الفصل الثاني
دامت المراقص تتابع مدة، وأنا أخلو بلويزا، وأحدثها مليا غير خائف من عين عمتها، وأدنو منها شيئا فشيئا، وأجعل ذراعها في ذراعي، وأهمس في أذنها ألف شيء من جد وهزل، وعاودتني دعتي، وأخذت طلاقتي القديمة كأني أسير رأي النار بعد الأسر الطويل، وجعلت أترصد الفرص لأخلو بها، وأفتح لها قلبي، وأبادلها حديث الشباب.
على أنني رحت في تفكر طويل، وتساءلت عما إذا كانت عواطفي نحوها ليست من وراء هوى خفي ناعم الظفر، ينمو ويترعرع ضاحكا من إرادتي ساخرا بها، ثم جعلت أتمثل حالتها فيما إذا اشتد الحب بيننا كيف تكون، وهل إن إله الغرام يسترنا، فلا تنفذ إلينا ملمة رجافة، ولا تصل إلى كبدينا سهام صائبة؟ أو أن ريتا تغار علي ممن أهواها، فتدس لها السم، وتدمر رجاءها، وتدك مناها، ثم تسرع إلي وتعيد علي ما قالته لي من قبل: «أنت مطلق الحرية إلا بقلبك؛ لأنه لي وأسمح لك بكل شيء إلا بالخيانة.»
ولكن كيف كانت الحال، فإن ريتا عشقتني، فهي تقاوم كل ما يحول دون عشقها، وأنا اليوم عشقت لويزا، فيجب علي أن أقاوم كل ما يحول دون عشقي مقاومة الرجال الأشداء؛ لأن من أهواها كأنها ملاك كريم تستحق أن ألاقي لأجلها بعض الشقاء والعناء، ولما كان الله - عز وجل - قد جعل لكل يوم صباحا ومساء، ولكل شأن ابتداء وانتهاء، فقد أوفي اليوم بحب ريتا على الختام، وكأني أرى شمس حبها مغللة بأطراف الظلام، وأرى شمس حبي مزدهية في مشرقها جميلة في تألقها، وبينا هي تودع غرامها أستقبل غرامي، وبينما عيناها تدمع لبعد من تهواه، أمتع أنا عيني برؤية حبيبتي لويزا الشبيهة بالملاك، وهكذا الأيام يوم لهذا ويوم لذاك.
وبينما كانت الأقدار تجري في مجراها، والأيام تترامى في مرماها، حدث حادث أقلق فكري، وشدد علي أمري؛ وذلك أن شابا من أكابر الباريسيين رأى لويزا في المراقص، فعشقها وتيمه جمالها، فبات وهو شريد البال، كثير البلبال، طويل الليل والبكاء، أليف السهاد والعناء، فطلب إلى أبيه أن يخطبها له من البارون، وفي ذات يوم كنا معا نتجاذب أطراف الحديث، فقال البارون لولجونريت: لقد جاءني اليوم مسيو دي فرفيل، وأخبرني أن ابنه رأى لويزا، فأحبها حبا شديدا، أفضى به إلى حالة صعبة جدا، وقد التمس مني أن أسألك عما إذا كنت ترضين أن يكون صهرا لك، وقد رأى أن لا يطلبها منك عروسا لابنه قبل أن تستطلعي أفكارها في هذا الشأن.
فقالت ريتا: إن دي فرفيل من أرباب البيوتات العريقة في الشرف، الشهيرة بالغنى والوجاهة، فلا أرى أنسب من هذا الزواج، وقد لا يكون زوجا للويزا أحسن من ابن دي فرفيل، ولكن هل أخبرك دي فرفيل بشيء عن مهر ابنه؟ فقال البارون: نعم، قال إنه يعطيه كل أملاكه بشسناي، وهي تقدر بخمسمائة ألف فرنك دخلها في السنة ينيف على ألف فرنك، ويعطيه أيضا مسكنا في باريس يقدر بمليون فرنك، فقالت ريتا: إن هذا النصيب فوق ما كنا نرجي، فلا تدع إذن هذه الفرصة تفوت، فإنها من أسعد الفرص، وقد أتت على غفلة من الليالي، فقالت جونريت: إذا رضيت لويزا بذلك، فأنا لا أعارض فيه أبدا، وأرى رأيك مصيبا فماذا تقولين يا لويزا؟
فوقفت دورة دمي عند هذا السؤال، وانقلبت ملامحي من حال إلى حال، فقلت أناجيها سرا الوداع الوداع أيتها الحبيبة الجميلة، فما هي إلا دقيقة حتى تنصرف أميالك عني، وتتغير نظراتك إلي، ويخلفني آخر في قلبك الشريف الطاهر، وما هي إلا لحظة حتى يغلبك المال على الهوى، وما هي إلا لفظة من فمك الوردي حتى تموت نفس، وتحيا نفس، وتكبر آمال، وتخيب آمال، فإننا لله وإن إليه المآل، وأصبحت أفكاري كأنها غوارب دأماء، قلقة لا تثوي في اللجج، ولا تستقر فوق الماء، رجافة تنحت مكاسرها بأظافيرها، وتمتزج أوائلها بأواخرها، فعلمت عندئذ ما فعلت عيناها بسويدائي، وما أسالت ابتساماتها في دمي وأعضائي، وأن ذلك ناجم عن غرام غير ممازح، اطمأن في القلب والجوانح، وتأكدت أن ابتسامات العذارى قادرة، وأن عيونها ساحرة، وأن نظراتها بالقلوب أمارة تصيد حباتها بغير صنارة، ودون استشارة، على أن موقفي في ذلك الوقت كان أعظم وأشد مما يتصور القارئ؛ لأني مع ما تولاني من الخوف والألم كنت مضطرا أن ألازم الصمت، ولا أفوه ببنت شفة، وأن أتكلف الهدوء والسكينة، وأتظاهر بعدم الاكتراث بهذا الأمر والاهتمام به، على أن دمي ماعتم أن دار في عروقي دورته المعتادة، وأخذ وجهي صفاءه المألوف دون أن يدرك أحد من الحضور ما حل بي؛ وذلك لأنهن كن مستغرقات في الحديث.
