران حسين وسعد الدين - ابنا الأمير يوسف - بما يعده ويدبره لهما الجزار من مكايد، هربا قبل أن تدركهما أظفاره الدامية؛ وهكذا حكم الأمير بشير الجبل ثلاث سنوات لم تقم بها في وجهه صعوبة.
والتمس الأميران الهاربان نجدة باشا دمشق فلم يظفرا بطائل؛ فحولا وجههما شطر باشا طرابلس فخابا أيضا. والجزار الذي يجني ثمارا طيبة من تعاقب الأمراء على كرسي الحكم كان يحاول دائما إقلاق بال الذين نصبهم هو؛ فعرض مساعدته على أبناء الأمير يوسف، بعد أن نشدوها عند غيره ولم يجدوها، فقبلوها وهرعوا إليه. وعندما جاء سيدني سميث لنجدة هذه الفرضة (عكا) التي يحاصرها الفرنسيون، كان هؤلاء الأمراء لا يزالون يساومون ويعللون بالآمال.
وقضي الأمر فلم يتمكن الأمير بشير من الصمود أمام مهاجمة قوات الجزار والأمراء له؛ ففر إلى عكار الواقعة على مقربة من طرابلس، فتعهد قائد الأسطول الإنكليزي بحمايته لدى الوزير الكبير؛ وهكذا أبحر الأمير على ظهر البارجة ليلتحق بالوزير الكبير، فأدركه في العريش.
إن توصية السيد سميث مهدت السبيل للأمير، فاستقبل استقبالا جميلا، ووعد بالاهتمام بقضيته فور نهاية الحملة المجهزة ضد الفرنسيين.
وبناء على هذا التأكيد عاد الأمير إلى عكار. وبعد أن قضى فيها ثلاث سنوات قام بثورة أدت به فورا إلى القبض على زمام الحكم، استدعاه الأهالي الكارهون لأولاد الأمير يوسف لأنهم فرضوا ضرائب باهظة - إرضاء لباشا عكا - ثم كانت الثورة عليهم، ففر هؤلاء إلى بيروت.
وبعد هذا الحادث نشبت حرب بين الأمير بشير والأمراء المطرودين الذين عاضدتهم جيوش الجزار، ولكنهم ما لبثوا أن سئموا القتال فتهادنوا، واقتسموا فيما بينهم حكومة لبنان وكسروان.
وهلك الجزار فلم يحدث موته أي تغيير في هذه المهادنة، لا بل ساعد على توطيد دعائمها.
غير أن المزاحمة على الكرسي كانت قد حملت المتنافسين على التعهد بدفع مبلغ جسيم يقدر بتسعة آلاف كيس
1 (من ستة إلى سبعة ملايين فرنك)؛ فما إن استولى سليمان باشا - خلف الجزار - على أزمة الأحكام، حتى أخذ أولو الأمر يفكرون بطريقة استيفاء هذا المبلغ الضخم؛ فأجمع أهالي الجبل أمرهم وأبوا أن يعترفوا بصحة هذا الدين، ووجوب دفعه، ولكنهم أكرهوا على الخضوع وتأدية ما فرضه وأقره الباشا؛ إذ جعل هذا المبلغ أقساطا منجمة، تدفع في أثناء خمس عشرة سنة؛ أي كل سنة ستمائة كيس. وهذا القسط إذا ما أضيفت إليه الضريبة القديمة البالغة مائتي كيس، يصبح ثمانمائة كيس تدفع كل سنة؛ وهكذا دواليك حتى يستوفى المبلغ كاملا.
وفي بداية هذه الإدارة السلمية الهادئة شاء أولاد الأمير يوسف أن يقوموا بمحاولة جديدة ليستعيدوا سلطانهم على جميع أنحاء الجبل، وشعر الأمير الكبير - في الوقت المناسب - بما ينصب له من شراك، فأحبط مساعي المؤتمرين؛ قتل مدبره ومدبر الأمراء حاكم مقاطعة جبيل،
2
وفقأ أعين أبناء عمه أولاد الأمير يوسف. ولكي يبرر الأمير الكبير عمله الظالم هذا بسط للباشا مطاوي المؤامرة، وأطلعه على نيات خصومه الأثيمة وما كانوا يضمرون له من كيد وانتقام.
ومما يقال حول هذه الحوادث الخطيرة إن الأمير الكبير رأى فرصة وجود الإنكليز في مصر مؤاتية له، فاغتنمها وتخلص من أعدائه ومزاحميه، فالقومودور سيدني سميث كان قد فاوضه واتفق معه على موقف معين يقفه حيال إنكلترا.
ومن جملة الرسائل التي تلقاها الأمير، رسالة من السيد أولدريدج صادرة عن لندرة، مؤرخة 13 آذار 1819، وهي تنطوي على تفاصيل هامة حول هذا الشأن.
ذكر السيد أولدريدج الأمير في رسالته هذه باستقباله إياه في قصره بدير القمر، عام 1799، ثم استقباله مرة أخرى لم يذكر وقتها إلا بالإشارة إلى الهدية التي قدمت له، وهي بندقية في منتهى الدقة والجمال يظن أن الفارس جون بانكس أودعها المتحف البريطاني فيما بعد. وقد قوبلت هذه الهدية بإرسال بندقية إلى الأمير الكبير مرفقة بقطعة من نسيج دقيق عام 1801.
ولكي يظهر هذا الضابط ما ناله من حظوة، وما امتاز به على الذين رافقوا السر سيدني إلى جبل لبنان، فقد ذكر الأمير بزيارته الثانية له، حين رافق إلى قصره الضابط يواريت الذي جرح في إحدى المعارك.
ثم دخل الموضوع وعرض على الأمير بشير عقد مخالفة تجارية، مبينا له جميع الفوائد والمنافع التي يمكن البلدان أن يجنياها منها إذا عقدت.
وبعد تفصيلات عديدة ختم رسالته بهذه العبارة ليطمئن الأمير الذي قد يخالجه الحذر والخشية، فقال له: «إن انتصارات اللورد ولينغتون الذي قاد جيش إسبانيا، قد أوثقت وغلت تماما أيدي بونابرت، فحالت إلى الأبد دون إحراجه موقف أصدقائنا في مصر وسوريا.»
وفي غضون ذلك نكب الجبليون وأهالي سوريا بموت سليمان باشا الرجل الطيب، فخلفه عبد الله بك ابن كاخيته وعمره اثنان وعشرون عاما، فافتتح أعماله بذبح من أحسن إليه، ألا وهو مدبر سلفه الأول، ملحم حايم الإسرائيلي الذي وهب مقدرة لا تجارى في الأعمال الإدارية.
إن هذا الوزير الشاب الذي استسلم إلى نزقه ما لبث أن اتبع سياسة الجزار في قضايا الجبل، فضاعف الستماية كيس، بل زاد على تلك القيمة مبلغا ضخما يقدر بألفين ومائتي كيس.
ولا بد من القول هنا إن تعطش الباشا للذهب قد نتج عن الضريبة الفادحة التي قضي عليه بدفعها لينال العفو، بعد عصيانه على الدولة عام 1823، في حين أنه لم يكن يدري أن الأمير بشير قد قاسمه نقمة الدولة عليه، ثم لم يسهم بشيء في سبيل الحصول على العفو والغفران.
كان مصير الأمير مرتبطا بمصير هذا الباشا. ظن الأمير أن مركز الباشا وطيد لا يتزعزع، وهو لا يتزحزح من منصبه . فما كاد يشعر بترجرج موقف الباشا حتى غادر البلاد ميمما مصر، فوجد فيها ملجأ منيعا يحتمي به. فمحمد علي الذي سبق أن ربطته بالأمير علاقات قوية ساعده بكل ما أوتي من نفوذ؛ وهكذا عاد الأمير بشير إلى تولي حكم الجبل، على الرغم من أن الباشوات الذين حاصروا عكا أسندوا منصبه إلى الأمير عباس.
ورأى الأمير الكبير أن البلاد تحركها أحزاب تناصبه العداء، فازداد تخوفه، ولا سيما حينما وجد الدروز منضمين - هذه المرة - إلى أقربائه وذويه الذين يتآمرون على دك سلطانه.
كان قد سبق للدروز أن قاموا عام 1817 بمحاولة من هذا النوع، فاستولى الشيخ بشير جنبلاط على الحكم، مستعينا بنفوذ أبناء طائفته الكبير في الجبل.
3
إلا أن دستور الجبل كان يحظر الولاية على كل زعيم لا ينتمي إلى الأسرة الشهابية. وعلى الرغم من أن الأمير بشيرا أكره على الفرار إلى حوران، فالشيخ الجنبلاطي لم تواله إلا حظوظ عابرة.
لم يقنع الشيخ الجنبلاطي بما بلغ من نفوذ كتوليه منصب وزير الأمير - وهو منصب أطلق يده في حكم أبناء طائفته وأكثرية سكان البلاد - فأعلن العصيان عام 1825، مغتنما فرصة انحراف صحي شعر به الأمير وألزمه الفراش. زحف الدروز يؤازرهم فريق من المسيحيين وبعض أفراد آل شهاب إلى قصر بتدين،
4
مقر الأمير الكبير. وكان يسهل عليهم الاستيلاء عليه لو كان الجبليون يعرفون الاستفادة من المناسبات، ويضحون بعدد قليل من الرجال. غير أنهم يفضلون أن يطلقوا نارهم من وراء صخرة يلوذون بها، أو شجرة يختبئون خلف جذعها، بدلا من أن يهاجموا عدوهم وجها لوجه.
أما أعمال تسلق الأسوار فهذه حركات لا يحسنون القيام بها أبدا، وهذا ما يجعل مدة الحصار لا نهاية لها؛ ولذلك ظل إبراهيم باشا يحارب ثمانية أشهر حتى استولى على مدينة عكا، رغم أنه لم يدع فيها حجرا على حجر.
إن هجوما جبهيا كان يمكن أن يؤدي إلى سقوط قصر الأمير الذي لم يكن يحميه سوى ثلاثمائة رجل. ولكن الأمير أسرع فأنبأ الباشا بموقفه فأمده - بسرعة خاطفة - بجيوش
5
وصلت في وقت واحد هي والجيوش التي استقدمها الأمير من المقاطعات التي يحكمها، فطوقوا الدروز، وأعملوا السيوف في رقابهم، فكانت ملحمة كبيرة. وقد أبيد حزبهم عن بكرة أبيه، وزعماؤهم الذين لم يلاقوا حتفهم في القتال ضربت أعناقهم بالسيف في عكا ودمشق.
أما الشيخان بشير جنبلاط وعلي العماد فلقيا هذا الحتف بعد أن صودرت أموالهما، كما صودرت جميع أملاك الأمراء الذين كانت لهم إصبع في المؤامرة. ثم إن الأمير الكبير فقأ أعينهم وقطع ألسنتهم. فعل بهم ما كانوا قد أقسموا على أن ينزلوه به إذا ما انتصروا عليه وظفروا به.
لزمت أكثرية النكديين الحياد التام في هذه المعركة الفاصلة، فظلوا في مناصبهم ونعموا بثقة الأمير؛ وهكذا كانت هذه الثورة بدء عهد توطيد سلطة الأمير بشير، وإن ظل يلقى مع ذلك بعض الصعوبة في إرضاء عبد الله باشا الذي كان يتعبه في مطالبه. كان الباشا لا يقنع بأخذ ما يبتز من مال، بل يريد زج الأمير في جميع حروبه مع الإقطاعيين الذين ينكرون عليه سلطانه.
لم يكن في استطاعة الأمير رفض مطالب الباشا، فسخر رعاياه، معتمدا على ولائهم له بعد أن تألبوا عليه، ولكن تكليفهم دفع ضرائب باهظة - بعد نفقات حروب متواصلة شاركوا فيها بقسط وافر من أرواحهم - قد ساءهم كل الإساءة؛ وهكذا كان يضحي الأمير بمحبة شعبه له ليحصل على رضى الباشا، بينا هذا الباشا كان يتطلب منه الشيء الكثير، فكل ما كان يقدمه له الأمير لم يكن يرضيه ويشبع نهمه.
وبعد أن حاول «الأروام»
6
احتلال بيروت، عام 1827، ظن الباشا أن للأمير إصبعا في هذه القضية. إلا أن الأمير استطاع - بعد تضحيات كبيرة قام بها - تهدئة خاطر هذا الوزير الذي أخذ يعنف الأمير ويلومه على علاقاته مع نائب ملك مصر، ولا سيما بعد النفور الذي وقع بين الباشا وبين محمد علي المحسن إليه.
استمرت هذه الخصومة بين الباشا ومحمد علي مدة طويلة تقرر في نهايتها مهاجمة ولاية عكا، وكان تنفيذ هذه الخطة في شهر تشرين الثاني 1831.
كان الأمير يخلص كل الإخلاص لمحمد علي، وعلى الرغم من أنه شاء أن يتصرف هذه المرة بلباقة وحكمة، فقد كشف عن سريرته بسرعة ما عودنا إياها، ولم يكن يأتيها لولا اتفاق سري بينه وبين إبراهيم باشا.
إن تصرفات عبد الله باشا الجائرة ودسائسه وسعيه المتواصل لإعادة المشايخ الدروز إلى الجبل، بعد أن استبقاهم ليهول بهم كالأخيلة والأشباح، اضطرت الأمير إلى أن ينضم إلى الحلف المصري وعلى كل، فإبراهيم باشا لم يخابر الأمير بشيرا إلا بعد وصوله إلى عكا بخمسة عشر يوما؛ وهكذا لم يشأ الأمير أن يستبق الحوادث، فاستعمل جميع وسائله للتخلص - في غضون شهر كامل - من موافاته إلى ساحة القتال.
7
وأخيرا قدم، فاستقبله القائد الأعلى للقوات المصرية استقبال رجل محالف له، لعلمه كل العلم أنه لن يتسنى له أن يكون سيد سوريا بدون مساعدة الجبل ومعونته؛ وهكذا أبقى إلى جانبه الأمير بشيرا حتى ذهابه إلى طرابلس وحمص؛ لأنه كان محتاجا إلى ما يمده به من مؤن وذخائر يحتاج إليها هناك.
ولقد قام الأمير بمهمته بنباهة، وأدرك الباشا في بعلبك.
هوامش
الفصل الرابع والثلاثون
تابع تاريخ الأمير بشير شهاب
إن غياب الأمير وابتعاد القوات التي تؤيده وتأتمر أمره قد حملا الحزب الدرزي على الاعتقاد بأن الفرصة سانحة له ليستعيد السلطة التي فقدها؛ فالرواد الذين أوفدوا إلى إسطمبول عادوا يخبرون أن جيوش السلطان المعظم ستدخل سوريا وتقدم لهم المعونة التي ينشدونها.
فلو لم يعلن الأمير بشير ولاءه لإبراهيم باشا لانضم الدروز إلى إبراهيم، ولكن صيرورة خصمهم حليفا لمصر قضت عليهم بأن يوالوا الدولة العثمانية.
وما كاد إبراهيم باشا ينتهي من حمص حتى أخذ يهتم شخصيا بقضية الأمير بشير؛ فقصد بيت الدين على رأس أربعة آلاف رجل مهددا بهم من هنالك دير القمر. إلا أن الدروز غادروا البلد لأنهم لم يكونوا يتوقعون قدوم القائد المصري ومحاربتهم له، فنهبت بيوتهم كلها.
تلك كانت الخدمة الوحيدة التي فاز بها الأمير من محمد علي لقاء موالاته له. أما الجبل فلم ينله شيء من عطف محمد علي؛ لأنه كابد تضحيات كبيرة أثناء الاحتلال المصري. ومذ ذاك بدأ اللبنانيون وزعماؤهم يكرهون المصريين بعد ما كانوا يرغبون فيهم.
ما اكتفى الأمير بشير بخدمة مصالح مصر بما يسره له موقفه، بل بذل كل ما أوتيه من نفوذ وقوة. لاقى الأمير - كما رأينا سابقا - كثيرا من الاضطهادات قبل ثبوته في كرسي إمارة لبنان؛ فهو يقدر - إذن - قيمة مساعدة صديق قوي حق قدرها. اهتم خلال سني حكمه بخلق أصدقاء له والاعتماد على رجال يحمونه، فربطته علاقات وثيقة بجميع رجالات سوريا العظام. كان يخطب ودهم إما بهدايا يقدمها لهم، أو بقضاء بعض خدمات دعت الحاجة إلى أن تطلب منه، في زمن لم تكن فيه سلطة سوى اسم بلا مسمى. فكل باشا وكل آغا أو زعيم كان بوسعه أن يؤلف حزبا ويعلن استقلاله؛ فتنتج عن ذلك الحروب. والحزب الذي يغلب على أمره لم يكن يجد ملجأ ومعتصما له إلا في الجبل الدرزي. على أن حصانة هذا الملجأ ومناعته لم ينتزعهما إلا المصريون.
كان الأمير يستقبل جميع الذين ينزلون عليه - ومن أي فئة كانوا - بلطف واحد، ويبقيهم في قصره المدة التي يرون من المناسب قضاءها عنده. وكانت هذه الضيافة - في جميع الأوقات - أثقل عبء يقوم به الأمير بشير، إلا أن سماحة كفه وشهامته كانتا تليقان به تماما. وما لنا أن نلومه إذا أثقل عاتق شعبه ليرضي أمياله النبيلة السمحة ويحسن الحماية والاعتصام.
تعرفت إلى عدة رجالات عظام من الأتراك، فلم يترك أحد منهم في نفسي بعض الأثر الذي كنت أحسه حين أمثل بحضرة الأمير بشير، قبل أن هدم إبراهيم باشا معالم سؤدده وعظمته.
وفي جميع الحروب التي خاضها المصريون مع البلدان التي حاولت أن تخلع نير العبودية، كان الجبليون وحدهم هم الذين يحاولون إلقاء النير الجديد عن أعناقهم؛ ففي نابلس وجبال اللاذقية وحوران استعانوا باللبنانيين؛ لأن جميع الأساليب الأخرى لم تكن تجدي نفعا.
قدم الجبل خلال عدة سنوات رجالا سخروا في تشييد أبنية دكتها حرب عكا، وأوفد بنائين وعمالا إلى كولك بوغاز، فانهارت قوى قسم كبير منهم من جراء التعب ورداءة الغذاء والهواء.
ومع ذلك فالمظالم التي أناخت بكلكلها على أبناء الجبل قد أناخت على سكان المدن سواء بسواء. نزعت الأسلحة في كل مكان، ولم يذكر شيء من تضحيات الجبل وإقدامه وإخلاصه. والذين لم يستطيعوا أن يقدموا بنادق أجبروا على دفع أثمانها كما لو كانت في حوزتهم، ناهيك بأن التجنيد الذي دعي إليه قد فرض بصرامة وطبق بتدقيق على الدروز والمتاولة - رعايا الأمير - أكثر مما فرض وطبق على رجال المدن!
ففي العام الأول للاحتلال علل الجبليون الذين خدموا القضية المصرية أنفسهم بإعفائهم من ثلاثة أشياء: التجنيد الإجباري، ونزع السلاح، ودفع الضرائب الجديدة. أما الأمل الأخير فما كاد يظهر حتى اضمحل لأن السلطة الجديدة - مع إلغائها الفرائض القديمة التي كانت تثقل كاهل المدن - قررت أن تجبي من الجبل الضريبة القديمة نفسها، ولكن ليس بالمقدار الذي فرضه الجزار أو سليمان باشا، بل كما كان يستوفيها عبد الله باشا؛ أي بمضاعفتها ثلاث مرات عما كانت عليه بادئ ذي بدء. وعبثا كان يسدي الأمير بشير إلى المحتل نصائحه التي أوحتها إليه حالة رعيته. فكم أوفد من رسول إثر رسول لمفاوضة الحاكم العام، وإبراهيم باشا، ونائب الملك نفسه. ولكن لم تحقق له رغبة، وطلبته لم تستجب، ولو أنها تحققت لكانت دلت على أنبل عمل هو غاية العدل والإنصاف.
هال هذا الرفض أبناء لبنان فأعلنوا سخطهم وهددوا بالعصيان قبل أن يرتضوا بتجنيد ثان. وبهذه المناسبة قدم بحري باشا - مفتش خزينة نائب الملك في سوريا - ليفاوض الأمير بالأمر. وبعد أن ضايقه بجميع ما يملك من أساليب ليحمله على الإذعان لأمر إبراهيم باشا، قر رأي الأمير أخيرا على مقابلة الزعماء الدروز ليطلع على أسباب رفضهم في تقديم عدد الرجال المطلوب منهم.
أجاب الأمير - بادئ ذي بدء - أن سلطته تمكنه في الحالة الحاضرة من جباية الضرائب ودفعها، ولكن دون ذلك أهوال ومشقات، وهو مع ذلك لا يريد - بل يأبى - أن يتعرض لسخط الشعب بدون أمر خاص من القائد العام.
وفي الصباح اجتمع الأمراء والمشايخ الدروز عند الأمير، فحاول بحري بك - بما أوتي من مقدرة - أن يقنعهم بإجابة ما يطلب منهم، مبينا ومعددا الحسنات التي أتتها الحكومة المصرية فأحيت هذا البلد وأنعشته. ثم توسع بوجه خاص فأفاض في تعداد المنافع المنتظرة التي يجرها عليهم رضوخهم إلى ما يطلب منهم، فقال لهم: «أنا مسيحي من العوام، ومع ذلك رقيت إلى رتبة قائد مكافأة على شجاعتي وأعمالي المشرفة التي قمت بها.»
ولكنه، حين لم يلق جوابا على كلامه إلا سكوتا كئيبا، شرع يصور لهم ما يجره عليهم عنادهم من أخطار: «إنكم تعرفون إبراهيم باشا وما يستطيع أن يعمله. لقد استذل السلطان نفسه؛ فحذار من غضبه ومن البلايا والويلات التي ستجرونها على أنفسكم.»
وظل الزعماء صامتين حتى أتى على نهاية حديثه، وعند ذلك أجابوه أنهم قدموا - بلا انقطاع - جميع ما فرض عليهم، وأنهم لا يزالون على استعداد لتأييد إبراهيم باشا أينما كان. إلا أنهم يرفضون تقديم الرجال، وأن نائب الملك احتل البلاد لا أهليها لتعبأ في جيوش منظمة.
لقد حزم الشعب أمره ونوى على تقرير هذا المصير. بيد أن الزعماء لم يؤيدوا جميعا هذا الرفض، وشاء الأمير الكبير التوفيق بين الشعب وإبراهيم باشا، فبعث بمائة كيس زيادة عن الضريبة، فتلقى من إبراهيم باشا جوابا يدحض به حجج الجبل المخالفة لإرادته.
وجه هذا الجواب إلى بحري بك، وهذا هو: «قولوا للأمير إذا كان بحاجة إلى جنودي، ليستطيع القيام بالتعبئة التي طلبتها منه، فإني على استعداد إلى توجيهها إليه، وإذا كان حضورها يحدث أثرا سيئا فليدع الأمير بنفسه إلى التجنيد دون أن يجبر عليه أحدا.»
إن هذه اللهجة المستغربة التي فاه بها القائد العام، وخصوصا بعد إلحاحه في طلب تطوع عدد من رجال الجبل، تحملنا على الاعتقاد بأن إبراهيم باشا كان قلق البال، منهمكا. وسبب ذلك - وهذا أول ما تبادر إلى أفكار اللبنانيين - هو ما كانت تقوم به السلطنة من استعدادات، وتأهبات لاستعادة سوريا التي كانوا يظنونها هدفه الوحيد.
حافظ أبناء الجبل على كرامتهم الشخصية؛ كانوا يرون أنفسهم حلفاء المصريين ويشعرون أنه لا يمكنهم أن يضحوا بأكثر مما قاموا به ليكونوا عند حسن ظنهم بهم ويكسبوا ثقتهم ... إنهم لم يجردوا من سلاحهم إلا عام 1835، وليتنا ندري بأية صورة!
اضطر إبراهيم باشا - لحادث غير منتظر - لأن يتغيب ويكل إلى اللبنانيين أمر المحافظة على الأساكل ... ولما أنبئ أن مؤامرات في الجبل يدبرها الدروز وفريق من المسيحيين، لم يهدأ له بال إلا بعد أن جرد أعداءه وأصدقاءه من سلاحهم.
ولهذه الغاية انقض على دير القمر على رأس اثني عشر ألف رجل تهافتت عليه من جهات مختلفة، ولكي يتأكد من نجاحه قام بعمله ذاك يوم الأحد، حين كان المسيحيون يصلون في كنائسهم. أقفلت أبواب الكنائس وأخرج منها الرجال واحدا واحدا، واقتيدوا إلى بيوتهم لانتزاع أسلحتهم.
ومن دير القمر التي لا يزيد عدد سكانها على أربعة آلاف نسمة من دروز ومسيحيين، وجهت الجواسيس إلى الأمكنة الأخرى فجردوا أهليها أيضا؛ فآلم هذا الأسلوب الجائر اللبنانيين عامة، والمسيحيين خاصة، فأضمروا للمصريين حقدا لا يشفى له غليل، بله الكراهية التي كان يلاقيها هؤلاء بوجه عام.
قرر أبناء الجبل - أكثر من مرة - إعلان الثورة. إلا أن عدة نصائح (ولا أريد أن أطنب في مدح نفسي لأنني أسديت قسما كبيرا منها) قد أرجعتهم عن عزمهم وتصميمهم. كان يسعنا القول عنهم - لو تمادوا في ضلالهم - إنهم يفتشون عن حقهم، ولكن إلام قادهم بعد ذلك صبرهم؟ ففي تلك الحالة التي قلقت فيها الخواطر، كانت دعاية أي حزب كان - مهما ضعف شأنه - تفعل في الجبل فعل الكهرباء إذا ما سلطت على مادة قابلة الالتهاب.
وكان الأمير بشير يشاطر رعيته عاطفتها هذه، ويضمر للمصريين البغضاء نفسها التي يضمرها لهم رجاله، بيد أن التجارب والاختبارات الواسعة ألزمته أن يكون حكيما لبقا. كثر أعداؤه حتى إن قصره نفسه كان يضم عددا كبيرا منهم يحصي عليه حركاته وسكناته؛ وهكذا لم يستطع أن يقوم بأي عمل كي لا يبحث عن حتفه بظلفه. فلو تقيد الأمير بأوامر قائد الأسطول الإنكليزي لكان قضي عليه منذ مدة طويلة؛ لأن سلطة المصريين كانت لا تزال على أشدها في سوريا.
إن حياة الأمير حياة عاصفة، وإذا كان قد استطاع النجاة من الأخطار التي تعرض لها؛ فذلك يعود إلى حذره الكبير. فالحكمة قضت على الأمير بشير أن يكون باغيا ظالما؛ لقد حكم في مرحلة من الزمن هي أدق مراحل تاريخ الجبل وأصعبها. وأما الذين ينعون عليه تصرفاته فهم أولئك الذين لا يعرفون موقفه حق المعرفة ويجهلون دياره.
الفصل الخامس والثلاثون
حكم أمير الجبل، إدارة البلاد، حالة الزراعة، دخل الأمير، حالة الصناعة. ***
كان الأمير يحكم الجبل كما يحكم الباشوات ولايات السلطنة العثمانية؛ أي وفقا للنظم نفسها وما ينتج عنها من مساوئ في التطبيق. فالأنظمة الأساسية حددت صلاحية كل ذي سلطة، ولكن الحكام لا يقفون عند حدود سلطتهم؛ فهم يفصلون في جميع القضايا، دون أن يأبهوا للحق أو يعيروا القضاة أصحاب الصلاحية أقل التفات.
كانت العدالة في الجبل بين يدي ثلاثة:
الأمير، وهو الحكم في الدعاوى الجنائية، والقضايا التي لها ولو بعض الشأن.
والقضاة، وهم يحكمون في الدعاوى المدنية.
والبطاركة الأربعة، وهم يفصلون في القضايا الدينية والدعاوى الكنسية التي تنشأ عند الموارنة والروم والسريان والكاثوليك القاطنين جبل لبنان.
وبوجه عام يفصل هؤلاء السادة البطاركة في الدعاوى، عندما يطلب إليهم ذلك، بطريقة حبية ويرتضي المتخاصمان حكمهم.
أما القاضيان اللذان يفصلان في الدعاوى المدنية، فأحدهما مسيحي (وهو مطران ماروني)، والآخر درزي؛ وهذان يستطيعان أن يحكما في جميع المنازعات التي ترفع إليهما دونما تفريق بين مختلف الملل والنحل.
وإذا ما نشأت دعوى بين مسيحي ودرزي لها بعض الأهمية، فالأمير هو الذي يعين المحكمة التي تنظر فيها.
أما فيما عدا ذلك فكل شيخ يقوم في قريته بوظيفة قاض، ولما كان أبناء الجبل غير ميالين إلى التنازع والتخاصم، فالمحكمتان الكبيرتان قلما يرجع إليهما. وهناك أمر لا بد من ذكره، وهو أن لرعايا الأمير حق الخيار في رفع شكواهم إلى إحدى محاكم طرابلس وبيروت، إذا كانوا يقطنون إحدى هاتين الولايتين.
أما القوانين والشرائع التي يحكم بموجبها وتفصل الدعاوى بناء على نصوصها، فهي الشرائع الإسلامية، وسنرى - عندما نتكلم عن العادات العامة - من هم الأمراء الذين كانوا يتغلبون بنفوذهم على الحق الصراح والمنطق الصحيح.
ولما كان الشرق لم يألف القيام بإحصاءات صحيحة، فقد كانوا يهتمون بعد البيوت، وإحصاء أسماء الذكور الذين يدفعون «الفريضة» فقط. وهذه الفريضة لم تكن تدل - كما نرى - إلا على معلومات تقريبية؛ فالبلدان التركية هي الأماكن التي لا يعرف فيها شيء بصورة دقيقة. فبلادة الشرقيين وغفلتهم تثنيان عزمهم عندما تعترضهم أول صعوبة ولو كانت طفيفة.
إن الضرائب السنوية التي يؤديها أبناء الجبال هي فئتان: الأولى، وتسمى مال الأعناق أو «الفريضة»، وهي تفرض على الأعزب كل عام خمسة قروش، وعلى المتزوج سبعة، وتسعة على من يسكنون ضواحي بيروت. والثانية، وتسمى الأموال الأميرية، وهي الضرائب التي سبق لي أن تكلمت عنها آنفا، إنها تفرض على العقارات وفقا لجدول يجدد تنظيمه في فترات غير معينة، كخمس سنوات أو عشر، أو خمس عشرة سنة؛ أي عند احتياج الحكومة إلى المال.
فالملاك الذي يبلغ دخله زهاء ألفي قرش يقضى عليه بدفع ضريبة سنوية تساوي ثلاثين قرشا. إلا أن حاجة البلاد وبلص الباشا قد يحملان على مضاعفتها حتى تبلغ أضعاف الأضعاف؛ وعند ذاك يرفع المتكلفون الذين لم يألفوا هذا الجور صوتهم عاليا ويصرخون، ثم يستسلمون مرغمين لهذه النكبات والبلايا. وفي وقت ما بلغت الضريبة التي فرضت على بزر دود القز (البزرية) ثلاثة قروش ونصف القرش عن كل أوقية، ثم ما لبثت أن ضوعفت.
أما الضرائب المفروضة على الأراضي الصالحة للزراعة فتدفع على الدرهم. والدرهم افتراض لقياس مساحة من الأرض يبلغ بذارها مد قمح.
1
وبقدر جودة الأرض تفرض عليها هذه الدراهم، فيدفع قرش واحد عن كل مساحة لا تقل عن السبعة دراهم، ولا تتجاوز العشرين درهما. وهذه الضريبة التي بلغت اليوم ثمانية أضعاف ما كانت عليه سابقا، قد استوفيت في بعض الأحوال والظروف ستة عشر ضعفا.
إن ضريبة «البزرية» تجبى بهذا الاسم أيضا في ضواحي بيروت، وهي تبلغ ما يقارب 48000 قرش. أما في لبنان فتسمى «الطرح».
ليس مبلغ هذه الضرائب بالشيء الكبير بالنظر للملاك الذي يكفيه منتوج أرضه فلا يضطر إلى الاقتراضات الهدامة. ولكن الفقراء الذين لا يكفيهم ريع أملاكهم يكادون يرزحون تحت عبئها؛ ولهذا نراهم لا يكفون عن الصراخ والتذمر. وهم يجهلون أن الحالة التي هم فيها لا تزال مرضية إذا ما قابلنا بينهم وبين أهالي جزيرة قبرص وضفاف النيل الخصبة.
إن آل شهاب الذين خلفوا هنا آل أرسلان الأمراء الدروز، ينعمون بامتياز يعفي من هم في خدمتهم من دفع ضرائب مال الأعناق والأموال الأميرية والبزرية والسخرة.
أما الأمراء والمشايخ الآخرون فلا يعفون من تأدية جميع ما ذكر بدون عوض، فعليهم أن يقدموا عددا كبيرا من الرجال والخيول حين يطلب منهم ذلك الأمير الكبير عند الاضطرار. إن هؤلاء الأشخاص ينهجون في جميع تصرفاتهم المنهج الإقطاعي.
تفرض الأموال الأميرية وتوزع على جميع مقاطعات الدولة المختلفة. وكل أمير أو شيخ يكلف جبايتها في الإقطاعة الخاضعة له، ثم يرسل المبلغ المفروض إلى بتدين
2
بعد أن يقتطع لنفسه قسما منه بمعدل بارتين عن كل قرش (؟)، أو خمسة في المائة، لسد نفقات الجباية، والمصارفات، والمبالغ الإضافية ... إلخ ... إلخ. والأموال الأميرية، وهي مجموع جميع الضرائب، يمكن أن تفرض بمعدل يراوح بين ال 15 وال 25 بالمائة تبعا للمقاطعات والحاصلات. أما مجموع هذه الضرائب المباشرة وغير المباشرة فيبلغ حوالي الاثني عشر ألف كيس (2400000 فرنك).
والضرائب لا توزع على الرعية بالسوية. هنالك اختلاف في كيفية فرضها ينتج عن العرف والعادة المحليين؛ فالمتن - مثلا - لا يدفع إلا بناء على تخمين الأراضي. ثم إن خمس قرى تخص أمراء آل بللمع معفاة من دفع الضرائب. ومثل هذا الإعفاء تنعم به القرى الساحلية التي تخص الأمير الكبير.
