كرامة أصبح بها قبل أن يرتفع الضحى، وكرامة أمسي بها قبل أن يقبل الليل، وتلطف أغمر به بين ذلك.
ويأتي موعد المحاضرة الموعودة، فسل ما شئت عن رفق الحكومة وظرفها ورقتها، وعن كريم عنايتها وحسن رعايتها، وسل ما شئت عن تهافت الناس على البطاقات واستباقهم إلى الأماكن، وازدحامهم في القاعة ومن حولها، حتى أمسى المستمعون لا يحصون بالمئات، وإنما يحصون بالألوف. ليس في ذلك تكثر ولا تمدح ولا غلو، وإنما هو الحق الواقع الذي نطقت به الألسنة كلها، والصحف كلها، فتصور عطفا يصدر عن هذه الجموع، وتحية تصدر عن هذه القلوب، وتصور جوا عشت فيه اثني عشر يوما لم أجد فيه إلا مودة ومحبة وتلطفا وإيناسا.
والقارئ يعرف أني لم أتحدث قط عن نفسي بهذه اللهجة التي أتحدث بها اليوم، وأني لم أعرف قط أني أستحق أن أشغل نفسي أو أشغل الناس بنفسي على هذا النحو، ولكني مع ذلك أتبسط في هذا الحديث كما ترى، لا أتحفظ ولا أتحرج؛ لأني أحب أن تعرف مصر كيف تلقى لبنان رجلا من أبنائها، وكيف أكرمه، وكيف أنزله أحسن منزل، وتقبله أجمل قبول. فليس غريبا أن ينوء بي هذا المعروف، وأن يعجزني حمل هذا الجميل، وأن أعرض ما أعرض من أمره على المواطنين ليحملوا معي هذا العبء، وليعرفوا معي للبنان هذا الجميل .
فلبنان لم يكرمني لنفسي فحسب؛ وإنما أكرمني؛ لأني مصري، فتحيته موجهة إلى مصر، وجميله مطوق لعنق مصر، فمن حق مصر أن تعرف هذا الجميل، وتقدر هذه العارفة، وتعين ابنا من أبنائها على احتمال هذا الدين الذي لا سبيل إلى أدائه.
ولا أفرغ من المحاضرة الفرنسية التي تحدثت فيها إلى اللبنانيين وضيفهم من الأجانب، حتى تطلب إلي محاضرة عربية أتحدث فيها إلى اللبنانيين وضيفهم من العرب، وإذا حفاوة بهذه المحاضرة العربية تشبه الحفاوة بتلك المحاضرة الفرنسية ... وأريد أن أعود إلى مصر، فلا أبلغ ما أريد إلا بعد الجهد كل الجهد، والمشقة كل المشقة، ويأبى وزير الخارجية والتربية الوطنية إلا أن يختصني بمأدبة يفيض علي فيها من كرمه ووده ما عجزت بأدق معاني كلمة العجز عن شكره، ثم أغدو إلى الطائرة؛ فإذا مندوبه في المطار يودعني ومعه هذه الزهرات التي لا تزال تبتسم في داري إلى الآن، قد صحبنا أرجها في الطائرة، وما زال هذا الأرج ينشر من حولي مودة وحبا وإيناسا، ويردد في الدار قول الشاعر العربي القديم:
ونكرم ضيفنا ما حل فينا
ونتبعه الكرامة حيث كانا
فهل ينكر القارئ المصري الذي ورث عن قديمه حسن الشكر وحسن الاعتراف بالجميل؟ ...
هل ينكر القارئ المصري علي أن أتمثل بشعر الحطيئة مرة أخرى حيث يقول:
وإن التي نكبتها عن معاشر
ناپیژندل شوی مخ