فقالت مدام جونريت لابنتها: ما رأيك يا ابنتي في هذا؟ وهل أنت راضية بهذا الخطيب؟ أم هناك مانع يحول دون وصوله إليك؟
فقالت لويزا بصوت غير متقطع ولا مترجرج: ما كنت يا أماه لأخالف لك رأيا، وإني أرى ما ترين حسنا، وأعد ما تشتهينه علي فرضا من الفروض المقدسة الواجبة على أني إطاعة لأمرك وإجابة لسؤال عمتي أبدي رأيي في هذا الأمر الخطير؛ لأن عليه تتوقف حياتي وسعادتي وشقائي، ولما كانت الحياة طويلة وعزيزة أيضا كان من الواجب علينا أن نتفكر في الأمر مليا، وننظر إليه من جميع وجوهه، وأن لا نتهافت على عمل ربما ساءت عقباه، واضطرتنا أن نعض أطراف البنان، حيث لا تنفع الندامة ولا تجدي الأحزان. - ومتى يقر قرارك، وتطمئن أفكارك، أبعد شهر أم بعد شهرين؟ - إن أمرا كهذا عظيما تتوقف عليه السعادة والشقاء، لا يجزم فيه بدقيقة واحدة، وإن لفظة تعلق عليها حياة كاملة لا تقال بلحظة واحدة، بل ربما لا تقال بعد عدة شهور. - إن كلامك يا بنتي مع ما فيه من الحكمة فهو غير مقنع؛ لأن ظروف الحال تقتضي غير ما تقولين؛ لأنك تعرفين ابن فرفيل حق المعرفة، وقد رقصت معه مرارا وكلمته، ومازحته، فكيف وجدت أخلاقه وعقله وحديثه؟ وهل مال قلبك إليه؟ - هو على أرفع درجات الأنس يسحر القلب بعذوبة اللفظ، ودماثة الخلق، وانتظام الملامح، وله في امتلاك الفؤاد وسائل من الحكمة، وله في اجتذاب العواطف سبل من الحديث لا يسع السامع الامتناع عليها، ولا يقوى على الوقوف دونها، وهو مع ذلك بارع بالرقص سريع الحركة، خفيف الانتقال والوطء، له مهارة عجيبة وخفة غريبة. - أيحلو لك؟ - إني لا أستقبحه. - إذا كان على ما ذكرت جامعا العلم وكمال النهى والمال، فماذا ترومين أن تعلمي عنه أيضا؟ - أروم أن أعلم ما إذا كان حسن الذوق، لين العريكة، شريف النفس، يحب الخير، ويعرف الشفقة على الإنسانية، ويغضي عن الهفوة، وإذا كانت طباعه توافق طباعي وإذا لم يكن ذا خصال وخيمة وعوائد تجرح الآباء وتخفض المقام، وأروم أن أعرف أخيرا إذا كان يرى الحياة بالعين التي بها أراها، ويقضيها كما أرضاها، وإذا كان قلبي يميل إلى قلبه أم لا؟ - أي إنك تعتمدين في ذلك على ميلك؟ - نعم، على ميلي وهذه هي الكلمة الوحيدة التي تجمع جميع أفكاري. - إن ابن فرفيل ذائع الصيت، طائر الشهرة بالمال والأدب والجمال، وأمثاله في باريس يعدون بالآحاد، فإذا كنت لا ترضينه زوجا لك تندمين أية ندامة، وتلامين أية ملامة، وإذا كنت لا تتزوجين إلا برجل مثل الذي وصفته لنا، فعنقاء مغرب أدنى إليك منه وإن الحياة يقظة، ثم غفلة لا يدري المرء كيف تمر، وبينا هو في زهوة الشباب إذا هو أبيض الشعر على منتهى العمر فتبصري يا بنتي، وأنعمي الفكرة قليلا لعلك تهتدين إلى الصواب، فتلجين هذه الجنة المفتوحة أمامك قبل أن يقفل دونك الباب، وتقضين أيامك بألم الانتظار وتعب النفس وبلبلة الأفكار.
فابتسمت لويزا لكلام أمها ابتسامة ملوكية، وأجابتها بصوت يتجاذبه طرفا المزاح والجد قائلة: سأنتظر ما يشاء الله.
ناپیژندل شوی مخ