وفي الشويفات
3 (ومحصول هذا البلد من الزيت فحسب، وهو يبلغ في السنة العادية 20000 قنطار) توزع الضريبة أيضا تبعا لقيمة الأرض، وهي تراوح بين تسعة وثمانية عشر قرشا عن كل قنطار؛ فالأهالي يدفعون قرشا عن كل عشرين درهما ، والملاكون الأجانب يؤدون قرشا واحدا عن كل 11 و13 و16 درهما.
ونجد أيضا في الجبال أراضي بائرة وعددا كبيرا من الأهلين الفقراء الذين لا مورد لهم، ويأكلون من عمل أيديهم.
والأراضي تقسم ثلاث فئات: أراضي الأمراء ورجال الإكليروس، وأراضي المشايخ وبعض الفلاحين الميسورين، وأراضي الطبقة الأخيرة وهي دون تينك غنى وثروة. والفلاحون - وهم الأكثرية الساحقة - يعنون بحرث عقارات الطبقتين الأوليين واستثمارها، ولذلك طريقتان:
الأولى:
وهي أن يأخذ الفلاح الذي يعتني بالأرض جزءا من غلتها بتعبه في سبيل عمارها واستثمارها. وهاكم المثل: إن ثلاثين رطلا من ورق التوت تعتبر «حملا»، وكل حمل يخمن بمبلغ خمسة قروش يعدها المالك لدى إبرام الاتفاق، ويقدر القيمة المتوجب له قبضها. أما الفلاح فيتعهد له بدفع مصارفات حراثة الأرض وتسميدها وجميع النفقات التي تتطلبها العناية بتربية دود القز في مقابل أخذ نصف الريع. وعندما تنتهي مدة الشركة يعاد تخمين أحمال الورق، فإذا نقصت عن قيمتها الأولى يدفع الشريك العطل والضرر بمعدل خمسة بالمائة عن كل حمل، وإذا زادت فله قيمة تلك الزيادة بنفس المعدل. ونرى هنا أن مصلحة الفلاح تجبره على أن يعتني بالأرض التي عهد بها إليه.
والطريقة الثانية:
هي أن لا يتقاضى الفلاح إلا ربع الريع لقاء أتعابه، وأن لا يدفع إلا قليلا من المصارفات بمعدل قرش واحد عن كل حمل ورق. ولكن هذا الفلاح لا ينعم بحق الاستقرار في العقار، فيمكن أن ينزع من يده عند انتهاء كل موسم.
ومهما يكن من أمر، فهذان الشريكان يجنيان عدة منافع أخرى؛ فورق التوت الذي ينبت في الصيف يكاد يفي بمصارفات حراثة الأرض. ولقد اصطلحوا على أن يتركوا للفلاح (الشريك) أغصان الأشجار وجزوعها الهرمة، ومشاقة الحرير، وقسما من الشرانق غير الصالحة (المواتة)، والشركاء يستفيدون من زيادة الحرير التي تفوق عادة القيمة التخمينية.
وللشركاء أيضا نصف غلة البساتين والأشجار المثمرة، فإذا كانوا يحسنون تعهدها كان لهم منها نفع غير يسير.
إن الطبقة الأخيرة من الملاكين - أي طبقة الفلاحين الميسورين - قلما تشرك أحدا في أعمالها؛ فهم يستأجرون عمالا وأجراء عند قطف الشرانق، من أولئك الفعلة الذين يقضون ثلاثة أرباع أيام حياتهم دون عمل، مترقبين هذه الفترة - فترة تربية دود الحرير - التي تستخدم فيها أذرعهم وظهورهم. إن هؤلاء الناس هم أشد اللبنانيين بؤسا كما هم أكثرهم عددا؛ فبينهم الرهبان، والصناعيون، والرعاة، والفعلة، والمكارون، والحطابون ... إلخ.
تمشي الأمراء - وهذه الطبقة هي أغنى الطبقات من حيث أملاكها - على طريقة واحدة تنحصر في أن لا يتنازلوا لأي كان من الناس عن شبر واحد من أملاكهم؛ وذلك ناشئ - كما يرجح - عن داع سياسي وهو الخوف من إضعاف نفوذهم؛ أولا: بهبتهم عقارا إلى الشعب، ثانيا: بإضعاف خضوعه لهم، وهو يرتكز على الحاجة المحلية في طلب العمل ليتمكن من أن يعيش.
أما رجال الإكليروس - وهم جد حريصين على سلطانهم كالأشراف أنفسهم وإن تلفعوا بستار الفقر - فيأبون دائما أن يتنازلوا عن شيء من عقاراتهم التي حافظوا عليها بفضل عناية الأمراء وتقوى الشعب وخضوعه وطاعته.
وهناك سبب آخر، وهو أن هذه الأملاك لا تسخو النفس عنها لجودتها وخصبها. إنها لا تحتاج إلا إلى اليد العاملة التي لا بد منها لاستثمار هذه الأرض. وهذه الأيدي متوفرة لدى هذه الطبقة المعززة المكرمة. إن قفيرا من الرهبان الأشداء - وجميعهم من الشباب المفتولي الأذرع - يعملون على إنمائها عاما بعد عام. ورؤساء الأديرة الذين يعج بهم الجبل يعرفون كيف يستفيدون منها ...
ولكن لماذا لا نزال نرى في الجبل أراضي بورا ما دام في استطاعة مالكيها - إذا تنازلوا عن ربع دخلها - أن يجعلوها صالحة للزراعة؟
السبب بسيط جدا، لم يعتن بها لأن القسم الكبير منها صخري صعبة حراثته، حتى إن ربع ما ينتجه، لا بل نصفه، يصبح تافها متى حسمنا منه نفقات الحراثة، وثمن السماد، وبدل العناية. فالفلاح الذي أثقلت كاهله الديون تتضاعف ديونه إذ لا يسعه في السنوات الأولى أن يأتي عملا غير الاهتمام بعقاره الجديد الذي استحدثه. وهنالك سبب آخر يحول دون الاهتمام والعناية بالأراضي الصالحة للتوت الذي تربى على ورقه دودة القز، أو التي تصلح لزراعة القمح؛ وذلك لأنها عندما يغرس فيها التوت أو يلقى فيها بذار الحنطة يفرض عليها الأمراء ضرائب باهظة تكاد توازي دخلها. وهذا ما كان يحملهم على تركها بورا خوفا من أن يذهب تعبهم هباء منثورا ويضيعوا وقتهم فيها؛ وهكذا فقد الملاكون أراضيهم لأنهم لم يجدوا من يتعهدها.
إن السواد الأعظم من أهالي الجبل أناس فقراء لأن الأراضي الصالحة للزراعة لا تكفي لسد حاجاتهم. ولما كان لا بد من سنة تجدب بها الأرض كل سنتين أو ثلاث سنوات، فقد بيعت الحاجيات الضرورية للمعيشة بثمن فاحش بعد أن احتكر باشا عكا الحبوب، فاستدان الأهلون مبالغ باهظة. ثم إن المرابين «المحميين» من قبل
4
رجال الحكومة قد اضطروهم إلى بيع محصولاتهم بثمن بخس ليستوفوا ديونهم والضرائب. عاملهم الجباة الظالمون بقساوة وكبدوهم نفقات تفوق القيمة التي تتطلبها الخزينة.
وهنالك طريقة أخرى يمكننا القول إنها منتشرة في الجبل كل الانتشار ولا يسلم منها أحد في الجبل، تلك هي عادة استدانة المال؛ فهو يستدان إما لسد أود المديون بما يستدينه بالربا، وإما ليتعهد أملاكه ويضاعف ريعها ثم يفي المبلغ الذي استدانه من غلة العام المقبل. فهذا الضرب من الاتجار أثري منه تجار البلاد، وأفقر الأهالي من أميرهم الكبير حتى صعلوكهم الحقير؛ لأن السلفات التي حصلوا عليها - سواء أكانت من المال، أو الأمتعة، أو الحبوب - كانت تضطرهم إلى دفع فائدة تبلغ في ظاهرها عشرة بالماية، ولكنها كانت تعود على الدائنين بمقدار عشرين أو ثلاثين بالماية، متى نظرنا بعين المدقق إلى المنافع التي كانوا يجنونها عند تخمين المحاصيل المدفوعة وفاء للدين.
وهذا العرف الفاسد ناشئ عن تخوف الرجال الكبار من بلصات السلطات العليا، وعن خشية الطبقة المرموقة بعض الشيء من زعمائها، فسعى كل رجل وراء جمع كنز صغير يدفع منه ما يفتدي به روحه حين حلول حدث غير منتظر في بلاد كثرت فيها الاضطرابات والفتن والحوادث غير المنتظرة.
أما دخل الأمير فأكثره من كراء الأراضي، ومعادن الحديد، والميزان، والحرير، والمصابن، والجزية التي يدفعها النور، والمكس المفروض على الغنم، وضريبة الأملاك.
وإذا نظرنا إلى الأعمال الصناعية التي يتعاطاها أهالي لبنان، نجد أنها تنحصر في أعمال غليظة سمجة؛ فاليد العاملة لم تشجع ولم تتناول أجرا كافيا. أتقنت المنسوجات الحريرية بعض الشيء، إلا أن الرواج الذي لاقته حرائر مصانع إنكلترا بسبب تدني أسعارها قد قلل عدد المصانع العربية؛ فالأهالي يؤثرون شراء منتوجات البلدان الأخرى لأن أثمانها الزهيدة تلائمهم. إنهم لا يتقنون صنع شيء لأنهم يفتشون عن الرخص، ولا يعنيهم من الحاجيات إلا أن تكون رخيصة.
ففي زوق مكايل تنسج العباءات، وهي تعمل إما من القطن أو الصوف أو الحرير، أو مقصبة، فيراوح ثمن الواحدة من الخمسين قرشا إلى الألفي قرش.
إن الصاغة والحاكة والإسكافيين والخياطين والحدادين والبنائين والنجارين، وبوجه عام جميع العمال، يتقاضون أجرا لا يكاد يسد حاجاتهم. فأكبر أجر يتقاضاه العامل يبلغ فرنكين ونصف على الأكثر.
والكلس الذي يصنع في الجبل يباع لحساب الأمير. وإذا سمح لبعض الأمراء أو المشايخ أن يتعاطوا هذا العمل في محل إقامتهم فيكون ذلك مقابل ضريبة يدفعونها للأمير.
إن مدينة دمشق ومدن الشاطئ الأخرى تنظر إلى الجبل نظرة بغيضة، رغم أنه كان في أوقات عديدة ملجأ لأهليها. فمن دمشق انطلقت الشرارة الأولى، فكانت سبب الفتن التي حدثت مؤخرا في الجبل. تطاير ذلك القبس من سراي نجيب باشا، فالتهمت ناره لبنان لأنه كان سبب الحرب الأهلية فيه.
هوامش
الفصل السادس والثلاثون
عادات أمراء لبنان
الأسر الأميرية في الجبل ثلاث: عائلة شهاب، وبللمع، وأرسلان التي لا تتحدر من روسلان.
فأولى هذه العائلات عربية الأصل، وهي تتحدر من مخزوم، وهو بطن من قريش اعتنق الدين الإسلامي. خاض ابنه عمر الحروب في سبيل النبي، وخصوصا حرب حمص، فاستطاع أن يستولي على حوران، ثم ما لبث أن عمرها.
ويظهر أن اسم شهاب يرجع إلى اسم القرية التي سكنتها هذه العائلة في تلك المقاطعة. ولا بدع؛ فتسمية المرء باسم المحل الذي ولد فيه عادة مألوفة في الشرق. وقد جاء فيما كتبه الأب بلانشه اليسوعي أن أول بلدة نجدها في حوران هي شهبا المشهورة بآثارها الجميلة.
1
وهذه البلدة التي نهبتها ودمرتها الحروب جلا سكانها عنها عام 580 أو 588ه إلى وادي التيم، بعد استنقاذها من الأوروبيين الذين كانوا آنذاك أسياد جميع الشاطئ السوري. وفي تلك الفترة من التاريخ حالفت عائلة شهاب عائلة معن الكردية الأصل. ولما انقرضت الأسرة المعنية حلت الأسرة الشهابية محلها في الحكم.
إن آل شهاب الذين لا يتزوجون إلا بنات شهابيات، اضطروا أحيانا إلى الزواج من السراري الكرجيات
2
أو الشركسيات؛ وهكذا شيب الدم الشهابي ولم تحافظ على نقائه هذه العائلة. ومنذ مدة غير بعيدة أخذوا يصاهرون عائلة بللمع.
أما تاريخ تنصر الأمير ملحم - سمي الأمير الحالي وجده - بفضل اهتمام البطريرك مخايل فاضل - تلميذ روما - وعنايته، فيرجع إلى حوالي مائة وعشرين عاما. وقد تمكن هذا البطريرك،
3
ولكن بدهاء ولباقة، من استمالة الأمير قاسم عمر أيضا - أبي بشير الحالي - المعجب بالعقلية الأوروبية؛ إذ قال له: «إذا كنتم تسلمون أن الأوروبيين مثقفون إلى هذا الحد، فكيف يمكنكم الاعتقاد أنهم اتبعوا دينا وهم يجهلونه؟» فأجابه من فوره: «عمدني.»
ومنذ ذلك الوقت اضطر الأمراء إلى أن يحذروا الدروز والمسلمين ليستطيعوا أن يحافظوا على سلطتهم ونفوذهم. ولما كانوا مسيحيين في الباطن فقد عمدوا أولادهم، ثم ربوهم في الظاهر على الدين الإسلامي؛ الأمر الذي لم يستهجنه الدروز لأنهم كانوا هم أيضا يتظاهرون بالإسلام تقية. كان يكفيهم من هؤلاء الأمراء أن يدفنوا على الطريقة الدرزية. وهذا ما تعنيه تلك الكلمة الشائعة في لبنان وهي: إن أمراء الجبل يولدون مسيحيين، ويعيشون مسلمين، ويموتون دروزا.
ذات يوم سأل إبراهيم باشا - بعد أن سمع هذا الحديث - وزير المالية المصرية بحري بك: وأخيرا على أي دين هو الأمير بشير؟
فأجاب المسيحي الداهية: على دين مولانا المعظم. قد رمز بجوابه هذا إلى نائب الملك الذي لم يكن له دين خاص كما يقولون. فسكت الباشا مقتنعا بالجواب لأنه فهم معناه.
القائد المصري رجل يدهشك ذكاؤه ومعرفته الأمور؛ فهو فطن إلى أبعد مدى، وذو ذاكرة عجيبة.
أما آل بللمع فكانوا مقدمي المتن على عهد المعنيين؛ فأحدهم - واسمه إسماعيل - بعد أن ذبح 14 أميرا يمنيا في محاربتهم القيسيين، أعطى نفسه لقب الأمير وحافظ عليه. وإسماعيل هذا كان آخر من نجا من اليمنية التي حكمت سيوفها في رقاب آل بللمع، حتى كادت أن تفنيهم . وبقدر ما كان الأمير إسماعيل شجاعا كان قليل التبصر. وهذا الحادث يثبت ما نزعم.
تركه طباخه بعد خدمة طويلة، وذهب إلى مدينة بيروت التي أبصر فيها النور؛ فالتقى طباخ الأمير هذا بدائنه القديم، فطالبه بما له عليه من دين قديم، ولما أبى الدفع شكاه إلى الحاكم، فزجه في السجن. وصدف أن مر من هنالك رجل من عائلة الأمير إسماعيل، فاستغاث به الطباخ وطلب مساعدته لينجو من مأزقه، فتوسط له طالبا الإفراج عنه، فرفض رجال الحاكم إخلاء سبيله، فأدى ذلك إلى جدال سب في أثنائه الأمير إسماعيل؛ فاغتاظ الوسيط وأبى مواصلة عمله النبيل، وروى لسيده - فور وصوله - ما حدث وما سمعه من كلمات بذيئة ألصقت به، فدعا الأمير إسماعيل رجاله في القرى الخاضعة له، وأمرهم أن يحضروا بين يديه في اليوم التالي، ثم طلب في الوقت نفسه من ابن عمه الأمير بشير أن يتهيأ على رأس سبعماية رجل ليرافقه عند ذهابه في اليوم الثالث.
وعندما وصل القرويون توجه إسماعيل إلى ابن عمه بشير، فاستغرب عند وصوله ألا يرى رجاله على استعداد، فسأله بشير أن يتريث قليلا ليصبوا له بعض الشراب. كان بشير يعرف أخلاق إسماعيل الجموحة، وقد شاء أن يحول دون هذه الأعمال الجنونية التي يأتيها ابن عمه.
فقال إسماعيل عند ذاك، وهو يرغي ويزبد من الغضب، إنه لم يأت ليترطب، وإنه يريد منه أن يقف على رأس رجاله ويمشي. فأصر بشير على رأيه، وهو وجوب التزام السكينة والهدوء. فأفرغ إسماعيل رصاص طبنجته في صدر ابن عمه، وواصل سيره حتى بلغ غابة الصنوبر التي تبعد مسافة ثلاثة أرباع الساعة عن بيروت، فعسكر هناك برفقة ألف ومائتي رجل.
ودعا إليه عائلة من «شركائه» اشتهر زعيمها بشجاعته. وبعد أن انتقى منهم ستة رجال أوفدهم إلى المدينة ليبيتوا ليلتهم فيها، ثم أمرهم أن يتقدموا من باب المدينة المسمى باب السراي، عند منتصف الليل تماما، ويطلبوا المفتاح من البواب، فإذا رفض فليذبحوه ويفتحوا الباب.
ونفذت الخطة، فطلبوا المفتاح من الحارس في الساعة المعينة، فسلمهم إياه حينما هدد بالقتل؛ وبهذه الحيلة أو المغامرة تسلل عدد كبير من رجال الأمير إلى السراي، فأطلقوا سراح الطباخ بعد أن خلعوا باب السجن وقتلوا الذين شاءوا أن يعترضوهم.
وفي غداة اليوم التالي كتب الأمير إلى سكان بيروت المسلمين يطلب إليهم أن يقدموا له من المؤن ما يستطيعون تقديمه. ولما درى الحاكم بما جرى سأل الأعيان ألا يقدموا له شيئا، ولكن هؤلاء الذين يخشون سوء مصير أملاكهم الكائنة خارج المدينة، اضطروا إلى إرضاء الأمير إسماعيل فأمدوه بالمؤن؛ وهكذا بلغ إسماعيل ما صبا إليه.
إن مثل هذه الأعمال كانت مألوفة قديما، يوم كان حق القوي دائما هو الأقوى، وهو فوق القوانين وما تفرضه من عقاب.
مات الأمير إسماعيل عن ولدين: قايدبيه ومراد اللذين اقتسما فيما بينهما المقاطعة. أما تنصر هذه العائلة فلم يحدث إلا منذ حوالي أربعين عاما.
إن أشهر الأسرة اللمعية اليوم هو الأمير حيدر بن قايدبيه؛ فهو الذي حكم لبنان أو حكم - على الأقل - شعبه المسيحي؛ لأن السلطة كان يمثلها قائم مقامان أحدهما مسيحي والآخر درزي، وهو من عائلة أرسلان.
تعرفت في فالوغا بابن الأمير مراد، وشد ما تأسفت عليه لأنه كان رجلا فذا في بلاده. إن الافتقار إلى الثقافة، أو على الأصح عدم توفر اقتباسها جعل هؤلاء الرجال يعيشون في شبه جهالة. فإذا اغتفرت الجهالة عند عامة الشعب فهي لا تغتفر عند من يحكمون العباد، وكيف يحكم الجاهل؟!
وهنالك عرف تمشى عليه آل بللمع وآل شهاب، وهو أن النساء لا يرثن من أزواجهن؛ فلدى وفاتهم يرجعن إلى بيوتهن مصطحبات - كالدرزيات - نقدهن ونقوطهن. إن هذا العرف مقتبس عن الدروز.
أما عند آل شهاب فترث الزوجة الثمن. وإذا رزقت أولادا فإنها تتمتع بحق إدارة أملاك زوجها. وأكثر الأميرات يشترين عقارات بما يعطين من نقد، وبما يقدم لهن من هدايا - على إثر زفافهن - فيؤمن بهذه الطريقة دخلا يجنينه منها.
سبق لي أن تكلمت عن أشهر العائلات الدرزية في نهاية الفصل
التاسع والعشرين .
قلت إن آل شهاب اعتنقوا الدين المسيحي، إلا أن واحدا منهم حافظ على الدين الإسلامي وهو الأمير سليمان الذي يقطن الحدث، أما زوجته وأولاده فهم مسيحيون.
عزز الدين الإسلامي جانب هذا الأمير عند الباشوات الذين حكموا الولاية، فكان دائما على رأس جميع الأحزاب المعارضة في الجبل، فحارب ابن عمه الأمير بشيرا وطرده من البلاد، وتولى حكمها حينا من الزمن، ولكنه لم يستطع المحافظة على كرسيه.
وفي العام 1825 دفع غاليا ثمن هذا الشرف العابر؛ فبعد أن قبض عليه على إثر انهزام الشيخ بشير، قطع لسانه وسملت عيناه بسفود. وهذا العقاب حل أيضا - كما سبق لي أن قلت - بأخيه الأمير فارس وابن عمه الأمير عباس، شريكيه في تلك المؤامرة.
وعندما نمت الألسن استطاع هؤلاء الأمراء الثلاثة أن يتكلموا. ووالى الحظ الأمير سليمان وحده فسلمت له عين واحدة، أما الأميران الآخران فهما ضريران لا يبصران. إن هذا العقاب - رغم وحشيته - قد صادف قبولا عند الكثيرين. وإذا أمكن التغاضي عنه فذلك لأن الأمير لم ينزل بمنازعيه إلا العقاب الذي كانوا عازمين على إنزاله به لو أنه وقع في قبضتهم.
تقسم حاشية الأمراء فئتين: المشاة والخيالة. والمشاة لا يحق لهم التقدم على الخيالة.
يجب على كل شخص، لا بل على كل أمير من سائر العائلات الأخرى، أن ينزل عن متن فرسه ويقبل يد الأمير الشهابي إذا التقاه في الطريق.
كان بوسع أمراء هذه العائلة أن يكونوا أكثر نفوذا وقوة مما هم عليه الآن، فيهاب الجميع جانبهم حتى الباشوات، لو لم تعمل روح الحسد والبغض والتفرقة فيهم عملها، فيناهض بعضهم البعض الآخر.
فوالي عكا - وهو الذي ينصب أمراء الجبل - كان يرغب في أن تستمر هذه المشادة بين المتزاحمين منهم، ليتخذ منها حجة تمكنه من إرهاق جميع الأحزاب؛ فيحافظ على سلطانه، ويرغم الحاكم منهم على أن يبقى نوعا ما تحت تصرفه المطلق.
كان الأمير الكبير يبلص أولاد أخيه وأبناء عمه وأقرباءه ليضعفهم ماديا، ويستأصل أو يخفف من حدة رغبتهم الملحة في تقلد الحكم، ثم لم يكتف بذلك، بل أدخل عرفا مضرا صار فيما بعد شريعة تتبع؛ أجاز لأولاد كل أمير (الذكور منهم) حين يبلغون المرحلة التي تراوح بين العاشرة والثانية عشرة من العمر، أن يطالبوا بما يصيبون إرثا من أموال آبائهم، سواء أكانت ثابتة أو منقولة. وقد أفقر هذا الاشتراع الغريب كل أمير، مهما كان غناه عظيما. فإذا رزق عدة أولاد، كان يرى ثروته وآماله تنهار في وقت معا. فالرجال الأشد أمانة وولاء له كانوا يتركونه ليلتحقوا بأبنائه الفتيان الذين يسهل عليهم توجيههم. إن تسلم هؤلاء الأمراء الفتيان أموالهم در على من اتبعوهم كثيرا من الأموال. أما الأمير الأب فقد قوض بيته وأصبح لا يملك شيئا.
كذلك كان العرف في الجبل قبل وقوع الحوادث الأخيرة. وبما أنني أرى أن أجسم المصائب التي حلت بشعبه عامة، وبعائلات الأمراء خاصة، قد قوضت كل شيء في هذا البلد الذي كان أكثر البلدان عدد سكان، وأهمها أعمالا صناعية، وأوفرها ثروة في السلطنة العثمانية، أقول إن نهاية هذه التعاسات لا يمكن أن تحدد؛ فالأيام وحدها هي التي تنبئنا عما تدبره من مصير لهذه الشعوب المسكينة؛ وإذ ذاك فقط نعلم أي العادات القديمة التي يجب أن يحافظ عليها، وأيها يجب أن تنبذ؛ فالنكبات وإن أوجعت فهي تعلم.
إن الشهابيين يتزوجون بنات عمومتهم؛ فعندما يولد أمير في هذه العائلة يقدم له جميع الأقارب هدية من النقود يشتري له بها الأب أملاكا تسجل باسمه، فلا يشاركه فيها أحد. ثم ينفق ريعها السنوي على إنمائها وازدهارها. هذه الهدية تسمى «نقوطا» وهي متبعة أيضا حين تزف إحدى الأميرات. أما النقد فهو خاص بالمرأة.
يتألف جهاز الأميرات وحلاهن مما يأتي: قميص وسراويل من الحرير، فسطان من الحرير موشى بالذهب، وآخر من مخمل أسود اللون، أو قرمزي فيه ضفائر وأهداب مقصبة، وهو مبطن بنسيج حريري مصمغ أو طريء مهدل، وكشمير للشتاء، ومنديل حريري للصيف.
إن الجوارب القصيرة لا تلبس إلا في فصل البرد، وهي تكون حينذاك من القطن، وتزدان بتدبيج مختلفة ألوانه، وتضاف إلى كل هذه البوابيج عندما تخرج العروس من بيت أبيها. أما حلية الرأس فطنطور مذهب مرصع بحجارة كريمة دقيقة تكون من الماس واللآلئ، وهذا الطنطور الذي يقوم مقام القبعة عندنا، هو ذو رأس حاد يبلغ طوله حوالي السبعين سنتيمترا. إن هذا الزي قد اضمحل من الجبل عندما قضت الحوادث الأخيرة بإلغاء طناطير الأميرات، وتيجان أزواجهن.
أما المنديل الذي يشد به الطنطور حول الرأس فهو مرصع باللآلئ، تعلق في أطرافه نحو عشرين شريطة، وفي رأس كل منها يعلق دينار أو قطعة من الذهب.
وعلى جانبي الرأس صفيحتان من الذهب معلقتان بالطنطور تزينهما حجارة كريمة. تتدلى هاتان الصفيحتان على الصدغين ثم تشدان حول العنق بشريطة، وتزدان كل من هاتين الصفيحتين بزهاء عشرين دينارا ذهبيا.
والشعر الذي يتدلى على الوجنتين حتى يبلغ النهد، تعلوه عشرات الأشرطة الموشاة بلآلئ جميلة شدت أطرافها على الرأس بشبه كلابة.
وهناك أزرار من الذهب (شعيرة) تتخلل شرائط اللآلئ التي كانوا يضيفون إليها سبع شرائط أو ثماني مزدانة باللآلئ المنظومة بسلك من الحرير الأسود. وهذه الشرائط تتدلى حتى آخر الشعر، ثم تنتهي بطرة تزينها لآلئ زجاجية ملونة، أو حجارة كريمة كالعقيق والمرجان والزمرد ... إلخ، وهي توضع في وسط الصفوف الملتوية التي تتألف منها الشرائط الأولى.
وتحيط بهاتين الحليتين سلسلة من الذهب مدرجة، وقد علق في كل درجة منها دينار ذهبي من دنانير البندقية. ولما كانت هذه الدنانير لا تقل عن الأربعين عدا، فقد كانت تبلغ الصدر.
أما الجبين فيعصب بخط من المسكوكات الذهبية المتلازة جدا، فتلي كل قطعة أختها مغطية ثلاثة أرباعها؛ وهكذا يبلغ عدد الدنانير - في هذه الفسحة الضيقة - من الخمسين إلى الستين قطعة. ثم يضعون على منتصف الجبين حجرا من الماس يقف هنالك كالرقيب؛ ولهذا سماه أهل البلاد: «الناطور».
إن صف المسكوكات يدعى «الصفية أو الشكة»، وهي أول حلية تتحلى المرأة بها، ولا تنتزعها - إذا اضطرتها المصائب التي حلت بها - قبل أن تبيع جميع حلاها؛ فهي كالبيت الذي يقولون فيه: أول المقتنى وآخر المبيع. فالست تتخلى عن جميع الحلى الآنفة الذكر إلا الصفية؛ فهي لا تفارق رأسها أبدا مهما حدث. إنها تأبى أن تؤلم شعرها وعينيها وأسنانها لأنها تحس أن رأسها يوجعها إذا فارقته هذه الحلية.
وفوق الجبين، في وسط جميع هذه الحلى المذهبة، يجب أن تكون زهرة واحدة من الماس على الأقل، وإذا تيسر وجود الكثير منها فذلك يكون أفضل؛ لأن العادة هنا لا تحدد أبدا عدد المجوهرات؛ فالنساء يحملن منها كل ما يملكن، فهن - على الغالب - خزينة أزواجهن لأنهن يتزين بجميع ما يملكن من ذهب.
ومن الضروري وجود عقد من الماس يلف ثلاث لفات حول العنق. وهذا العقد يتألف عادة من حوالي مائة وخمسين حجرا. وهنالك الأقراط التي تزين الأذن، ويبلغ حجم كل قرط حجم قطعة من قطع الخمسة سنتيمات. أما شكله فمدور كالشمس، وكل شعاع من أشعته مرصع بلؤلؤة ضخمة. إن هذه الحلقات كبيرة ثقيلة حتى إنها لا تعلق في شحمة الأذن، بل بسلاسل أعدت لذلك خلف الرأس.
ومن حلاهن ثلاثة أزواج من الأساور غليظة ثقيلة، وخواتم من الماس أو الياقوت أو الزمرد، تزين ثلاثا من أصابعهن، والإبهام هي من الأصابع التي تحلى.
تحمل الأميرات في رقابهن حقين صغيرين من الذهب يحتويان على ذخائر معلقة بسلاسل ذهبية تتدلى من عند الساعة المعلقة فوق النهد، حتى وسطهن.
ورغم هذا البذخ والإسراف نجد أسرة الأميرات أشبه بمقاعد طويلة تطرح عليها الحصر، ثم تفرش فوقها شراشف حريرية أو قطنية ناعمة، وتلقى عليها أربع وسائد من الحرير أو القطن المطرز بالذهب، وناموسية من الحرير.
إن الأميرة تتطيب كل مساء فتتضمخ بماء الورد وزهور البرتقال. وكبيرة الأميرات تنام دائما قبل غيرها. تنزع نساؤها ثيابها ويلبسنها لباس الليل؛ ذلك لأن العرب - سواء أكانوا أغنياء أو فقراء - ينامون مرتدين ثيابهم، والنساء اللواتي يضعن على رأسهن الطنطور لا يفارقنه في أية حالة من الأحوال حتى إذا أصبن بمرض.
وللنساء عندهم زينة خاصة يتزين بها قبل أن يستلقين في الفراش ، منها أن يزين رأسهن بكثير من الزهور، كما أنهن لا ينزعن المجوهرات التي تزين رأسهن.
هوامش
الفصل السابع والثلاثون
تابع عادة أمراء لبنان
تعود الأمراء والأميرات أن لا يلبسوا ثيابهم العادية إلا مدة ثمانية أيام أو عشرة على الأكثر، ثم يهبونها إلى رجال حاشيتهم فتكون بمثابة أجر لهم، فالقمصان والسراويل وجميع أصناف البياض حتى الشراشف لا تغسل، بل تستبدل بغيرها عندما تصبح غير نظيفة.
كانت ملابسهم اليومية بسيطة؛ فهم لم يعرفوا البذخ فيما كانوا يرتدون من ثياب يومية. وهذه العادة التقليدية لم تلاحظ إلا في قصر الأمير الكبير. أما الأمراء الآخرون فلم يفكروا في اتباعها؛ نظرا لضيق اليد في الحالة الحاضرة.
تسنى لي أن أعود أميرا مريضا فوجدته يدخن في سريره وفوقه ناموسية لم تغسل منذ أمد بعيد. كان فراش سعادته مبسوطا على مقعد في وسط الغرفة، ولما سألته عن سبب هذا الترتيب، أجاب أنه فعل ذلك لكي يحظى بأكبر قسط ممكن من الطراوة والبرودة. كان الأفضل إذن أن لا يختبئ تحت ناموسيته فيملأها دخانا ويرفع بذلك درجة حرارته.
الأمراء تقبل أيديهم، والأميرات اللواتي هن من عائلة واحدة يقبل بعضهن البعض الآخر، والزوجة تقبل زوجها.
تعيش الأميرات في قصورهن عيشة فراغ وبطالة، فلا ينشغلن إلا بما ترويه لهن النساء الخفيفات الروح من أقاصيص وأخبار طريفة، ونوادر ظريفة. لقد تعلمن القراءة والكتابة، وفي ذلك خروج على العرف العام الذي يمنع تثقيف النساء. وبعد، فماذا تنفع القراءة في بلاد لا جرائد فيها ولا مجلات ولا كتب؟
إنهن لا يقتنين إلا التساعيات (كتاب صلوات). أما معرفتهن الكتابة فتنفعهن في مخاطبة من استأجروا أملاكهن، وهذا النوع من الكتابة لا يلذ ولا يمتع.
ولا يخرج الأميرات والأمراء من السراي دون أن تحف بهم حاشية كبيرة، ولا يزورون من هم دونهم مرتبة ومقاما. والنساء يمتطين الخيول كالرجال أنفسهم، وحينذاك يسبقهن ويحيط بهن عدد كبير من المشاة ليعدوا لهن الطريق ويفسحوا المجال أمامهن.
والذي حز في نفس الأمير بشير وآلمه، وكان منه على مضض إبان الاحتلال المصري ، هو اضطراره إلى ترك مظاهر الأبهة والعظمة. كان قد تعودها وربي عليها صغيرا، وكانت تليق به، ولكن اللياقة قضت عليه بتركها مجاملة لإبراهيم باشا ذي العادات والمظاهر البسيطة. وهناك سببان حملا إبراهيم باشا على التخشن: الأول صحي، والثاني فطري يمليه عليه ذوقه.
