إلى بعض ما فيه عليك مقال
1948
شياطين الإنس ... والجن
تستطيع أن تضحك إن كان مزاجك يغريك بالضحك، وتستطيع أن تبكي إن كان مزاجك يدفعك إلى البكاء، وتستطيع أن تتوسط بين ذلك إن كنت رجلا معتدل المزاج. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك، ولا ينبغي لك أن تضعه موضع البحث والجدال؛ هو أن حياة الناس كرة يتقاذفها نوعان من اللاعبين في أكثر الأحيان!
فأما أحد النوعين: فهم شياطين الجن الذين لا نراهم ولا نحسهم، وإنما نرى آثارهم ونحسها، وهم يستخفون بأعمالهم فيلقون الغرور في القلوب، ويشيعون الكبرياء في النفوس، ويملئون الضمائر صلفا وتيها ... وأما النوع الآخر من اللاعبين: فهم شياطين الإنس الذين نستطيع أن نراهم، ونحس أعمالهم وآثارهم وإن تكلفوا التستر والاستخفاء، وهم يستغلون ما يلقى في القلوب من الغرور، وما يشاع في النفوس من الكبرياء، وما تفعم به الضمائر من الصلف والتيه ... أولئك يدبرون ويقدرون، وهؤلاء يعلمون وينفذون، والناس بين أولئك وهؤلاء كرات لا تستقر إلا لتنتقل، ولا تثبت إلا لتزول ... وعلى غير هذا النحو من التفسير يعسر جدا أن تفهم أعمال الناس، وما يجني بعضهم على بعض من الشر، وما يدبر بعضهم لبعض من الكيد، وما يهدي بعضهم إلى بعض من النكر والمكروه. •••
يقبل شيطان الجن على «فلان» في خلوة من خلواته، فيلقي في قلبه أنه أنفذ الناس ذكاء، وأصدقهم فطنة، وأبعدهم نظرا، وأدقهم فهما، وأصدقهم حكما، وأحدهم شعورا، وأرهفهم حسا، وأصفاهم ذوقا، وأفصحهم لسانا، وهو إذن أجدرهم أن ترتفع به المكانة، وترقى به المنزلة، ويقصر عليه الامتياز! وما يزال به يقلب على هذا الغرور قلبه ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، حتى يستقر ذلك في ضميره استقرارا، وإذا هو يؤمن بامتيازه ذاك كما يؤمن بطلوع الشمس حين تطلع، وغروبها حين يجنها الليل، بل كما يؤمن بأنه إنسان موجود يحس نفسه ويحس غيره، ويحس ما بينه وبين غيره من الصلات. فهو إذن قد أعد إعدادا حسنا لتتلقاه شياطين الإنس فتفعل به الأفاعيل، وهو لا يكاد يخرج من خلوته ويلقى الناس حتى يسمع منهم جهرة بعض ما سمع من شياطين الجن خفية، وإذا هو يقبل منهم ما يقولون ويراه قليلا، ويغريهم - عن شعور أو عن غير شعور - بأن يزيدوه ويزيدوه، حتى يكون وحيهم الظاهر مطابقا أو مقاربا لذلك الوحي الخفي الذي ألقته شياطين الجن في روعه منذ قليل.
وقد أغري المسكين بهذا العبث واطمأن إليه، حتى أصبح به كلفا، وإليه ساعيا، وعليه حريصا، لا يستلذ النوم إلا إذا داعبته فيه أحلام الغرور، ولا يستحب اليقظة إلا إذا لاعبته فيها آمال الصلف والتيه، وهو كذلك كرة تقذفها شياطين الجن أثناء الخلوة، فتتلقاها شياطين الإنس أثناء الاجتماع، ثم تقذفها شياطين الإنس أثناء الاجتماع، فتتلقاها شياطين الجن أثناء الخلوة، وهو كذلك تعب متعب، لا يستريح ولا يريح!
ويقبل شيطان الجن على «فلان» في خلوة من خلواته، فيلقي في قلبه أنه أبصر الناس بدقائق السياسة، وأقدرهم على احتمال أثقالها، وأبرعهم في حل مشكلاتها وتيسير معضلاتها، وأحبهم للشعب وأبرهم به وأعطفهم عليه، وأعرفهم بحاجاته، وأمهرهم في إرضائها، وأنه من أجل ذلك أحق الناس بالحكم، بل هو من أجل ذلك ميسر للحكم لم ييسر لغيره وصوله إليه ملائم لطبائع الأشياء، واستمساكه به بعد الوصول إليه واجب تفرضه الوطنية، ويفرضه الخلق، ويفرضه حق الكفايات الممتازة في الاستئثار بتصريف الأمور. ثم لا يكاد يخرج من خلوته حتى تلقاه شياطين الإنس، فتقول له مثل ما قالت شياطين الجن، فيحب هذا الحديث الظاهر كما أحب ذلك الحديث الخفي، ويستزيد أولئك وهؤلاء من أحاديثهم الرائعة البارعة التي أصبحت عنده أصدق الأحاديث؛ لأنها تلائم إيمانه بنفسه، وثقته بتفوقه وامتيازه، ويقينه بأن الله لم يخلق غيره ليدبر أمور الناس ومرافقهم كأحسن ما يمكن أن يكون التدبير. ثم يصبح المسكين كرة تقذفها شياطين الجن لتتلقاها شياطين الإنس، وتقذفها شياطين الإنس لتتلقاها شياطين الجن، وهو من أجل ذلك تعب متعب، لا يستريح ولا يريح!
وقل مثل ذلك في أصحاب الاقتصاد، وفي أصحاب المال، وفيمن شئت من الناس حين ينهضون بالأعباء العامة، أو يفرغون للأعمال الخاصة ... كلهم كرات بائسة تتقاذفها شياطين الجن وشياطين الإنس بما تلقي إليها من زخرف القول وأحاديث الغرور ...!
ولو قد اطلعت هذه الكرات على شياطين الجن والإنس حين يخلو بعضهم إلى بعض، وحين يلقى بعضهم بعضا، وحين تنفجر أفواههم البشعة عن ضحك مروع من هذه الكرات التي يتقاذفونها عابثين بها، ساخرين منها، مزدرين لها، لجاز أن يثوب إلى هذه الكرات شيء من عقل، وفضل من رشد، وقليل من صواب، فتثوب هي إلى شيء من التواضع، وتخفف من ثقل الغرور. ولكن شياطين الجن والإنس لا يكتفون بتقاذف هذه الكرات، وإنما يعبثون بها ألوانا من العبث تضحك منه أنت، وأضحك منه أنا، وترى فيه الكرات نفسها الجد كل الجد، والنجح كل النجح، والامتياز كل الامتياز؛ فشياطين الجن والإنس لا يكادون يتلقون الكرة من هذه الكرات حتى يقذفوها إلى يمين ثم إلى شمال، ثم إلى السماء، حتى إذا شبعوا من العبث بها دفعوها إلى أمام؛ ليتلقاها الفريق الآخر، فيعبث بها مثل ذلك العبث.
ناپیژندل شوی مخ