ضحى الأمير بملابسه الفضفاضة، وعمامته الكبيرة، وجميع ما كان له من متاع يدل على عظمة حقيقية يتحلى بها أمير كبير، وإني لواثق من أنه قد بدا له - حين أقلع عنها - أنه فقد ثلثي سلطانه ونفوذه؛ فالرجل العادي الذي تعود رؤية الأمير بشير بملابس شخص ذي أبهة وجلال لا يحس بما كان يحس به من مهابة إذا ما التقاه مرتديا هذه الثياب البسيطة. أما عند المصريين فالأمر بخلاف ذلك؛ فالأونباشي يلبس البدلة التي يرتديها القائد العام. والشارات - وحدها - هي التي تدل على التفاوت في الدرجات.
احتار الأمير بشير في بادئ الأمر عندما اضطر إلى اقتفاء أثر إبراهيم باشا. كان يهمه أن لا يجرح شعور القائد العام الذي اشتهر وعرف عنه أنه ينفعل ويثور لأقل بادرة. ومن لا يذكر مصير المعلم غالي المؤلم، مع أن منزلة هذا الرجل في مصر لم تكن دون مقام الأمير بشير في لبنان؟!
كان الأمير يشرب القهوة ذات ليلة بعد العشاء، وهو غارق في تخيلاته وسط زوبعة من دخان غليونه، وبينما هو يفكر بالدسائس التي تحاك، ولا يمكن أي رجل أن يدرك ما تؤدي إليه نتائجها وعواقبها، إذا هو يفاجأ بنبأ زيارة إبراهيم باشا له. نزل عليه هذا الخبر نزول الصاعقة؛ لأنه لم يكن يعرف القائد المصري بعد معرفة تمكنه من إدراك الغرض من هذه الزيارة. لقد ضعضعت اضطرابات الجبل الأمير بشيرا وأذلته حتى كادت تضطره إلى أن يفتش عن عضد له بين الأجانب. كان يجهل تماما أنهم لا يزالون يقدرونه حق قدره ويعتبرونه مفتاح سوريا.
قال له إبراهيم باشا فور دخوله - وكان غير متكلف في حديثه وهندامه - إنه أتى ليقضي السهرة عنده ليس إلا، فأعرب له الأمير عن سروره العظيم والشرف الذي أولاه إياه بهذه الزيارة. قال كل ذلك بتعابير فخمة، وأسلوب جبلي جذاب، وتبجيلات وتفخيمات اعتقد أنها تسر البطل الإغريقي.
وكان من حسن الحظ أن يجيد إبراهيم باشا العربية. إنه لا يشارك أباه كراهية التحدث بهذه اللغة، ولولا ذلك لكانت المباحثات مملة قتالة، ولانحصرت أحاديث السهرة بالتبجيلات والتعظيمات أو بنفثات من الدخان تتصاعد إلى أفق القاعة من كل جانب. إن تدخين الغليون يلعب دورا هاما في الاجتماعات الشرقية، فإذا تعب المدخن من مج الدخان ينفخ في غليونه، أو تقطع غرغرة النارجيلة - بين آونة وأخرى - سكينة تلك السهرات المملة.
ثم رأى الأمير أن يرد الزيارة للباشا في مساء اليوم التالي، رغم رؤيته إياه عدة مرات خلال النهار. ولما كان إبراهيم باشا لم يصطحب غير خادم واحد عندما زار الأمير، دالا بذلك على مقدار تواضعه العميق، أو ليظهر - على الأرجح - أنه دون الأمير قدرا، فقد رأى الأمير أن يذهب إلى مخيم القائد المصري وحده.
وبعد أن قضى هنالك بعض الوقت، هم بالرجوع إلى مقره، ولما كان لم يتعود السير ماشيا منتعلا خفا (سكربينة) عثرت رجله ببعض الحجارة وعلق العوسج بأذياله، فسقط على الأرض.
انطفأ المشعال الذي كان يحمله بيده، فارتاب من كانوا يراقبونه في هذا الحادث، وخافوا أن يكون قد أصابه سوء، فأنبأوا إبراهيم باشا بالأمر، فهرع القائد لينجد الأمير الذي كان يفتش عن مشعاله وسكربينته. •••
الأمراء والأميرات يتناولون الشراب والقهوة قبل غيرهم. وإذا ما التقى عدة أمراء من مقام واحد وفي مكان واحد، فالقهوة تقدم لهم جميعا في وقت معا؛ تلك هي العادة التركية. ويقف الأمراء علامة الاحترام لجميع الذين يقبلون أيديهم، ما عدا العوام.
أما مآدبهم فصحية بسيطة، وترتب هكذا: يبدأ بتنظيف الحصير، ثم تبسط فوقه قطعة من القماش الأبيض مزركشة أطرافها وقد دبجت عليها عدة رسوم، ثم يضعون في الوسط إسكملة يبلغ علوها حوالي 35 سنتيمترا، ثم يؤتى بطبق مستدير من النحاس (الصدر) يراوح قطره بين المتر والمتر والنصف حسب عدد الآكلين، ثم يكدس الخبز على الشرشف بمقدار يزيد عشر مرات على الحاجة المطلوبة؛ وتلك عادة مرعية عند جميع العرب، وهي دليل الوفرة والسعة والكرم. ثم يملأ الطبق حالا بقصع عديدة مختلفة الحجم والشكل والجنس، محتوية على الطيور أو اللحم، وكثير من المقبلات التي تكون من الزيتون، والسمك المكبوس بالخل، واللبن، وأخيرا بقصعة كبيرة من الأرز المفلفل، ثم توزع ملاعق خشبية عريضة مسطحة ليأكل الحاضرون من الأرز واللبن، فتجول هذه الملاعق الغليظة، كما يشتهي الآكل، من صحن إلى آخر. الجميع يتناولون - بملء حريتهم - ما يرغبون فيه من مختلف الصحون، ولا تكاد تفرغ تلك الصحون والقصاع حتى تملأ ثانية لحما مشويا وسلطة.
لا يضعون مع هذه الألوان من الأطعمة إلا قليلا من الجبن، وعندما يشبع المدعوون ينسحبون بنظام واحدا بعد واحد، فيحل محلهم الخدام. وأخيرا ينهض الأمير فيقدمون له طستا وإبريقا من النحاس ليغسل يديه اللتين تكونان بحاجة كبيرة إلى ذلك؛ لأنهما قامتا مقام الشوكة والسكين والملعقة في تناول الطعام. وكثيرا ما يقدم الواحد من هؤلاء إلى ضيفه قطعة من اللحم بعد أن يكون قد قضمها بأسنانه؛ وهو لا يفعل ذلك إلا برهانا على الإعزاز والمحبة العظيمين.
وعندما يغسل الجميع أيديهم يكرون مرة ثانية على الطبق لتناول الحلويات، وقوامها المربيات والثمار والمهلبية. وهذا اللون الأخير من الحلوى لا بد منه في كل مأدبة ذات شأن.
وفي أثناء تناول الطعام لا تصب الخمر أبدا، ولكنهم يشربون الماء من إبريق ذي أنبوب يصب منه كل واحد في حلقه ما يريد من ماء، مبعدا الأنبوب عن شفتيه نحو عشرة سنتيمترات أو عشرين سنتيمترا أو ثلاثين.
وبعد غسل الأصابع ثانية ومسح الفم يتربعون بشكل دائرة حول الأمير، ثم يشربون الخمر ويدخنون. وبعد انقضاء ربع ساعة ينسحب كل منهم بهدوء، تاركا الأمير وحده، فيغتنم سعادته هذه الفرصة وينام.
1
عندما تخرج الأميرات من دورهن تحدق بهن من الجانبين امرأتان تخالهما دعامة لهن. وهاتان المرأتان هما الوصيفتان، ولا عمل لهما غير المرافقة والتزيين والتجميل.
أما فيما يتعلق بمجالس الأمراء، فالمجاملات توجه إلى أكبر الأسرة سنا، وهو المكرم قبل غيره. والأمراء الباقون يقرون له بهذه المكانة ويتخلون له عنها؛ فتقدم له المآكل والمشروبات قبل سواه. وإذا ما اتفق وجود اثنين من سن واحدة ومرتبة واحدة، فهنالك المشكلة العظمى لأن كلا منهما يضن بكرامته ويأبى أن يمس شعوره ولو بعض الشيء.
وإذا مات أمير أو أميرة من آل شهاب، فالدروز يتولون مهمة دفنه أو دفنها، وإن كان الأمير أو الأميرة مسيحيين. هذا تقليد يراعى حتى الآن؛ فالكهنة ينسحبون من جانب المحتضر فور انتهائهم من مهمتهم ليفسحوا للعقال في مجال حمله ودفنه في الرمس المخصص لأبناء هذه العائلة. إنهم يفعلون هذا تقية وحذرا من السلطة التركية، فكأنهم يريدون بهذه الطريقة أن يحولوا دون تمكين الدروز والمسلمين من إثبات مسيحيتهم، مع أنه لا أحد يجهل ذلك.
وهناك قضية جديرة حقا بالتأمل والاستغراب، وهي أن هؤلاء الأمراء الذين أجل الإسلام أسلافهم واحترمهم (إنهم يتحدرون من سلالة النبي نفسها)، والذين جحدوا إسلامهم - وجحودهم هذا معروف في ديوان القسطنطينية - قد تمكنوا من المحافظة على امتيازاتهم القديمة، وخصوصا امتياز الحكم، دون أن يستطيع الدروز - رغم دهائهم ومظهرهم الإسلامي - أن ينازعوهم هذا الحق.
شاء العرف قديما أن يكون مأتم الأمير أو الأميرة من آل شهاب مأتما فخما، فتستمر المناحة عدة أيام. وهذا تقليد للعادات العربية في الصحراء؛ كان يدعى إلى المأتم أمراء العائلة وأبناء القرى المجاورة، وتستأجر النادبات البارزات مقابل أجر ضخم؛ فالبكاء والعويل وأناشيد المديح التي تغنى بلحن محزن كئيب، هي المهمة التي تقوم بها هذه الجوقة على أتم وجه. وفي أوقات الاستراحة من الندب والعويل تمثل بعض مشاهد من حياة الفقيد. كانوا يلبسون شخصا من خشب أجمل ثياب الأمير، ويدججونه بالسلاح من قمة رأسه حتى أخمص قدمه، فيحضر هذه الحفلات وقد حف به عدد غفير من رجاله. يستعرض - إذا جاز لي هذا التعبير - جميع رجاله مسلحين، فيمرون أمامه اثنين اثنين، تتبعهم جياده مجهزة بعدتها، وقد جللت سروجها بقطع سوداء من القماش. ثم يحملون هذا الشخص على محمل ويطوفون به جميع أنحاء القرية، إما ليشهد قتالا أو سباق خيل ، وفي أكثر الأحيان ليحضر الولائم وتناول المرطبات، وخصوصا القهوة التي لا يستغنى عنها ... إن جميع هذه المشاهد كان يرافقها تفجع وصراح حاد تتبارى فيه النساء. إن هذه المآتم التي كانت تكلف الأسر مبالغ باهظة قد أدت إلى خراب العائلات، وكثيرا ما كانت تنتهي بمشاجرات دامية.
أدرك ذلك الأمير بشير فألغى هذه التقاليد بعد موت أخيه، منذ حوالي ثلاثين سنة تقريبا، ولم يبق لها من أثر إلا عند آل الخازن الذين يتحدرون - حسبما يقولون - من أصل شريف جدا. وهناك أمراء آخرون، لا يمتون إلى الأمير الكبير بصلة قربى، لا يزالون يراعون أيضا هذه العادة القديمة.
لا يحد الأمراء على أحد أبناء عائلتهم أكثر من أربعين يوما مهما كانت درجته، أو نسبة القربى التي تربطهم به. أما حداد الأميرات فعلامته نزع بعض الحلى والمجوهرات التي تزين الرأس والعنق، وخلع الملبوسات ذات الألوان الزاهية الزاهرة. وإذا كان المتوفي أما أو أبا أو زوجا، فإنهن يرتدين قميصا مصبوغا باللون الأزرق. أما سكان إقطاعة المتوفى فيجبرون على لبس الثياب السوداء اللون، ولا تستثنى من ذلك القمصان التي لا تخلع ولا تبدل إلا بعد انقضاء أربعين يوما.
إن نفقات هذا الحداد تؤديها عائلة الأمير المتوفى، فترسل إلى من شاركوها حدادها كل ما يلزم حتى الصابون ليغسلوا ثيابهم التي لبسوها بناء على رغبتها.
هوامش
الفصل الثامن والثلاثون
إكليروس لبنان - الإكليروس الماروني، والملكي، والأرمني، والسرياني الكاثوليكي. ***
يكثر الإكليروس في لبنان
1
نظرا لتعدد الطوائف؛ فهنا الموارنة، والملكيون، والأرمن، والسريان الكاثوليك. وعند الموارنة إكليروس علماني وإكليروس قانوني (أي كهنة ورهبان).
إن للموارنة بطريركا واحدا وثلاثة عشر مطرانا، وكلهم يقيمون في لبنان ما عدا مطران حلب. وللرهبانيات المارونية ثلاثة رؤساء عامين، وثلاثة وستون ديرا منها أحد عشر ديرا للراهبات.
يبلغ عدد الرهبان ما يقارب الألف والخمسماية راهب، منهم ستماية قسيس، والباقون إخوة. أما الراهبات فيبلغ عددهن زهاء الأربعمائة راهبة.
والرهبان يقسمون هكذا:
رهبان القديس أنطونيوس
ألف راهب، وأربعة وعشرون ديرا
الحلبيون
ستون راهبا، وأربعة ديورة
رهبان القديس بنوى
ثلاثمائة راهب، وأربعة عشر ديرا
والراهبات تابعات لرهبان مار أنطونيوس. وهن متفرقات في ديورتهن المختلفة.
أما عدد الإكليروس العلماني فيبلغ حوالي الخمسماية.
كان يقيم بطريرك الروم الملكيين في لبنان أيضا، وكانت كرسيه في عين تزار
2
قبل الانفصال الذي حصل عام 1830؛ هذا العمل العظيم الذي قام به الكونت جيامينو.
وللملكيين ستة مطارنة وسبعة عشر ديرا منها ثلاثة للراهبات. وليس عندهم سوى رهبانية واحدة هي رهبانية القديس باسيليوس. إلا أنه منذ تسع سنوات استقل الحلبيون منهم، فألفوا رهبانية منفصلة واقتسموا الديورة؛ فكان نصيبهم أربعة ديورة للرهبان، ودير واحد للراهبات. وبلغ عدد رهبانهم مائتي راهب، منهم خمسون راهبا حلبيا، والباقون من لبنان والشام. أما الراهبات فيبلغ عددهن أربعين راهبة، منهن خمس عشرة راهبة حلبية.
يقيم بطريرك الأرمن في لبنان حيث يعاونه - كما هي الحالة عند الروم - ثلاثة مطارنة. وللأرمن في لبنان ثلاثة ديورة منها اثنان كبيران يروض فيهما المبتدئون ويدربون. ويقبلون أيضا طلابا داخليين ليتلقوا علوم الإكليروس العلماني. وأكثر هؤلاء يأتون من القسطنطينية وسائر مدن المملكة العثمانية حيث لم يكن يتمتع الأرمن هناك - قبل عام 1830 - بحرية ممارسة شعائرهم الدينية، بل كانوا تابعين لكهنة الروم الأرثوذكس الذين يعمدونهم ويباركون زواجهم ويدفنونهم. لقد قاسوا متاعب ومظالم الأتراك بحجج ودواع يحسن أعداؤهم إثارتها.
لا يتجاوز عدد الرهبان الأرمن التسعين راهبا، وهم مثقفون ومهذبون، وأكثر رهبان الجبل حكمة. وإذا كانت الطوائف الأخرى قد أتت أفعالا عديدة كانت موضوع قيل وقال، فالأرمن الذين تقيدوا بواجباتهم لم يسعوا إلا في سبيل اجتذاب الناس أو الفضيلة وحثهم عليها، فاستحقوا لأجل ذلك تقدير المسيحيين. سلكوا حقا مسلك مرسلينا، وخصوصا أولئك القدماء منهم الذين لم نزل نلمس آثار أعمالهم الطيبة في قلوب الجبليين المخلصين.
قد يحتمل - بعد مرور مدة طويلة من الزمن - أن ينسحب الأرمن من هذه الديار ليقيموا في البلدان التي يسكنها اليوم أبناء ملتهم براحة واطمئنان.
أما البطريرك السرياني - وهو يقيم في لبنان أيضا - فلا يملك فيه إلا ديرين صغيرين. يفتقر هذا البطريرك إلى رعية ليس لديه منها إلا النزر اليسير؛ ولهذا انتقل إلى حلب ليقيم بين شعب كبير، ويكون على مقربة من البلدان التي يسكنها أبناء طائفته، فيسهل عليه تدبيرهم أكثر مما يكون في لبنان البعيد عن حلب مسافة اثني عشر يوما.
وهذا البطريرك - وهو أكثر من عرفتهم في الشرق ثقافة - شاء أن ينشئ على مقربة منه المدرسة الإكليريكية التي اضطر إلى تأسيسها في لبنان. ولكن رومة حالت دون فكرته هذه، وحجتها في ذلك أن الكاثوليك قد لاقوا كثيرا من المصاعب والبلايا في المدن التركية، أو لأنها شاءت أن تبعد المبتدئين عن مدينة هي مكان للقداسة وبؤرة للفساد في وقت معا.
وإذا كان يجب على الأطباء أن يسكنوا البلدان الموبوءة ليعودوا مرضاهم بين آن وآخر، فمن المتوجب على المونسنيور غباره
3
أن ينتقي مقرا أكثر ملاءمة لفضيلته في شفاء الأمراض النفسانية، وجراحات النفس، ورد الضالين إلى حضن الكنيسة الحقيقية بما أوتي من مقدرة خطابية وبلاغة وحجج دامغة.
فهذا الأسقف الذي وضع في لبنان ما كان إلا سراجا تحت مكيال؛ ففي حلب - وحدها - كان يمكنه القيام برسالته الدينية خير قيام، داعيا إلى الحظيرة الخراف الضالة. كان في وسعه أن يهدي الذين ينفصلون عنه ويفرون إلى المدن البعيدة، ولا سيما بعد أن عينت فرنسا بعض القناصل في هذه البقعة من آسيا. فكم من شعوب لم يكن يعوقها عن اعتناق الدين الكاثوليكي إلا تمكنها من الالتفاف حول رجل يقوم بحمايتها!
فحلب تستدعي وحدها إيفاد عدة مرسلين. وتوفيقهم هناك أمر مؤكد إذا عرفوا أن يشفعوا محاسن ديانتهم بفضيلة التنفيس عن البؤساء والفقراء ومؤاساتهم. فالجهالة ليست - وحدها - سبب الجحود، بل يضاف إليها فظاظة المسيحيين المعاندين الذين ترثي لهم الكنيسة، ناهيك بأن للفقر والبؤس يدا طولى في ذلك. وهنا على الأخص يجب أن نردد مع الشاعر:
من يتدارك البؤس يتدارك غالبا وقوع الجريمة.
4
أصبحت مدرسة السريان - اليوم - في دير الشرفة بعد أن هدم الدروز مدرسة مار أفرام. ويدير هذه المدرسة مطران يعاونه ثلاثة رهبان.
إن بطريرك الموارنة الحالي هو من عائلة حبيش التي تنازع آل الخازن صولجان الأقدمية في النبل والشرف. لقد مر عهده البطريركي - حتى يومنا هذا - في مآزق حرجة جدا. فإذا ما قلنا إنه قدر أن يحمي دائما حقوق طائفته ويصونها في النكبات الجلى التي تعرضت لها، فذلك يعني أننا وفيناه ما يستحقه من الثناء، وأشدنا بذكره كل الإشادة.
كانت علاقاتي مع هذا البطريرك كثيرة وعنيفة، وقد أسفت عندما اضطررت إلى مغادرة بيروت، بعد إقامة أربعة عشر عاما فيها؛ لأنني لم أحمل معي إلى وطني ذكرى جميلة وعذبة عن علاقاتي مع بطريرك الموارنة الذي قمت نحوه ونحو رجال إكليروس شعبه بكل ما يجب علي.
وكي لا يخيل إلى أحد أن معارضة هذا البطريرك ناتجة عن قلة تعلقه بفرنسا، فأرى لزاما علي أن أقول: إن جميع شئون الجبل - مهما كان نوعها، ولا أستثني منها شئون الراهبات - هي خاضعة لتأثيرات تسير من يعالجون تلك الشئون في اتجاهات تختلف عن الاتجاهات التي تمليها عليهم طبيعتهم ويريدون أن يقوموا بها؛ فيجب - بناء على هذا - أن نفتش عن أسباب تقوض هذه التأثيرات وتشلها وتضعف مفعولها. وهذا يكون إما بأن نسعى مباشرة مع من أوحوها، أو بأن نتغلب عليها بوسائل هي أقوى منها وأشد.
فهذه الآفة المسيطرة على الجبل هي التي جعلت شعوبه الكاثوليكية يهرعون إلى المجمع المقدس في قضاياهم ومشاكلهم؛ ولهذا المجمع ممثل في سوريا هو مسجل وقائع أكثر منه قاضيا.
المطارنة الموارنة هم بوجه عام غير ميسورين. ويمكنني أن أقول بهذه المناسبة إنهم يتقيدون بنصوص مجمع قرطاجة الذي يفرض عليهم سكنى منزل صغير مؤثث بأثاث بسيط رخيص الثمن. إن تقواهم وحياتهم الصالحة هما اللتان توليانهم هذه المكانة والاحترام، لا ثروتهم وجاههم.
إن ثقافة رجال الإكليروس في لبنان لم تتسع ولم تعمق، بل لم تتحسن عما كانت عليه، رغم إحداث مدرستين عامتين قامت بإنشائهما بعض الأديرة بعد أن قضى مجمع روما المقدس على كل رئيس رهبانية أن ينشئ مدارس لرهبانه. بيد أنه يجب القول إن الثقافة، وإن كانت محدودة اليوم، فقد كانت أضعف منها وأقل منذ خمسة عشر عاما أو عشرين.
فالعلوم التي تقتبس في الجبل تنحصر عند العامة من الناس في حفظهم التعليم المسيحي ومعرفتهم القراءة والكتابة بصورة آلية؛ أي بدون تعلم أي قاعدة. أما علوم رجال الإكليروس فتنحصر في معرفة قراءة اللغة السريانية دون أن يفهم معناها أكثر هؤلاء الرجال، ثم حفظ بعض معلومات متفرقة في علم اللاهوت الأدبي للقديس أنطونيوس الذي ترجمه المجمع المقدس ترجمة سقيمة غير واضحة، اضطرت المعلمين في مواطن شتى إلى الاستعانة بترجمان أو بمحلل يشرح لهم بعض المقاطع. والحكاية الآتية تدلنا أصدق دلالة على ثقافة الرهبان:
وصلني الجزء السادس والأربعون من الجريدة الآسيوية، فأطلعت عليه راهبا مارونيا ليقرأ فيه قصة القاضي محمد بن معيطل، فابتدأ الراهب حالا بقراءتها من آخرها؛ لأن تلك القصة طبعت وفقا للطريقة الفرنسية، ثم واصل قراءتها دون أن يتوقف غير منتبه للتباين والتناقض الغريبين اللذين كانا يلاقيهما عند انتقاله من صفحة إلى أخرى.
وإذا كان رجال الإكليروس يفتقرون إلى السعة والانطلاق في التفكير، فحياتهم العملية لا تفتقر إلى شيء من ذلك؛ فالرهبان صناعيون إلى حد بعيد، وهم مثال العمل.
حضرت احتفالا بقبول مبتدئ في الرهبانية، ثم رأيته غداة اليوم الثاني ينوء بحمل حجر ضخم لينقله إلى موقع عزموا أن يشيدوا فيه بناية جديدة. شد هذا الحمل الثقيل إلى كتفي المبتدئ فكاد يختفي تحت ذلك الحجر الكبير. فمن عادة الرهبان تكليف المبتدئ القيام بأشق الأعمال وأصعبها، وعليه أن يلزم الصمت العنيف زهاء سنتين؛ وكل ذلك امتحانا لصبره وطاعته.
إن الجبل مدين للرهبان في ازدهاره. وهم يكفون أنفسهم بأنفسهم؛ فبعضهم يرعون خارج الدير قطعانا من الماعز والغنم، وآخرون يزرعون ويحرثون بأيديهم أراضيهم، فتغل لهم قمحا وشعيرا وخضارا. أما ضمن جدران الديورة فترى حياكين وإسكافيين وخياطين وبنائين ونجارين؛ فهم لا يحتاجون إلى السوق لأن لديهم جميع ما يحتاجون إليه؛ وهكذا ينمون عقاراتهم بما يفيض من ريعها. أما الهبات والنذورات التي تنهال عليهم من هنا وهناك فكثيرة جدا.
كان عدد رهبان مار أنطونيوس عام 1803 لا يتجاوز المائتين. أما اليوم فقد ازداد عددهم أربعة أضعاف ما كان عليه.
وللديورة حسنات جمة لا سيما ضيافتها جميع الذين يريدون أن ينزلوا فيها مدة ثلاثة أيام كاملة. وهي تقوم أيضا بصدقات مستمرة، فلا يدخلها رجل فقير الحال دون أن يزود بعدة أرغفة من الخبز تكفيه مئونة يومين وإن كانت صغيرة الحجم.
يعيش الرهبان عيشة تقشف وزهد. والنظام عندهم يطبق بصورة مثالية. وهؤلاء الرهبان الموارنة المنتمون إلى القديس أنطونيوس يعيشون - نوعا ما - عيشة شبيهة بالتي عاشها أبو الرهبان الذي تنتمي رهبانيتهم إليه.
قال كاتب، وهو على جانب من الصواب: «يتوهم البعض أن الفقر الذي نزل بهم من جراء اضطهادات الأتراك المتواصلة هو الذي اضطرهم إلى العمل والعناية بالأرض. إن الأمر غير ما يتوهمون. ومرد ذلك إلى طريقة نظمهم الأولى؛ لأن النساك الأتقياء والمتعبدين قد تعودوا أن يشتغلوا أكثر بياض نهارهم ليكسبوا بعملهم أسباب الرزق ويتحاشوا البطالة التي هي حقا منبع التجربة.»
5
والذي يساعد ازدياد عدد الرهبان هو أن المسيحيين يصبحون في مأمن من تكاليف الحكومة واضطهادها إذا ما لبسوا مسوح الرهبان.
إن رهبان الروم الكاثوليك أقل تقشفا من الرهبان الموارنة؛ فهم يأكلون اللحم، ويدخنون، ويعيشون على هواهم. أما في الثقافة فيلتقي هؤلاء وأولئك على صعيد واحد.
قلت إن الأرمن يهمهم أكثر من سواهم التقيد بتعاليم ديانتهم؛ فهم يكدون ويجتهدون. وما من شك في أنهم مدينون بذلك لأصلهم الشمالي.
إن أجمل الديورة المارونية في الجبل هو دير بكركي الذي اشتهر برئيسته هندية. أما اليوم فقد خلا من الراهبات، وقد اهتم «فولناي» وبعض سائحين آخرين بنقل تاريخ حياة هندية رئيسة ذلك الدير، فاكتفيت بالإشارة.
أما دير اللويزة فقد اشتهر برحابته، وغناه بالصور الزيتية. ودير مار يوسف البرج بني كله بمال أحد ملوك فرنسا الذي تبرع بتشييده، ونقل إليه راهبات القلب المقدس المخصص لهن هذا الدير؛ فالكنيسة هي في شكلها نصف أوروبية، ومذبحها من الرخام المختلف الألوان. وفوقه شعار من الرخام حفرت عليه هذه المخطوطة المكتوبة على لوحة زيتية:
Ex Lodovigi XV Galliarium Regis munifigeutia edfigium hoc erectum est A° 1769.
أما المخطوطة الأخرى فقد كتبت بالعربية.
كان في حوزة رهبان دير اللويزة صورة الملك ، وقد وضعوها في حجرة خاصة معدة لحفظ الذخائر. وهذه الحجرة كانت تضاء دائما بقنديل كأنها أحد المعابد إلا أن غفلة الأخ المكلف هذا الأمر قد أدت إلى احتراقها ذات ليلة، فذهب جميع ما يملكه الرهبان من آثار لقمة النار. إنهم لا يزالون يأسفون - بنوع خاص - على خسارتهم تلك الصورة الملكية التاريخية. وإذا زارهم ذو شأن ساروا به إلى الغرفة التي كانت توضع فيها، ورووا له تفاصيل الحريق الذي جر عليهم تلك الخسارة.
وهؤلاء الآباء الأتقياء يقومون بصلاة خاصة لملك فرنسا. لقد أمدهم بكثير من الإحسانات والتبرعات، حتى إنهم ظنوا أنه لا يمكنهم أن يعربوا عن اعترافهم بجميله إلا بطلبهم من الله أن يسبغ عليه وعلى ذريته أحسن النعم.
أطلعوني في سجلهم على قرار مؤرخ في 25 حزيران 1750 يشير إلى كتاب وجهه الوزير إلى السفارة، وإلى قناصل فرنسا في أزمير وحلب وطرابلس وصيدا والقاهرة، ليعلمهم بأن رغبة جلالته هي أن يعامل مفوضوه في الخارج رهبان القديس أنطونيوس الذين هم تحت حمايته، كما يعاملون المرسلين الرسوليين من رعاياه سواء بسواء، وأن يتلقوا مثلهم المساعدة والمعونة.
تشبه الطقوس المارونية الطقوس اللاتينية تقريبا، إذا استثنينا بعض الاختلافات في خدمة القداس والتراتيل. أما الصوم فيذهبون فيه مذهب الكنيسة الشرقية، ولكنهم استعاضوا عن السبت بالأربعاء. وهم ينقطعون في هذا النهار ونهار الجمعة عن أكل اللحم والبياض، ويصومون خمسة عشر يوما قبل عيد الميلاد، وخمسين يوما قبل عيد الكبير. ولا يأكلون اللحوم والألبان والبيض مدة أربعة أيام قبل عيد مار بطرس وبولس. ويعرف ذلك عندهم باسم «قطاعة الرسل». ثم تأتي في شهر آب الأيام التي يسمونها قطاعة السيدة، وهي زهاء أسبوع. وبعد كل صيام يأكلون اللحم والبياض يومي الأربعاء والجمعة مدة تضاهي كل صيام، ويسمون ذلك «فسحة».
لقد نبغ من الإكليروس الماروني رجال مشهورون أمثال جبرائيل الصهيوني وجان هيرونيت (؟) الأستاذين والترجمانين على عهد الملك لويس الثاني عشر.
أما اليوم ففي إسبانيا السيد ميشال قصيرو،
6
وفي رومة الآباء السمعانيون أصحاب مؤلفات نفيسة. كان للموارنة في هذه المدينة مدرسة إكليريكية أسسها الباب غريغوريوس الثالث عشر سنة 1584، وهم يتهمون الفرنسيين بمصادرة وارداتها لدى غزوهم الولايات الرومانية.
7
هوامش
الفصل التاسع والثلاثون
الإرساليات الأوروبية في لبنان
قلنا في أماكن شتى من هذا الكتاب إن بعض المرسلين الأوروبيين جاءوا لبنان واستقروا فيه ليؤدوا رسالة ثقافية بين الشعوب المسيحية التي تسكنه.
أما المنافع التي جنتها هذه الطوائف من حلول هؤلاء المرسلين بين ظهرانيهم فمشهورة ملموسة؛ فأكثر هذه الطوائف ليس لديها من الكهنة إلا عدد يسير جدا، وهي لا تستطيع أن تمارس طقسياتها بحرية إلا في أماكن مارونية بحتة.
فاللبنانيون كانوا يقدرون مرسلينا حق قدرهم حتى أخذوا يتلمسونهم وينشدونهم بلهفة أينما كانوا. ولما كان هؤلاء المرسلون بعيدي الهمة يواظبون على تأدية رسالتهم بأمانة وإخلاص، فقد تمكنوا من استمالة الذين رغبوا فيهم، واجتذبوهم نحوهم بما أبدوا من غيرة.
وإلمام هؤلاء المرسلين بالطب مهد لهم سبل التقرب - بادئ ذي بدء - من الزعماء الدروز والمسلمين الذين كانوا يحكمون تلك البلاد. فما كادوا يستقرون فيها حتى شرعوا بتشييد «مرساليات» يحتاج إليها المؤمنون الذي سخروا أنفسهم لتشييدها. أما العمال الذين كانوا يتقاضون أجرا فقد تبرع بدفعه لهم الأمراء والموظفون عندهم.
ولا أرى أن اليسوعيين هم أول من قاموا بهذه الرسالة في لبنان، وإن كان مؤلف كتاب سوريا المقدسة ينبئنا بأنهم حملوا إلى الجبل، عام 1581، قوانين مجمع ترانته. وبرهاني على ذلك هو أن مذكرات الإرساليات الجديدة - وقد كتبها اليسوعيون أنفسهم - تشير إلى أن أول إرسالية يسوعية كانت في حلب، وأنهم أقاموا فيها عام 1625.
إن كتاب سوريا المقدسة المطبوع عام 1660، يحدثنا - فيما عدا ذلك، حين يتكلم عن الكبوشيين - عن أن مدينة بيروت كانت منذ مدة طويلة مركز إقامة هؤلاء.
فأنا إذن أميل إلى الاعتقاد بأن الكبوشيين هم أول من عرفوا في لبنان. ولقد تركوا فيه تذكارات لا تمحى ولا تنسى، وشيدوا فيه عدة مآو للفقراء؛ فمنها ما شيد في بيروت، وفي غزير، وفي صليما، وفي عبيه.
1
وتاريخ إنشاء جميع هذه المؤسسات يعود إلى عهد قديم جدا.
أسس هذه الإرسالية كبوشيو بريطانيا. وعلى إثر وفاة آخر رئيس لهم في عبيه شاء شيخ درزي أن يعرب علنا عن تقديره العظيم نظرا لما اشتهر عنه من فضيلة، فقبل يده عندما دخل الكنيسة المعروضة فيها الجثة ، ثم خاطبه بهذه الكلمات المؤثرة: «إن وفاتك لتحسد عليها!» ثم حول نظره إلى تلاميذه الذين تبعوه وقال لهم: «تعلمون سيرة حياة هذا القديس، فخذوها إذن نموذجا لكم.» ثم هنأ الذين حضروا هذا المأتم بأن يكون رئيسهم قد بلغ هذه الدرجة السامية من الاحترام.
إن هذا الراهب الشهير يدعى يواكيم، وقد توفي في مستهل هذا القرن.
قلت فيما سبق إن المرسلين استقروا - بادئ ذي بدء - في البلدان التركية بوصفهم أطباء. والأمم التي كانت تناهض أعمال هؤلاء المبشرين بالدين المسيحي وتقاومها لم تكن تراعي غير المنفعة التي يمكنها أن تجنيها، ولم تكن تفكر قط بما يرمي إليه هؤلاء.
قام المرسلون بخدمات جلى في البلدان التي سكنوها؛ علموا فيها أصول الفنون الهامة، وكانوا رسل صلح وسلام ففكوا أكثر مشاكل المنازعات الداخلية. وهذا ما مكنهم من أن يعيشوا نبلاء وشرفاء؛ لأن الناس كانوا يعترفون بفضلهم دائما. أما اليوم فقد تغيرت الحالة كل التغير.
إن الأمور البشرية تتعرض لكثير من التقلبات؛ فالمهمة الأولى القديمة أخذت تخف وتتضاءل، والمرسلون الذين كانوا يقومون قديما بكثير من الحسنات أصبحوا اليوم تقريبا غير مبالين بكل ما له علاقة بالقضايا الدينية. لم يعد يهم أحدا منهم إلا منفعته الشخصية ومصلحته وراحته. وإذا استمرت الحال على هذا المنوال أصبح المرسلون لا قيمة لهم، لا بل يحقرون الأمة في نظر الشرقيين الذين أخذوا يلومون بجرأة من كان على شاكلتهم من الكهنة، ويقولون علنا إن الديانة اضمحلت في أوروبا في هذا الزمن. ففتور المرسلين في تصرفاتهم ومسلكهم قضية غامضة. كانوا يلاقون قديما كثيرا من المشقات، فيقاومهم الملحدون والهراطقة والمنشقون عن الكنيسة. أما اليوم فتلك الكراهية التي تعرضوا لها قد ذهب الكثير منها؛ وهذا ما يحملنا على الاعتقاد بمرارة بأنهم إذا كانوا لم ينهضوا بالأعباء الملقاة على عاتقهم، فذلك يعود إلى ضعف في الإيمان، وفتور في الهمة لنصرة الله وسمو الديانة.
صحيح أن مصاعب وظروفا عديدة مؤلمة قد حالت دون قدوم هؤلاء المرسلين الجدد؛ فقد أتوا - وهم يجهلون اللغة العربية - في زمن ليس الناس بحاجة إليهم، فإذا بهم - وهم محرومون أسباب العيش - يستغيثون بالناس ليعيشوا. كان قد ضعف تعلق هؤلاء بهم، ناهيك بأن الأهلين قد أصبحوا فقراء بسبب بؤس البلاد وتعاستها.
ففي هذه الظروف الحرجة أوحت القدرة الإلهية إلى النفوس الكريمة في فرنسا بتأسيس معهد يعمل في سبيل انتشار الديانة. إن الله وحده يعلم كم آوى هذا المعهد من مسيحيين، وكم ثبت من أناس في عقيدتهم، وكم ضاعف عددهم بضمه إلى الكنيسة أناسا أبعدتهم عنها ضلالات تعسة، أو أولادا كانوا جد غرباء عن الدين.
فلهؤلاء ولأمثالهم يقول ملاك السماء: إن السلام على الأرض يكون لذوي الإرادة الحسنة. فليفخر إذن هؤلاء المرسلون لأنهم هم عزاء الجنس البشري، وخشبة نجاة لعدد لا يحصى من البشر. ماذا أقول؟ ألوف وملايين من البشر! المجد المجد لهم على الأرض وفي السماء! وسوف لن يحرموا مكانا إلى جانب الذين كانوا على الأرض مثلهم محبي الإنسانية وناشري الإيمان بهمة لا تعرف الملل.
وإذا كنا نفتقر إلى الكبوشيين الفرنسيين في سوريا، فلا نزال نملك على الأقل الآباء اللعازاريين، أبناء وطننا الذين استعادوا إرساليتهم في عينطوره، وقاموا بأعمالهم المجدية، فقدرها الناس جميعا حق قدرها؛ أسسوا مدرسة كبيرة في ديرهم، وهذا المعهد يزدهر ازدهارا مطردا؛ فأخرج عددا لا يحصى من الشباب المثقف ومن مختلف الطوائف دونما نظر إلى المعتقد.
فاللعازاريون أو اليسوعيون الذين حلوا محلهم عام 1783، يملكون منذ 1742 مدرسة في عينطوره أسسها أحد وجهاء البلاد الأغنياء. ولكن انهزام مرسلينا عند نشوب الثورة أفقدهم هذا المعهد، وقد كنت على وشك استرداده عام 1835.
رضي الآباء اللعازاريون بالتخلي عنه إذ لم يكن في استطاعتهم أن يقوموا بأعبائه وفقا لنية مؤسسه، ولكن السلطة الروحية المحلية رأت أن المصلحة تقضي عليها أن تستغل دخله وعائداته، فأقامت بوجه مرسلينا مصاعب جمة؛ فترك هؤلاء هذا المعهد وشأنه ولم يهتموا بعد ذاك إلا بشئون مدرستهم الخاصة. لم يكونوا يلتمسون للنهوض بها إلا مساعدة السلطة الفرنسية التي لبت النداء بدون إبطاء أو تقاعس. ولقد عاضدت أنا شخصيا معهدا كهذا بجميع ما أملك لأني عرفت - بعد اختباري الطويل - أن الثقافة هي أول ما تحتاج إليه هذه البلدان المنسية أو المهملة.
أنبأنا «فولناي» عن الصعوبات التي لاقاها مسيحي حلبي في سبيل تعلم أصول اللغة العربية، وخلق طريقة لتسهيل تعليمها لنبي أمته. ولقد تمكن من أن ينشر بينهم بعض كتب أصدرتها المطبعة في لبنان. غير أن هذه المؤلفات الروحية كانت غير كافية.
كثيرا ما كنت أناصر معهد عينطوره، وكل معهد آخر يؤسس على طرازه، حتى إني طالبت بصرف منح مالية لأولاد الفرنسيين الذين لا يتمكنون في سوريا من أن يتعلموا أو يشغلوا وظيفة ما، وما كان يدفعني إلى ذلك غير حبي الإنسانية والوطن.
فهؤلاء الأولاد يجهلون لغتهم؛ وسبب ذلك عدم وجود مرسلين وطنيين كأولئك الذين اهتموا قديما في الأساكل بتربية الشبيبة. كان ذووهم بغنى عن المصارفات التي يضطرهم إليها إيفادهم إلى فرنسا وهم عاجزون عن دفعها؛ فإفرنسيو سوريا وقبرص والمقاطعات المجاورة يجدون في مدرسة عينطوره منفعتين: الأولى تربية أولادهم وتعلمهم لغتهم، والثانية تهيئتهم لمناصب العملاء والسماسرة والمفوضين؛ لأنهم يتعلمون في هذه المدرسة اللغتين الفرنسية والطليانية؛ وهكذا يمكنهم أن يتفاوضوا مع الفرنسيين مباشرة، بدلا من أن يلجئوا إلى التراجمة أو يفهموا خطأ ما ينقل إليهم.
وعلى بضع خطوات من مدرسة الآباء اللعازاريين يقوم دير الزيارة. وهذا هو الدير الوحيد الذي ينهج نهج الديورة الأوروبية؛ فالراهبات يعشن من ريع بعض عقارات تمكن من شرائها، ومن مساعدات أخواتهن، ومن هذا الدخل استطعن أن يشيدن كنيسة الدير الجميلة.
تبسط قنصلية فرنسا حمياتها على راهبات الجبل. وكم كنت أشعر بلذة حين أهتم بشئون هؤلاء العاملات المنزويات عن العالم! إنه يرثى لهن في هذه الأصقاع لأنهن يتعرضن لمتاعب لا يجدنها في أوروبا.
إن مقر القاصد الرسولي قريب من عينطوره؛ فهو يقع بين هذه القرية وبين زوق مكايل - إحدى قرى الجبل الأكثر أهلا وغناء - وبيت القصادة الذي أسسه المونسنيور لوساتا - وهو اليوم مطران بيالا في بيامون - قد زاد من عمرانه المرحوم المونسنيور ده فاسيو المتوفى عام 1840. ثم خلفه المونسنيور أوفارني فأعرب - كالذين تقدموه - عن همة لا تعرف الملل، ومقدرة بالغة في سبيل ازدهار أعمال الكرسي الرسولي المتعلقة بأبرشيته في الشرق.
ومنذ حين مثل بلاط رومة في سوريا المونسنيور جاندولفي الذي أتاحت له إقامته الطويلة
2
فرصة القيام بمهمته على أتم وجه، وظل يعمل مجاهدا في هذه البقعة حتى نال من البابا المكافأة التي استحقها عندما داهمه الموت.
ثم خلفه المطران لوساتا؛ فلمع نجمه في لبنان نظرا لمعلوماته الواسعة وأساليب تعليمه البارعة. إن شهرته سبقته إليه بصفته لاهوتيا عميقا.
والمونسنيور أوفارني الذي حل محله اشتهر بهمة لا تعرف الملل، وتقوى حارة، ومقدرة في علم اللاهوت عجيبة.
ذهب - كما نعلم - ضحية اندفاعه الذي لم يكن يعرف حدودا. وبعد أن نقلت جثته إلى ديار بكر، استعادها أصدقاؤه وأبوا أن يدفن إلا في غزير من لبنان؛ حيث قام هنالك برسالته الأخيرة ولاقى نجاحا كبيرا. ولما كانت أعمالي قد قضت علي أن أكون في حلب - عندما حان وقت نقل جثمانه - فقد قمت عند وصول الجثمان إلى حلب بما أمرتني به السلطة الفرنسية، فانتزعت يده اليمنى، وبعض شعره، وجزءا من بطرشيله ونقلتها بنفسي، عام 1842، إلى من يهمه أمرها في فرساي.
عاد اليسوعيون إلى سوريا منذ اثنتي عشرة سنة، وأسسوا ديرين في الجبل حيث لم يستقر أحد من المرسلين. لقد أدوا رسالتهم في مقاطعات مختلفة. وهذا الاهتمام الذي حملهم على تجديد هذه المحاولات سيكلل لا محالة بالنجاح. إنهم يهتمون اليوم بتشييد مدرسة للصناعة والفنون، ولا شك في أنها ستكون ذات فائدة كبيرة.
جميل النظام الجديد الذي جعل فيه رئيس المجمع المقدس جميع المرسلين - على اختلاف جمعياتهم - خاضعين لسلطة القاصد الرسولي؛ فمقر هذا القاصد ملائم جدا لأنه يقع في وسط سوريا، وهو يلائم أيضا العلاقات التي تربط به البطاركة والمطارنة ورؤساء الرهبانيات المقيمين في لبنان، ومدن سوريا المجاورة له.
هوامش
الفصل الأربعون
تصرفات المصريين في سوريا، بضع كلمات عن محمد علي
تنبأ السيد لامرتين عندما قال منذ سنوات خلت: «غزا الإسكندر آسيا بثلاثين ألف جندي إغريقي ومقدوني، ودك إبراهيم باشا المملكة التركية بثلاثين أو أربعين ألف فتى مصري يعرفون كيف يحشون البندقية ويمشون مشية عسكرية. إن مغامرا أوروبيا يستطيع بسهولة، إذا ما اصطحب خمسة أو ستة آلاف جندي أوروبي، أن يتغلب على إبراهيم باشا ... شرط الاعتماد على موارنة لبنان في أعمالهم الحربية.»
1
وهذا بالواقع ما حدث. تغافل السلطان عما يلاقيه الشعب السوري من اضطهاد؛ فرمى بنفسه بين يدي محمد علي. كانوا يمتدحون محمد علي في سوريا، أما في أوروبا فقد أثنوا عليه منذ أمد بعيد ... استبدت دولة نائب الملك بهذا الشعب الذي حاول مرارا إلقاء نيره الثقيل، فكان يتهافت على كل محرر يرجو عنده الخير. فالموارنة هم الذين هيئوا - وحدهم - أو عجلوا دك النفوذ المصري. وذلك أمر طبيعي لسببين؛ الأول: لأنهم كانوا يريدون أن يستغفروا السلطان إذ أذنبوا في نظره عندما فتحوا أبواب سوريا بوجه إبراهيم باشا،
2
والثاني لأنهم كانوا يريدون أن يثأروا لأنفسهم من المعاملات السيئة التي عاملهم بها حماتهم بعد أن ضحوا كل شيء في سبيلهم ...
قلت إن المسيحيين هم الذين ثاروا وحدهم على الوضع الحاضر، ومع ذلك لا بد من القول إن الدروز أيضا كانوا مضطهدين كالموارنة أنفسهم حين فرض عليهم التجنيد ونزع سلاحهم. وزيادة على ما تقدم نقول: إذا كانت ثورة الدروز في «اللجاه» قد أقلقت الجيش المصري مدة عشرة أشهر كاملة، واضطرت إبراهيم باشا إلى أن يستقدم مصطفى باشا من «كاندي» مصطحبا ألفي ألباني، وأن يستنجد الموارنة لينتهي من حملة خطرة تقوم بها حفنة من الرجال تحصنت وراء صخور، فهذه الثورة أقلقت أيضا - إلى حد بعيد - القائد العام، وأثارت بغضه للدروز. كان يجب عليه إذن أن لا ينال الموارنة - الذين أخلصوا دائما له - ذلك البغض العام وتلك التدابير التي اتخذت تجاههم بعد أن اضطهدوا كفاية.
ولما كنت لا أكتب إلا عن مدينة بيروت وقسم من لبنان، فيجب علي أن لا أتناول في حديثي هنا إلا الحكومة المصرية في علاقاتها مع الفرنسيين والأتراك وسكان لبنان.
اضطررت في غضون ثماني سنوات متواصلة أن أدفع وأطالب؛ فبوسعي التأكيد أنني أصبحت مطلعا تمام الاطلاع على ما تكنه لنا السلطات المصرية من شعور.
أما مشاكل لبنان فقد كانت دائما موضوع اهتمامي، وما من شك أن بوسعي أن أحكم عليها حكما صحيحا؛ لأنني قمت أثناء الاحتلال المصري، عام 1835، برحلة بين بيروت والقدس بطريق البر، ثم طفت عام 1838 و1840 في البلدان الواقعة بين اللاذقية وحلب والبلدان الواقعة بين اللاذقية وأنطاكية وحلب، وأثناء وجودي هناك وقعت معركة نيزيب الشهيرة التي ربحها المصريون واضطر القائدان التركيان أن ينسحبا على إثرها.
وبما أن في هذا الحديث خروجا عن الموضوع، فسأقف ها هنا هنيهة لأنقل ما كتبته في حلب بتاريخ 3 حزيران عام 1839، حول ما علمته عن حالة جيش السلطان وتهدم معنويات الجيش المصري.
قلت: «إن نتائج اصطدام هذين الجيشين تعود في رأيي إلى القضاء والقدر، وهي «قدرية» بحتة.» ولكي أعود إلى موضوعي وأثبت ما قلته عن الحكومة المصرية في معاملة المسلمين، وأوروبيي بيروت، والشعوب الأخرى القاطنة لبنان - تلك الناحية المنوط بي الاهتمام بها - فسأبدأ كلامي بذكر بعض معلومات عن الإدارة المصرية التي هي - في نظري - أساس كل المساوئ التي ظهرت. سأهتم بالتكلم عن المظالم التي ارتكبت، وسأدون على حدة استغاثات الأوروبيين وسكان لبنان.
يعجبون في أوروبا بالدور الذي يلعبه محمد علي؛ ولهذا يعتقدون أنه وهب مقدرة غريبة. بيد أن الواقع يدل على أن ما قام به في هذه البلدان كان طبيعيا. لقد قلد سابقيه واتبع أثرهم، إلا أنه نعم بسعادة هي أكبر مما نعموا به؛ ولذلك نظروا إليه نظرة إعجاب.
جاء محمد علي إلى مصر بعد أن قوض الفرنسيون سلطان المماليك؛ فكان من السهل عليه إذن أن ينشئ فيها حكومة جديدة. إنه زعيم حزب كبير، ولم يكن يخشى يومذاك من منافس إلا علي باشا الذي سموه «البرغل»؛ لما اتصف به من البخل الشديد؛ لأنه لم يكن يطعم جنوده إلا قمحا مسلوقا؛ وهكذا تذللت العقبات أمام محمد علي فتغلب عليه.
واستغل محمد علي ضعف المملكة العثمانية وبعدها عن البلاد التي تسيطر عليها؛ فوطد فيها نفوذه. كان يحفظ عن ظهر قلب ما قيل في مصر: «إن أرضها من ذهب، ونيلها عجيب، وأثمارها لذيذة، ونساؤها دمى يتمتع بها القوي.»
شرع محمد علي يعمل على إنماء دخله؛ فهو يعلم حق العلم أنه الطريقة الوحيدة التي تحقق أمانيه وتوصله إلى ما يبتغيه. أولم يكن يعرف جيدا تاريخ الجزار الذي استطاع بماله أن يصلح أمره ويسهل جميع أعماله في القسطنطينية؟!
وعندما أدرك الغنى أراد أن يستغل ثروته؛ فكان من السهل عليه أن يعد جيشا صغيرا في بلاد واسعة كمصر.
وهب محمد علي فكرا وقادا وميلا شديدا إلى التجديد؛ فطفق يدرب جنوده تدريبا أوروبيا، متبعا الأساليب الحديثة؛ فكان يستعرض - على التوالي - جيوشه، ويقوم بعمليات حربية، لا بل بحروب صغيرة يستحيل على الجيش العادي أن يقوم بها لما تتطلب من وحدة في العمل وانسجام في الحركة.
ثم رأى أن تكون له بوارج مسلحة؛ فجهز بالسلاح جميع مراكبه حتى أصغرها. وليس هذا بغريب؛ فكثيرا ما أتيح للباشوات والوجهاء الذين كان لهم بعض الشأن أن يجمعوا رجالا ويعدوا بواخر حربية، بقدر ما تسمح لهم أعمالهم وتمكنهم ثروتهم من ذلك.
وليس علينا إلا أن نعرف الشرق لنعتقد أن محمد علي كان الرجل الوحيد الذي اعتمد هذين الأسلوبين ليوطد نفوذه،
3
بل نقول إنه عمل في نطاق أوسع من النطاق الذي عمل فيه سابقوه وبطريق أكثر جدوى؛ فقد مكنه موقفه من الحصول على إمكانيات لم يحصل عليها الغزاة الذين هم من الطبقة الثانية.
نعلم أنه كان في حوزة جميع الباشوات جيوش يقومون بنفقاتها على حسابهم الخاص؛ فكانوا يشهرون الحروب فيما بينهم، أو يغزون البلدان التي يبغونها دون أن يتمكن السلطان من ردعهم أو قمعهم، حتى إذا ما غضب جلالته بسطوا لأعتابه أسبابا مبررة لغزواتهم، وإذا لم تقنعه براهينهم ولم تف حججهم بالمرام استعانوا بالمال الذي كان يفهم القسطنطينية كل غرض وينهي كل شيء.
كان تصرف الباشوات، لا بل المتسلمين بوارج حربية يستخدمونها أينما شاءوا ومتى شاءوا، أمرا عاديا ينظر إليه الناس بلا عجب، حتى إنه كان في حوزة والي رودس سفن حربية ضخمة.
اشتهر محمد علي في سوريا بعظمته، وعلى الأخص بكرمه - والكرم في الشرق صفة ملازمة للقوة والسلطان - وكان متسامحا إلى حد بعيد، حتى كان يعيش من يتزلف له في نعمة مثالية.
استهل المصريون مآثرهم الطيبة في غزوهم سوريا بعملين يدلان بالحقيقة على مدنيتهما، إلا أنهما حملا الشعوب السورية على التقزز نظرا لجهالتهم وتعصبهم؛ فالحانات فتحت أبوابها في المدن والجبال، فعسكرت «العوالم» في مدخل المدينة، وحول الطرق العامة التي يطرقها أكثر الناس؛ فكان يقصد خيامهن من يجتذبهم هذا التجديد. أما الآخرون فكانوا يقتربون من أنديتهن فقط ليسمعوا أصوات الموسيقى، ويروا حركاتهن المطربة المغرية وهن يعملن. فهؤلاء الغانيات كن يرقصن بعض الأحيان ليجتذبن الهواة، وكأنهن يقلن لهم: «ادخلوا، لا تكتفوا بالترهات التي تجدونها عند الباب.»
فإباء العائلات الذين خافوا مغبة هذا العمل الذي أتى به الغزاة المصريون من ضفاف النيل، سعوا حثيثا لدى السلطات لإقفال هذه البيوت. إلا أن هؤلاء النساء أظهرن للملأ ما يحملن من رخص وإجازات؛ وعند ذلك تساءل الناس عما إذا كان يجوز للحكومة أن تجيز مثل هذه الأعمال المخزية، لا بل هذا الفجور!
سمحت لي الظروف أن أجيب ضابطا مصريا زعم أنه يتشبه بنا - نحن الفرنسيين - في جميع ما يعمله، فقلت له: «أشكر لك هذا الإطراء، ولكن اعلم أنك إذا قلدتنا فإنما يكون ذلك على طريقة القرود التي تقوم دائما بأعمال مقلوبة رديئة.»
سبق لي أن تكلمت عن اتباع الفرنسيين عادات هذه البلاد وتقيدهم بها، وعن السخط الذي يظهرونه لنا ها هنا إذا خالفنا مصطلحهم وعاداتهم وتقاليدهم.
ما زلت عند رأيي في طريقة حكم محمد علي لسوريا؛ لقد عرفته عن كثب في جميع تصرفاته وفي جميع الأوقات التي بسط سلطانه خلالها على هذا القطر.
إن الشقة بعيدة بين ما رأيناه منه وبين ما كنا نأمل أن نراه؛ فالمصريون لم يهتموا إلا بأساليب تنمية دخلهم، ولم يلتفتوا قط إلا لما تقضي به عليهم مصالحهم الخاصة، غير ناظرين إلى ما ألحقوه من أضرار بالذين انتزعوا منهم جميع ما يملكونه ليتنعموا به.
ففي بلاد سخر فيها كل شيء لمطامع الحكام، وضرب عرض الحائط بمبادئ الإدارة، وحقوق الشعب؛ يكون لهذه الإجراءات في نفس من لم ينتظرها أبشع الأثر وأسوؤه.
فأكبر مساوئ هذه الحكومة هو أنها لا تتمشى على قانون مقرر، وأن تكون مفتقرة إلى بعد النظر. ولكن مهما يكن من أمر، فهذه البلاد لم تكن محكومة بطريقة أفضل من هذه أثناء العهد العثماني، فالدسائس هي التي لاقت نجاحا أكثر مما لاقته قديما.
كانت السلطة العليا تجعل أهمية المراقبة والمحاسبة؛ وهذا عمل ضروري لا بد من تطبيقه على موظفين لا يعنيهم إلا خدع رؤسائهم وسرق الرعية عندما تسنح الفرصة. وإذا وجدنا أشخاصا يخلصون لنائب الملك ولأولاده، وبصورة خاصة لإبراهيم باشا، فهؤلاء هم الشراكسة والجيورجيون؛ لأنهم تربوا جميعا في سرايات مصر. وهؤلاء هم الذين بلغوا مراتب رفيعة في الجيش، وهم يؤلفون القوة المعنوية الحقيقية في الجيش المصري. أما فيما يتعلق بالطرق والأساليب الحربية، فجميعهم سواء؛ فهم لا يتدربون إلا تدربا بسيطا، ويكون ذلك على الغالب مراضاة ومجاراة؛ فالشجاعة - في عرفهم - يجب أن لا تقيد في انطلاقها.
وهؤلاء الضباط يتزوجون جميعهم تقريبا من سراري يرسلهن إليهم الباشا ومعهن بائنتهن. وهذه مكافأة كبيرة ولفتة كريمة. وهم يطلقون على هذا الصهر في تركيا لقب «الداماد».
كانت الحكومة ترتضي - في وضعها الموقت - بجميع العروض التي تجد فيها بعض المنفعة. وهذه السهولة في قضاء جميع الحاجات لم تبحث بطريقة جدية؛ فأدت بعض الأحيان إلى اتخاذ إجراءات لا تتفق البتة مع مصالحها الحقيقية.
قيل إن السلطات المصرية لم تكن لتحمر خجلا من الوعد والتخلص منه وعدم الوفاء به، لا بل إنها كانت مثال الطيش والتقلب في الرأي؛ فما إن تصدر قرارا وتأمر بتنفيذه حتى ترجع عنه بعد بضعة أيام، ثم لا يلبث أن ينسى.
إن المحكمة (المجلس البلدي) التي أنشأها المصريون لم تكن تعطي الحق صاحبه إلا بعد وساطات فعالة؛ فأعضاؤها - الذين لم يكونوا قط منصفين - لم يعبئوا بقوانين العدالة الحقة، واجترءوا على التلفظ بأحكام جائرة، دون أن يعوقهم عائق . كانت قاعدتهم الوحيدة هي الحكم في جميع الدعاوى التي فصل بها الديوان دونما نقض؛ لكيلا يقال فيما بعد إن السلطة أخطأت في حكمها. أما فيما يتعلق بالعامة فهاكم الطريقة التي تمشى عليها المصريون: كان يربح دعواه من استطاع أن يؤيد وقائعها بأقوال شهود. أما الحقيقة التي تفتقر إلى شهود فلا يلتفت إليها. فكيفية وقوع القضية، والظروف الملابسة لها، والاستنتاجات الشخصية؛ هي أمور تافهة في نظرهم ولا يؤبه لها؛ فالشكل عندهم هو أساس كل شيء.
ويزاد على ما تقدم أن الطريقة التي تتبعها الإدارة المصرية تنحصر في عدم إنهاء قضية، وعدم مراعاة أي كان، وتلافي إعطاء الأوامر الصريحة بجميع الطرق والأساليب، أو التنحي عنها إذا ما أعطيت، وعدم إلحاق أي ضرر بمصالح الخزينة مهما كلف الأمر، ومسامحة موظفيها ومأموريها وحمايتهم.
إن الفوضى العظمى التي نتجت عن هذه الأساليب الإدارية قد سببت مظالم تذمر منها أبناء البلاد ثم الأوروبيون. كان يهم السلطات الاستمرار عليها لأنها كانت مورد ربح ملموس؛ فعند كل طلوع شمس كنا نجد تدبيرا إداريا يخلق ويموت، والإجراءات - الأكثر ما تكون أهمية - لم تكن إلا بنت يومها. وكثيرا ما اضطر القناصل إلى أن يقفوا بوجه السلطة حينما كانت تضر أو تتعب. وكثيرا ما كانوا يطالبون بعنف وشدة لكيما ينالوا حقوقهم.
فالضرر ناتج بوجه خاص عن ثقة محمد علي برجال يميلون بطبيعتهم إلى الأذى، ومزيتهم الحميدة الوحيدة هي خيانتهم السلطان المعظم؛ فأكثر المتسلمين الذين عينوا في الأساكل حتى عام 1837، لم يكونوا مصريين، أو لم يروا مصر قط.
وإذا كان نائب الملك يمتاز بأسلوب خاص في حكمه أو أنه كان حليما - بوجه عام - تجاه رعيته، ومتسامحا متساهلا لا يكره من لم يكونوا على دينه، فهذا الأمر يجهله الحكام الذين نصبهم كل الجهل. فولاة سوريا لم يكونوا صنيعة محمد علي ولم يتأثروا به في تفكيرهم أو أساليبهم.
توالى في أثناء الاحتلال المصري أربعة حكام على مدينة بيروت لم نأسف على أحد منهم إلا على الحاكم المصري.
4
كانوا يحاولون - وهذا ملا يلامون عليه - إذكاء نار التعصب؛ هذا التعصب الراسخ في قلوب الأخصاء، والذي انتقل بسهولة إلى الجنود؛ لأنهم لم يلمسوا روح التسامح والتساهل في رؤسائهم.
تساءل السيد ميشو، عندما اطلع على عدة مؤلفات مطبوعة في القاهرة، وبينها الموجز في أسلوب الرسائل، وفيه حث على مناضلة الكافرين: «لماذا تصدر مطابع الباشا الآن (1831) هذه المؤلفات التي تحث على الحرب المقدسة؟»
وبعد، فإنه يحق للسيد ميشو أن يعجب، ولكن لا أدري لماذا عزا إلى محمد علي نية تحريض جنوده على الوهابيين؟
إن الضباط الشراكسة يلتهبون تعصبا، وهم أشبه منهم بغيرهم. أما الباقون فإنهم يعيشون على هواهم لأنهم من شاربي الكحول الكبار؛ ولهذا نستطيع القول، مع الكونت ليفربول: «إذا لم تعلم الحضارة التي أتينا بها إلى مصر غير شرب خمرتنا وعرقنا، فإنه نجاح باهر لصناعة المشروبات الفرنسية.»
إن الاحتكارات والضمانات شملت جميع الحاصلات والأعمال الصناعية، حتى إن رجلا خفيف الروح صرخ ذات يوم، على إثر مشادة حصلت بينه وبين عدة جباة: «سوف لن نستطيع عما قليل أن نتكلم دون أن نجد واحدا يطلب منا دفع ضريبة على الكلمات التي تلفظنا بها.»
كانت قفة الأرز تباع بتسعين قرشا في بدء الاحتلال المصري، ثم ما لبث أن ارتفع ثمنها إلى مائة وثمانين قرشا. احتكرته الحكومة في الأساكل لتبيعه من المستهلكين والذين يشترونه جملة في مصر بثمن فاحش.
كانت تزعم، حين تحتكر الحبوب، أو تفرض ضرائب ضخمة على ما لا يوافقها احتكاره، أنها تضع بذلك حدا للتعديات والبلصات.
قدمت في بدء هذا الكتاب بيانا بالأرباح التي جنتها السلطة من تأجيرها الضرائب على اختلاف أنواعها؛ فالتنافس في المزايدة بين الملتزمين قد أدى إلى خراب بيوتهم، فاختلاسهم أموال الشعب بقحة متناهية. والأوروبيون أنفسهم لم يستطيعوا التفلت من قبضة هؤلاء إلا بعد مشادات عنيفة حصلت بينهم وبين القناصل.
وختاما لهذه المعلومات التي تقدمت بها بصورة موجزة أقول أخيرا: لم تكن القوة المسلحة تتدخل في المنازعات العامة بقصد أن تحول دون وقوع الأضرار أو تهدئ من روع المتخاصمين، بل لتشترك هي شخصيا بالمعركة مستخدمة سلاحها ، ولا سيما إذا كان الخلاف بين المسلمين والمسيحيين والفرنسيين؛ فهؤلاء هم الذين كانوا يتلقون الضربات. لم تكن القوة المسلحة تحجم عن أن تفرض العقوبات اللازمة وتنفذها بنفسها.
هوامش
الفصل الحادي والأربعون
معاملة المصريين للمسلمين
إن الغبطة التي شعر بها أبناء سوريا عندما احتل المصريون هذا البلد لم تعمر طويلا؛ فهي لم تلبث أن زالت عندما أدركوا أن سيدهم الجديد لم يكن يهتم إلا بمصالحه الشخصية، وأن سياسة عماله لا تقل ظلما وتعسفا عن سياسة الدولة التي ظنوا أنهم لن يأسفوا عليها.
فشعوب سوريا لم تكن تتذمر إلا من تعسفات باشوات الباب العالي، واحتكارهم الحبوب، وتسخيرهم الرعية، وسواد الشعب، أو على الأقل، الطبقة العامة من الناس التي تعيش من شغلها اليومي، ولم تشعر بثقل وطأة تلك المظالم إلا بعد أن تألم منها الميسورون الذين كانوا عرضة لها أكثر من سواهم. ولما زال الفرح الذي ملأ قلوب السوريين عندما تقلص ظل الدولة، حلت محله الكراهية للفاتحين، فأضمروها لهؤلاء الذين ظنوا أنهم محرروهم. وسنرى عما قريب أن الانقلاب الذي حصل لم يكن إلا نتيجة دوافع قوية هامة.
فأثناء محاصرة عكا، حين كان المصريون لا يحتلون إلا بعض أساكل سوريا الجنوبية، ألغيت ضريبة الحبوب التي كان عبد الله باشا قد فرضها؛ فكان هذا الإلغاء سبب ارتياح عام؛ فاطمأن الأهلون إلى مصيرهم لأن هذه الضريبة كانت توازي خمس القيمة الحقيقية، وقد تبلغ أحيانا ربعها، ولكن هذه الضريبة ظلت مفروضة على الحبوب التي تستورد من الخارج، ثم ما لبثت الدولة المصرية أن فرضتها ثانية على جميع الحبوب والطحين، سواء أكانت من إنتاج البلاد أو كانت مستوردة من غيرها، ثم خفضتها بعد حين فاستوفت نصفها فقط.
و«الفردة» كانت أول ضريبة فرضت على الأهلين عموما، فأحدثت استياء عاما. ولم يغفر المسلمون لنائب الملك خطيئة المساواة بينهم وبين المسيحيين.
لم تجرح الفردة كبرياء مشايخ الإسلام وعاطفتهم فحسب، بل ألحقت بهم أضرارا بالغة من جراء كيفية جبايتها. كانت هذه الضريبة ثقيلة الوطأة على الفقراء والعمال، لا بل على الأغنياء أنفسهم؛ إذ كان على المستطيعين أن يسددوا الرصيد المطلوب إذا ما نقص منه شيء. أحصوا الناس جميعا وجعلوهم فئات، وابتدأت الضريبة بخمسة عشر قرشا وانتهت بخمسماية. وإذا لم تف هذه الطريقة بالمرام جعلوها على مجموع المتكلفين وقالوا لأعيان كل شعب: «إنكم تعدون كذا، فيجب أن تدفعوا كذا، فتدبروا الأمر بأنفسكم لأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه.» فقضى هذا الأسلوب على العمال بدفع أكثر مما يستطيعون؛ لأنه لا بد من جباية الكمية المطلوبة. لم يدفع الأغنياء أكثر من خمسماية قرش، وهذا هو الحد الأقصى لما يدفعه الفرد؛ وهكذا عمت الضريبة جميع الطبقات، فكان يدفع الفقير من أربعين إلى خمسين قرشا. أما ما بقي من رصيد هذه الضريبة فعلى الميسورين تسديده.
عرفت أوروبا قديما أب العائلة الذي كان يدفع ضريبة الفردة عن أولاده الثلاثة، أو الأربعة، ويجبر على الدفع عنهم ولو ماتوا ميتة طبيعية، أو صرعوا في حرب، أو كانوا بعيدين يحاربون في بلدان قصية.
1
فالمكلف لا يموت فعلا في نظر الحكومة المصرية إلا بعد انقضاء سنتين أو ثلاث على موته الحقيقي، ناهيك بأنه لا يستطيع أن يموت إلا إذا أرادت السلطة فأصدرت بذلك المراسيم التي يقتضي إصدارها وقتا طويلا؛ فشعار الحكومة هنا: العجلة من الشيطان.
ذكر السيد بوجولا - في هذه المناسبة - مصيبة أخرى أتى بها محمد علي من مصر إلى سوريا: «إذا قلت موارد القرية وأصبحت لا تستطيع أن تقوم بدفع الضرائب، بسبب جفاف الموسم وانتشار وباء الطاعون، والتجنيد الذي يستأثر بالأيدي العاملة، فعلى القرية المجاورة لها أن تؤدي تلك الضرائب عنها، وإذا عجزت هذه الأخيرة بدورها فعلى جارتها الأخرى، وإن عجزت القرى جميعا فالمدينة، وأخيرا الولاية. إن هذا التضامن بين الشعوب في سبيل إنعاش الخزينة هو اختراع مخيف كان يصعب علينا تصديقه لو لم نشاهد بأم أعيننا هذه الحقيقة المؤلمة .»
رأيت بعيني تنفيذ هذا القانون في ولاية حلب، فترك الفلاحون مواشيهم وتخلوا عن مزروعاتهم. وقد اضطر بعض الأشخاص - في اللاذقية - إلى بيع بناتهم. لم يصدق بعض القناصل هذه الأخبار، ولكنها ثبتت لهم أخيرا.
وما انتهت جباية ضريبة الفردة حتى تبعها جمع السلاح؛ فكان سبب عدة مظالم. لم يجرؤ أحد على القول بأن لا سلاح لديه؛ فاليهود وبعض المسيحيين الذين لا سلاح عندهم اضطروا إلى شرائها وتقديمها ليبرهنوا للسلطة أنها لم تخطئ في رأيها.
استذلت الحكومة المصرية - بهذه المناسبة - مسلمي بيروت حين عهدت بجمع أسلحتهم إلى الأمير أمين المشهور بمسيحيته؛ فآلمهم هذا العمل وعدوه جناية لا تغتفر.
ومع ذلك لم يكن هذا التصرف أبشع ما نزل بهم؛ فذات يوم - يوم جمعة - بينما كان المسلمون يقيمون صلاة الظهر، طوقت الجوامع شراذم من الجنود وقبضت على جميع المسلمين دونما تفريق بين أسنانهم، واقتادتهم إلى السرايا.
وهكذا قبض على جميع المسلمين، ثم دعي الأطباء فباشروا معاينتهم، فما خرج من ذلك الحصار غير المعوهين أو المصابين بأمراض مزمنة.
ففي كل سنة كانت تنزل بالشعب الإسلامي في بيروت كارثة كهذه، حتى أمست الأعياد الإسلامية مدعاة خشية وهلع، فيتدبرها كل شخص بالفرار خوفا من أن يقبض عليه ويساق إلى الجبهة سوق النعاج. إنه لا يسعنا أن نصف اضطراب هؤلاء الأهالي البؤساء في هذه الفترات الرهيبة؛ فجميعهم يتراكضون ويتسابقون إلى أولياء الأمر حيث تقضى الخدمة لقاء دفع مبلغ من المال. وقد لا يكفي ذلك فيضطر الرجل إلى شراء نفسه مرة ومرتين، ولا بد له من أن يلجأ إلى كنف أشخاص عديدين ذوي نفوذ ليكون أكثر اطمئنانا.
كان التجنيد سبب ألوف من الرزايا؛ فالعائلات كانت تفقد أعز أعضائها إما بانتزاعهم قسرا من بينها، أو بالفرار والتواري من وجه السلطة. كانت الأسرة معرضة لأعمال عنيفة جدا تعاني بسببها مخاوف عظيمة، وتصعد تأوهات طويلة كلما تذكرت نكبتها؛ فهي لا تعرف الأمن والاستقرار؛ فالدولة لم تكن تتأخر عن القبض على فريستها، وإن ظنت هذه الفريسة أنها نجت لأنها دفعت مبلغا لرجل ما ، كان التجنيد شر الوسائل لإثقال كاهل الشعب المسكين وإرهاقه. فلا يكاد المال يدفع لمشايخ الأحياء والضباط والأطباء ليعفوا أشخاصا من الجندية، حتى تهب السلطة متحرية حين يبلغها الخبر. بيد أن الأساليب الفعالة كانت تنقصها؛ فالموظفون الذين ارتشوا كان يستميلون إليهم رؤساءهم؛ وهكذا كانت تظل الإجراءات الأكثر حكمة بدون مفعول.
فجشع الموظفين الضروري تذليله كان يزداد شيئا فشيئا. تمشوا على طريقة واحدة واعتبروا أن الحق للقوي؛ ولهذا كان المال أجدى الأساليب؛ فهو الذي يوصل وحده إلى النتيجة المرجوة. فقدت الأرامل والأيتام عضدهم الوحيد؛ فأهملت الأعمال الصناعية وبقيت الحقول جرداء لا تحرث، وأقفرت القرى؛ وكل ذلك لأجل تجنيد بضع مئات من الناس يتأوهون تحت سلاحهم الثقيل لأنهم أجبروا على القتال مكرهين.
ويا ليتنا نرى العناية بهؤلاء الجنود! كانوا ينقلونهم إلى المستشفيات خوفا من أن يموتوا في ثكناتهم. علمت من عدة أطباء أن الحكومة المصرية لم تكن تحسن خدمة هؤلاء؛ فالمرضى المكدسون في حجر، أبوابها كوى صغيرة ضيقة، كانوا ينتظرون شفاء لا رجاء فيه. كان أملهم الوحيد ببنيتهم القوية أو إحدى الفرص المؤاتية؛ فالعلاجات لم تستعمل، وكثرة المرضى لم تكن تسمح دائما بالقيام بتعليمات الأطباء.
إن التعليمات منعت من هم في طور النقاهة عن أكل اللحوم؛ وهكذا يجب أن يشفوا إذا كان الله قد من عليهم بقوة بدنية.
لم تكن الدولة تجهل ذلك. كان يتوجب عليها أن تستعلم عن الأنظمة وتأمر بتبديلها ولا ترتضي أبدا إدارة باغية كهذه. كانت تقضي فقط بالحكم على المذنبين الذين تتمكن من القبض عليهم، بإرسالهم إلى لومانات عكا أو أبي قير تبعا لخطورة الجريمة. فكل ما أنشأه المصريون ليس سوى خيال للأعمال التي كان يتوجب عليهم أن يقوموا بها ويمثلوها.
زعم إبراهيم باشا - وكان بوسعه أن يكون رجلا إداريا أكثر منه عسكريا - أنه كان يهتم بإدارة جميع شئون الحكم. أجل، كان يدير كل شيء بنية طيبة، إلا أنه كان يفتقر إلى أساليب مجدية؛ فكل شيء كان يسير من سيئ إلى أسوأ رغم تخوف مأموريه منه ومحبة جيشه له لأن لاسمه شيئا من تأثير السحر.
قلت له ذات يوم إنه كان له أن يستفيد من أمثولة عبد الله باشا، وإن الرجال الذين استخدمهم والمبالغ التي أضاعها في سوريا كانت كافية لازدهار مصر ورفاهيتها، وإن مصر هي أكثر البلدان غنى، وحكمه يثبت فيها أكثر منه في جميع البلدان التي يحاول امتلاكها.
تبين لي أنه فهم ما قلته له تماما، وكان يود لو يقول لي إني كنت على صواب، ولكن تلك مشيئة القدر.
إن التضحيات التي قام بها المصريون في سوريا كثيرة لا تحصى؛ فمحاولتهم امتلاكها أضرت كثيرا بازدهار مصر، والسلالة الحاكمة فيها.
إن الأخطاء تكلف دائما بالنسبة لجسامتها وخطورتها.
هوامش
الفصل الثاني والأربعون
معاملة المصريين للأوروبيين
كثيرة هي الأعمال الجائرة التي قامت بها السلطات المصرية ضد الأوروبيين. ولما كان لا فائدة من إعادة ذكرها ها هنا لأن دور الطباعة قد اهتمت بتدوينها فعرفها الجميع، فإني لا أنقل إلا بعضها
1
إكمالا لموضوع كتابي فقط.
لا بد لي، قبل أن أبدأ بها، من القول إن الأوروبيين حلموا أيضا بتحسينات جمة. ظنوا أن حكوماتهم ستكون محترمة موقرة، وتطالب بامتيازات ينعم بها رعاياهم، ولكنهم ما لبثوا أن رأوا محمد علي يطبق على الأعمال التجارية في البلاد التي افتتحها إجراءات وتدابير جامحة ظالمة، فمنع منعا باتا التجار النازلين مصر من شراء منتوجات هذا الإقليم الواسع، سواء أكان الشراء من الحواضر أو من الأرياف.
كان يأمر موظفيه المختصين بمنع كل تساهل وتجديد؛ فاضطر الأوروبيون إلى أن يتجاوزوا دائما تعليمات السلطات؛ ومن هنا نشأت الحرب التي شهرتها السلطات على الفرنسيين، ولم تكف عنها أبدا. وقد عرفت سببها بعد مباحثة جرت بيني وبين إبراهيم باشا الذي يحب بطبيعته كثرة الكلام. «لا ينعم الأوروبيون في الديار الشامية بما ينعمون به في مصر. هذا ما قاله لي عام 1834، أما الرعايا الذميون فهم أوفر حظا من أبناء ذلك البلد.»
تفاقمت هذه الأمور حتى اضطر القناصل مرارا إلى مطالبة السلطات بالكف عن إرهاق الفرنسيين، وإقامة العراقيل في وجههم.
كنا نفضل أن نتمشى على مبدأ مستقر ليعلم كل منا موقفه وواجباته تجاه الآخر. ولقد طالبت - عندما اطلعت على تعليمات نائب الملك - بإبقاء الأمر على حاله، ومعاملتنا وفقا لما منحنا من امتيازات قديمة. ولكن لما كان الموظفون يتقيدون بالأوامر الصادرة لهم، ولا يهتمون إلا بإنماء دخل سيدهم فحسب، فقد لاقيت بعض الصعوبة في حماية إفرنسيي سوريا من خطر الإجراءات الجائرة التي هددوا بها؛ فالسلطة تجاهلت امتيازاتنا، وأخذت تتصرف كما تشاء كأننا لم نمنح واحدا منها؛ فلم تكن تجيب مطالبنا العادة إلا بعد أن نصطدم بمقاومة وعناد عنيفين.
ضمت في غضون ثلاث سنوات كاملة جميع أساكل سوريا إلى قنصلية بيروت. وفي هذه المدينة كان ينظر في القضايا المتعلقة بمواطنينا المنتشرين في جميع أنحاء هذه المقاطعة.
فالذين حكموا في سوريا باسم محمد علي لم يفرقوا قط بين القناصل وعمال القناصل. فلا يشتكي من أحد هؤلاء حتى تصدر الأوامر الشديدة وتبلغ إلى الجميع دونما استثناء. ولما كانت اللهجة العنيفة، لا بل التهديدات، هي أسلوب المصريين الخاص، فقد كان يؤدي صدور كل أمر من هذه الأوامر إلى استفزاز حقيقي يفسح في مجال مناقشات وخلافات لا تنتهي.
لا ننكر أن بعض القناصل الأجانب ووكلاءهم وعمالهم قد استفادوا - في فترة من الزمن - من التسامح الذي أبداه موظفو الحكومة ليحموا عددا لا يحصى من الناس، وأن هذه الأعمال ظلت مجهولة من نائب الملك الذي ظن أن هذه الحمايات كانت تشترى. فمتسلمو الأساكل - وهم شركاء بعض القناصل في هذه الصفقة - قد حاولوا تطبيق أوامر الزجر على قناصل هم براء مما اتهم به أولئك؛ وهذا ما كان يدفع هؤلاء إلى رفع احتجاجات عنيفة كانت تنتهي أكثر الأحيان بالرجوع عن الأوامر مع بعض التعديلات. بيد أن تلك التعديلات كانت تظل مجحفة بحق من لم يتجاوزوا صلاحيتهم في ممارسة حقوقهم، ولا تمس من اتجروا بالحماية إلا مسا خفيفا.
هذا هو - ويا للأسف - تقدير الرجال الصالحين في هذا البلد. لم يكونوا يحسون إلا قليلا من العطف لأنهم لا يحسنون - كغيرهم - السلب والنهب والدسيسة والمكر. وأما أولئك المنحطو الأخلاق فكانوا يظفرون - وحدهم - بإنعامات ترفض بعنف إذا ما طلبها القناصل.
نعمت بنفوذ عظيم على عهد عبد الله باشا دون أن أرى نفسي مضطرا إلى المرور في شبكة من رسميات مخزية يتطلبها الحكام المصريون، وهي في أكثر الأحيان لا تسفر عن نتيجة؛ فعند ظهور التنظيم الأول لم يعترف الفاتحون إلا بحقوق القناصل المقيمين في حلب. أما قناصل الأساكل الأخرى فقد اعتبروهم وكلاء. ولما كان قنصل فرنسا وإنكلترا وسردينيا وتوسكانا يقيمون في بيروت، فقد احتج ممثلو دولهم في الإسكندرية على هذا القرار الذي أصدره حاكم سوريا العام وأجاز لنفسه القول فيه: إن حلب تستحق وحدها - نظرا لأهميتها - أن يكون فيها قناصل.
وبينما كان نائب الملك يدهش للحمايات التي كان يبسطها الأوروبيون بسرعة في سوريا، سمح بانتقاء وكلاء القناصل من رعاياه. لم يكن شيء يستغرب أكثر من هذا؛ لأن تعيين كل وكيل كان سبب حماية ستة من الرعايا الذميين وإبعادهم عن متناول يد السلطات. فعمل كهذا يطبق في كل إسكلة كان ينتزع من قبضة السلطة عددا لا يحصى من الرعايا، وهذا أمر كان في إمكان الدولة تلافيه لو استمرت على تطبيق النظام العثماني.
قالوا إن لنائب الملك غرضا في ذلك، فكيف يفعل هذا من كان هدفه الإكثار من المال والرجال؟! أيجهل أنه لا بد لكل وكيل من عدة رجال ينعمون بالحماية الأجنبية فلا يبقى له عليهم أي سلطان؟ إن ما يرمي إليه - كما قيل - هو حصد شوكة نفوذ القناصل الفرنسيين الذين كانوا يناهضون حكومته ويحاولون أن يحولوا دون تنفيذ مشيئته. والبرهان على ذلك هو استسلام وكلاء قناصل دمياط إليه وانقيادهم له، ومساندتهم إياه فيما يجريه للنيل من حقوقنا. فما انتظره نائب الملك قد تحقق - كما يظهر - عندما قام بتجربته الأولى.
لاقيت أنا شخصيا مشقات يصعب تصديقها
2
رويت أخبارها، ويمكنني القول إنها كانت نتيجة تتميمي واجباتي بدقة وإخلاص.
منع الحاكم العام إعفاء مئونتي من الرسوم المفروضة عليها، وأجبرني على أن أبعث إليه ببراءة تعييني قنصلا. ولما أرسلتها وتعذر عليه التملص مما خولني إياه القانون من حق، سمح لوكلاء القناصل أن ينعموا هم أيضا بهذا الامتياز، على الرغم من أن بعض القناصل الأجانب لم يحصلوا إلا على فرمانات بسيطة لا تمنحهم إلا قليلا من الامتيازات.
وكما تجاهلت السلطات المصرية حقوقنا تجاهلت كذلك حقوق الضباط الفرنسيين في استيراد مؤنهم معفاة من الرسوم، في حين أنها عفت من تلك الرسوم وسقات من الحبوب لا تخص الأوروبيين إلا في الظاهر.
قرر مجلس شورى عكا إلزام ضابط فرنسي بدفع المكوس المفروضة على المؤن النازلة إلى الشط، وإذا أبى دفع ما يترتب عليه، فيعني ذلك أنه أضمر الضرر للخزينة.
وفي الفترة التي شاء خلالها المصريون أن يحتكروا حاصلات سوريا، ويفرضوا الرسوم الباهظة على البضائع المصدرة، استصدر الإنكليز فرمانا من الباب العالي يجبر نائب الملك على العدول عما أمر به. وكانت الأوامر الصادرة بهذا الشأن مبهمة للغاية، فشاءت سلطات سوريا أن تفسرها كما تهوى وتريد، فأصرت ذات مرة على استيفاء رسم ثلاثة بالماية من تاجر كان يصدر بعض القطن إلى يافا. فرفع شكواه إلى القنصل الإنكليزي المستر مور، فحضر بنفسه وتدخل بالأمر. ولما رأى مأمور الكمرك مصرا على ما زعم، ولم يبال بما قدم له القنصل من براهين، اضطر ممثل إنكلترا إلى تصدير القطن عنوة. لم تبال السلطات المصرية - وهذه حقيقة تقال - بالقوانين ونظم العدالة، إلا أن صلابة القناصل الذين تطاولت على حقوقهم، كانت توقفها عند حدها، وقلما رأيناها تجابه المقاومة المبنية على حق صريح.
اضطررنا إلى اتباع خطة قنصل إنكلترا عندما حالت السلطة دون تصدير الحرير المشترى من بيروت، أثناء الفترة الوجيزة التي احتكر فيها هذا الصنف. انتهزنا فرصة وجود محمد علي في يافا فقدمنا له احتجاجاتنا الصارخة. والكولونل كامبل الذي كان إلى جانب نائب الملك دعم مطاليبنا وألغى ذلك الاحتكار بسرعة فائقة؛ وهكذا ساعدت الظروف القناصل بصورة غريبة، فاستطاعوا حماية حقوق رعاياهم. وكانت محاولة ثانية جربت أثناءها الحكومة المصرية أن تحتكر تجارة الحرير، إلا أنها اضطرت إلى العدول عن هذه الفكرة عندما وقفت بوجهها معارضة قناصل بيروت .
وإذا حاولنا أن نفكر بما تهدف إليه هذه التصرفات التي كان يقوم بها موظفو الحكومة فلا يمكننا تعليلها إلا بالفوضى في جهاز الدولة المصرية، وروح البغض والحسد في نفوس مأموريها ، وأخص منهم أولئك الذين يحاولون اكتساب رضى رؤسائهم فيقومون بأعمال شاذة لا يردعهم عنها رادع مهما كان السبب وجيها. إن الأوامر التي كانت تصدر لم تكن تميز الفرنسيين بشيء عن أبناء هذه البلاد؛ فالسلطات كانت ترى أنه من الضروري أن نعامل والمواطنين على قدم المساواة.
إن جميع قضايانا كانت تفصل في الديوان الذي يضع أعضاؤه أصول العدالة نصب أعينهم ... فالقضاة كانوا لا يأبهون للمعاهدات وما يتفرع منها. لم ينظروا بعين الاعتبار إلا إلى مصلحة الخزينة؛ وهكذا هضمت حقوق الأوروبيين المعترف بها، وسقطت امتيازاتهم المشروعة والمعروفة عرفا.
وعندما بحثت قضية إعفاء السماسرة وأصحاب المخازن وخدام الأوروبيين من بعض الضرائب، زعمت السلطة بأنه لا تجار في الإسكندرية. أما تجار الأساكل الأخرى فلم يكونوا يقومون - حسب رأيها - بأعمال واسعة النطاق ... والغاية من ذلك هي عدم منح هذه الامتيازات لغير التجار الذين ترغب فيهم هي.
وبهذه المناسبة نقول إن حمل السلطات على الاعتراف بحقوق تجار جميع أنحاء سوريا يعود الفضل فيه - بلا مراء - إلى قناصل بيروت.
كانت وظيفتي تحملني على إنباء القنصلية العامة في الإسكندرية بجميع ما يحدث ها هنا. وشد ما كنت أقف بوجه السلطات عند تحيزها وانحرافها عن جادة الحق، ولا سيما بعد أن رأيت بنفسي أساليب الإدارة الحكيمة التي كانت تتبع في مصر. قد تبين لي بعد الاستقصاء أن الموظفين الذين يتبعون طرقا معوجة هم الذين كانوا يعيثون بالنظام فسادا. كنت آمل أنهم سيرجعون عن غيهم ويتقيدون بواجباتهم حالما يؤمرون. وهذه التمنيات لم تكن ترمي إلا إلى إدارة حكيمة مستقرة كالإدارة التي ظننت أن نائب الملك يرغب في تطبيقها في بلده الجديد. وقد ظهر لي أن ظني في محله عندما حمل إلي السيد ميمو ثناء وشكرا من قبل محمد علي؛ فالقنصل العام الذي قدم له ترجمة بعض الملاحظات التي تضمنها تقريري طلب مني المثابرة عليها، مؤكدا لي أن جميع الأعمال السيئة التي حصلت في سوريا كانت مخالفة لمشيئة محمد علي.
ومع ذلك فقد بقيت الحالة على ما كانت عليه، لا بل ازدادت سوءا؛ لأن أولياء الأمر يعملون كل ما بوسعهم ليبرروا تصرفاتهم، ولأن الحكومة كانت تفضل أن تستفيد من أعمال هؤلاء العمال بدلا من أن تهتم في معاقبتهم.
كتب إلي السيد لاسبسس
3
بتاريخ 10 تشرين الأول 1837 يقول:
أؤكد لكم أن الحكومة المصرية تحسن التفريق بين تصرفاتكم وتصرفات القناصل الآخرين، وإنها تقدركم حق قدركم.
ولقد قرأ آخر متسلم في بيروت لمعاوني مقطعا من تقرير رفعه إلى رئيسه يقول له فيه: «لم يكن يجد سهولة إلا فيما تطلبه منه قنصلية فرنسا؛ فهي لم تكن تخرج قط على أصول اللياقة وآدابها حين كانت تطالب بحقوقها.»
وهذا يذكرني بالحديث الذي نقله إلي رحالة عن لسان سليمان باشا بينما كان يتحدث وإياه عن مشاكله المتواصلة في القناصل: «كنت أجد سبيلا لمؤاخذة فلان أو فلان، إلا أن المسيو غيز الذي لا يتعدى نطاق حقوقه المشروعة لم يفسح لي في مجال مؤاخذته بشيء.»
وكثيرا ما أجد بين المعلومات التي جمعتها حول كيفية الإدارة تفاصيل عديدة لما كان يحصل بيني وبين سليمان باشا من خلاف ومشادة حول قضية ما. فما كاد هذا الباشا يتسلم زمام المهام المصرية حتى رأى نفسه مضطرا إلى العمل وفقا للمبادئ التي كانت تنخر صدر هذه الدولة. ولما كنت لا أريد أن أحفظ عنه إلا ذكريات طيبة حلوة، فقد ضحيت - في سبيل هذه الغاية - بجميع ما دونته من حوادث تدور حوله يوم كان قابضا على ناصية الحكم. ومهما يكن من أمر، فأنا واثق من أن تصرفاته في تلك الفترة كانت تناقض كل المناقضة أمياله ونزعاته.
فسليمان باشا رجل عادل، ذو وجدان، أحب بكل ما أوتي من قوى أسياده الجدد، بيد أن قلبه ظل دائما لنا، وإنه يرى شرفا في انتسابه إلى الفرنسيين. إن أخلاقه تخون وطنيته عند الضرورة، وقد استطعت - حين كنت في حلب - امتلاكه قلبا وقالبا؛ فأصبحت علاقاتنا ودية خالصة بعد أن كانت ديبلوماسية بحتة.
وشاهدت أيضا هذا القائد يهتم شخصيا بالعمليات الهامة التي أمر بالتمرن عليها في غضون مدة طويلة، ليعلم الجيش - وكان قائده الأعلى - كيف يطعن الأتراك في ظهورهم. فهذه الخطة نفسها - المكررة مائة مرة - هي التي اتبعت في نيزيب.
إن المناسبة الوحيدة التي أعربت فيها سلطات بيروت عن قليل من اللطف كانت لدى وصول الأمير ده جوانفيل.
كنت على ظهر السفينة «إيفيجاني» عندما أتى الحاكم يقدم تحياته لسموه، وكنت أقوم بينهما بمهمة الترجمان. قام الحاكم بجميع أصول اللياقة التي سمح له بها مركزه. رجاه الأمير - بعد أن أعرب له عن امتنانه - في أن لا يكلف نفسه ما أزمع أن يقوم به من أعمال لأجل إجلاله وتكريمه، ولكن الحاكم أبى أن ينزل على إرادة ابن ملك الفرنسيس، وشاء أن يعرب له - بما تمكنه منه الحال - عن شرف قدومه الذي أفحم قلبه بالفرح والسرور؛ ولهذا أمر مدفعية حامية المدينة بأن تطلق واحدا وعشرين مدفعا إجلالا لمقام الأمير، ثم أحاط طريقه بسياج من الجنود ابتداء من المرفأ حتى القنصلية. كان يتقدم الأمير - وهو ذاهب إليها - فصيلة من الجنود يدقون الطبول وينفخون في الأبواق.
ثم أمر الحاكم أن يشيع الأمير كما استقبل، عندما خرج من السراي بعد أن قام بزيارته.
وغداة اليوم التالي قدم للأمير خيولا ليقوم بجولة في الجبل، ولكن الأمير لم يستطع التجول في لبنان بسبب انتشار وباء الطاعون فيه.
ولدى العودة إلى المدينة رأيت بدويا وقور الطلعة، فاخترته لسمو الأمير الذي يرغب في أخذ رسم عن اللباس العربي. إن عرب الصحراء قلما يؤمون هذه المدينة، ولكن القدر أرسل إلينا هذه الغنيمة الباردة، فأتى به أحد الجنود وأدخله قاعة الاستقبال.
كان معه رفيق كهل، فجلس على كرسي وهو لا ينفك يتطلع إلينا؛ فالأثاث الأوروبي الذي لم يكن قد رآه بعد شغل باله كثيرا.
وعندما انتهى الأمير من أخذ صورته شاء أن يكافئ العربي، ولكن البدوي رفض أولا قطعتي الذهب اللتين قدمتا له، وأخيرا قبلهما بعد إلحاح شديد، وخرج من القاعة قبل أن نعلم أنه أحد مشايخ قبيلة عنيزة، وقد جاء بيروت ليفاوض إبراهيم باشا في قضية ما.
شد ما تأسفت وتأسف الأمير لعدم معرفتنا هذا الأمير؛ فقد كان بوسعنا أن نستقبله بلطف متناه، رغم أن وقته لم يكن يسمح له بالبقاء إلا قليلا. ثم علمت أن أمه - التي كانت تحذره من زيارة القائد المصري - قد نذرت أن لا تتحلى بمجوهراتها أو تنام قبل أن يرجع إليها. وهذه الأم الحنون تعزت لدى رؤيته عائدا إليها سالما. لا شك في أنه قد خبرها عن رؤيته ابن سلطان فرنسا عن كثب، ولا شك في أنها تفاءلت بهذه الرحلة؛ فالالتقاء بأمير هو - عند الشرقيين - بشير بخير أو نذير بويل.
هوامش
الفصل الثالث والأربعون
معاملة المصريين لسكان لبنان
لاقت شعوب لبنان، من المظالم التي قام بها المصريون في سوريا، ما هو أشدها قساوة وهولا؛ ففي المدن تقرر نزع السلاح، وفرض التجنيد الإجباري، ودفع جزية الفردة، والسخرة. كانوا يلجئون إلى ذلك - سنويا تقريبا - كلما دعت إليه الظروف. بيد أن الذين كانوا يسكنون تلك المدن من مسلمين ومسيحيين لم يعاضدوا المصريين ولم يضحوا في سبيلهم بأي شيء - سواء أكان ذلك في الرجال أو في المال - ليساعدوهم في حروبهم ويشدوا أزرهم في غزواتهم الخارقة العادة، التي دعي إليها الشعب لبناء ما تهدم من بنايات عكا وقولق البوغاز وكرنتينة بيروت. فالجزية الشخصية (الفردة) التي فرضت عليهم قد حلت محل «البلصات» التي كانوا يعانونها في العهد التركي.
أما الجبل فكانت تكاليفه القديمة تزداد زيادة مطردة، وتسير سراعا في هذا المضمار الجديد، كان الأجدر بالمصريين - ليكونوا عادلين - أن يعفوا الجبل من هذه الضريبة الجديدة، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا، وكأن ما أحدثوه لم يكفهم حتى استمروا في استيفاء الضريبة القديمة التي لم تكن الضريبة الأصلية الشرعية، ولكنها تلك القيمة التي كان يضاعفها الباشوات بطريقة لا تمت إلى العدالة بصلة.
وكأن السلطات قد رأت ضرورة الاعتراف بخدمات الجبليين المخلصة، فشاءت - بادئ ذي بدء - أن تظهر بعض التساهل في جباية الضرائب. غير أنها ما لبثت أن فرضتها على الجميع غير مستثنية أحدا؛ فاضطرتهم إلى أن يدفعوا 2610000 قرش (625500 فرنك) موزعة على ثمانية وخمسين ألف مكلف؛ وبناء على ذلك يجب على كل رأس أن يدفع مبلغ خمسة وأربعين قرشا.
إن الرسالة التي نشرت بتاريخ 11 حزيران سنة 1840 تحتوي على جميع مطالب الموارنة والدروز اللبنانيين واحتجاجاتهم. وإني أرى أن أوردها هنا بدلا من التوغل في تفاصيل طويلة أصف فيها حوادث جرت وعرفها الخاص والعام بوضوح وجلاء تامين:
رسالة الجبليين الثائرين إلى الأمير أمين
تعرفون - كما يعرف ذلك جيدا الأمير بشير والدكم الجليل - مقدار ما يلاقيه أهالي جبل لبنان من اضطهاد وظلم، وما يؤدونه من ضرائب بعد أن حكم هذه البلاد جلالة محمد علي.
كنا أول من خضع له؛ فرجالنا انضموا إلى جنوده ليحاربوا معه في دمشق وطرابلس وحماة. وعندما تعاقبت ثورات صفد ونابلس وحبرون، وثورات المتاولة والنصيرية، كنا نحن الذين أخمدناها - بناء على أوامر الأمير بشير - بتغلبنا على العاصين وإخضاعهم لحكم الباشا. كانت هذه الخدمات تعللنا بحسن مصيرنا وتحسن أحوالنا، فكانت المكافأة الوحيدة لنا أن جردنا من سلاحنا وأكرهنا بالقوة على التجنيد، ورأينا من المظالم ما لا يسعنا أن نصفه دون أن نرتجف هلعا وخوفا.
كانوا يقبضون على نسائنا عندما نأبى دفع الضرائب، وبعد أن يشبعوهن ضربا يعلقونهن من أذرعهن بالأشجار حتى ندفع آخر فلس. وأجبروا عائلات إخواننا الذين ماتوا في خدمة جلالته نفسه على دفع ما تبقى على هؤلاء من ضرائب أثناء حياتهم.
وعندما عثروا على الفحم الحجري في الجبل أكرهونا على استخراجه لهم دون أن نمنح أقل بدل. وأجبرونا - فوق ذلك - على أن نقدم نحن جميع المعدات اللازمة لعمليات استخراج الفحم، ثم أقاموا علينا نظارا من الجنود، فمن لم يعمل أكرهوه بالعصا على الشغل، فأوجبوا علينا نقل الفحم ودفع جميع ما استلزمته المعدات وأخشاب البناء والأعدال من نفقات وثمن. أما هم فلم يدفعوا لنا إلا الربع، متغاضين عن النفقات التي ذهبت هدرا في سبيل تعويضات الأمراء والبلوكباشية المكلفين مراقبة سير الأعمال.
وعندما باشروا تشييد المحجر الصحي لاقينا نفس المعاملة التي عوملنا بها حين استخرج الفحم الحجري. إنه ليطول تعداد المظالم المخيفة التي لاقيناها، وأنتم تعرفونها جيدا مثلنا. لقد جعلونا بؤساء كفلاحي مصر، واقتادونا بشناعة ومذلة، لا بل ساقونا بالعصا.
فرضوا ضرائب جديدة على طواحيننا؛ فالبناءون والحدادون وجميع من هم بحاجة إليهم قبضوا عليهم وساقوهم إلى عكا والمحجر الصحي.
خربت بيوتنا وعوملنا معاملة سيئة؛ فلم نعد نملك مواشي ولا أموالا؛ فأولادنا جندوا وعبئوا في جيوش منظمة، وغلالنا أصبحت لا تكفينا بعد استيفاء الضريبة منا، وبهائمنا صودرت وسخرت، وأجبرنا على اقتيادها لهم بأنفسنا، حتى اضطررنا - تخلصا من هذا الجور - إلى قتلها عندما عجزنا عن بيعها خفية بأي ثمن كان.
وعندما تواثبت الويلات إلى عنق إخواننا في حوران ونشبت الحرب هنالك، أمدتنا الحكومة بالسلاح وبعثتنا لنخضع البلد الثائر، وقد قمنا بهذا العمل مرتين على التوالي، وكثيرا ما فقدنا من الرجال في هذه الحرب الظالمة التي خضناها رغما عنا، على أمل أن نستريح بعض الشيء من مصائبنا بعد خضوع البلاد واستسلامها. ولكننا خدعنا بلؤم، وكلفتنا هذه الحملة ألفي كيس، ما عدا الرجال الذين قتلوا.
وأخيرا لما كانت بيوتنا قد خربت ودمرت، وأولادنا ماتوا، ونحن نئن تحت نير عبودية ثقيل، ويستحيل علينا احتمال نكباتنا بعد، فإننا نود أن نموت أو أن نكون أحرارا. إننا نقاوم بقوة السلاح جميع الذين يريدون سحقنا.
نحن مستعدون لإيقاف مقاومتنا والخضوع؛ إذ لا نرمي مطلقا إلى إنشاء قوة مستقلة على حدة، بل نسعى إلى زحزحة النير عن أعناقنا فحسب. إننا لا نريد أن ندفع إلا مالا أميريا واحدا عن أملاكنا. فإذا قبل طلبنا وألغيت جميع المظالم والبلصات والضرائب وأعمال السخرة ... إلخ ... إلخ، التي لم نعرفها قبل الاحتلال المصري، فإننا نرجع عن عصياننا، ولكن لما كنا قد علمنا أنه ينبغي لنا أن لا نخدع بأقوال جلالته وبكتاباته، فنحن لا نلقي سلاحنا ما لم يكفل لنا ممثلو فرنسا وإنكلترا تحقيق هذه الشروط، حتى إذا لم تنفذ بحذافيرها تمكنا من استنجاد الدولتين الوسيطتين ومطالبتهما بحقوقنا التي تعهدتا لنا بحفظها وصيانتها.
وفي انتظار الجواب فإننا باقون على ما نحن عليه، فإذا كان الجواب بالإيجاب ومنحنا مطالبنا عاد كل منا إلى بيته، وإلا فخير لنا أن نموت من أن نظل في الحالة التي كنا عليها قبل إعلان الثورة. إنكم تعرفون الآن موقفنا وما عزمنا على القيام به، فلتحكم السلطة وتقرر ما تشاء.
أما الأمر الذي لم تأت هذه الرسالة على ذكره فهو أن أهالي الجبل - سواء أكانوا مسيحيين أو دروزا - قد عوملوا في المدن بقساوة كبيرة؛ كانت السلطات لا تفتأ تسخرهم هم ودوابهم. أمر متسلم بيروت ذات يوم بجلد فلاح قاده إليه الشيخ؛ لأن كوفيته خضراء اللون. وهذا الشيخ الذي اشتهر بتعصبه البالغ الحد، كان قد انهال ضربا على هذا الجبلي في السوق العامة بعد أن مزق له تلك الكوفية.
ثم إن هنالك أشخاصا آخرين ضربوا على مرأى من الجماهير لهذا السبب أو لأسباب أكثر تفاهة من تلك. ولأجل التخلص من هذه المآزق الحرجة؛ اضطر الكثيرون إلى بيع أملاكهم بنصف ما تساوي من ثمن حقيقي، ورحلوا إلى الجبل.
والذي آلم الجبليين أكثر من سواه هو عدم الثقة التي أعربت عنه الدولة المصرية عندما أمرتهم بإعادة الأسلحة التي وهبتهم إياها كمكافأة على خدماتهم الجلى في سبيل نصرة قضيتها. كان إبراهيم باشا قد سلم الأمير قبل مغادرته داره على أثر نزع السلاح، ألفين وخمسمائة بندقية، قائلا له: «احتفظوا بهذه الأسلحة لحين الضرورة. إنكم تعلمون لمن تسلمونها. إني أتكل عليكم.»
وأمر فوق ذلك أن لا يجرد الأمراء وزعماء القرى من سلاحهم.
كثيرا ما كان يقلق بال الأمراء أمر مصيرهم. خاب أملهم بثقة الحكومة المصرية بإخلاص الجبل لها؛ لأن مأموريها أظهروا لأهليه - في كل مناسبة - قساوة ونهما بالغي الحد.
اطلع أحد هؤلاء الأمراء - في ساعة مسامرة يعود فيها الفضل للخمرة - على أمر سري تلقاه قائد مصري، وهو ينتهي بهذه العبارة: «أمنوا فلانا وفلانا وفلانا على حياتهم مؤكدين لهم ذلك بالله، وبي، وبأبي، ومتى أصبحوا في حوزتكم بادروا إلى قتلهم حالا.»
وهكذا قلت ثقتهم فلم يعودوا يصدقون ما يوعدون به. إن العثمانيين لم يحلفوا قط باطلا، وإن انتقموا من الأشخاص الذي عفوا عنهم حين انتهزوا فرصة جديدة وانقلبوا عليهم.
تلاشى تقريبا نفوذ الأمير الكبير بعد نزع السلاح في إمارته، وكانت تصرفاته تدل على أنه فقد كل أمل باستعادة سلطانه. لقد شاخ وهرم، وكثر حوله أعداؤه، وتغيرت البلاد ومن عليها؛ فهذه العناصر الثلاثة أدت به إلى إرضاء السلطات المصرية في كل مناسبة لينهي أيامه بسلام، بدون مصيبة أو كارثة.
مر مثل هذا في عهد الأمير، في الفترة التي اضطرته إلى أن يستنجد بعبد الله باشا، عام 1826 على إثر ثورة الدروز، فسمحت الأحداث لهذا الباشا أن يقدر قوات الأمير الحقيقية ويعرفها حق المعرفة، فناهضه في بلده نفسه إذ ألف حزبا قويا تمكن دائما أن يتصرف به كيفما شاء.
كان عبد الله باشا ينتهز دائما جميع الفرص لإتعاب الأمير بشير؛ فخافه الأمير وانقاد له، ولم يعد يستطيع أن يقاومه بشيء؛ ولهذا حول الأمير وجهه شطر محمد علي منذ ذلك الحين. وعندما نال رضاه استفاد من دخول جيشه سوريا، فحاول استعادة سلطانه القديم. وعلى الرغم من إخلاف نائب الملك وابنه بوعود شتى، لم يحجم الأمير قط عن أن يظهر لهما إخلاصا أعمى. لم يكن يراعي أحدا في سبيل رضاهما وكان ينكر على جميع الناس حقوقهم إذا تعارضت ومصلحة صديقيه، ظانا أن شكوى الناس منه لأجل ذلك تكسبه عطفهما ونصرتهما.
ومن الإنصاف أن أقول هنا إن محمد علي لم يخب ظنا في شعوره الحقيقي بما يكنه له الأمير بشير، وإن لم يحقق إرادته بكاملها؛ ولهذا السبب أرسل - إبان تجريد الجبل من سلاحه - أحد وزرائه ليعاون إبراهيم باشا في مهمته، ويمنعه من أن يعامل الشعب الذي فتح له أبواب سوريا بقساوة وعنف. وقد رأينا أن الأمير لم يراع ولم يلتفت إلى الشعب إلا بعض الشيء.
وقبل القيام بنزع السلاح، لا بل قبل أن يكون هذا الأمر موضوعا يشغل بال الجميع، أمر القائد العام المسيحيين أن يلزموا السكينة معتمدين على رعاية نائب الملك خاصة.
والسفارة الإنكليزية في القسطنطينية نصحت الأمير عام 1836 أن يتصرف وفقا لرغبة السلطان. ثم إن عدة ضباط من الروس كانوا يظهرون، بين آونة وأخرى، في سوريا ليمدوا أصابعهم إلى بعض الشئون؛ فأحسست حينذاك بما كان يضمر الأمير من شعور وما يحس به من حرج الموقف.
وأخذ الشعب آنذاك يدبر المؤامرات في الخفاء ويعد الخطط. فالموارنة - بعد ثورة حزيران عام 1838 - انفصلوا تماما عن الدروز، والدروز الذين يناهضون الأمير بشير اضطروا بطبيعة الحال إلى أن يوالوا السلطان؛ لأنهم كانوا يرون في مقامه وحده أمل استعادة السلطة التي كانت لهم قبل سقوط الشيخ بشير جنبلاط الشهير. فابن الشيخ بشير وعدد كبير من أعيان الطائفة في القسطنطينية كانوا يؤملون مشايعيهم في لبنان برجوع السلطة إلى أيديهم.
1
وعلى الرغم من ذلك فالمسيحيون هم أول من ثاروا على السلطة المصرية؛ لأنها أمعنت في ظلمهم. «إنه لمن الخطأ - يقول السيد بوجولا - الاعتقاد بأن جميع الشعوب السورية التي كانت في هيجان منذ عشر سنوات لم يدفعها إلا غريزتها وميلها الفطري إلى إعلان الثورة. يجب أن لا نعتقد أن الشعوب هنا تحركها خساسة في الفكر، ومطامح في السياسة، وغاية في النفس؛ فعندما يحمل الرجل سلاحه في هذه البلدان، وعندما يترك سكته، وجمله، وخيمته، فذلك يعني أنه هدد، وانتزعت راحته، وهضمت حقوقه، وديست كرامته.
فالثورات المتعددة التي شهرتها جميع بلدان سوريا هي احتجاج شرعي محق ينهض في وجه الحاكمين الجدد الذين أتوا من الأهرام والقاهرة، وهؤلاء الموارنة الكرماء النفس، الذين اكتسبوا عطف أوروبا، لا بل أقول هؤلاء الجبليون المحقون الذين لا يتطلبون إلا قليلا من الراحة والسكينة، فمن يمكنه أن يظن أن ما يدفعهم إلى مقاومة عدو منصور، مخيف في انتقاماته، هو ناتج عن غير قنوطهم المرير؟»
ومع ذلك فقد قبل الموارنة بإلقاء السلاح على إثر عروض الصلح. إلا أنهم عادوا إلى عملهم لما أتى بعض الجواسيس من القسطنطينية - وكانوا يعرفون مبلغ حبهم لفرنسا - وطلبوا منهم باسمها متابعة القتال.
فأول ثورة قاموا بها نتجت عن العود إلى محاولة نزع الأسلحة ثانية، وكان من حق الموارنة أن يحتفظوا بها إلى الأبد، فالتفكير بنزع السلاح والإقدام عليه أحدث ضجة أخافت اللبنانيين إلى أبعد مدى ، ثم إن مصدرا ما أكد أن الحكومة المصرية تنوي جباية ضرائب أربع سنوات دفعة واحدة، وهي عازمة على تجنيد المسيحيين، وقد مهدت لهذا العمل الخطير بنزع السلاح ليصبح الشعب أعزل. وهل هنالك سبب أوجه من هذا يمكن أن يدعو إلى انفصام عرى تحالف الحكومة المصرية والموارنة؟!
أما الثورة الثانية فقد أثارها - كما سبق لي أن قلت - أناس أتوا يستفزون اللبنانيين زاعمين لهم أن فرنسا التي لها بعض المصلحة في موقفهم قد قررت أن تخرجهم من هذا المأزق الحرج، وأنها ستعمل في سبيلهم. وعلى كل حال لم يكن الموارنة يتجرءون أن يثوروا على السلطة المصرية لولا أن قنوطا لا يقاوم قد استفز شجاعتهم. فحكمة المسيحيين والانتقامات المخيفة التي لاقتها الشعوب الثائرة كانت تحول دون ذلك.
إن سكان لبنان هم الذين استقدموا المصريين إلى سوريا، وسكان لبنان أيضا هم الذين اضطروهم - فيما بعد - إلى الرحيل عنها. «إنها مقاومة عادلة لا بد منها. قال السيدان دي كادلفين وبارو كما لو كانا يتنبآن عما سيحدث. فالحاكم الذي يتخذ الشعب وسيلة لمضاعفة سيطرته وتقوية نفوذه، لا يمكنه أن يستخدمه طويلا دون أن يصبح هو بدوره سببا لثورة هذا الشعب، وسبب انقلاب أشد وأكثر طولا من أيام حكمه.
فليواصل محمد علي الطريق التي اختطها لنفسه. إن مهمته شاقة، واسعة النطاق. كان عليه أن يهتم بتحسين حالة الشعوب الخاضعة له فيريحها، وهي بحاجة إلى الراحة، ويفك أذرعها من عقالها لتتعاطى أعمال الصناعة والزراعة وتنهل من منابع المدنية الأوروبية.»
2
إلا أن جميع هذه الكلمات الطنانة كانت عديمة الفائدة؛ فالمصريون لم يصغوا إليها لا في سوريا ولا في بلادهم؛ بدليل رحيلهم عن البلاد التي لم يطردوا منها بقوة السلاح، بل بتفاعل حنق الشعوب وغيظها.
وعلى الرغم من أن السيدين ده كادلفين وبارو يميلان - على ما يبدو - إلى اغتفار الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة المصرية في سوريا، فإنهما نعيا عليها خطتها وتصرفاتها. لقد خبرانا بكلام يشبه الإلهام عن سقوط سلطة الحكومة المصرية، فبينا أسبابه بقولهما:
3
ما من شيء أصعب من وراثة أعمال تلك الإدارة البغيضة؛ فحكومة نائب الملك التي قامت في ظرف غير ملائم لم تكن تخشى تفاقم خطر الجزية والتجنيد المطبقين في مصر على بقعة تدل سكانها وتربتها على كثير من الاختلافات الملموسة. فهذه الإجراءات قوضت آمال السوريين وخلقت فيهم نزعة جديدة؛ هي مقاومة السلطان والحيلولة دون توطيد أركان حكمه لأنهم يتوقون إلى الاستقلال، ولأجل تحقيق هذه الغاية فتحوا للغزاة أبواب بلادهم. إن تلك الإجراءات والتصرفات دفعت إلى العمل زعماء الجبال الذين رأوا أنفسهم - وهم المعتادون على نوع من المعيشة الفوضوية وعلى أعمال السلب والنهب في عهد باشوات الباب العالي - تحت ضغط سلطة جديدة أكثر عنفا وأشد صرامة ودقة في تطبيق النظام من الدولة التركية.
هوامش
الفصل الرابع والأربعون
أسباب ثورة الجبل - الحوادث الأخيرة. ***
عندما بدأت بكتابة ملاحظاتي وآرائي التي جمعتها منذ مدة طويلة عن بيروت ولبنان، كنت أنوي أن أختمها بنبذة مقتضبة عن الحوادث التي تلت تدخل الدول الثلاث لإعادة نفوذ السلطان إلى سوريا. إلا أنني - بعد تفكير طويل - رأيت أن أقتصر على الملاحظات التالية: (1)
إن ملخصا بسيطا لا يكفي، ولو كنت لا أريد بحث مساوئ هذا التدخل الذي لا يحق لي التنبؤ بما سيئول إليه. (2)
إن القضية تتعلق بحوادث استطاع الجمهور أن يحكم عليها تبعا لمشاهداته لها. قد لا تكون هذه المشاهدات صحيحة كل الصحة، إلا أنها تمكنه من تكوين فكرة خاصة عنها. (3)
كان يتوجب علينا - لتنوير أذهان الجمهور على أكمل وجه وتصحيح أفكاره - أن نعرض جميع هذه الحوادث بدقة. إلا أن ذلك لا يأتلف مع خطة هذا الكتاب؛ فليس هدفنا فيه أن نروي أخبار الحوادث السياسية التي وقعت في بيروت ولبنان، وإن كان هذان البلدان موضوع بحثي ووصفي. (4)
وأخيرا، يجب على الرجل ها هنا أن لا يجاهر أبدا بآرائه خشية أن تتعارض وواجباته.
ثم إن إحدى السلطات قامت بذلك فتكلمت بجرأة؛ فكانت موضوع تذمري وانتقاد الكثيرين نظرا لتصرفاتها الغريبة. فالإجراءات التي يتخذها الحكام الكبار لا يستطيع موظف بسيط أن ينالها بالانتقاد؛ ولهذا أدع لغيري من بعيدي النظر رثاء ضعف الفرنسيين في تدخلهم بقضايا سوريا.
رأيت أن أكتفي بنشر اثنين من القطع الكثيرة التي جمعتها. فالأولى تشتمل على أسباب ثورة الجبليين الموارنة، والثانية تعرض الحوادث التي تلتها عرضا صحيحا دقيقا.
مقتطف من رسالة كتبت في طرابلس بتاريخ 28 تموز 1840
أما الماضي فتعلمون عنه الشيء الكثير، فما إن سمع الجبليون البؤساء بحديث ضريبة «الفردتين» المفروضة عليهم، وتجريدهم من سلاحهم، وتجنيد أولادهم الفتيان، حتى أخذوا يتذمرون ويبدون ميلا للثورة.
فبعض المشايخ الذين ظلمهم الأمير رفعوا أصوات الشكوى إلى بيروت، وبلغت استغاثاتهم آذان بعض الفرنسيين الشباب وقلوبهم، ومن بينهم ابن الكونت ك ... خيل إلى هؤلاء أنهم رجعوا إلى عهد الفنداليين أو أيام تحرر الروم؛ فاستقدموا إليهم هؤلاء المشايخ وزودوهم ببعض النصائح مع شيء من المال والرصاص والبارود، وبثوا لهم الجواسيس في جميع أنحاء الجبل يدعون الشعب إلى الثورة بترويج أكاذيب لا يشك أحد بصحتها؛ لأنهم أجادوا تصنيفها وأحسنوا تلفيقها. ولما كان الشعب الماروني لا يحب الحروب بطبيعته، اقتضت الحال إيجاد دوافع قوية تستفزه وتدفعه إلى الثورة، وإليكم ما استخدموه من أساليب:
قالوا: أوفد ملك فرنسا أميرا إفرنسيا هو السيد أونفروي (ابن أخت الملك) لينبئ الأهلين بأن أربع بوارج حربية ضخمة تنقل الأسلحة والبارود والجنود والمال ستصل إلى بيروت في غضون ثمانية أيام، وأن الأمير أونفروي المذكور يتولى قيادة أبناء الزوق. وبالوقت نفسه شاع في جبة بشري أن جيشا يتألف من عشرة آلاف جبلي، مصطحبا مؤنا لا تحصى، يقف على أبواب بيروت، وأن كل متطوع فيه يقبض مبلغ قرشين ونصف عن كل يوم علاوة على ما له من أجر.
ولكن جميع هذه التخرصات والأحاديث الملفقة كانت غير كافية لإثارة همة الموارنة؛ فهم يخشون - كما يقال عنهم - ارتكاب خطيئة مميتة بقتلهم رجلا. فما بقي إذن إلا أن يقولوا لهم: إن الحرب هي حرب مقدسة ، وإن الأمير الفرنسي يحمل رسالة من قداسة البابا إلى غبطة البطريرك يأمره فيها أن يمنح الغفران الكامل لكل من يحارب الباشا، وإن صاحب الغبطة البطريرك أذاع منشورا يمنح فيه البركة الرسولية لجميع الذين يحاربون العدو، و«يحرم» من يتخلفون عن هذا القتال.
هذه هي الأراجيف التي تقدمت جواسيس بعض المشايخ؛ فكان لهذا الأمر أثر فعال في النفوس، فتجمع حولهم بضع مئات من الرجال، ومشوا يهددون بهم القرى التي تأبى الانضمام إليهم. وفي نهاية الشهر، وبعد ترويج عدد لا يحصى من الأكاذيب، توصلوا إلى حشد جيشين وربما ثلاثة جيوش. أما أنا فلم يبلغني شيء أكيد عن جيش زحلة.
كان يتألف كل جيش من حوالي ثلاثة آلاف رجل؛ فأحدهما رابط قرب بيروت، والثاني قرب طرابلس. وكان جل هؤلاء الجنود المزعومين عزلا من السلاح، ونصف المسلحين منهم ليس لديهم رصاص وبارود، والذين استطاعوا منهم أن يستعملوا بعض الأسلحة كانوا عددا ضئيلا جدا. وكان في كل معسكر سبعة أو ثمانية مشايخ متضاربي النزعات والمآرب، وذوي مصالح مختلفة. أما المال فما كان لديهم منه شيء.
فالذين لم يبعدوا عن قريتهم إلا مسافة ثلاث ساعات أو أربعا كانوا يغشونها ليلا باحثين عن شيء يأكلونه، أما الباقون فكانوا يعيشون من السلب والنهب. وظل هذان الجيشان مرابطين حوالي شهر كامل لا يأتيان عملا إلا بضع مناوشات مع جنود المدينة كانوا يقومون بها من حين إلى آخر.
وهذه المعارك الصغيرة كان يفوز بها الجبليون لأنهم لم يقاتلوا إلا وهم يتقهقرون معتصمين وراء الصخور، أما أعداؤهم الذين اضطروا إلى تعقبهم - وفقا للأوامر - فكان يجب عليهم أن يتقدموا أبدا إلى الأمام؛ ولهذا كان عدد قتلاهم أكثر من قتلى أولئك وأضخم.
لست أتناول في حديثي هذا إلا مدينة بيروت. أما جيش زغرتا الواقف قرب طرابلس فقام بهجمتين لا غير انهزم فيهما انهزاما شنيعا؛ فالشيخ بطرس (كرم) كان يرفض دائما الاشتراك في هذه الثورة، ولكن أهالي أهدن - وأكثرهم نزل إلى ساحة القتال رغما عنه - ظلوا يضطهدونه ليل نهار، طوال شهر كامل، حتى أجبروه أخيرا على بعث ابنه مخايل إلى المعركة في اليوم الذي حصلت فيه الهزيمة المنكرة الأخيرة؛ وهكذا أرغم سائر مشايخ الجبة على الاشتراك في هذه المعركة؛ لأن أتباعهم كانوا يطاردونهم مسلحين ، ويلحقون بهم إلى عقر دارهم.
مقتطف من جريدة
Les Débats
بتوقيع السيد غزافيه ريمون
1
في أواخر شهر آب 1840 عندما قررت الحكومة الإنكليزية أن تحشد قواها لمحاربة محمد علي، استدعي الأميرال جون لويس إلى نظارة ترسانة مالطة، بينما كان السر شارل نابير يتلقى الأمر بتخليه عن دفة القومودورية لقيادة أسطول مؤلف من أربع بوارج ومباشرة أعمال حربية على شواطئ سوريا. إنه من المؤسف جدا أن لا ينبئنا السر شارل نابير - الذي يحتمل أن يكون عرف سر هذا العمل - عن الأسباب التي حملت الوزارة الإنكليزية على اتخاذ مثل هذا التدبير في مثل هذه المناسبة. على أن السير نابير الذي كان باستطاعته أن يعلمنا بذلك لم يفكر بالأمر البتة؛ فالمستندات العديدة التي أتى على ذكرها في كتابه لم يروها إلا تصديقا لمزاعمه، وتعظيما لكفاءته الشخصية. ويبدو أنه لم يخطر على باله أن أوروبا يهمها غير معرفة ما أتى من أعمال تشرفه في حقلي السياسة والبحار.
فالقضية إذن لا تزال على جانب كبير من الغموض. وأنا لن أدعي أني سأحلها، ولكنه يمكن الاستنتاج - على وجه معقول - من جميع الوقائع التي ذكرها السر شارل نابير في كتابه، أن الوزارة في لندرة قد دهشت وشعرت أنها أجبرت على العمل مدفوعة بما تعرفه من سياسة السيد تييرس
Thiers
وبنتائج سياسة اللورد بونسونبي السرية حتى على الحكومة. فإلى هذا السياسي غير المنازع في براعته، والذي برهنت أعماله عن بغض عنيف لمحمد علي، يجب علينا - على الأرجح - أن نعزو مسئولية السياسة الإنكليزية.
أليس من الغرابة بمكان رؤية سفير يعمل بدون أمر من حكومته أو يعمل عكس ما تأمر به؟ بيد أن ذلك أمر واقع، والسير شارل نابير يشير إلى ذلك أكثر من عشرين مرة في كتابه، والسيدان وود ومور اللذان أضرما نار الثورة في الجبل ما هما إلا من الأخصاء المقربين من اللورد بونسونبي. فلماذا إذن لم يستدعيا؟ وعلى الرغم من أن الحكومة الإنكليزية زجت في المعترك رغما عنها، لم يكن باستطاعتها، في الحالة التي كانت بها الأوضاع والخواطر، أن تعنف سفيرها على تصرفاته فتنكر ما نسب إليه. وهي لو فعلت لكان يعني ذلك تراجعها، فضلا عن أن اللورد بونسونبي عرض نفسه أكثر من مرة واحدة لتنبيهات قاسية توجهها إليه حكومته.
أما الزعم بأن وزارة حزب «وايغ» في لندرة قد دهشت لدى وقوع هذا الحادث، فهذا كلام لا ريب فيه. ويمكننا أن نؤيد هذا القول بعدة براهين، وليس ثمة براهين على ذلك أبلغ من حالة الأسطول الإنكليزي عند توقيع معاهدة 15 تموز وخلال الشهر الذي تلا هذا التوقيع، فعندما تلقى الأسطول الأمر بالتحرك كان الفصل قد تقدم كثيرا، وكانت السفن الإنكليزية مبعثرة هنا وهنالك في البحر المتوسط، وكان الأميرال ستوبفورد في مالطة على رأس قسم من بوارجه. أما القسم الآخر فكان في فورلا، وكان السير شارل نابير عائدا مع بارجته إلى مينائه القديم في أزمير حين التقى على شاطئ كاراماني المركب البخاري الذي أمره بالتوجه للمرابطة أمام بيروت. وكانت بحارة جميع هذه البوارج دون المعدل المطلوب عددا. وكان ينقص الدارعة «البرنسيس شارلوت» ربع بحارتها المسلحين المتأهبين للحرب. ولكي يجدوا ألفا وخمسماية بحار يقومون بأعباء الحملة كان لا بد لهم من أن يفتشوا عنهم في جزر بحر أيونيا ومالطة وجبل طارق، وكان الأميرال النمسوي في أزمير يقود بارجة واحدة، أما الأتراك - وكان يتوجب عليهم على الأقل أن يكونوا في الخط الأول - فلم يكونوا على أقل استعداد، بل كانوا يفتقرون إلى الرجال والبوارج والأعتدة.
وإليكم بيانا بما كانت تتألف منه قوات الدول المتحالفة في هذه المغامرة:
كان الأسطول الإنكليزي في البحر الأبيض المتوسط يتألف من اثنتي عشرة بارجة قتال، وثماني بوارج خفيفة، وخمسة مراكب بخارية، وقد استقدم ألف وخمسماية بحار على عدة بواخر نقل. وكانت هذه الفرق المعدة للنزول إلى الشاطئ بدون قائد؛ فحملتهم سرعة العمليات البحرية التي قاموا بها على أن يعينوا على رأسها ضابطا كان يومذاك مريضا في جبل طارق، فلم يتمكن من الاتصال بها إلا بعد انتهاء القتال الفعلي.
أما الأسطول النمسوي الذي كان معقود اللواء للأميرال بانديارا، فكان يتألف من عمارتين كبيرتين، ومركب ذي صاريين، ومركب بخاري. وقد تمكن هذا الأسطول من إنزال مائة مدفعي إلى الشاطئ، وهذا هو النصيب الذي ساهمت به النمسا.
أضف إلى ذلك بارجة تركية كان يقودها القبطان ولكر، وهو من أبرز ربانية البحرية البريطانية. والبارجة «فوكوارد» التي كان يقودها قبل أن تصبح في خدمة تركيا، تركت ذكريات طيبة في سجل أعمال الأسطول الإنكليزي. أما العمارة «مقدمة الخير» التي كان يرفرف عليها علمه، فقد كانت حسبما يقول السيد هنتر «رمزا واضحا لحالة المملكة العثمانية الحاضرة. كانت عتيقة بالية تتصاعد إليها المياه من كل جانب، ولا يجرؤ أن يصعد عليها إلا أشجع البحارة وأبسلهم.» ومع ذلك فهي العمارة الوحيدة التي بقيت للسلطان؛ إذ إن جميع البوارج الأخرى قد سلمت إلى محمد علي على إثر خيانة رئيس الأسطول العثماني. وجد ولكر بك هذه السفينة الحربية في مرفأ «سانتيجي» تتقاذفها الأنواء، وكانوا يعتبرونها غير صالحة للإبحار فأهملت منذ عدة سنوات. ولكن مقدرة هذا القائد وسعة علمه مكنتاه من إصلاحها قدر المستطاع، فاقتادها حتى أرساها أمام بيروت.
أما البحارة فكانوا أغرب مزيج من المخلوقات يمكن أن يتصوره الإنسان. إننا لا نستطيع تخيل هذا المزيج وتصوره ما لم نر بأم العين أسواق القسطنطينية؛ فمن هنالك أتى هؤلاء البحارة. كانوا من الأتراك الحقيري البنية، المضطربي الأعصاب، التائهي النظرات، ومن باعة الثلوج أو الإسفنج، ومن خدام الحمامات، والبقالين ... إلخ، وكان يبلغ عددهم حوالي الثمانماية رجل يضاف إليهم مائة رجل ذوي بنية أشد وأكثر منهم تيها من طبقة الفلاحين والمتشردين. وعلى كل لم يكن بين هؤلاء أكثر من عشرين رجلا سبق لهم أن نزلوا إلى البحر. أجل، مع هؤلاء البحارة التعساء قضى ولكر بك جميع لياليه مرتديا ثيابه.
وكانت تتبع هذه البارجة قافلة تنقل أولى الفرق، وهي تتألف من خمسة آلاف وثلاثماية جندي تركي، يقودهم الجنرال جوكنوس. ويقال إن هذا الرجل هو رجل ثوري شعبي من أصل هانوفري، أخذ يطوف العالم مدافعا عن الحرية، على إثر خلاف حصل بينه وبين حكومة بلاده. ساهم في أعمال حملة البرتغال برتبة ضابط في معسكر دون بيدرو، وظل ينتقل من مغامرة إلى مغامرة حتى أدرك أخيرا القسطنطينية وتطوع فيها، وهو اليوم حائز على رتبة فريق أو قائد فرقة. وفي عداد ضباطه واحد كان يدعى عمر بك، وهو مرتد نمسوي انتدب اليوم حاكما على لبنان. فهذا الرجل هو الذي كان سبب الحرب الأهلية التي خاضها الدروز والموارنة، والذي أوقف بخساسة ومكر زعماء الدروز على إثر مأدبة دعاهم إليها.
وكان سر عسكر هذه الجيوش، وحاكم سوريا من قبل السلطان، عزت محمد باشا، وقد أصبح مذ ذاك صدرا أعظم، ثم فقد حظوته عند السلطان، وهو هو الذي دافع ببسالة عن «فارنا» ضد الروس ليكلفهم ما طمحوا إليه ثمنا أغلى - على ما يقال. إنه تركي من المدرسة القديمة، يهيم بجمع المال؛ ففي اليوم الذي سقطت فيه بيروت كان أول ما فكر فيه أن يفرض على المدينة سلفة قدرها عشرون ألف قرش تدفع ظهر اليوم التالي. والقومودور لا يحترمه بدليل ما كتب إلى اللورد بالمرستون قال: «إذا كان جميع الباشوات كالذي أوفده إلينا، فالشعب ها هنا سيكون أكثر بؤسا وتعاسة عما كان عليه في عهد محمد علي.» ثم استطرد يقول: «فهذا الباشا هو أقبح رجال العالم، فإذا لم يبعدوه، فما من شك بأن كارثة ستحل.» بيد أن القدر شاء أن يحقق أمنية القومودور. فما إن انتهت المعركة - وهي معركة واحدة اقتضتها جميع أعمال الحملة ضد إبراهيم باشا - حتى ابتهج الأتراك لظفر الإنكليز، فأخذوا يحيون نصرهم بطلقات نارية قوية، والباشا كان قدوة للناس في إبداء فرحه بلسان الرصاص والبارود. واتفق أن عثرت به فرسه، فانطلقت رصاصة من مسدسه، فاخترقت فخذه.
فصاح القومودور: «يا للأسف! ليته أطلق هذه الرصاصة على رأسه!» فعاد عزت محمد باشا إلى القسطنطينية ليتداوى. «بيد أنه عندما ذهب، يقول السيد هنتر، استصحب صندوق مال الجيوش التركية.»
تلك كانت جميع وسائل الدول المتحالفة؛ فالجيوش التركية التي وصلت على التوالي حتى بلغ عددها رقما يتراوح بين الخمسة عشر والثمانية عشر ألف رجل، لم تصل إلا بعد الاستيلاء على عكا. أما بروسيا وروسيا فلم تقدما شيئا من البواخر والجنود، ولم تدفعا فلسا واحدا، ولا قدمت للجبليين الأسلحة الضرورية في بدء الأعمال الحربية. فلو كانت الوزارة الإنكليزية - وهي التي تحسن تقدير الأمور وعواقبها وتعد لها العدة - قد درست بتأن وتبصر معاهدة 15 تموز، والحملة التي نتجت عنها، لما خاطرت بنفسها وسيرت تلك القوات بهذه الأعتدة الهزيلة لتحارب عدوا كان يبدو أنه قوي.
وإليكم بيانا بما كانت تتألف منه قوات نائب الملك:
في مرفأ الإسكندرية كانت ترابط ثماني عشرة سفينة قتال، وست بوارج كبيرة، وحوالي عشرين عمارة خفيفة، وعدد كبير من المراكب البخارية. وكان هذا الأسطول مسلحا بعدته الكاملة، وكان بحارته على استعداد للحرب.
أما سوريا فكان يعسكر فيها جيش يراوح عدد رجاله بين ثمانين وتسعين ألف مقاتل، منهم عشرة آلاف خيال مجهزون أحسن تجهيز. وكانت المدفعية التي تتألف من مائة وست وستين قطعة في حالة حسنة، وإذا أضفنا إلى هذا الجيش ما كان لدى إبراهيم باشا من الجنود غير المدربة، يجب علينا أن نجعل عدد قواته مائة وعشرة آلاف مقاتل،
2
وهذا عدد كاف لجيش قوي المعنويات لم يكن قد مني بعد بأية هزيمة، بل كان يحالفه الانتصار الباهر أينما حل وتوجه.
وكان في مصر جيش ثان يتألف من حوالي أربعين ألف رجل.
ثم إن الباشا كان يقاتل في بلاده، وهذه أسبقية يجب أن يحسب لها أكبر حساب؛ فحالة الطقس كانت تلائمه وتساعده لأنه ألفها وتعودها. وأخيرا، فهناك أسطول فرنسي مرابط في تلك المنطقة وقد قام بعمليات - عن قصد أو عن غير قصد - من شأنها أن تقلق الضباط الإنكليز.
فماذا نقول عن العمليات الحربية إذا سلمنا أن هنالك عمليات حقيقية؟ إن الأميرال ستوبفورد - الذي عينته الدول المتحالفة قائدا عاما للقوات البحرية والبرية - لم يتلق أمرا واحدا. إنه لم يتلق منها ما يرشده إلى ما يجب أن يقوم به؛ فكان أقصى همومه أن يحتل مدينة ما، يمكنه أن يقضي فيها مع بحارته وجنوده أيام الشتاء ليبدأ من ثم حملته عمليا في أوائل فصل الربيع من عام 1841.
ومع ذلك فهنالك أعمال يجب أن يقام بها أثناء هذه الأيام الباقية، ألا وهي إعداد الجبليين وتسليحهم. وخير نقطة تلائم هذا العمل هي مدينة بيروت، ولكنها في يد سليمان باشا الرابض بها على رأس جيش يتألف من 12000 رجل، فليفتش إذن عن موقع آخر.
على بعد ثلاثة فراسخ تقريبا - شمالي بيروت - يوجد خليج جونيه المنبسط عند أقدام أكمات وربى وعرة، يحميه من جهة بيروت نهر الكلب الذي شق طريقه في وسط الجبال العالية والأودية التي لا تقطع. فعلى من يحاول قطع هذه الطريق الممتدة من بيروت إلى جونيه أن يعبر على جسر ضيق معلق في الهواء، يقع عند المصب. تستطيع عمارة أو عمارتان أن تسد هذه الطريق بوجه سليمان باشا، فيتوجب عليه - إذا شاء مهاجمة الجيوش النازلة في جونيه - أن يتوغل في البلاد ليقوم بحركة التفاف واسعة النطاق تراوح مسافتها بين الخمسة عشر والعشرين فرسخا.
اختير خليج جونيه موقعا لإنزال الجيوش، ولأجل نجاح هذه الخطة قام الأسطول الإنكليزي بمحاولة هجوم شكلية على بيروت، فشغل سليمان باشا بالمدافعة عن هذه المدينة.
كادت هذه الخطة المرسومة أن تنجح أكبر نجاح، ولكن الأميرال ستوبفورد الذي أقلقه الأسطول الفرنسي وبوارج محمد علي - وكانت ثماني عشرة بارجة - ما لبث أن ابتعد عن الساحل مصطحبا قسما كبيرا من أسطوله. وخلال غيبة السر شارل سميث - وكان آنذاك مريضا، وقيل إنه كان منصرفا إلى وضع خطة علمية للعمليات التي بدأت - ظل القومودور مرابطا على شاطئ جونيه مع بضع عمارات، وقيادة معسكر جونيه. ولكنه لم يضع وقته؛ فبينما كانوا يقومون بالتحصن حوله، كان هو يوزع الأسلحة والذخائر على الجبليين، ثم بعث بوحدات من أسطوله لتهاجم جبيل والبترون وصور؛ هذه الفرضات غير المحصنة. فسحقت مدفعية البوارج الحربية الحفنات القليلة من الألبانيين المنسيين وراء جدرانها ، لا المستعدين للدفاع عنها.
واغتر الأميرال بهذه الانتصارات فحدثته نفسه بمهاجمة صيدا؛ المدينة الهامة، راجيا - كما زينوا له - أن تقضي فيها جيوشه فصل الشتاء. وهنا اشتدت المنافسة بين السر شارل نابير وقائد البارجة «ثوندور» - وهو سليل عائلة بركلي الشهيرة - فطلب أن يقود هذه الحملة: إنه لا يريد أن يترك شيئا لسواه. وبعد قصف صيدا بنيران المدافع حوالي نصف ساعة، نزل إلى البر على رأس فرقة تركية وفرقة من جنود البحرية؛ فهزم الحامية المصرية.
لم نمن في هذه المعارك بسوى خسائر طفيفة؛ فالعدو لم يكن يظهر له أي أثر في مكان ما. وكان القومودور يلح على الأميرال بوجوب توسيع نطاق عملياته، فأجابه السر روبير ستوبفورد: كلا، أخشى أن يعوزنا الحديد والنار، وخير من ذلك أن نحشد جيوشنا في نقطة معينة. أما القومودور فكان يرى غير هذا الرأي، فاعتمد على كونه عين قائدا موقتا للجيوش وتسلل إلى الجبل.
وبماذا كان يهتم حين ذاك إبراهيم باشا؟ لا نعلم شيئا عن هذا؛ فالعمليات ابتدأت في أوائل شهر آب، وها نحن في أوائل تشرين الأول، فما فعل خلال هذه الفترة؟
بينما كان الناس يعتقدون في أوروبا - وهذا ما زاد القضية إشكالا وتعقيدا - أنه يتوجه إلى القسطنطينية على رأس ثمانين ألف رجل تاركا وراءه بعض الفرق لتحمي الجبل، كان الباشا - كما أنبأتنا أخبار الإسكندرية اليومية - يحشد جيوشه. فمن يستطيع التكهن إذن عن هذا العمل، وعن غاية القائد الذي يعتبرونه ذا مقدرة حربية لا تضاهى؟
إن قائد القوات المتحالفة لم يعلم إلا حوالي اليوم الثامن من تشرين الأول أن إبراهيم باشا يزحف إلى جونيه على رأس جيش صغير يتألف من ثلاثة آلاف رجل، وهذا هو الجيش الذي استطاع أن يؤلفه، بعد جهود شهر كامل، من فلول جيشه الضخم.
استغرب القومودور هذا النبأ كل الاستغراب، وباشر من ثم العمل حالا. كان يتقدم نحو العدو ظانا أن سليمان باشا على مقربة منه، وأنه إذا أعطاه الوقت الكافي لينضم إلى إبراهيم باشا فسيبلغ عدد جيشيهما خمسة عشر ألف رجل. رأى أنه يستطيع التغلب على إبراهيم باشا وحده، وما من شك في أن نتيجة النصر ستؤثر على الجيش المصري المهدم المعنويات، فلاقى إبراهيم باشا على رأس جيش مؤلف من أربعة آلاف رجل من الإنكليز والأتراك والمصريين الفارين من الجندية.
أقلقت بال الأميرال هذه الحركة الجريئة والمعقولة معا، فبعث إلى القومودور برسائل يتلو بعضها بعضا، يسأله فيها بلهجة الرجاء والحب أن يحارب مندحرا؛ فكان جوابه دائما: إلى الأمام.
أوضح خطته للسر روبير ستوبفورد، ولكي يهدئ من روعه حدثه عن الانتصارات التي لاقاها الأمير القاسم على المصريين. فأجابه الأميرال: أن الأمير رجل شجاع، ولكنكم تخاطرون كثيرا بنفسكم.
لم يأبه القومودور نابير لهذه الآراء، بل ازداد نشاطا لأن ظروفا مؤاتية حثت خطاه؛ فالسر شارل سميث شفي من مرضه، وعاد إلى معسكر جونيه ليقوم بأعباء القيادة؛ فلا بد - إذ ذاك - من تخليه له عنها، وهذا ما حدث فعلا؛ فقد أنبأه ستوبفورد بذلك وأمره بالانسحاب، ولكن الأمر بلغه متأخرا، فقد كان القائد الموقت قد صار وجها لوجه مع العدو في بحرصاف على قمة جبل ذي ثلاث طبقات. استحث السر شارل نابير جنوده، وبعد فترة تردد فيها الأتراك، استولى على الموقع، ففر إبراهيم باشا على رأس كتيبة من الخيالة، ثم لم تر الجيوش المتحالفة وجهه إلا بعد إعلان الهدنة.
إنها معركة «مارينكو»! هكذا سماها القومودور نابير الذي قام بها. لقد كلفته حوالي خمسين رجلا وكثيرا من ضروب البلاغة، ومن بينها بلاغة العصا لإكراه الأتراك على التقدم على حد قوله في رسالة خاصة. ويروي السيد هنتر أن غيظه البالغ الحد دفعه إلى أن يتناول بندقية ويبطح تركيا على الأرض ليطلق رصاصها على صدره، ولكن الكولونيل هودجر - وكان يومذاك قنصل إنكلترا العام في الإسكندرية، وهو اليوم في همبورغ - أدار لحسن الحظ فم البندقية وانتزع سلاح القومودور الثائر، ولكن طبيعة التربة الكثيرة الحصى أعطته سلاحا جديدا وهو الحجارة، فأخذ يطارد بها الأتراك، فتتساقط عليهم كأنها البرد. وما مازال بهم حتى أذعنوا وانقادوا له، وعلى كل فالجنرال جوكنوس يقول في تقرير رفعه إلى اللورد بونسونبي: «إنهم وإن لم يحاربوا كما حاربوا أيام سليمان الكبير، فإنهم لم يدخروا شيئا من جهدهم في مطاردتهم المصريين.»
وبعد القتال تلقى نابير أمرا من الأميرال ستوبفورد يقول له فيه: «أطلب إليكم أن تتراجعوا إلى جونيه؛ لأنكم لم تتقيدوا بأوامري.»
وأخيرا عاد نابير فدخل جونيه دخول الفاتح. وبعد أن صعد إلى البارجة «بوفرفول» تنازل عن مهمة قيادة الجيوش للسر شارل سميث غير عابئ - كما يقول السيد هنتر - إلا بالتحدث عن انتصاراته بعد عمل مضن، ولم يبق يعنيه غير تدوين مواقيت الأزمنة التي مر خلالها في سوريا.
ثم أخذت قضية احتلال عكا تراود نفس القومودور، ولكن التحدث عنها لم يعجب الأميرال التركي؛ فأحس شارل نابير بشيء من الضجر والسأم، فأخذ يتنزه في الجبال التي وصفها لنا وصفا جميلا. وأخيرا صدر الأمر من إنكلترا بوجوب مهاجمة حصن سوريا الأساسي.
إننا نعلم ما حدث بعد ذلك، والشيء الوحيد الذي لفت النظر هو أن هذا القائد - نابير - المكلف قيادة إحدى فرق الأسطول غير من تلقاء نفسه وجهة الخطة التي قررها المجلس الحربي قبل يوم. أعجبته آراؤه الخاصة، ولكن الأميرال الذي كان يخالفه في رأيه قد استقبله بأشد الجفاء بعد قيامه بهذا العمل كما شاء.
اشتعل شارل نابير غيظا وطلب أن يحاكم أمام محكمة عسكرية، إلا أن روبير ستوبفورد رفض هذا الطلب، وأوفده - حين عجز عن إصلاحه - للقيام بمحاصرة مرفأ الإسكندرية.
وهنا تبدو الصورة الأكثر غرابة في جميع تصرفات هذا القائد خلال أعماله في هذه الغزوة؛ فما بلغ الشاطئ المصري حتى طلب مقابلة الباشا، وبدون أية تعليمات سابقة أو تفويض، أو أمر أو استشارة شخص ما، عقد معه اتفاقا اعترف له فيه - باسم القوى المتحالفة - بوراثة الولاية على مصر، شرط أن يرد الأسطول التركي، وأن تجلو الجيوش عن سوريا وكاندي (قبرص) والمدن المقدسة. وبعد هذا الحادث رجع نابير، على متن ال «بوفرفول»، إلى خليج مارماريس لينتظر فيه بهدوء العاصفة التي أثيرت حول تصرفاته غير الشرعية.
كانت العاصفة شديدة للغاية؛ فقد أجابه السر شارل سميث الملقاة على عاتقه مهمة القيام بالحملة، في رسالة جافة، على ما وصلت إليه مفاوضاته كما لو كان كلف ذلك. وأنكر السيد روبير ستويبفورد الذي أتعبته تصرفات نابير الغريبة جميع ما أتى به من أعمال. ولم تسر سفراء الدول الأربعة في القسطنطينية تصرفات بحري تطاول على حقوقهم فقاموا يناصبونه العداء. ورفض الديوان الهمايوني الذي كان ينتظر انهيار محمد علي ما أقره شارل نابير في مفاوضته، وأشد هؤلاء المعترضين غضبا كان اللورد بونسونبي الذي يكن حقدا أعمى لنائب الملك، فقال في ذلك: أحاطوا بهذا القومودور الشيخ من كل جهة فغلبوه على أمره، أما أنا فإني لن أتراجع أبدا.
يقول السيد هنتر: «سمعهم هذا الشيخ الباسل، أكثر من مرة، ينعتونه بالقرصان. إنهم لم يتحرجوا يومئذ في إطلاق كل صفة قاسية عليه. كادوا يقولون: إن مشنقة غير عالية كثيرا تكفي لشنقه. ومع ذلك فلكي أعيد ما كان يحدث به نفسه، وهو يتنشق سعوطه بهدوء، أقول: إنه لم يبال بهذه العاصفة الهوجاء قط، وقد كان يعلم كل العلم أن مفاوضاته ستؤيد في لندرة، وقد حقق الزمن ما تنبأ به.»
كانت دول أوروبا قلقة مذعورة من جراء الحوادث التي كان شاطئ سوريا مسرحا لها؛ فهي تريد - مهما كلفها الأمر - وضع حد لها؛ فالسر شارل نابير لم يخطئ إذن عندما باشر مفاوضاته. إلا أن اللورد بالمرستون لم يجرؤ أن يؤيد تأييدا صريحا طريقة تصرفاته غير الشرعية. وفضلا عن ذلك فإنه لم يلمه على عمله. وبالاتفاق مع السيد ماتيرنيخ أمر سفيره أن يفاوض على الأسس التي وضعها القومودور. وبالواقع كانت مفاوضات نابير أسس المعاهدات التي حددت بعد ذاك موقف محمد علي، ولقد سر السر شارل نابير بأن يوفد إلى مصر مع ولده الليوتنان كولونيل نابير ليتولى بنفسه السهر على تنفيذ هذه المعاهدة.
هكذا انتهت حملة سوريا. وهنا - على ما يرجح - ينتهي حديث القومودور. وعلى كل فقد خصص أكثر من نصف جزء من كتابه ليدل على القليل من الإرادة الطيبة، وإذا أحسنا التعبير قلنا: على القليل من حسن النية التي أظهرها اللورد بونسونبي نحو حكومته في المفاوضات التي كلف القيام بها، إلا أننا نجد هنالك بضع صفحات ممتعة عن تقارير دورية مليئة بالادعاءات، كان الجنرال جوكنوس يوجهها إلى الديوان ليؤكد له أنه يقضي على إبراهيم باشا في يوم واحد، أما السر شارل نابير فقد أظهر سخافة جميع العمليات التي كان يصفها جوكنوس في تقاريره وصفا فخما ويبعث بها إلى الديوان، وبين أن الجيوش التركية لم تصطدم اصطداما فعليا - ولو مرة واحدة - مع إبراهيم باشا، ثم ختم كلامه قائلا: «وهذا الجيش الذي يربو عدده على المائة ألف جندي، ويبلغ من النساء والأولاد أكثر من مائتي ألف نسمة، لم يدخل منه مصر أكثر من ثلاثين ألف شخص، إن مجموع من فقدناهم في الحرب لا يتعدى الأربعة آلاف رجل! فماذا حل بالباقين؟»
3
وبعد احتلال سوريا تداولت لبنان أشد العجائب وأقساها؛ فرغم السكينة التي ظهرت في الجبل لم يتمكن الأهلون أن ينعموا براحة حقيقية؛ فكانوا دائما عرضة للأهوال المخيفة.
أما سوريا فلم تكن أكثر سعادة من لبنان. كان الحاكم يعامل رعاياه بقساوة متناهية، ويرهقهم بفرضه الضرائب الثقيلة، وينكر عليهم حقوقهم. وكان ممثلوه يعاملون هذا الشعب بلامبالاة مفرطة.
قالوا: إن الأتراك نشروا المدنية. ولكنه يمكنني أن أؤكد أن شيئا من هذا لم يكن في سوريا.
إني أقيم في هذا البلد منذ أكثر من أربعين سنة، وغيابي عنه مرات مكنني من إجادة الحكم عليه؛ فأنا لم أر أي تغيير إلا في مظهر الذين يقدمون من القسطنطينية؛ ذلك أن أتراك سوريا لم يتطوروا في شيء حتى في ألبستهم. أما أولئك الذين كانوا يتكلفون الظهور بمظهر أوروبي، فقد آنسونا إذ أباحوا لأنفسهم الجلوس على موائدنا، ولكن بعد أن اتبعوا العادات التركية التي يحسنون التفريق بينها وبين العادات الفرنسية؛ فالشرب على الطريقة الأوروبية يعني الاكتفاء بتناول بعض كئوس من الخمر. أما «الكيف» فيعني عندهم شرب العرق والخمرة قبل الأكل، وتناول جميع الخمور التي تقدم على الخوان، ثم الانسحاب قبل أن يقوم المؤاكلون، والجلوس على ديوان مع بقية من القابلية للتدخين، وتناول القهوة خشية أن تكب على الصدرية؛ فالأتراك أصبحوا يلبسون الصدرية بعد الإصلاحات التي قاموا بها.
أما أعمال الإدارة وما يتعلق بها فلا تزال سيئة كما كانت عليه قديما، ومناهج القضاء لم تتغير، سواء أكان ذلك في أساليب إحقاق الحق أو الانحراف عنه.
إن أصح كلمة تقال - للدلالة على الآلام التي لاقتها شعوب سوريا - هي أنهم أخذوا يتأسفون على عهد المصريين؛ تلك الفترة التعسة التي سبق لي أن وصفتها فيما كتبته. إن تعاسات زمن ولى وراح تفقد دائما الكثير من طابعها المخيف. والإنسان لا يتألم ولا يشكو إلا مما يعانيه في الساعة التي هو فيها.
هوامش
ملحق
الأمير بشير
هذه مقتطفات من مقال شائق كتبه السيد أوجين بوريه عن الأمير بشير، ننقلها هنا لأنها تتمم وتؤيد أحكامنا على الأمير بشير الشهير، وما جرى في عهده من أحداث جسام كانت له في توجيهها اليد الطولى. ***
لا مشاحة في أن الأمير بشيرا هو إحدى الشخصيات التي تهم تاريخ الشرق المعاصر أكثر من سواها؛ فما من رحالة طاف في أنحاء سوريا - منذ نصف قرن خلا - إلا تناول بتفصيل أو باقتضاب حياة شيخ الجبل الذي جعلته حوادث عام 1840 شهيرا كل الشهرة في أوروبا. قد يكون تكرار ما قيل حول القضايا الخاصة التي تخللت حياته الطويلة المضطربة أمرا تافها، ولكن بعض الغموض الذي يحيط في الشرق بالأشخاص والأشياء قد اكتنف قسما كبيرا منها، فدعانا إلى ذكرها لنطلع بدقة على حقيقة هذه الشخصية التي تنازعها إعجاب البعض ولوم البعض الآخر؛ فأدى الأمر إلى إصدار أحكام متناقضة عليها.
إن التناقض وعدم الاستقرار في الرأي العام هما نصيب أولئك الرجال المفارد الذين ينجمون في بلاد تمزقها المنازعات والثورات الأهلية، فمؤيدو الأمير يرفعون قدره مندفعين بالحماسة عينها التي يحط بها أخصامه من مقامه، فالمؤيدون يرون في الأمير بشير بطلا عظيما، والمعارضون يرون فيه سفاحا زنيما.
ولعل ما يقرب من الحقيقة هو التوسط والاعتدال بين هذين الرأيين اللذين هما على طرفي نقيض. فإذا شئنا أن نحكم على الأمير منصفين وجب علينا - قبل كل شيء - أن نراعي طبيعة المكان، وحرج موقفه في الساعة التي كان فيها سيد الموقف بين شعب مختلف الميول والأهواء.
ما أبعد الفرق بين الشرق الذي يضم شعوبا وطوائف مختلفة، وبين البلدان الأوروبية التي تخضع لنظام واحد! فما يعدونه هنالك تسامحا وحلما يعد ها هنا ضعفا وجبنا. والعنف الذي يرونه في أوروبا ظلما قد كان - منذ بضع سنوات في الشرق - عدالة مثلى تطبق وفقا للعرف والتقليد.
وبعد هذا فلست أخشى أن ينسب إلي التحامل أو التحيز؛ إذ إن أبهة السلطة وهالة جلالها قد فارقتا أمير الموارنة، ولم يعد يحيط به اليوم شيء منهما؛ فزوال نفوذه وانهيار مكانته ونفيه أظهرت جليا كل ما يزين هذا الأمير من صفات طيبة وما يشينه من مساوئ. أجل، لم يبق له إلا مصائب ذنوبه، أو رونق خصاله الحميدة.
إن الأمير شريف النسب وهو ابن بيت عتيق مجده؛ فأسلافه كانوا سادة قبيلة كثيرة الرجال، خرجت هذه القبيلة من الحجاز (مقاطعة من جزيرة بلاد العرب) واستقرت في حوران في فترة يصعب علينا تعيينها بالضبط. ليس لدينا عن أصل الأمير إلا معلومات غامضة مبهمة جملها خيال الشعراء الذين يتقربون من الأمراء الشرقيين، ويقومون في بلاطهم بما كان يقوم به شعراؤنا الجوالون.
فقصائدهم التي تغنوا فيها بمدح الأمير تشير إلى أن هذه القبيلة - قبيلة بني مخزوم - قد هاجمت الفرنسيين، وانتزعت من أيديهم حاصبيا. كان ذلك - بلا ريب - حين كان الصليبيون يسيطرون على سوريا. وقد امتاز أحد شيوخ بني مخزوم بوجه وسيم وضاء، وكان عظيم المهابة، فلقب بالشهاب، ثم ما لبثت القبيلة أن لقبت بهذا الاسم الذي تعرف به أسرة الأمير. وهنالك أناس آخرون يردون أصل هذا الاسم إلى عصور قديمة جدا، فيزعمون أن كلمة شهاب لقب بها رجل يدعى عبد الله، حين أبلى بلاء حسنا على عهد الخليفة أبي بكر في أثناء حصار دمشق.
1
ومهما يكن من أمر فبوسعنا التأكيد أن آل شهاب كانوا في الأصل مسلمين، وأن الفرع الذي تتحدر منه أسرة الأمير اعتنق الدين المسيحي بعد زمن طويل.
كان آل شهاب - منذ قرنين - أصحاب السيادة المطلقة في الجبل. انتقل إليهم هذا الحق بالوراثة عن المعنيين. فأحد أمراء هذه العائلة - وهو فخر الدين - استطاع قديما أن يكتسب شهرة أوروبية نظرا لتصرفاته المهذبة، وروح التساهل التي ساس بها رعاياه المسيحيين، حتى حمل هذا التسامح أحد المؤرخين المسلمين على اتهامه بدعوة الناس سرا إلى اعتناق الدين المسيحي. وزعم أحدهم أن فخر الدين قتل - بناء على هذه التهمة - بأمر من مراد الرابع (نيرون السلاطين) الذي قتل بيده، أو ذبح أمام عينيه - خلال السبعة عشر عاما التي ولي فيها الحكم - أربعة عشر ألف رجل وامرأة.
خلف فخر الدين الأمير أحمد - ابن أخيه لا ابنه كما روى بعضهم - لأن أبا هذا الأخير هو الأمير يونس شقيق فخر الدين، فكان آخر أمير معني. ثم دعي إلى تولي الأحكام في الجبل زعيم شهابي اسمه بشير؛ لأنه أقرب الناس إلى أسرة معن المنقرضة. وبعد انقضاء تسع سنوات خلفه الأمير حيدر الشهابي، فدامت ولايته أربعة وعشرين عاما، ثم انتقلت إلى ابنه ملحم فلم ينعم بالسلطة إلا سنة واحدة، ثم قسمت بين أخويه أحمد ومنصور. بيد أن أحمد ما لبث أن نحي، فاستقل منصور بالحكم طوال سبعة عشر عاما لا ينازعه فيه منازع.
كان لملحم ولد لا يستطيع أن يخلفه لصغر سنه، ولكن صفات هذا الفتى الطيبة كانت تؤهله لتولي الحكم، فانتظر رجاله الأقوياء المخلصون الساعة التي يخلو له فيها المكان الذي يشغله عمه ليحملوا الناس على الاعتراف بحقوقه.
وخلال هذه الفترة ولد في غزير - في كانون الثاني 1767 - الأمير بشير الذي نتكلم عنه ها هنا؛ فهو ابن الأمير قاسم المسيحي، وقد قبل بشير نفسه سر العماد المقدس في تلك القصبة، وعمده فيها مرسل لاتيني من الآباء الكبوشيين. وهذا الحدث يضع حدا لمن يشك بمعتقد الأمير، لا بل للذين زعموا أنه لم يكن مسيحيا قط. ونرى لزاما علينا هنا أن ننزع عنه هذه الصيغة المخزية، وهي التلبس بجميع الأديان، وانتحال جميع المذاهب. إن ذلك لم يكن غير قناع سياسي يظهر للملأ من خلاله أنه يدين بكل المعتقدات، بينا هو في الواقع براء منها جميعا.
إذا عد غيرنا هذا العمل مهارة ودهاء، فنحن لا نرى فيه إلا التستر بالرياء الشائن، والخبث المخجل؛ فالقلب هو الذي يصنع الرجال، والقلب لا يكون كبيرا إلا بإيمانه، أو بقوة معتقده الديني، مهما يكن شعار ذلك الدين. إن اللامبالاة الفلسفية لم تكن بعد قد تسربت إلى المجتمع الشرقي؛ فما من أحد كان يجرؤ فيه على التباهي والافتخار بأنه يعيش دون مبدأ أو هدف وسط الأوهام وخرافات الجحود الغامضة؛ فالشرق مهبط الوحي يفاخر بأنه كان دائما مهد الرسل وموطن الأنبياء؛ ولهذا كان لا بد من مذهب لكل شرقي، فيتبعه ويعمل بتعاليم النبي الذي هو على دينه. أما مذهب اختيار الآراء المستحسنة ونبذ الأخرى فلم يكن قد تسرب بعد إلى الشرق. فلو كان الأمير - على حد قول لامرتين
2 - يدين بجميع ديانات بلاده؛ أي إنه مسلم أمام المسلمين، ودرزي أمام الدروز، ومسيحي أمام المسيحيين، لما كان تمكن من حكم المسلمين والدروز والمسيحيين في وقت معا؛ لأن جميع هؤلاء كانوا يظهرون له احتقارا واحدا.
إنه لم يأت عملا يحمل على الشك بدينه الحقيقي إلا مرة واحدة في حياته، ولكن حسن نيته يحملنا على أن نغفر له ذلك. وإذا قلنا هذا فلا يعني ذلك أننا نريد إقناع المؤمنين بأنه كان مثالا يقتدى به في حرارة تقواه حين كان سيد الجبل، أو أن جميع تصرفاته السياسية يمكن تبريرها من الوجهة الدينية المسيحية. فمن منا يجهل الفتور والبذخ والأهوال وجميع الشئون التي يتطلبها التنعم بالحكم؟ من يمكنه أن يوفق بين تعاليم الإنجيل وما تبشر به من بساطة ورحمة، وبين ما يتطلبه فن الحكم من تصرفات عنيفة قاسية تشكك الناس؟
ثم إننا نعلم أن أحد مرشديه الروحيين قد عنفه وبكته على ظلمه وبغيه، وأبى أن يظل مرشدا روحيا له. جرى هذا الحادث يوم كان الأمير قد بلغ ذروة مجده؛ وهذا يدلنا على أنه لم يكن يؤمن بديانته فقط - كما يظن لسوء الحظ - كثير من المسيحيين، بل كان أيضا مسيحيا ممارسا، والمقربون منه لم يكونوا يشكون بذلك قط، والموارنة لم ينظروا إليه كزعيم وطني، بل عدوه أميرا كاثوليكيا ؛ وهذا ما جعلهم يثبتون على التعلق به وبأسرته. وهذه الميزة التي تحلى بها الأمير تدلنا على سبب معارضة هؤلاء وكراهيتهم الدول المسيحية التي قوضت سلطان الأمير.
إن حكم لامرتين المخطئ هو نتيجة إحساس شخصي أعرب عنه حين نشر كتابه رحلة إلى لبنان ... •••
وفي الخامس من شهر نوار، في السنة نفسها التي ولد فيها الأمير بشير، توفي والده الأمير قاسم فأصبح بشير يتيما منذ ولادته؛ لأن أمه تزوجت بعد انقضاء بضع سنوات من أحد أفراد أسرة شهاب. ومتى عرفنا هذا، سهل علينا الحكم على قيمة تربيته الأولى المهملة تقريبا. إن النشأة الأولى تتصل اتصالا وثيقا بحياتنا، فللتوجيه الأولي أثر فعال في مستقبل الرجال. أجل، إذا عرفنا أن الفتى بشيرا كان مهملا تقريبا، سهل علينا أن ندرك مقدار طموح من استطاع بباعه وذراعه أن يبلغ قمة المجد.
تلك هي حقيقة الأمير بشير. كان هذا الرجل العصامي لا يحتاج إلى أحد، وكان واثقا من نفسه، يدرك مدى مقدرتها الغريبة؛ فما إن بلغ من عمره العام الثالث عشر حتى عزم على مغادرة البيت الذي رأى فيه النور، وقد آلمه جدا فراقه لشقيقه حسن وأخته الحبيبة إليه.
إن موت أبيه المبكر جعل أثاث البيت زهيدا جدا، فعندما طالب بما يصيبه من إرث، كانت حصته سريرا وبضع أوان تكاد لا تكون حمل جمل! سار على بركة الله واستصحب خادمته، وهي عبدة عجوز، وبهذه العدة مشى ينشد الثروة.
وتشاء إحدى الصدف الغريبة أن تقوده - بادئ ذي بدء - إلى بتدين، إلى المكان الذي انقلب فيه البيت الحقير الذي استأجره إلى قصر مغربي كبير، ذي أبراج تخترقها القناطر، وأروقة، ودور مزينة بالأعمدة، وقاعات مبلطة بالرخام، ونوافير مياه صاخبة، وإسطبلات تضم المئات من الخيول العربية، وخدم وحشم يرتدون أفخر الثياب وأغلاها؛ إنه قصر بيت الدين.
وفي تلك الفترة التي كان يتقدم بها نابليون على رأس جيشه إلى عكا، حاول القائد الفرنسي محالفة الأمير لأنه كان يقدر قيمة المساعدة التي يسعه أن يقدمها له إذا ما وفق إلى استمالته إليه.
لاموا الأمير لأنه لم يعر هذه التمهيدات أذنا صاغية. بيد أن الحكمة كانت تقضي عليه بالتريث، منتظرا ما ستسفر عنه المعركة النابليونية الأولى. فلو استولى بونابرت على قلعة عكا لكان أصبح سيد الجبل؛ لأن جميع المسيحيين كانوا يؤيدونه سرا؛ فتظاهرهم كان يعرضهم لأشد المظالم تلحقها بهم السلطات التركية لو درت بذلك؛ ولهذا حافظ الأمير على الحياد التام، وتقبل - بامتنان وعرفان الجميل - البندقية التي حملها إليه الكولونيل ساباستياني الشاب. أما الرسائل الموجهة من الأمير بشير إلى القائد العام (نابليون)، فهي من صنع جرجس باز، وقد كتبها بدون علم الأمير، فأقام دليلا جديدا على ما اتصف به من رياء، ولكنه دفع غاليا ثمن هذه الخطيئة وثمن الأخطاء الأخرى التي ارتكبها شخصيا.
وحوالي تلك الفترة نفسها تزوج الأمير من أرملة أمير مسلم، وكانت ذات ثروة ضخمة. وإذا شئنا أن نصدق بعض ما يشاع ويذاع،
3
قلنا إن شائبة مخزية تشوب هذا الزواج الأثيم؛ لأن الزوج - حسبما قيل - قتل في ساعة ثار بها الهوى الجشع، وأسفر عن اغتصاب المرأة وثروتها، بعد أن أكرهت على التنصر لحجب هذه الجريمة تحت ستار ديني باطل.
إن الوقائع تنفي هذه الافتراضات وتكذبها، فالست حبوس،
4
وهذا هو اسم الأرملة، ولدت مسيحية، فأجبرها زوجها الأول - واسمه بشير - على الارتداد عن النصرانية لأنه كان مسلما. وإذا كان قد سبق لها أن ساهمت - مدفوعة بكرم نفسها - في دفع فدية هذا الأمير الذي سجنه الباشا، فما كان ذلك إلا بناء على توسلات الشيخ بشير (جنبلاط)، وزير الأمير بشير واسترحامه.
فالأمير بشير قاسم لم يكن قد عرفها من قبل؛ وهكذا وقع الالتباس في الأسماء. وعندما كلف بمصادرة أموال زوجها بعد أن قتله الباشا، تسنى له أن يرى هذه الأرملة ويحادثها. كانت تبلغ من العمر ثلاثين سنة تقريبا، ولها ابنتان اعتنقتا الدين المسيحي. وعندما أدهشته صفاتها الشخصية ، وقد زادها روعة وجمالا وقع المصاب، عرض عليها أن يتزوج منها، فكان الجواب أن بسطت أحد أطراف فسطانها، وسمحت للأمير أن يقوم، وهو راكع، بصلاته. إنه شبه اعتراف ديني يتممون به وعدا بالزواج في هذه البلدان؛ حيث لا يزالون يحافظون على عادات عهد التوراة (!)، أو لم تقل راعوث لبوغز: «أنا راعوث أمتك، فابسط ذيل ثوبك على أمتك لأنك ولي»؟ وبهذا المعنى أيضا يكلم الرب أورشليم بلسان نبيه: «فبسطت ذيل ثوبي عليك وسترت عورتك، وحلفت لك، ودخلت معك في عهد، فصرت لي.»
إن الست حبوس التي تزوجت من كاثوليكي رجعت من تلقاء نفسها إلى ممارسة الديانة التي أكرهت على تركها. ومنها رزق الأمير أولاده الثلاثة: أمين، وخليل، وقاسم.
وكان أن بعث أولاد الأمير يوسف ومدبرهم جرجس باز بوشايات كاذبة، أوقعت الريبة في نفس الباشا، فغضب على الأمير غضبا شديدا، فأخذ الأمير ينتظر نفيا جديدا يشبه بقساوته النفي الذي لاقى آلامه في سجن قلعة عكا.
وكان الأميرال سيدني سميث يرابط حينذاك بأسطوله أمام شواطئ سوريا، فطلب منه الأمير أن ينقله إلى مصر، فقابل طلبه بلطف متناه واقتاده - بادئ ذي بدء - إلى مالطة.
ما أغرب الشبه بين هذا النفي الاختياري الذي كان سبب نجاته؛ نظرا لما اتصف به هذا الأميرال الإنكليزي من صدق وإخلاص، وذلك النفي القسري الذي دفعه نحو تلك الجزيرة نفسها بعد أربعين سنة من ذلك التاريخ، وقد ضعضعته وهدمته خيانة ستوبفورد!
ولما جاء مصر أضافه محمد علي برحابة صدر. وبعد أن أبقاه إلى جانبه مدة طويلة، ليعرفه حق المعرفة، بعث به على ظهر باخرة إنكليزية إلى عكا وحمله كتابا إلى الجزار. كان هذا الكتاب يبرر تصرفات الأمير ويقضي على الباشا نوعا ما أن يعيد إليه حكم الجبل. فمحمد علي كان يفكر حينذاك ببسط نفوذه ذات يوم على هذه الأقطار، وقد أخذ يفتش عن عضد، تدفعه رابطة مزدوجة هي رابطة المصلحة وعرفان الجميل على مؤازرته والعمل في سبيل قضيته. إنه لم يخطئ فيما كان يرمي إليه، بيد أن هذا التعلق بباشا مصر آنذاك استحال - فيما بعد - حجة على الأمير لدك سلطانه وتقويضه.
اهتم الجزار باشا بتوصية محمد علي، فأعاد الأمير إلى إدارة الشئون، فبرهن بشير عن كثير من المهارة والدهاء والحكمة ، فهدأت جميع الخواطر، وساد الجبل أمان عميق؛ فالمنازعات المتواصلة التي كانت تفرقه، والاضطرابات التي كانت تدميه، لم تكن إلا دليلا على المصاعب الناتجة عن إدارة بلاد كتلت فيها الثورات شعوبا مختلفة يتنازعها تنافس المعتقدات واختلاف المصالح. ثم ما لبث أن مات الجزار، فحل محله سليمان باشا، وهو رجل معتدل بذل جهودا كبيرة في سبيل استتباب الهدوء والسكينة بين شعوب لبنان.
إن الولد الذي تركه الأمير رهينة عند الجزار أعيد إليه. ولما كانت عائلته قد أخذت تزداد عددا باشر حينذاك القيام بأعمال بناء واسعة النطاق جعلت من بيت الدين مقرا يليق حقا بأمير. شيد فيها القصور له ولأولاده ولأولاد أخيه، وكان البناء بديعا للغاية. إن هذه البقعة القاحلة بطبيعتها - لأن شمسا حادة تكويها - لم تفتقر إلا إلى مياه لتكتسب طراوة وتخصب أرضها، وينعم أهلوها ببعض الرفاه، ناهيك بأن الأسرة الأميرية قد تعودت الإكثار من الاستحمام، وهذا يتطلب مياها وافرة، فجرها إليها من الباروك
5
التي تبعد عنها حوالي ست ساعات.
جرت هذه المياه العذبة في مجار وأقنية تمر في أراض كان قد سبق له أن اشتراها ليحول دون المنازعات. بكى الملاكون عقاراتهم التي اخترقتها الأقنية، ولكنهم فرحوا بعدئذ وسروا بما جرته إليهم من نفع عندما رأوا الأرض القاحلة تستحيل بساتين وكروما، وتحل محل الأودية ذات الحصى أراض صالحة للزراعة، زاد في غلتها وريعها نشاط الأهلين الذين لا يعرفون الكلل.
لم نكن نجد حينذاك طاحونا ما تفضل طاحونة مدينة دير القمر الصغيرة. وازدهرت تجارة الحرير فغرست تلك الجبال توتا حين استطاع الشعب أن يسقيه.
ولكن خميرة الثورة والفتنة لم تبارح قط نفس ابني عمه حسين وسعد الدين - ولدي الأمير يوسف - فحاول هذان الأميران الشابان العصيان مرة أخرى. إلا أن الأمير بشيرا تمكن من القبض عليهما، ففقأ أعينهما، وهذه هي إحدى الجرائم الفظيعة التي لاموا الأمير عليها، وحق لهم اللوم. بيد أن هذه هي العادة البربرية المتبعة للتخلص من نفوذ خصم سياسي، أو من طامح إلى الحكم، لم تكن حينذاك لتثير - في هذه البقعة من الشرق - التقزز والهلع اللذين تثيرهما اليوم بعد أن تسربت مبادئ المدينة الإنسانية إلى الشرق، وأخذ يعمل على تعديل نظمه.
كان ذلك النوع من العقوبة نوعا ألفه إمبراطرة بيزنطة، وما زال يعمل به في بلاد العجم، وهم يعتبرونه دون عقوبة الموت عنفا من الوجهة الإنسانية. فما من شك في أن الأمير بسلوكه هذا المسلك مع منافسيه قد ظن أنه يقدم برهانا على حلمه ورحمته، ولكنه كان أشد قسوة تجاه جرجس باز وصيهما الذي تبين أنه كان أعظم ذنبا منهما - كما تدل الظواهر - فحكم عليه بالموت.
لا جدال في أن الأمير قد أساء إلى سمعته حين نفذ مثل هذا الحكم في بلد تجتمع فيه السلطة التنفيذية والسلطات الأخرى في يد واحدة؛ فالحكم الذي يصدر في غير هذه الربوع تهتم بتنظيمه محكمة خاصة، فيكون محترما لأنه يظل قابلا للطعن فيه، ومعرضا للنقض أيضا.
وفي الفترة التي تلت ذلك من حكمه وقف الأمير منا موقف جفاء، وهذا ما حمل بعضهم على أن يصوروه لنا سفاحا صغيرا لا يعنيه إلا تنظيم جدول بأسماء من سيقتلهم بدون محاكمة، تاركا المكان خاليا خاويا حوله.
6
لنكن عادلين، أو ليس علينا أن ننحي باللائمة على فساد طريقة الحكم أكثر من لومنا القائمين به؟ فهذه السلطة المطلقة غير المراقبة التي تلعب كيفما شاءت بحياة الرجال، كانت - حتى هذه السنوات الأخيرة - السبب الأساسي لكثير من المظالم التي أساءت إلى سمعة الشرق.
إن بونا شاسعا كان يفصل الباشوات والحكام الأتراك عن الرعية. كانوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى رجال سفلة يمكنهم أن يظلموهم وفقا لرغبتهم ومشيئتهم؛ فرجالات الحكم لم يكونوا قد استقوا بعد - من احتكاكهم بأوروبا - هذه المبادئ الإنسانية التي حورت تفكيرهم، فيما بعد - لحسن الحظ - وجعلتهم يتقيدون بشريعة العدالة المسيحية الأولى، لم يكن بوسعهم أن يوحوا إلى ممثليهم اتباع إدارة ملائمة . ثم إن البخار لم يكن قد ربط بعد بين مختلف أطراف هذه المملكة الشاسعة، فيمكن موافاتها أو تزويدها بالمعلومات بأسرع ما يمكن وبدقة كلية.
إن دور الطباعة السياسية لم تكن قد وجدت بعد لتفضح المظالم، والحاكم الذي يريد أن يتحرى الحقيقة كانت تحف به حاشية قابلة للرشوة، فخدعته وأبقته في جهل لا يقهر. أضف إلى ذلك نشوة التنعم بالسلطة، وعلى الأخص حين تدرك بعد التنازع عليها طويلا. فإذا ما نظرنا إلى كل هذه الأسباب أمكننا عند ذاك أن نفهم بسهولة كيف اقتيد الأمير إلى منحدر قلق المجاز، سريع المزالق.
جاء في هذه المناسبة أحد مرسلينا - وهو إفرنسي عازاري - ليقوم برسالته في هذه البقعة. ورسالته - كما هي في جميع بقاع العالم - رسالة مدنية ومحبة. ولما رأى ما رأى من جور أعمال الأمير، والقساوة البالغة الحد، تجرأ ولامه على عمله، ولكن إرشادات هذا المرسل ذهبت عبثا، فأحجم عن القيام برسالته في بلد الأمير لئلا يلصق الشعب بالدين تلك الأخطاء التي يرتكبها الأمير، مع أن دينه يشجبها ويستنكرها.
وحدث ذات مرة أن بعث باشا دمشق أحد الجباة ليستوفي الضرائب والعشر. فما دخل إحدى القرى الخاضعة للأمير حتى أخذ يعامل أهليها بقساوة وعنف؛ فشكا الأمير إلى عبد الله باشا هذا التعدي الفظيع، فطلب عبد الله باشا التعويضات من باشا دمشق، ولما أبطأ عليه في أدائها قرر أن يجبره على ذلك بقوة السلاح مدفوعا بطموحه إلى بسط سلطانه على سوريا، فاقتضت الحال أن لا يعتزل أمير لبنان هذه الحرب.
مشى الأمير على رأس عشرة ألاف رجل إلى دمشق، مخدوعا بالفرمان الذي زوره عبد الله باشا، ومصدقا أن باشا دمشق معزول من رتبته وولايته. ولولا هذه الخدعة لما انقاد سيد الجبل المسيحي لهذه الأعمال الطائشة التي كادت تؤدي به إلى محاربة الباب العالي نفسه. إلا أن باشا دمشق عرف كيف يحافظ على سلطانه ومقامه أمام أعضاء الديوان الملكي الذين كانوا آنذاك يتصرفون بجميع مراكز المملكة؛ فاستطاع أن يثبت لهم براءته، وجاء الفرمان الذي يثبته في ولايته حين كان الموارنة على أهبة أن يحاصروا المدينة، فوقفوا وقد انجلت لهم الحقيقة.
عرف الأمير أن عبد الله لعب به وأنه جر على نفسه نقمة السلطان بعد أن خلع عن حكم ولايته. أما عبد الله باشا فظن أنه يستطيع الثبات والمقاومة، فأعلن ثورته وحاصر في عكا التي حصنتها الطبيعة قبل الإنسان، ودعا للقتال قوى الولاية البحرية والبرية. ولما كانت جيوش الباب العالي المنظمة على أسوأ ما يكون، ولم تتعود بعد اتباع أساليب الحروب الأوروبية، فقد حاصرت - على غير جدوى - ذلك المكان مدة تسعة أشهر، فكبدت المحاصرين فيه خسائر لا طائل تحتها. وفي هذا الظرف العصيب آثر الأمير أن يعتزل الحكم ويغادر الجبل خوفا من أن يقوده عبد الله باشا إلى عصيان يسيء إلى شرفه وضميره. وكانت ولاية بيروت تحظر عليه دخول أرضها؛ فاتجه فكره مرة أخرى نحو مصر، واستطاع أن يبحر على مركب تجاري إفرنسي إلى مصر، ويلجأ إلى محمد علي.
استقبل محمد علي الأمير بشيرا بالحفاوة عينها التي استقبله بها منذ عشرين سنة خلت. فهذا الباشا الذي يتميز بمهاراته وعناده كان لا يزال يطمح إلى الاستيلاء على سوريا، فلم يدع مناسبة تمر دون أن يقدم خدماته التي يبرهن بها عن قوته ونفوذه. لقد عمل جميع ما في وسعه لدى الباب العالي لحمله على العفو عن عبد الله والأمير. والباب العالي الذي أحرجت موقفه حرب «المورة» لم يشأ أن يغضب سيد إحدى مقاطعاته الهامة الذي يمكنه - ساعة يشاء - أن يسلمها للثوار؛ وبناء على هذا غفر لعبد الله باشا فعلته بعد تغريمه بدفع نفقات الحرب.
وفي الوقت نفسه عاد الأمير إلى مقره في بيت الدين حيث استقبله جميع الشعب بعلامات الابتهاج والتعلق اللذين لا شبهة فيهما ...
إن الأمير الذي شغلته قضاياه الخاصة وأحداث حياته، لم تكن تنقصه الثقافة؛ فمعلوماته لا تتجاوز - في الواقع - نطاق معرفة اللغة العربية وآدابها. بيد أن هذه الناحية الأساسية في الثقافة الشرقية التي تشغل حياة عالم مخصص لها قد ألفها الأمير، فانقادت له بسهولة. وهذه المزية قلما نجدها عند المسيحيين الذين يكتفون عادة بمعرفة قراءة التعاليم الدينية البسيطة، متغافلين عن كل ما له علاقة بالتاريخ والفقه والشعر.
والآن فلنتكلم عن الأمير، في ساعات فراغه ببيت الدين، كسيد يعترف به جميع الزعماء، فيقيم بينهم حكومة ذات أبهة ملكية لا كسيد تربى تربية قاسية، وعاش عيشة شبه عسكرية. كان في هذا الموقف - موقف الأمير والزعيم الأكبر - صديق العلوم والمعارف، وحامي الثقافة والشعراء. كان الشعراء - وهم عنوان ثقافة دولته - ينظمون له القصائد متغنين بانتصاراته، ويعيشون من هباته وعطاياه.
ثم فكر في تحسين حالة الثقافة التي أهملت تماما في أثناء اضطرابات الحروب الأهلية، ففتح على نفقته الخاصة عدة مدارس مخصصة لرجال الإكليروس؛ فكان لهذا العمل أحسن وقع في قلوب جميع الإكليريكيين؛ فاكتسب محبتهم، وحاز على عطف البطريرك، فأصبح غرضهما السياسي واحدا؛ فكلاهما يرغب في وضع حد لهذه الفوضى الإقطاعية التي قسمت الجبل إلى عدة شعاب. كان الأول (الأمير) يطمع في وحدة التنظيم الإداري، وكان الآخر (البطريرك يوسف حبيش) يريد وحدة الإدارة الدينية.
ولما أخذ باشا مصر - بعد أن بسط سيطرته على سوريا - يطمح هو أيضا إلى إخضاع كل شيء لسلطانه، نشأ عن ذلك اختلاف بين مصالحه ومصالح الأمير. إلا أن الأمير كان على جانب كبير من الدهاء واللباقة، فتمكن من كظم غيظه. فتعهداته التي قام بها لنائب الملك حين هرب إلى مصر ملتجئا إليه، كانت تريه مجاملة هذا الحليف القوي فرضا واجبا عليه، ولا سيما بعدما رأى أن قوته تزداد ازديادا عجيبا حتى كادت تهدد، بل هددت السلطان نفسه سيد البلاد ومولاها.
ومن المؤكد أن الأمير لم ينقد انقيادا أعمى إلى محمد علي؛ فقوة هذا الأخير لم تكن تملأ عينه، وهو - قبل وبعد - لم يلق عنه نير حاكم تركي ليخضع إلى آخر مصري يرجح أنه أكثر قساوة من ذاك؛ فهدف الأمير وأمنيته الوحيدة كانا خلق ولاية مستقلة بحكمها، وأن يكون حليفا مخلصا وأمينا عند الحاجة، لا تابعا كسائر أبناء الرعية الذين يساسون بظلم وتعنت.
ولم تكن قوة الباب العالي إلا اسما بلا مسمى؛ فظن الأمير أنه مرتبط بمن كان سيد البلاد بالفعل؛ أي محمد علي؛ ولهذا قبل بارتياح تام مساعدة ابنه إبراهيم باشا، ففتح أمام جيشه الغازي أبواب أهم مدن سوريا ، ولكن بقدر ما كان يرى طريقة الحكم المصرية تزداد عنفا في البلاد وتنتقص من حقوق أبناء الجبل وحرياتهم، كان هو يلزم الحياد ضمن حدود دائرة سياسية حذرة، ورزانة يقظة لم يستطع نائب الملك أن يخترق حجبها إلا بعد انقضاء زمن طويل.
فالاحتكار التجاري الذي حاول أن يفرضه سيد سوريا الجديد كما هو مفروض في مصر، حمل الأهالي على الخوف من أن يقاسموا فلاحي ذلك البلد نصيبهم المشئوم. كانت هذه الحالة سبب ثورة عكار واللاذقية التي أحدثت استياء عاما أحسنت استغلاله سياسة أوروبية؛ فكثيرا ما كان يهم الإنكليز أن يحولوا دون تنفيذ قانون كهذا يسد عليهم منفذ رواج منتوجاتهم؛ ومن هنا جاءت معارضتهم لمحمد علي، وللأمير الذي ظنوه متعلقا به تعلقا أعمى لنصرة قضيته.
وعند ذاك انتشر مندوبوهم السياسيون في الجبل يمثل بعضهم ولا يزال يمثل دور المبشرين. حاولوا أن يستميلوا إلى البروتستانتية الشعب المسيحي الكاثوليكي، ولكن هؤلاء لم يستقبلوا البروتستانت استقبالا طيبا ولا كتبهم المقدسة التي كانوا يوزعونها عوضا عن إلقاء المواعظ؛ لأنهم لا يعرفون اللغة كفاية، فأحرقت هذه الكتب في الساحات العامة. أما الروم والسريان المنشقون فلم يكونوا أضعف من أولئك ميلا إلى هذه الديانة الجديدة التي سميت «المذهب الإنكليزي»، هذا الاسم الذي لا تزال تحتفظ به في داخل بلاد الأناضول وبلاد العجم.
لم يغفر الإنكليز لهؤلاء ولا لأولئك عنادهم وثباتهم في عقيدتهم وإيمانهم؛ فحركت بغضاء قديمة كانت تضمرها للمسيحيين الشعوب غير المسيحية، كالمتاولة والنصيريين والدروز. فمنذ ذلك اليوم أصبح الجبل فريسة للفتن والثورات الأهلية التي لا تزال تدمره دون أن نستطيع التنبؤ بنهاية الحرائق والمذابح ...
جدير بنا أن نلاحظ بأن خلع الأمير بشير كان يخفي تحت الظواهر السياسية فكرة دينية: كان يؤمل بهذا العمل دك الكثلكة، وهدم نفوذ فرنسا القديم العهد في وقت معا، ولم يكن هذا المشهد أقل غرابة من الرواية السياسية التي مثلت عام 1840. هبت إنكلترا وروسيا وبروسيا والنمسا لتعمل وتأخذ كل منها نصيبها من الإرث المنازع عليه بنفس المحسدة. فروسيا استغلت الضغن الذي يكنه الناس للمذهب البروتستانتي فأنمته في هذه البقعة من الأرض. إلا أن النجاح تعدى آمالها فرأت اللوثرية البروسية تتصالح بسهولة مع الإنكليكانيكية، وتتنازل عن امتيازها في تعيين أسقف كقنصل للقدس يكلف إدارة رعية لم تكن موجودة أو يرجى وجودها، وذلك في مقابل اثني عشر ألف ليرة إسترلينية. والنمسا على الرغم من أنها كاثوليكية المعتقد مدت لهما يد المعونة وهي ترجو أخيرا تحقيق تلك الخرافة الحلوة لسياستها الشرقية.
الحق يقال إن روسيا كانت أكثر هذه الدول لباقة حين شاءت أن تنتهز الفرصة فتربط الروم والسريان والأرمن المنشقين عن الكنيسة بروابط جديدة. أما ما يؤسف له حقا فهو نتائج أعمال هذه الرابطة اللاكاثوليكية؛ فإنكلترا اعتمدت على الدروز حين افتقرت إلى بروتستانت تحميهم، بعد أن خدعت بتقارير مغرضة حملتها على الظن بأن الدروز يميلون إلى المعتقد الإنجيلي. فمندوبوها السياسيون الذين انضموا إلى المرسلين البروتستانت سلكوا طريقا تركت وراءها على كل قدم لطخة من الدم. إنها مسئولية جسيمة لا تقع على عاتق بعض الرجال فحسب، بل على الحكومة نفسها التي يدعون تمثيلها.
والأمير الذي نقل إلى القسطنطينية عومل أولا ببعض اللطف والرعاية، وتشاء الصدف الغريبة أن يفقد الجبل الهدوء والأمان لدى مغادرة السيد بلاده؛ فخيل للدولة التركية أنه كان هو المحرض على ذلك سرا. ثم كبر هذا الظن وصار يقينا عندما طلب جمهور من الشعب عودة الأمير، والتمس ذلك من الباب العالي. بنوا هذا الالتماس على أن عودة الأمير إلى الحكم تعيد مياه السلام إلى مجاريها، فيستتب الأمن ويستقر النظام. وعند ذلك أخذ الأمير ومشايعوه يذوقون لذع الحرمان، وتضاعف ظلم النفي من كل جانب رويدا رويدا.
قالوا إن الأمير نقل معه ثروات طائلة عندما غادر سوريا، ولكن هذا القول صعب التصديق على ما يرجح؛ فالنكبات المتعددة التي لاقاها في حياته لم تمكنه من ادخار شيء. وهب أنه عرف كيف ينمي دخله إبان الفترة الأخيرة من حكمه، فحاشية قصره في بيت الدين والتجميلات التي كلفته مبالغ ضخمة، وميله الطبيعي إلى الأعطيات، تلك الفضيلة الشرقية التي تستحيل عادة إلى تيه وفخر، تبين لنا أنه أنفق جميع ما ملكت يداه.
وإذا أضفنا إلى ذلك حوادث عام 1840 التي داهمته بسرعة، علمنا أن شأنا جليلا كهذا يحول دون جمع المال، بل يقتضي الإنفاق، وخصوصا ممن كان مثل الأمير الذي تعود فيما مضى أن يسترد خسائره بعد تشريده. أفلا يحق له الاعتقاد أيضا بأنه يمكنه أن يستعيد ثروته حين تسنح له فرصة جديدة؟ ثم كيف كان يمكنه أن يتنبأ عن رحلة يتبين منها أنها كانت رحلة الأبد!
هنالك بعض أشخاص من الذين عرفوا حالة الأمير حق المعرفة ورأوها بأم العين، قد أكدوا لنا أنه لم يكن يصطحب - حينما نزل إلى البحر - إلا مبلغ مائتين وخمسين ألف فرنك. كان هذا المبلغ كافيا لسد حاجاته بلا شك. غير أنه كان مقضيا عليه - ابتداء من عام 1840 - أن يعول عائلة كبيرة، ويقوم بسد نفقات حاشية تكدس بعضها فوق بعض. وقد سبق هذا الحادث بأيام قليلة أن اضطرت المرأة التي تزوجها ثانية - وهي سرية شركسية اعتنقت فيما بعد الديانة الكاثوليكية - إلى أن تبيع من جوهري أرمني قسما من حلاها بثمن عشرة آلاف فرنك.
كان يليق بالوسطاء السياسيين الذين سلموه أن يأخذوا جميع الضمانات ليكفلوا له - على الأقل - نفقات العيش الضرورية. فبلوغه سنا متقدمة من العمر كان يحمل على الظن بأن هذه المدة لن تطول، والإنسانية توجب هذا العمل الذي تتطلبه العدالة.
يظهر أن العناية الإلهية شاءت أن تزوي الأمير في هذه الضاحية لتلمع فضيلة قلما نجدها اليوم، وتثأر لاسمه من جميع الشكوك والريب التي حامت حول إيمانه الصادق؛ فجميع الذين يتكلمون عنه يمثلونه - بوجه عام - رجلا ينشد الثروة، ويريد بلوغ قمة المجد غير عابئ بشيء، يبدل ديانته حسب الظروف، فهو مسيحي أو كاثوليكي حين تقتضي ذلك المنفعة السياسية.
قد برأنا من هذه التهمة الأمير الذي ولد في حضن الكنيسة الجامعة، وآمن بتعاليمها بحرارة لا تفتر. فالذين ضعضعتهم الشكوك في فضاء النظريات المذهبية يرون أن السيطرة في بقعة تعيش فيها عدة ديانات متنازعة تقريبا توجب التخلي عن الاعتراف بالمذهب الديني. ولكن إذا أمكن تحقيق هذه المخادعة بين شعوب بلغ عندها الانحطاط الأخلاقي - كالفضيلة نفسها - أبعد مداه، فالشرق حيث لم تبلغ فيه الرذيلة والفضيلة هذا الحد، براء من هذه الأعمال المريبة؛ فالإيمان لا يزال يحافظ هنا على جذوته الأولى، وهو الحاجة الضرورية التي يحتاجها القلب والفكر. ومن لا يعبأ به أو يلعب بقدسيته لا يمكنه أن يبلغ أبدا كرسي الحكم.
كان الأمير بشير - منذ ولادته - ابن الكنيسة التي اعتنق هو وعدد كبير من أسلافه ديانتها، فلم يخرج من حضنها قط. وإذا وجدناه في بعض فترات حياته - وقد حركته الحروب وحافز الطمع - لا يتقيد بواجباته تقيدا دقيقا كما كان في شيخوخته، فليرجم الأمير بحجر من لم تمر عليه في ماضيه فترة لم يتخللها هذا النسيان والإهمال!
يجب علينا القول إن هذه الديانة المقدسة هي اليوم عضده وعزاؤه، فمن ممارستها البسيطة الصحيحة كان يستقي القوة اللازمة لينهض بعبء الأمة الثقيل. وهل يمكننا أن نفتش في مكان غير هذا عن سر احتماله هذا الحرمان الموجع بعد حياة رفاهية وثراء؟ وبماذا نعلل صبره على غل يديه عن العمل بعد نصف قرن جهاد مستمر؟ وأخيرا أي افتراض يحل لنا معضلة إحساسه بالخيانة، ولمسه نسيان الأصدقاء له، بعد أن حف به عدد كبير من المشايعين المخلصين؟ إن تذكره الأخطاء السياسية التي كان يسعه تلافيها، ورؤيته مشهد الحروب التي خاضها، كان يمكنهما أن ينتزعا من شيخوخته بقية الهمة لو لم يبادر إلى مداواتها بصلاته فيجد - وهو يستغفر اليد التي لطمته - اللذة المجهولة التي نجدها في التوبة.
فبيته - الذي رأيناه كما هو - كان كأنه بيت بطريرك هرم ينتظر العذاب والمنفى. فمن بين افتقار هذا البيت إلى المفروشات، وتشويش وتبعثر ما فيه من أمتعة لا تتجاوز ماعون خيمة يمكن أن ترفع في الغد، وبين فرح الصغار الذين تنقصهم قوة إدراك المصيبة التي حلت بهم، وبين فقر الخدام الأمناء في بلواهم ومذلتهم، كان وجه الأمير يبدو لنا أكثر تلك الوجوه هرما وهيبة، حين يجلس على كرسي بسيط بأبهة من تعود أن يكون سيد الموقف.
هذا هو المشهد المؤلم الذي يراه من يحاول أن يدخل مقر هذه العظمة الهاوية. إننا نحس بؤسا تصعب مؤالفته يختبئ ها هنا، ولكننا نلمس في استسلام جميع هؤلاء وهدوئهم عاطفة دينية تقويهم وتعزيهم. فإلى جانب الأمير كان يقوم مرشد ديني جدير بالاحترام - وهو تلميذ قديم للمجمع المقدس الروماني - وقد نذر نفسه ووقف جميع رسالته على الأمير وعائلة الأمير؛ ففي كل صباح كان يقيم له الذبيحة الإلهية في غرفته التي هي كنيسته أيضا، فيقف جميع هؤلاء أمام المذبح ليجددوا قواهم ويقووا على احتمال تجارب النهار وويلاته التي تنتظرهم.
إن لحية الأمير وشاربيه الكبيرين الأبيضين كانا يدلان على هيبته الطبيعية التي تزيد في جلالها عيناه المختبئتان تحت حاجبين كثيفين عريضين. كانت تصرفاته على جانب كبير من اللياقة والتهذيب، وشد ما كان يؤثر بهما من يزورونه في دار غربته. فأسئلته أو أجوبته - وهي بالعربية دائما - متزنة واضحة ملقاة بتحفظ الرجل الذي يشعر أنهم يتجسسون عليه.
كان في بعض المرات يستنيب عن التفوه بالكلمة المرجوة نفثة من دخان يرسلها في الفضاء من غليونه الكبير الذي لم يكن يفارقه قط. فهذا الغليون - الذي لا بد منه عند الشرقيين - ليس بدون نفع، وعلى الأخص في مقابلات أو زيارات ذات طابع سياسي. إنه يمكن من الهدوء والسلوى، ويحول دون التلفظ بكثير من كلمات قد تقع في غير محلها؛ إذ تكون الشفاه مشغولة في الالتصاق بعوده الثمين. ولكم اكتفى الأمير، بدلا من أن يتوغل في تفصيلات طويلة، برواية بيت من الشعر، أو إرسال مثل كله معنى يفي بالمرام.
وفي السابع من حزيران الفائت أبلغوا الأمير أن الحكومة قررت نفيه إلى قلب مقاطعة الأناضول، إلى فيرانشهر من سنجق بولي. فاسم هذا المكان المنزوي الوحشي - وهو يعني المدينة المهدمة - ليليق بمن لم يعد إلا دمارا محترما عن الماضي. وبدون أن يعطى الوقت الكافي ليهيئ جميع ما يحتاج إليه في سفرة كهذه، نقل مع سائر أفراد عائلته إلى ظهر باخرة صغيرة قطعت به البحر الأسود حتى وصلت إلى مدينة هيراكله القديمة.
كان فصل الصيف قد أخذ يخفف من حدته. وعلينا هنا أن نفكر بالأخطار التي تحدق بالأمير في هذه الرحلة التي جعلها هواء الشمال طويلة متعبة. وإذا كنا قد رثينا لحال الأمير البائس حينما كان في قلب العاصمة، تحت سمع الحكومة وبصرها، فما عسى أن تكون حاله في مكان قصي يفتقر فيه إلى أسباب المعيشة ولا يشعر بشيء من العطف الذي هو عزاء التعس الوحيد؟ أتراه قد أذنب فعلا بتدبيره إحدى المؤامرات السرية؟
كان يتوجب - في وقت ينبذ به رجال الأمة المثقفون تقاليد الحكم المطلق - محاكمة الأمير وإثبات ذنبه، ثم تطبق عليه العقوبة. هذا ما كان يجب أن تعلمه وزارة رضا قبل أن تتعرض لخطأ هذه القساوة غير المجدية.
والأشخاص الذين تبعوا الأمير إلى فيرانشهر يبلغ عددهم ستة وخمسين نفسا: تسعة أمراء وثماني نساء وتسعة وثلاثين خادما، ما عدا الأب الفاضل الخوري إسطفان حبيش الذي كرس نفسه لهذه القضية الدينية الوطنية.
وشاع - بعد سفرهم - خبر مفاده أن إحدى العصابات التي تعبث بداخل بلاد الأناضول قد هاجمت قسما كبيرا من هؤلاء فذبحتهم. إلا أن الحكومة كذبت بصورة رسمية هذا النبأ.
ما أنا بمادح الأمير أو وكيل دفاع عنه. لقد رويت ببساطة تفاصيل حياته التي يعرفها الجميع، وتحاشيت أن أوجه إليه نقدا لاذعا، أو أن أبالغ بالتملق له فأطنب في الثناء عليه. فانتصارات الأمير وانكساراته التي لاقاها في حياته وحروبه الهدامة، وفترات حكمه الهادئة المحلية، وعدله وانتقامه العنيف، ورقته المتناهية وأخطاؤه، والهمة الوثابة التي كانت تنقصه بغتة عندما يكون استعمالها ملائما، والاستسلام ظاهرا لمصابه، في حين أنه لا يخلو في الواقع من مكائد ومناورات كاذبة؛ تلك كانت مميزات هذه الشخصية.
لم تستطع الدول التي جمعتها محالفة عام 1840 أن تقدره حق قدره؛ فنحته جانبا كما ينحى الممثل الذي يفرغ من تمثيل دوره، أو كالشيخ الذي هدمته السنون. كثيرة هي المناسبات التي تبين منها أن قضية إحلال رجل محله يقوم بعبئه ليست بالقضية الهينة، وأن الهدم أسهل من البناء.
إنه ليستحيل فرض رأي أو إرادة على شعب كامل - وعلى الأخص حين يتعرض ذلك الرأي المفروض لمعتقد الشعب وإيمانه - دون أن يلاقي ذلك رد فعل عنيف. فعدم مقدرة الذين حلوا محل الأمير أبدت للملأ جليا كفاءته الشخصية، وغير واحد من الذين رغبوا في دك عرشه وتقويضه أخذوا يتمنون اليوم عودته. فسوء الحالة الذي ازداد على التوالي حمل على الظن أن رجوعه يكون الدواء الوحيد، فالتأسفات على نفيه، والرغبات في عودته جعلت قضيته قضية وطنية حتى طلب بعضهم اعتبار بيت الأمير سلالة لها حق الاحتفاظ بحق الحكم عدة قرون. إنه رأي مبالغ فيه، ولا يقوم إلا في خيال شعراء العرب المداحين.
رأينا في مكان آخر أن الأمير لم يرث الحكم عن أبيه، وأنه كان يعود إلى كرسيه - عندما يخلع عنه - بقوة دهائه ومقدرته الشخصية، وحظه الذي يساعده على ذلك. فكفاءته رفعته إلى المحل الأرفع أكثر مما رفعه إليه بيته؛ فنحن إذن في غنى عن الاستشهاد بهذا العنصر الأخير.
سبق لنا أن تكلمنا عن الموفدين البروتستانت الذين جاءوا سوريا، حوالي عام 1830، وحاولوا أن ينشروا فيها رسالتهم. فنحن - أصدقاء حرية المعتقد - لا ننازعهم أبدا هذا الحق، حينما تدار المهمة التي كلفوا بها بأمانة ووفقا لنظم المحبة الإنجيلية الحقيقية. فالموارنة هم كجميع كاثوليكيي الشرق متمسكون بدينهم. ولما بدا لهم أن مذهب هؤلاء الأسياد خاطئ ومخطر أبعدوهم عن تخومهم بأساليب لا نود هنا أن نبرر صيغتها لما فيها من قساوة وغلاظة وخشونة؛ فالكاثوليك ينبغي لهم أن يواجهوا أعداءهم بسلام واعتدال تفرضهما معرفتهم الحقيقة معرفة كاملة، وهذه القوة الهادئة الرزينة هي طريق النصر المؤكد.
إن هؤلاء الدوارين المهذبين (الجنتلمان) الذين طردوا من المدن والقرى، ولم يوفقوا إلا بمقدار إلى نشر مذهبهم بين الروم أو السريان المنشقين، ثم لم يلبث توفيقهم أن انقلب إخفاقا، قد حولوا وجوههم صوب الدروز، فكانت النتيجة نشوب ثورات وفتن وإحداث مذابح متواصلة.
والباب العالي الذي وجد نفسه عاجزا - وحده - عن وضع حد لهذه الفوضى فكر في أن يعتاض عن ذلك بمنافع سياسية. فالسلطة التي كانت تهدف دائما لبسط شبكة الوحدة الإدارية على جميع أطراف المملكة وجدت الفرصة مؤاتية لتبسطها حتى على هذه الولاية التي تكاد تكون مستقلة.
وهكذا استطاع الباب العالي أن يلعب بتكتل الدول عام 1840. وهذا التكتل الذي ما أراد تبديل الحالة في لبنان إلا لتحسينها وضمانة احتفاظ الجبل بامتيازاته، قد شهد جميع فصول مأساة ستنتهي بفناء شعبين كاملين - الدروز والنصارى - فناء كليا في حرب أثيرت بينهما، حتى إذا تعبا من القتال جرا إلى وضع رقابهم في متناول مناجل التنظيمات.
7
سيصبح لبنان ولاية كبغداد وأرضروم، ومن يسعه أن يلوم الباب العالي؟! فهل تكون معارضة الدول هي التي منعته من قبول عروض فرنسا الحكيمة؟!
هوامش
ناپیژندل شوی مخ